من البديهي أن تؤدي أحداث كبيرة مثل ثورات الربيع العربي إلى تغييرات وتحولات عميقة في مسارات الشعوب والقوى الفاعلة في المنطقة -التي وقعت فيها هذه الثورات-، ومن الطبيعي أيضًا أن تطول تلك التحولات الساحة الإسلامية وحركاتها على وجه التحديد؛ ذلك أن تلك الساحة كانت من الأكثر تفاعلًا مع الأحداث، وكان تقدمها إلى واجهة المشهد، سواء على مستوى السياسة والحكم، أو على مستوى المواجهة، المسلحة منها، أو الشعبية السلمية، لأنظمة الحكم القمعية، بعد سنوات طويلة من قمع الأنظمة الاستبدادية لها، ومحاولة إقصائها عن كل مناحي الحياة السياسية بل وحتى الاجتماعية والاقتصادية، كان هذا التقدم قد أدخلها في ميادين لم تعمل فيها من قبل، وبالتالي لم تخبر أبعاد وحاجات القيام بمتطلباته، دون أن يعني هذا الكلام عدم كفاءتها أو كفاءة كوادرها للانخراط في تلك المسارات.
ولعله من المناسب الإشارة إلى أن التحولات التي نتحدث عنها ليست بالضرورة وليدة أحداث الثورة بذاتها، وإنما قد تكون نتيجة لما كشفته مآلات الثورات وأحداثها من ثغرات كانت موجودة أصلًا لدى الساحة الإسلامية، ولم تسمح الظروف وطبيعة نشاط وعمل تلك الساحة سابقًا باكتشاف تلك الثغرات. وقد تكون أيضًا نتيجة طبيعية لما طرأ من مستجدات في البيئة التي تعمل فيها، أو نتيجة لتغير الأولويات وتبعًا لفقه المرحلة.
ولا أظن أن حدود التحولات والمتغيرات في الساحة الإسلامية قد استقرت بعد، لأن المنطقة لا تزال تعيش في الذروة من حالة السيولة والتدافع، لكن يمكننا بدون شك أن نحدد الملامح الأساسية، وأهم نقاط التحولات الفكرية والتنظيمية لهذه الساحة من خلال رؤيتي للساحة من زاوية الحركة الإسلامية في لبنان، والتي قد تتطابق مع العديد من الساحات الأخرى، وقد تكون لها خصوصيتها وتمايزها عن سواها من الساحات والحركات.
إن أهم ملامح التحولات في الساحة الإسلامية يمكن معرفتها من خلال الاطِّلاع على ما أظهرته الثورات في طريقها للوصول إلى بناء الدولة المنشودة، والذي تبيَّن أنه ليس مجرد سباق يُحسم في صندوق الانتخابات؛ فالقوى التي جمعها طريق إسقاط النظام المستبد، ليس بالضرورة أن تجمعها رؤية واحدة للدولة الحديثة. وهذا ما حصل فعلًا في أكثر من مكان؛ حيث وجد الإسلاميون أنفسهم في المرحلة الأولى جنبًا إلى جنب مع أعداء الأمس، من علمانيين وقوميين وغير ذلك من المكونات، التي رفضت الظلم وسعت إلى إسقاط دولته. لكن هذه المكونات سرعان ما عادت إلى خلافاتها بمجرد طرح شكل ومضمون الدولة المنشودة؛ ما أفسح المجال سريعًا لعودة دولة الاستبداد، على أنقاض الخلاف على أولوية إسلامية الدولة أو علمنتها.
لقد تصرَّف الإسلاميون في هذا المجال انطلاقًا من حرصهم على التمسك بالشعارات التي طالما رفعوها وقدَّموا أنفسهم لجمهورهم من خلالها، وربما باتوا أسرى تلك الشعارات، من أمثال: "الإسلام هو الحل". وهم في ذلك صادقون ومحقون، لكنهم لم يدركوا أن هناك في مجتمعاتهم من يفضِّل بقاء الظالمين والفاسدين، إذا ما كان مآل الدولة المنشودة سيكون للإسلاميين، أو لفئة منهم دون أخرى، وأن هناك شرائح كبيرة، إن لم تكن الأكبر، يهمها في الدرجة الأولى أن تؤمِّن لها الدولة فرص الحياة، من مسكن ومأكل، وفرص عمل، ومجالات استثمار، وتحقيق الأمن والاستقرار، وغير ذلك، دون أن يعنيها ما هو شكل الدولة أو دينها، أو من الذي يتربع على عرشها، وأن هذه الفئات مستعدة للوقوف ضد كل من يعرقل حاجاتها اليومية، أيًّا كان انتماؤه. فهل يجوز التفريط ببعض ما نريده وتريده المكونات الأخرى، مقابل الإصرار على استعجال الكل الذي لا يمكن تحقيقه الآن، على قاعدة: "ما لا يدرك كله، لا يترك جله"؟ ثم إن الدولة المنشودة لدى الإسلاميين ليست باسمها، فكم من دولة سُمِّيت بالإسلامية، ونصَّ دستورها على مرجعية الشريعة الإسلامية، وهي لا تمُتُّ إلى القيم الإسلامية بصلة! وفي المقابل كم من دولة نصفها بالكفر وهي أقرب ما تكون إلى قيمنا الإسلامية التي نتطلع إلى تحقيقها! وما أجمل العبارة التي نقلها ابن تيمية رحمه الله: "إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة". وإن كنت لا أحبِّذ إطلاق حكم الكفر والإسلام على الدولة، باعتبارها آلة والحُكم إنما يطلق على من يستخدم الآلة، وليس على الآلة نفسها.
أضف إلى كل ذلك، أن هناك إرثًا ثقيلًا من التشويه لصورة الدولة الإسلامية، صنعه أعداء الإسلام، وخدمته بجهلها فئات من المسلمين أنفسهم، وهو لا يزال يُدعَّم بنماذج حديثة أشد سوءًا من سابقاتها. ولم تتح الفرصة بعد بشكل كامل للحركة الإسلامية حتى تعمل على إزالة هذا الإرث، وإعادة رسم الصورة الحقيقية للإسلام ومدرسته في الحكم وإدارة شؤون الناس، لإقناع باقي المكونات بصلاحية النموذج الإسلامي للحكم؛ مما يحتم على الإسلاميين السعي لتحقيق أوسع حالة من الاستقرار والبُعد عن الاستنزاف، للقيام بهذه المهمة، التي هي جزء لا يتجزأ من واجب الدعوة. وبالتالي، لابد لهم من القبول بالقيم المشتركة مع الآخرين في عملية بناء الدولة، وهذه القيم هي في الأصل جزء لا يتجزأ من الإسلام، مصداقًا لقول الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم: "قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ"(سورة الأنعام: 161).
وهذا النوع من التحول لم يستقر بعد، لجهة تحديد حجم التنازل الذي يمكن أن تقدمه الحركة الإسلامية، على مذبح المشاركة مع المكونات الأخرى، ما بين فصل العمل الإسلامي كليًّا عن المسار السياسي المتعلق بشؤون إدارة الدولة، وفق النموذج التركي، إلى مقولة الدولة المدنية بمرجعية إسلامية وفق ما ذهبت إليه التجربة المصرية حتى الآن.
في مقابل هذا الاتجاه من التحولات، كان هناك اتجاه مقابل، اعتبر أن سبيل الوصول إلى الدولة المنشودة لا يمكن أن يكون عبر الطرق السلمية، مستندًا إلى تجارب الانقلاب على نتائج الانتخابات في أكثر من قُطر وفي أكثر من زمن، معتبرًا أن مفهوم الدولة لا يمكن أن يتحقق إلا بالإخضاع واعتماد مبدأ القوة، واعتبار أن نموذج الثورة الإسلامية في إيران التي نجحت في بناء دولة على أساس ديني دليل على صحة هذا التوجه. وهذا الاتجاه لا تمثله مجموعات "القاعدة" و"داعش" ومثيلاتها فقط، وإنما أيضًا شرائح ممن كانوا حتى الأمس القريب يحملون الفكر الإسلامي الوسطي، وجزء منهم من داخل صفوف تنظيمات الإخوان المسلمين.
هذا على المستوى الفكري، أمَّا على المستوى التنظيمي فقد أسهمت ثورات الربيع العربي بالدفع نحو إعادة حسابات الحركة الإسلامية لبنيتها التنظيمية، التي طالما اعتمدت على النخبوية في انتقاء أعضائها، وكانت هذه النخب عمادها وعُدَّتها في مرحلة الصبر والثبات في مواجهة القمع والتهميش والتنكيل الذي مورس بحقها طيلة عقود من الزمن. لكن المشهد بعد الربيع العربي انكشف أولًا عن أن هذه النخب ليست كافية لإنجاز عملية التغيير للأنظمة، ومن ثم لبناء الدولة الحديثة، وثانيًا: عن أن هناك شريحة كبيرة تمثِّل أضعاف الأعداد المنخرطة داخل التنظيم، ممن يحملون الفكر الإسلامي السليم وفق رؤية الحركة، لكنهم لم يكونوا مستعدين للدخول إلى قفص التنظيم، أو تحمل تبعات الانتساب إليه، أو ممن لا يحملون بالضرورة كل أفكار التنظيم لكنهم يلتقون معه في المشروع العام لبناء الدولة. هؤلاء جميعًا لم يعد ممكنًا للحركة الإسلامية أن تعتبرهم مجرد مؤيدين، وواجبهم أن يعطوها أصواتهم في الاستحقاقات الانتخابية، أو يلبوا نداءاتها في التحركات الميدانية، دون أن يكونوا شركاء في صناعة القرار وصياغة التوجهات التي تتبناها الحركة في كل ملف من الملفات. هذا الأمر دفع ببعض الحركات إلى تبني صيغ الأحزاب السياسية الموازية للجماعة، والتي تعتمد شروطًا أسهل من شروط الجماعة في العضوية، من أجل استيعاب تلك الشرائح. لكن هذه التجربة لا تزال تعاني من مشاكل كبيرة ليس أقلها إشكالية العلاقة بين الحزب والجماعة، وهل الحزب هو مجرد إطار صوري يُدار عن بعد، أم أنه كيان مستقل بكل ما للكلمة من معنى، وغير ذلك من التساؤلات التي لم تستقر أجوبتها بعد، مع تفاوت في تقدم التجربة بين قُطر وآخر.
وهناك توجهات أخرى لا تزال قيد الدراسة والإنضاج، تحاول إعادة بناء هيكل الجماعة نفسه، بما يتناسب مع الدور الجديد المنوط بها في المجتمع، وما يستوجبه ذلك من تعديلات في البناء التنظيمي، وشروط الانتساب، إضافة إلى التركيز على أن الهدف الأساس من الشكل الجديد للتنظيم إنما هو خدمة المشروع العام وليس مجرد توسعة التنظيم وزيادة المنتسبين إليه.
________________________________
عزام الأيوبي - أمين عام الجماعة الإسلامية في لبنان