الإسلاميون بين تنوع السياقات واختلاف الخيارات

44808f4c7448439790379e50772c65d2_18.jpg
كلمة غازي صلاح الدين رئيس حركة الإصلاح الآن (الجزيرة)

ينبغي ابتداءً تفكيك العنوان بسؤال: ماذا نعني بالحركات الإسلامية أو اختصارًا الإسلاميين: هل نعني بهم حقيقة واحدة مهيمنة، أم حقائق وظواهر متداخلة، وقد تكون متناقضة؟ الإسلاميون كيانات سياسية بخصائص مشتركة يجمعها تيار عريض يسمى الحركات الإسلامية الأم؛ وهناك كيانات صغيرة متطرفة عند الحواف تطرح نفسها كبدائل قيادية للحركات الأم. 

ضمن هذا الإطار نحن معنيون بالحركات الإحيائية الأم الكبرى، كالتي أنشأها الشيخ حسن البنَّا، والحركات الشبيهة التي كان لها دور كبير في تشكيل البنية السياسية في البلدان العربية؛ كذلك الحركات الشبيهة التي نشأت في تركيا وباكستان وماليزيا وإندونيسيا؛ ومؤخرًا الحركات الإسلامية المنظَّمة التي أنشأها المهاجرون المسلمون في الولايات المتحدة وأوروبا، والغرب عمومًا. 

تحديدًا الحركة الإسلامية الحديثة النموذجية هي التي:

  1. تتبنى رؤية كونية شاملة لدور الإسلام في الحياة.
  2. تكون تجديدية واعية بحقائق العصر ومتفاعلة مع تحدياته.
  3. لها تنظيم ديناميكي حديث يحمل أفكارها ودعوتها ويُحكم روابطها الداخلية.
  4. تكون ذات بناء شُورِي ديمقراطي داخلي، بغضِّ النظر عن موقفها الفكري المعلن من الديمقراطية كفلسفة حكم.
  5. تطبِّق الفقه الحركي، أي الفقه الناشئ من الحراك التنظيمي والسياسي اليومي للجماعة. 

هذا التعريف لا يخلو من إشكالات؛ إذ إنه يخرج جماعات مهمة في المجتمعات الإسلامية، مثل: الفرق الصوفية وجماعة التبليغ. ومن ناحية أخرى قد يُدخِل -ولو نظريًّا- السلفية الجهادية. 

تقريبًا في كل تجلياتها العملية، تميزت الحركات الإسلامية بفاعلية عالية تضافرت عدَّة عوامل سياقية وأحداث لتمنحها إياها، من أهمها:

1. حالة القهر السياسي حين تُمتحن الحركة بالعزل والملاحقة والإقصاء؛ والحالة النقيض وهي حالة التعايش، حين تتحول الحركة الإسلامية إلى شريك متعايش مع النظام.

2. حالة التقسيم الطائفي الذي تطغى فيه اتجاهات القطيعة والصراع على أساس طائفي أو مذهبي.

سياقا القمع السياسي والتقسيم الطائفي هما الأسوأ للحركات الإحيائية؛ لأنه يشغلها بنفسها، ويستنفد طاقاتها ومواردها في الأنشطة الوقائية على حساب الأنشطة البنائية.

3. السياق الثالث يمثِّله المذهب الفقهي السائد في بلدٍ ما، وهو أحد أهم عوامل تشكيل الطابع والمزاج الفكري العام في ذلك البلد، بما في ذلك التصور السائد عن العلاقة مع الحاكم أو المؤسسة الحاكمة. ويمكن ملاحظة أثر المذهب بمقارنة منطقة نفوذ الفقه المالكي بمنطقة نفوذ الفقه الحنبلي.

4. هنالك أيضًا سياق تولِّي السلطة، أي ما تفعله الجماعة بالسُّلطة حين تنالها وما تفعله السلطة بالجماعة. النتائج هنا متباينة إذا نظرنا في أربع تجارب إسلامية، هي: السودان ومصر وتونس وتركيا. 

ذلك تاريخ قد يبقى له بعض وزن في تشكيل الحاضر، لكن السياق الأهم والأكثر حضورًا ومعاصرة هو ما يطرحه بإلحاح المشروع الحضاري الغربي من أسئلة فكرية وفقهية وأخلاقية غلابة يقرع بها أبواب العالم الإسلامي. أهم تلك الأسئلة يدور حول الحرية، والديمقراطية، والحقوق والحرمات، والحكم الراشد، ونظم العقوبات، والعدالة الاجتماعية، وأوضاع المرأة، وأوضاع الأقليات، وقضايا العولمة، وبناء الدولة الحديثة ووظائفها، والنظام العالمي. 

هذه الأسئلة والتحديات تضع الحركات الإسلامية في مفترق طرق، إمَّا أن تجتاز اختبار البقاء الدارويني أو تذوي ثم تختفي. 

بجانب هذا العالم الشاخص بمشكلاته وأسئلته الملحَّة على الحركات الإسلامية، هناك عالم آخر بكامله نشط للغاية في تكريس صورة خاصة به للحركات الإسلامية واستخدامها لأغراضه، وهو عالم يقوم ويعمل خارج اختيارات الحركات الإسلامية ودائرة تحكمها لكنه يؤثِّر عليها. إنه عالم المؤسسات الأكاديمية، والصحافة، ومراكز البحوث الفكرية والاستراتيجية الحديثة (think tanks). 

لكن، كما لاحظ إدوارد سعيد في نقده لعلم الاستشراق، فإن علم الإسلاميات -إن جاز أن نسميه كذلك- ابتُلي أيضًا منذ اليوم بأنه علم مصمَّم لهدف واحد استراتيجي وغير نبيل وهو استدامة التفوق والسيطرة الغربية (راجع: Orientalism :Saeed Edward). 

لقد وقعت حركة البحث الغربية في أخطاء علمية جسيمة، من أهمها ابتداع مصطلح "الإسلام السياسي" الذي قصد  -إذا أحسنَّا الظنَّ- أن يملك الباحثون أداة تعريف دقيقة لما يأتي إلى الغرب من ردود أفعال عنيفة من تلقاء الإسلام والمسلمين. لكن تعبير "الإسلام السياسي" لا يحقق الهدف الأساسي من التعريف العلمي، وهي قدرته على الفرز والتمييز بين المفردات والتسميات. على سبيل المثال، هذا  التعريف له القدرة على أن يجمع بين أسماء، مثل: ميرزا غلام أحمد، ومحمد أحمد المهدي، وراشد الغنوشي، وأيمن الظواهري، ورجب طيب أردوغان؛ وهو ما سيؤدِّي حتمًا إلى إصدار أحكام إعدام جماعية مشتركة لكل هؤلاء دون النظر المدقِّق في ما يمكن اعتباره أخطاء نسبية خاصة بكل واحد منهم. وهو تعريف سيدفع حركة البحث العلمي في الاتجاه الخطأ والسياسات الخطأ كما نلاحظ في الاستجابات المتوترة لبعض الدول الغربية. 

الآن، بعد مرور أكثر من ثمانين عامًا على بداية نشأة الحركات الإسلامية، جرت أحداث كونية مهمة جعلت الحقائق والمسلَّمات القديمة تتصدع، بينما أخذت أخرى تتجلى مكانها: انهارت الإمبراطورية السوفيتية مما سمح بإعادة تشكيل السياسة والنظام الأممي، ورحل الاستعمار السياسي من الباب ليعود من النافذة بصور أخرى -ثقافية واقتصادية- أشد وطأة على الشعوب. وتراجعت الشعوب الإسلامية في مجال المعارف والتعليم والتطبيقات التكنولوجية، بينما تقدمتها بأشواط شعوب وحضارات قديمة وجديدة. والثورة العلمية الوثابة، التي تخط مسيرة الإنسانية الجديدة وتغيِّر أحوال الإنسان وعلاقته بالكون باكتشافات واختراعات مذهلة في مجالات العلوم المتقدمة، تحديدًا في مجال الذكاء الاصطناعي، والخلايا الجذعية، وتقنية النانو. وبينما ظل الإنسان لآلاف السنين ينظر إلى السماء بنيَّة التعبد فإنه اليوم ينظر في أغوار الفضاء بحثًا عن موارد طبيعية متجددة وعن كواكب ومجرات يستوطنها خلال مئة عام القادمة بما منحه الله من سلطان لذلك. 

في هذه الأثناء، تجري تفاعلات مصيرية داخل بعض الحركات الإسلامية، ذات دلالات في الحاضر والمستقبل: الإسلاميون الأتراك قبلوا صراحة بالعلمانية بحسب تفسيرهم لها، حركة النهضة في تونس اتخذت أولويات ومواقف وموجهات جديدة وجريئة استجابة لضرورات محلية لبناء الدولة التونسية. والتجربتان، التونسية والتركية، مشغولتان الآن بمهمة البناء الوطني أكثر من اهتمامهما بعالمية الشعارات التي كانت تطلقها الحركات الإسلامية من قبل. من المهم تقدير ما ستُحدِثه هذه التطورات المنهجية في التجارب التونسية والمغربية والتركية على الأفكار الرئيسية للحركات الأم الأخرى. 

رغم عبوس التاريخ أحيانًا، ورغم تربص الخصوم السياسيين تملك الحركات الإسلامية الفرصة لتُجدِّد وتنطلق في فضاء أعلى لو أنها عرفت زمانها واستقامت طريقتها. هذا تحدٍّ وجودي آخر يوجب التجديد في أربعة مجالات على الأقل: 

أولًا: الأطروحة التجديدية الأساسية التي تميز بها الحركات دعوتها ومهمتها للإنسانية

ينبغي أن تقدِّم الأطروحات مكتسبات محسوسة، لا وعودًا مؤجلة غير مستحقة السداد. ينبغي على حركات الوعي عمومًا، ومن بينها الحركات الإسلامية، أن تبني بدائلها على حقيقة أن الحرية، التي تتيحها نظم لا مركزية مفتوحة، لم تعد فرض كفاية تتنعم بامتلاكه الصفوة، بل هي فرض عين يقرع أبواب المجتمعات الإسلامية، حتى وإن لم تطلبه. وحرِيٌّ بالحركات الإسلامية أن تعزِّز هذا الاتجاه؛ لأنه في الحساب الختامي يعمل لمصلحتها. وحري بها ألا تتردد في تعيين خيارها وأن تجدِّد التزامها الصريح لمصلحة الحرية كما تجدد عداءها المتأصل لكل جبار عنيد. 

ثانيًا: التنظيم القوي مع الفكرة القوية صنوان لا يفترقان في تجارب الإنسانية الناجحة

فالفكرة الجاذبة تظل حبيسة الأدمغة والعقول حتى تحملها أمواج من البشر تُبحر بها وتنشرها في كل الاتجاهات، لكن التنظيم القوي لا يعني بالضرورة التنظيم العقائدي الصخري الذي ساد بين التنظيمات الإسلامية واليسارية والقومية وانتشر في القرن الماضي. التنظيم الناجح اليوم -في عالم الحرية المنفتحة ولا مركزية الخبر والمعلومة والحقيقة العلمية- قد يكون كتيار الماء في سيولته وأيضًا في قدرته العاتية على نحت الصخر وتشقيقه. 

ثالثًا: المعارف وتطبيقاتها هي كما وصفنا من أقوى أدوات التأثير والتغيير

ولعله من التوافق الحسن والملهِم للمُسلم أن يكون ابتداء الوحي للنبي، صلَّى الله عليه وسلَّم، بأمره بالقراءة، كأنما هي إشارة إلى حقبة جديدة للإنسانية تزدهر فيها العلوم والمعارف وتنتشر. الدين الحق والعلم لا يتخاصمان بل يخرجان من مشكاة واحدة. وحقيق بالعلم أن يحتل مكانة في تصحيح مسارات الإنسانية، وأن ينال العلم الموثَّق موقعه في أصول الفقه وتخريج الأحكام الشرعية. 

رابعًا: التواصل سُنَّة خَلْقية، والدِّين يدعو إلى الحوار والمجادلة بالتي هي أحسن، وإلى التعاون على البر والتقوى

ولم يكن العالم في أية حقبة من الزمان أكثر قدرة على تدمير نفسه مثل ما هو اليوم. أمام الحركات الإسلامية أن تقود مهمة تشجيع الحوار بين الأقربين داخل البلد الواحد ومع الأبعدين من أهل البلاد والملل الأخرى. وينبغي بصورة خاصة أن تقود مهمة الحوار الحضاري مع الغرب لتقوم العلاقات على العدل والسوية والتعاون على البر. وفي مناخ عدم الثقة المهيمِن على مجتمعات المسلمين فيما بينها وفيما بينها والآخرين، على تلك الحركات أن تسعى نحو بينونة كبرى مع العنف غير المشروع، ونحو مزيد من السلمية والمعرفية. 

وأخيرًا، على الصعيد الداخلي، أمام الحركات الإسلامية -بقوة طرحها وتجربتها الثرة- أن تعد نفسها لتقود تشكيل تيار وطني عريض، يعمل في إطار "ديمقراطي" سلمي بدلًا من الوقوف عند الحواف المتطرفة، وجدير بذلك إن حدث أن تصبح تلك الحركات القوة السياسية والاجتماعية الرئيسية في مجتمع ديمقراطي معاصر.

__________________________________

غازي صلاح الدين - رئيس حركة الإصلاح الآن