مقدمة
أعادت الاشتباكات المسلحة وعمليات الكرِّ والفرِّ بين القوات التابعة لعملية الكرامة بقيادة الجنرال خليفة حفتر وقوات ما يُسمَّى بسرايا الدفاع عن بنغازي، للسيطرة على منطقة الهلال النفطي شرقي البلاد، الأزمةَ الليبية إلى المربع الأول. وجاء تزامن هذه التطورات العسكرية الميدانية، مع اشتباكات عنيفة شهدتها العاصمة طرابلس بين بعض المجموعات المسلحة المتصارعة، ليثير المخاوف والشكوك بشأن مستقبل المشهد السياسي والأمني في ليبيا، وفرص نجاح الجهود والمبادرات السياسية التي بُذلت وتُبذل لإيجاد حلٍّ لهذه الأزمة. لاسيما بعد أن أعلن مجلس النواب في طبرق، في السابع من شهر مارس/آذار 2017، تعليق مشاركته في الحوار الوطني وتجميد اتفاق الصخيرات الذي يشكِّل حاليًّا أساس التسوية السياسية بين الفرقاء الليبيين.
ومن شأن هذه التطورات الميدانية أن تؤدي إلى مزيد من التعقيد في المشهد السياسي والأمني في ليبيا، كما أنها ربما تبدد الآمال التي صاحبت التحركات والمبادرات التي طرحتها دول الجوار الإقليمي بهدف التوصل لاتفاق بين الأطراف المتصارعة في ليبيا والتي كان آخرها المبادرة الثلاثية التي طرحتها كل من مصر والجزائر وتونس وتضمَّنت عددًا من البنود الرامية لتعزيز وتفعيل اتفاق الصخيرات الذي تم التوصل إليه برعاية الأمم المتحدة في نهاية عام 2015، ونصَّ على إنشاء مجلس رئاسي ليبي يمهِّد لتشكيل حكومة وفاق تجمع كل الأطراف الليبية، غير أن الحكومة لم يتم تنصيبها من لدن المجلس بسبب خلافات في تحديد أسمائها رغم اعتماد اتفاق الصخيرات. وتأتي التطورات الأخيرة لتزيد الوضع في ليبيا تعقيدًا ليس على المستوى الداخلي فحسب ولكن على صعيد جهود دول الجوار الثلاث للتوصل لتسوية سياسية شاملة للأزمة، خصوصًا أنها كانت بصدد التحضير لقمة رئاسية ثلاثية تمهِّد لدعوة الأطراف الليبية للجلوس على مائدة الحوار. كما أن هذه التطورات تثير مزيدًا من المخاوف الأمنية لدى الدول الأوروبية خصوصًا إيطاليا وفرنسا وألمانيا، التي تُبدي اهتمامًا كبيرًا بالأزمة الليبية بالنظر لتأثيراتها على أمن ومصالح هذه الدول. ومما يزيد من مخاوف هذه الدول دخول روسيا على خطة الأزمة ومساعيها الرامية للعب دور ربما يكون على حساب المصالح الأوروبية في ليبيا.
وفي محاولة لقراءة التطورات السياسية والميدانية الأخيرة على الساحة الليبية وتأثيراتها وتداعياتها على مستقبل الأزمة الليبية وتعقيداتها الداخلية والإقليمية والدولية، نظَّم مركز الجزيرة للدراسات بالتعاون مع قناة الجزيرة مباشر، يوم 21 مارس/آذار 2017، ندوة نقاشية حملت عنوان "الأزمة الليبية: التعقيدات الميدانية وآفاق المبادرات الإقليمية والدولية" بمشاركة عدد من الباحثين والمحلِّلين المعنيين بالشأن الليبي، وهم: السنوسي بسيكري، مدير المركز الليبي للبحوث والتنمية، والدكتور الحسين العلوي، الباحث المختص في الشؤون الليبية، والحواس تقية، الباحث بمركز الجزيرة للدراسات، وباتريك فوريستييه، الكاتب الصحفي الفرنسي المهتم بالقضايا العربية. وقد تركَّز النقاش خلال الندوة على ثلاثة محاور أساسية، هي: اللاعبون البارزون والمؤثِّرون في المشهد الليبي داخليًّا وإقليميًّا ودوليًّا، وهل وصلت الأزمة إلى طريق مسدود؟ وإلى أين تتجه ليبيا في ضوء التعقيدات الداخلية والإقليمية والدولية الحالية؟
مشهد داخلي معقَّد
تعيش ليبيا حاليًّا مشهدًا سياسيًّا وأمنيًّا بالغ التعقيد يجعل التوصل لتسوية سياسية شاملة بين مختلف الفرقاء الليبيين أمرًا صعبًا في الوقت الراهن، وهو مشهد تتداخل فيه حسابات أطراف عديدة داخلية وخارجية. وفي هذا الصدد يرى الباحث السنوسي بسيكري أنه رغم عدم استبعاد مفهوم الصراع بين الثورة والثورة المضادة مما يجري في ليبيا، إلا أن الوضع أكثر تعقيدًا من ذلك، فهذا التأزيم الحاصل لا تقع مسؤوليته على عناصر النظام السابق، ولكن بسبب الخلاف بين أنصار الثورة أنفسهم منذ الأشهر الأولى للثورة، وتطور هذا الخلاف في فترة المؤتمر الوطني بين ليبراليين وإسلاميين وأصبح لكل طرف منهم جناح عسكري وهو ما عرقل الانتقال من مرحلة الثورة إلى مرحلة الدولة. وقد عمَّق من الانقسام بين معسكر الثورة، يضيف لـبسيكري، الاختلاف في المفاهيم حول معنى الثورة والدولة وكلتاهما لها تعريف مختلف من طرف للآخر. فهناك تيار يرى أن الثورة مستمرة لإحداث التغيير الشامل، بينما اعتبر فريق آخر أن الثورة انتهت بسقوط نظام القذافي وأن المرحلة مرحلة بناء الدولة، ثم بروز توجهات جهوية انفصالية، ثم بروز تيار إسلامي متشدد. كل ذلك قاد إلى صراع مسلح بدأ بعملية الكرامة بقيادة اللواء حفتر، وكان الرد عليها بعملية "فجر ليبيا"، وحاليًّا يسيطر اللواء حفتر على المنطقة الشرقية بجيشه وأجهزته الأمنية، وفي الغرب هناك عدة عناوين سياسية وعسكرية ذات توجهات مختلفة ومتناقضة. وقد كان الانعكاس الأكبر لكل ذلك هو الوضع الاقتصادي المأزوم والأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعيشها البلاد في ظل تراجع قيمة العملة الوطنية، وارتفاع الأسعار، وشح في السيولة في البنوك.
وجاءت التطورات الميدانية الأخيرة والصراع بين المتحاربين للسيطرة على منطقة الهلال النفطي لتزيد الأوضاع السياسية والأمنية تعقيدًا في ليبيا، وفي هذا الإطار يرى الدكتور الحسين العلوي أن الصراع في منطقة الهلال النفطي، هو صراع نفوذ وليس على النفط؛ لأن النفط مسيطَر عليه من قِبل الشركات العالمية الكبرى، وبالتالي فالصراع بين الأطراف الليبية هو لتعزيز الموقف التفاوضي لكل طرف في المفاوضات الرامية لإيجاد تسوية سياسية للأزمة. كما يرى العلوي أن جزءًا كبيرًا من تعقد الأزمة الليبية هو أن الأطراف الخارجية التي تتعامل مع الأزمة لا تفهم الواقع الليبي ومحدداته بشكل جيد، ولاسيما التكوين القبلي والدور الأساسي الذي تلعبه القبيلة وزعيمها في ليبيا.
مشكلة الميليشيات المسلحة
لا يمكن الحديث عن مستقبل الأزمة في ليبيا دون التطرق لمسألة الميليشيات والفصائل المسلحة التي باتت تشكِّل مشكلة وعقبة أمام أي حل سياسي مرتقب للأزمة؛ فهذه الميليشيات التي نبتت في ليبيا مثل الفطر، هي نتيجة طبيعة لعسكرة الثورة الليبية التي يعتبر الحسين العلوي أنها كانت خطأ كبيرًا منذ البداية، ويقدم العلوي عددًا من الأسباب التي أدت لهذا التضخم في عدد أفراد هذه الميليشيات وقوتها، وهي:
- انهيار النظام السابق جعل هذه التشكيلات تستولي على منشآت ومؤسسات الدولة وما رافق ذلك من الاستيلاء على ثروات ضخمة.
- أصبحت بعض الميليشيات وكرًا لممارسة أنشطة غير مشروعة ولكنها مربحة مثل تجارة المخدرات والاتجار بالبشر وحتى الدعارة.
- الشباب الذي تسرَّب من المدراس وجد في الميليشيات والكتائب المسلحة فرصة لتحقيق الذات والوجاهة والثراء، ومواجهة البطالة، وهو ما دفع الآلاف منهم للالتحاق بهذه الكتائب لاسيما مع الرواتب الضخمة التي يتقاضها منتسبو هذه الكتائب مقارنة بالوظائف الحكومية.
ونتيجة كل ذلك تضخمت أعداد المسلحين في ليبيا؛ إذ يشير الحسين العلوي إلى أنه في أواخر شهر أكتوبر/تشرين الأول 2011، وبُعيد الاحتفال بما بات يُعرف بالتحرير الكامل لليبيا إثر مقتل العقيد القذافي، كانت كشوف المجلس الوطني الانتقالي تحوي 25 ألف مقاتل من الثوار الذين حاربوا قوات النظام. إلا أنه وبعد أشهر قليلة تضاعف هذا الرقم ثماني مرات ليصل العدد في منتصف العام 2012 إلى ما يزيد قليلًا على مئتي ألف مقاتل. وتطرق العلوي إلى خريطة انتشار الميليشيات المسلحة في العاصمة طرابلس والتي تضم نحو 12 فصيلًا وجماعة مسلحة كبيرة فضلًا عن عشرات الميليشيات الصغيرة، وتتباين ولاءات هذه الفصائل ما بين حكومتي الوفاق والإنقاذ اللتين تتقاسمان النفوذ والسيطرة على مدينة طرابلس.
ويعتبر الحسين العلوي أن أي جهد سياسي لحل الأزمة لن يُكتَب له النجاح ما لم يأخذ في الحسبان مسألة الميليشيات المسلحة والقوى المؤيدة لها، فاتفاق الصخيرات فشل حتى الآن؛ لأنه لم يشمل أهم مكونات المشهد السياسي في ليبيا وهم قادة الكتائب والمجموعات المسلحة، فليبيا تشهد حربًا أهلية، والحل يجب أن يكون بجمع القوى المتحاربة، ولكن ما حدث في الصخيرات هو أنه كان اتفاقًا بين مكونات ثورة فبراير/شباط واستُثني قادة القوات العسكرية والميليشيات الذين يسيطرون على الأرض، كما استُثني قرابة نصف الشعب الليبي الذي لا يزال على ولائه للنظام السابق.
خليفة حفتر: منقذ أم جزء من الأزمة؟
لا يمكن تناول الأزمة الليبية دون التوقف عند شخصية الجنرال خليفة حفتر، قائد عملية الكرامة، والذي أصبح رقمًا مهمًّا في الأزمة يجب أخذه في الحسبان عند الحديث عن تسوية سياسية شاملة في ليبيا. ومن هنا فإن السؤال هو: هل حفتر جزء من الأزمة أم جزء من الحل؟
السنوسي بسيكري يعتبر أن الجنرال حفتر شخصية جدلية ولديه طموح البحث عن دور وزعامة، فهو زعيم عسكري والتحق بالثورة منذ بداياتها وأراد أن يلعب دورًا أساسيًّا فيها، وتولَّى قيادة القوات البرية للمعارضة. ولكن بعد الثورة وتغيُّر المعادلة السياسية لم يجد له موقعًا أساسيًّا في هذه المعادلة، فاتجه بحكم أنه شخصية مغامرة لفكرة الانقلاب العسكري وأعلن عن انقلاب وهمي، في 2014، أصبح على أثره ملاحقًا قضائيًّا من قبل حكومة المؤتمر الوطني، لكنه اتجه للمنطقة الشرقية وأطلق ما عُرف بعملية الكرامة التي تكونت من بقايا الجيش والقوات الأمنية والمتطوعين. وقد استفاد حفتر كثيرًا من حالة الانهيار الأمني والاحتقان الشعبي في تلك المناطق خصوصًا مع استمرار الاغتيالات والتفجيرات، فقد استغل حفتر هذه الفوضى الأمنية والغضب الشعبي من خلال رفع شعارين أساسيين، هما: بناء الجيش والشرطة والحرب على الإرهاب، وهما شعاران لقيا صدى كبيرًا عند الليبيين خصوصًا أن حكومة المؤتمر الوطني فشلت منذ البداية في بناء هذه المؤسسات الأمنية.
ويُقر بسيكري بأن هناك قطاعًا كبيرًا من الليبيين يؤيد حفتر لعدة أسباب، من بينها: أن صورة الزعيم السياسي العسكري المستبد لا تزال حاضرة في أذهان ووجدان الناس في ليبيا نتيجة أربعين عامًا من حكم القذافي، والعامل الثاني هو فشل الانتقال الديمقراطي في ليبيا بعد الثورة والصراع بين مكونات المؤتمر الوطني العام وما نجم عن ذلك من أزمات أمنية وفشل بناء مؤسسات الدولة وما ترتب على ذلك من أزمة اقتصادية، كل ذلك كرَّس لدى الرأي العام قناعة بأن الديمقراطية لا تصلح مع الشعب الليبي وأن العودة للاستبداد هي الحل؛ لأن الزعيم المستبد أقدر على توفير الأمن والاستقرار. إلا أنه ورغم نجاح حفتر في تقديم نفسه للليبيين بديلًا عن الميليشيات المسلحة التي شكَّلت مصدر قلق للرأي العام فإنه لم يحقق نجاحات كبيرة بل إنه يواجه حاليًّا، كما يقول بسيكري، صعوبات أساسية تهز وتنال من الشعارات التي رفعها، خصوصًا بعد الحوادث الأخيرة المفزعة التي ارتكبتها قوات تابعة له في بنغازي مثل نبش القبور وقتل المدنيين والتمثيل بالقتلى، فهذه الممارسات تنزع الغطاء الأخلاقي عن هذه العملية وتطعن في قدرة حفتر على استعادة الأمن والاستقرار لدى قطاع كبير من الرأي العام الليبي. كما أن رفض حفتر لعملية الوفاق السياسي في ليبيا يجعله عقبة كبرى أمام جهود الوفاق الوطني بين الليبيين وهو ما ظهر في رفضه لقاء رئيس حكومة الوفاق، فائز السراج، في فبراير/شباط 2017 بالقاهرة. فحفتر يراهن على مقاربة عسكرية تمكِّنه من حسم الأوضاع عسكريًّا لصالحه وتكرار السيناريو المصري في ليبيا وهو أمر يبدو مستحيلًا في ظل موازين القوى الحالية على الأرض.
ورغم ذلك، فإن حفتر يبقى رقمًا مهمًّا في المشهد السياسي الليبي لا يمكن تجاوزه، كما يقول الكاتب الفرنسي باتريك فوريستييه، فهو يسيطر حاليًّا على ما يقرب من نصف مساحة ليبيا بما فيها المناطق النفطية ولديه جيش منظم وقوي بخلاف القوات الموالية لحكومة السراج، كما أنه مدعوم إقليميًّا ودوليًّا وهناك أطراف عديدة ترى ضرورة أن يكون جزءًا من الحل السياسي. غير أن المشكلة هي أن حفتر يرى نفسه في موقف قوة تمكِّنه من فرض شروطه على الطرف الآخر؛ وهذا غير صحيح، فإن كان ميزان القوى يميل لصالحه حاليًّا فإن هذا الوضع لن يستمر إلى الأبد، فهو لن يستطيع أن يحسم الأمور عسكريًّا لصالحه، وبالتالي لابد من ممارسة الضغط عليه لإقناعه بالمشاركة في جهود الحل السياسي للأزمة وألا يكون عقبة أمام ذلك. وهناك أوراق ضغط مهمة يمكن ممارستها على حفتر لإقناعه بذلك من قبل الأطراف الدولية، كما يرى الحواس تقية، وأهمها ورقة تسويق النفط وورقة العقوبات الدولية من قبل مجلس الأمن على أي طرف يرفض التسوية السياسية. لكن الأزمة هي أن هذه الأطراف لا تبدو مستعدة لاستخدام هذه الأوراق ضده، فأوروبا تعاني من خطر صعود التيارات اليمينية المتشددة وليس لديها قدرة على اتخاذ موقف موحد، وهناك تباين في المواقف الأوروبية، لاسيما بين فرنسا وإيطاليا حيال الأزمة، وكل ذلك يصب في صالح حفتر. أما الأطراف الإقليمية الداعمة لاتفاق الصخيرات فلا مخالب لها، بينما الأطراف الداعمة لاتفاق الصخيرات لكنها تخالفه أكثر دعمًا لحفتر من خلال تزويده بالسلاح والعتاد.
الموقف الدولي والإقليمي من الأزمة
تطرق فوريستييه خلال النقاش إلى الموقف الأوروبي من الأزمة الليبية، فأوضح أن الهدف الأساسي الذي يشغل أوروبا حاليًّا، هو استقرار ليبيا وأن تستعيد الأمن والاستقرار، فالهدف الفرنسي والأوروبي بشكل عام هو أن تكون منطقة البحر المتوسط واحة استقرار وبالتالي ما يحدث في ليبيا مقلق لأوروبا وفرنسا وإيطاليا خصوصًا في ظل تزايد نشاط الهجرة غير الشرعية والهجمات الإرهابية على بعض الدول الأوروبية، وبالتالي فإن الجهد الأوروبي حاليًّا منصب على دعم الجهود الرامية لجمع كل الأطراف المتصارعة في ليبيا على طاولة المفاوضات للوصول لحل سياسي يعيد الاستقرار إلى ليبيا. ويضيف فوريستييه أن الموقف الأوروبي يقوم على ضرورة وقف الحرب والتوصل لحل سياسي ورفض التدخل الخارجي في ليبيا وأنه لا حلَّ للأزمة إلا عبر التسوية السياسية، ولذلك فإن الجانب الأوروبي، وعلى عكس الأطراف الإقليمية، لا يساند طرفًا ضد الآخر في هذا الصراع ولكن يسعى للتوصل لاتفاق يحقق مطالب مختلف الأطراف بحيث لا يكون هناك رابح أو خاسر.
وهناك فاعل جديد بات يشكِّل هاجسًا بالنسبة لأوروبا، وهو دخول روسيا على خط الأزمة الليبية وخصوصًا من خلال دعم الجنرال حفتر الذي زار موسكو والتقى مسؤولين روسيين. لكن حدود هذا الدور الروسي في ليبيا يظل، كما يقول الحواس تقية، مرهونًا بقدرات روسيا العسكرية واللوجستية؛ فروسيا لا تمتلك القوة العسكرية التي تمكِّنها من الانتشار وخوض حروب ومواجهات على أكثر من جبهة، وبالتالي سيظل موقف روسيا على حدوده الحالية، أي الموافقة على الحل السياسي والذي يقوم على الوفاق، ولكنها في نفس الوقت تدعم حفتر ليكون في موضع قوة في المفاوضات، وفي حال انهار الاتفاق يكون لحفتر القدرة على حسم الأمور عسكريًّا لصالحه, تبدو موسكو مستفيدة بشكلٍ ما من تردد أوروبا وعدم وضوح الموقف الأميركي من الوضع الليبي.
الموقف الإقليمي لاعب مهم في الأزمة الليبية وهو محاولة لاستكمال ودعم الموقف الدولي واتفاق الصخيرات الذي يبدو أنه غير مكتمل وبحاجة إلى التعزيز والتعديل، خصوصًا في ظل التطورات الراهنة التي دفعت أطرافًا ليبية عدَّة لعدم الاعتراف به. من هنا، يمكن النظر إلى المبادرة الثلاثية التي طرحتها كل من مصر والجزائر وتونس، كمحاولة لاستكمال اتفاق الصخيرات وإعادة صياغته بهدف إزالة العقبات أمام التوصل لحل سياسي من خلال إعادة تشكيل المجلس الرئاسي وفصل السياسي عن الاقتصادي المعيشي.
لا حلَّ عسكريًّا في ليبيا ولا بديل عن التسوية السياسية
رغم تعقيدات الوضع العسكري والميداني في ليبيا واستمرار المواجهات بين الأطراف المتحاربة إلا أن المشاركين في الندوة اتفقوا جميعًا على أنه لا حلَّ عسكريًّا للأزمة في ليبيا، وأن أيًّا من الأطراف المتحاربة ليس بمقدوره حسم الأمور عسكريًّا لصالحه، فلا توجد قوة عسكرية مهيمنة قادرة على السيطرة، فحفتر رغم أنه يرى نفسه في موضع قوة لن يستطيع فرض سيطرته على ليبيا، أمَّا الجماعات والقوى السياسية والعسكرية في الغرب الليبي، فهي متصارعة وغير متفقة على رؤية أو مشروع سياسي موحد. كما أن المجتمع الدولي يؤيد الحل السياسي ويرفض أي حلول أخرى. وفي ضوء ذلك، لا يبدو أن هناك خيارًا سوى التسوية السياسية الشاملة بين مختلف الأطراف الليبية، وممارسة الضغط على هذه الأطراف بالقبول بالحل السياسي، والعمل على إدماج القوى الفاعلة والمؤثِّرة على الأرض في أية تسوية مرتقبة. وفي هذا الإطار، قد تشكِّل المبادرة الثلاثية، المصرية-الجزائرية-التونسية، مخرجًا أو تمهيدًا للتوصل لتسوية لكن يبقى الأمر مرهونًا بموقف الأطراف الليبية كلها، وبجدية المجتمع الدولي وخصوصًا الجانب الأوروبي، في دعم جهود إنهاء النزاع في ليبيا الذي بات مصدر قلق كبير في أوروبا لاسيما مسألة خطر الإرهاب. ربما يتأخر الحل السياسي في ليبيا بعض الشيء لكنه يبقى السبيل الوحيد لإنهاء الأزمة.