يمثِّل توازن القوى مفهومًا أساسيًّا في مجال العلاقات الدولية. لكن ذلك التوازن في حالة تحوُّل في منطقة الشرق الأوسط، حيث كان من تداعيات الهيمنة الأميركية في حقبة ما بعد الحرب الباردة فسحُ المجال أمام حالة لا تزال مُبهمة. فروسيا والصين تسعيان لفرض نفسيهما، وتعود إيران للظهور مجددًا، فيما تصبح تركيا منخرطة أكثر في قضايا المنطقة. أما مصر فلم تعد صاحبة الثقل المركزي في المنطقة بعد أن أزاحتها السعودية. حول هذه المحاور وغيرها، نظَّمت كلية الدراسات الدولية المتقدِّمة في جامعة جونز هوبكنز بواشنطن ومركز الجزيرة للدراسات، في 12 يونيو/حزيران 2018، ندوة تحت عنوان "نحو تشكيل توازن قوى جديد في منطقة الشرق الأوسط: اللاعبون الإقليميون، والقوى الدولية، واستراتيجية الشرق الأوسط".
تناول الدكتور عز الدين عبد المولى، مدير قسم البحوث في مركز الجزيرة للدراسات، خلال كلمته الافتتاحية أجندة الجلسات وأكد على الحاجة الملحة لفهم الديناميات الجيوسياسية، وأدوار الفاعلين غير الحكوميين، ومستقبل التوازن في المنطقة. كما أشار إلى أنه "مع التوجه العام القائم حاليًّا وتواتر الأزمات والصراعات في الشرق الأوسط، فإن العلاقات الأميركية-العربية تجد نفسها منجرفة نحو بعض مناطق استقطاب غير مألوفة ونحو مزيد من التجزئة وطموحات هيمنة بعض اللاعبين الإقليميين".
دانيال سِرْوار، مدير برنامج إدارة الصراعات في جامعة جونز هوبكنز وهو يلقي كلمته الترحيبية بضيوف الندوة (الجزيرة) |
ديناميات الجغرافيا السياسية في الشرق الأوسط
في الجلسة الحوارية الأولى، جادل روس هاريسون، من معهد الشرق الأوسط، بأن "الانفجار العظيم" إنما يحدث مع اندلاع الحروب الأهلية الحديثة وتدخل اللاعبين غير الحكوميين والقوى العظمى فيها. ومن منطلق المقارنة، أوضح هاريسون كيف أوجدت الحرب الباردة توازن القوى في الشرق الأوسط، لكن توازن القوى ذلك اتخذ منحى آخر مع انهيار الاتحاد السوفيتي. فقد كافح حلفاء الاتحاد السوفيتي السابقون، ومع ذلك فإن تشكيل "جبهة مقاومة" للقوى الإقليمية الرجعية وانخراط لاعبين دوليين، بالإضافة إلى الأدوار التي قامت بها تركيا وإسرائيل وإيران، كل ذلك أسهم في احتواء الأحادية القطبية الأميركية المحتملة.
بيد أن قدير أوستون، المدير التنفيذي لمؤسسة "سيتا" في واشنطن، قال: إن تركيا لم تكن لتتحالف، ببساطة، مع الغرب، وأن تأمل مستقبلًا أفضل ولا أن تتجاهل التطورات الإقليمية. لكنها بدلًا من ذلك، عملت على تنويع علاقاتها وتصنيف مختلف القضايا وفقًا لطبيعتها وأولويتها على الأجندة؛ حيث جعلت أنقرة قضية قطع الطريق أمام القوى المتحالفة مع حزب العمال الكردستاني ومنعها من بسط نفوذها الكامل على شمال سوريا على رأس أولوياتها. أما فيما عدا ذلك، فإن تركيا تريد وضع حدٍّ للحرب في سوريا وتهدئة التوترات الإقليمية، بالإضافة إلى استمرار العمل بالاتفاق النووي مع إيران.
في مداخلة أخرى، أبدى خالد الجابر، مدير منتدى الخليج الدولي، أسفه لتدهور الوضع في العالم العربي، مضيفًا أن النزاع الذي انزلقت إليه منطقة الخليج العربي بين السعودية والبحرين ودولة الإمارات من جهة، وبين قطر وعُمان والكويت من جهة أخرى إنما هو عامل إضعاف للجميع، هذا في الوقت الذي تزداد فيه باستمرار هيمنة القوى الإقليمية، غير العربية، بسبب ضعف الدول العربية وانقسامها، وشدَّد على أن حكومات الدول العربية تفتقر إلى المشروعية التي لم تمنحها لها شعوبها.
وفي الجلسة الأولى ذاتها، تناولت سوزان مالوني، من معهد بروكينغز، أهم قضية عندما عَزَتْ تنامي وتمدُّد قوة إيران إلى نجاحها في إيجاد حلفاء استراتيجيين والمحافظة على تحالفاتها معهم، بمن فيهم اللاعبون غير الحكوميين. لقد فشلت محاولات أميركا في احتواء إيران، ومكَّنت براغماتية السياسة الإيرانية المتبعة حكام طهران من تحقيق مكاسب من الفرص الإقليمية المتاحة، ولا يوجد اليوم من بين الدول العربية من يكافئها قوة. لكن ومع كل ذلك، فإن إيران تواجه مخاطر كبرى من الداخل، حيث يبدو شعبها غير راض، بل منتقدًا، لأداء الدولة الاقتصادي ومغامراتها الخارجية.
من اليمين إلى اليسار: دانيال سروار، روس هاريسون، قدير أوستون، خالد الجابر، سوزان مالوني (الجزيرة) |
الفاعلون غير الحكوميين وصانعو سياسات الظل
الفاعلون غير الحكوميين وصانعو سياسات الظل هم لاعبون أساسيون في المنطقة، خاصة حزب الله، الذي عرَّفته الباحثة رندا سليم، من معهد الشرق الأوسط وجامعة جون هوبكنز، بأنه ليس خاضعًا تمامًا لإيران، لكنه أيضًا غير مستقل بالكامل عنها. فحزب الله حركة اجتماعية-ثقافية تضم أجنحة عسكرية وأخرى اجتماعية خيرية. ويعمل الحزب على حماية نفسه في المقام الأول، لكنه ينشط أيضا كقوة رافدة لإيران عند الطلب. أما تركيز حزب الله فيتوزَّع ما بين محافظته على نفوذه داخل بلده الأم، لبنان، وبين طموحه للعب دور أكبر كقوة إقليمية يقول إنها دفاعية أكثر منها هجومية.
وفي سياق الجلسة الحوارية الثانية، استعرضت فاطمة أبو الأسرار، باحثة في المؤسسة العربية، كيف أن للفاعلين غير الحكوميين أهمية أكبر من الدولة كما هي حال اليمن، الذي تصفه بالضعيف والمفكَّك. وتضيف الباحثة أن الحوثيين مُكوِّن رئيسي في اليمن ويجب أن يكونوا كذلك في أي حلٍّ سياسي، غير أن استيلاءهم على صنعاء سرَّع بتدخل السعودية التي يسكنها خوف من أن يصبح الحوثيون وكلاء لإيران. وفي حال إبعاد إيران عن المعادلة، فإن السلم قد يكون قابلًا للتحقق. ثمة فاعل آخر غير حكومي وجب إيلاؤه أهمية ألا وهم انفصاليو اليمن الجنوبيون.
ناقش كريسبن سميث، من جامعة هارفارد للقانون، ازدياد انتشار الفاعلين غير الحكوميين في العراق، وعلى وجه الخصوص جماعة البشمركة الأكراد وقوات الحشد الشعبي الشيعية. وبينما يُنظر إلى كلا الميليشيتين على أنهما كل متجانس، إلا أنهما ممزقتان في الواقع. اليوم، وعلى الرغم من اعتبار هاتين الميليشيتين جزءًا من المنظومة الأمنية العراقية، إلا أنهما تعملان باستقلالية عن قيادة الحكومة العراقية ولا تخضعان لسيطرتها، كما أنهما ارتكبتا انتهاكات للقانون الإنساني الدولي ولحقوق الإنسان. وطالما ظلت هذه الجماعات شبه الحكومية تتلقى مساعدات من الولايات المتحدة الأميركية والمجتمع الدولي، وطالما ظلت تلك الجماعات مستقلة في قرارها، فإن عدم الاستقرار سيكون مصير العراق الحتمي.
وسلَّط أنور بو خارص، باحث غير مقيم في برنامج كارنيغي الشرق الأوسط وأستاذ العلاقات الدولية في كلية ماك دانيال بولاية ميرلاند، الضوء على السلفية الدعوية (التقليدية) في الجزائر،حيث يدَّعي السلفيون أنهم يمثلون الوصفة المضادة والفعالة ضد الأيديولوجيات الثورية، وأنهم يقدِّمون للشباب التائه غاية وهدفًا. وفي الوقت الذي تبدو رسالتهم رافضة للعنف، فإن دعوتهم لإقامة مجتمع متديِّن محافظ تحظى بقبول شعبي كبير. غير أن النظام الجزائري ليس متأكدًا مما إذا كانت السلفية الدعوية -التقليدية- تشكِّل تهديدًا أم أداة بيده قابلة للتوظيف.
من اليمين إلى اليسار: فاطمة أبو الأسرار، دانيال سِرْوار، رندا سليم، كريسبن سميث، أنور بو خارص (الجزيرة) |
نحو توازن قوى جديد
ركَّز محمد الشرقاوي، باحث أول في مركز الجزيرة للدراسات وأستاذ تسوية النزاعات الدولية في جامعة جورج ميسن، خلال الجلسة الحوارية الثالثة التي تناولت مسألة توازن قوى جديد في الشرق الأوسط، على ما أسماه: "المفارقات المضحكة الثلاث في توازن القوى" في المنطقة:
1. ادَّعت القوى الدولية والإقليمية أنها تواصل سعيها ليكون الشرق الأوسط مستقرًّا ومنطقة واعدة، لكن ما نشهده هو وجود ما يقرب من خمسين قاعدة عسكرية أجنبية في المنطقة. وشهد الشرق الأوسط عام 2018 أعلى تركُّز للقواعد العسكرية الأجنبية في العالم، وهي قواعد أميركية وبريطانية وفرنسية وروسية وتركية وإيرانية، بل وحتى صينية موجودة في منطقة القرن الإفريقي.
2. اختارت تلك القوى الدولية والإقليمية صيغًا متنوعة لاستعراض قوتها، فأصبح الشرق الأوسط منطقة جاذبة للقوة الخشنة والقوة الناعمة والقوة الذكية والقوة القاسية.
3. لم تعد ممارسة القوة في منطقة الشرق الأوسط تتَّبع ذلك النهج المتسق الذي كانت عليه خلال حقبة الحرب الباردة: أي قوة عالمية واحدة مع عدد من الوكلاء أو الحلفاء بل باتت القوة في المنطقة اليوم عبارة عن تحالفات علاقات هجينة. فمنذ ثلاث سنوات خلت، لم يكن أي منَّا يتخيل قيام ميثاق ثلاثي يجمع بين روسيا وإيران وتركيا. أما أميركا، في عهد ترامب، فقد اختارت الاستثمار في كلٍّ من محمد بن سلمان في السعودية ومحمد بن زايد في الإمارات العربية والسيسي في مصر. ويبقى السؤال قائمًا حول ما إذا كانت هذه التحالفات قابلة للاستدامة باعتبارها أساسًا لتوازن قوى بديل!
ونبَّه جمال خاشقجي، مدير قناة العرب سابقًا، إلى دور الشعوب أو سياسة الشعوب، وقال: إن منطقة الشرق الأوسط بأكملها شهدت معارك بين قوى الشعوب والأنظمة السياسية الحاكمة التي عملت على قمعها. ففي منطقة مكتظة بالدول الفاشلة وتعمُّها الفوضى، يكون أفضل حلٍّ هو الاستماع إلى نبض شعوب الشرق الأوسط واهتماماتها.
أما البروفيسور تيرينس هوبمان، من كلية الدراسات الدولية المتقدمة في جامعة جونز هوبكنز، فقد تطلَّع إلى إيجاد شكل من التعاون بين المؤسسات الأمنية على غرار "منظمة الأمن والتعاون في أوروبا" لتقديم نوع بديل من توازن القوى في المنطقة. لكن هذه المقاربة ستواجه تحديات في الشرق الأوسط بسبب العقلية المتشددة والمنغلقة، وبسبب عقلية السياسة الواقعية المتبعة في المنطقة. بالإضافة إلى ذلك، فإن قيام منظمة على منوال منظمة الأمن والتعاون في أوروبا (OSCE)، باعتبارها مؤسسة حكومية، لا يمكنها تقديم نموذج للقضايا العديدة المعقَّدة وللمشاكل المتعلقة بالكيانات غير الحكومية في الشرق الأوسط، كما لا يوجد وسيط دولي محدَّد وواضح في الشرق الأوسط لإطلاق مبادرة تستند إلى نموذج شبيه بمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا.
وناقش كاميل بيكاستين، الأستاذ في كلية الدراسات الدولية المتقدمة في جامعة جونز هوبكنز، أوضاع بعض الدول المحدَّدة، وقال: إن القوة في مصر في حالة تبدُّد. أما تركيا فتبدو قدراتها على نشر وبسط قوتها محدودة، في حين تمتلك السعودية إمكانات في عدد من القطاعات المهمة، لكن عليها تعلُّم كيفية استعراضها وبسطها. أما بالنسبة لإيران، فقد نجحت في نشر قوتها لكنها معزولة وتعاني من تبعات اقتصادها الهش. في المقابل، كانت أميركا غائبة وتحتاج اليوم إلى أن تقرِّر ما هي أولوياتها السياسية في الشرق الأوسط.
في الجلسة ذاتها، حثَّ حسين إيبيش، باحث في معهد دول الخليج العربي، على اتباع مقاربة تدريجية وعلى مراحل، مُجادلًا بوجود مستويات مختلفة من اختلال توازن القوى في الشرق الأوسط.وأشار إلى أن إشكالية التوازن بين السعودية وإيران ربما تكون هي الأسهل حلًّا، في حين سيكون حلُّ معادلةتوازن القوى بين الإسلاميين/العلمانيين هو الأكثر صعوبة.هذا في الوقت الذي لا يزال الإسلام السياسي يمثِّل تحديًا كبيرًا يتطلب التمييز بين الفاعلين العنيفين وغير العنيفين، أما أكثر الاختلالات قوة، في الحقيقة، فهو ذلك القائم بين الشعوب وأنظمة الحكم.
من اليمين إلى اليسار: محمد الشرقاوي، حسين إيبيش، كاميل بيكاستين، تيرينس هوبمان، جمال خاشقجي (الجزيرة) |
____________________________________________________
نوح روس ودانيال سِرْوار، جامعة جونز هوبكنز، ومحمد الشرقاوي، مركز الجزيرة للدراسات وجامعة جورج ميسن.