تشهد الساحة السياسية المصرية نقاشًا حادًّا وجدلًا واسعًا حول مساعي النظام إدخال تعديلات على الدستور تزيد من سيطرة الجيش على مفاصل الحكم وتَمَرْكُز الصلاحيات بيد الرئيس عبد الفتاح السيسي، وتُتيح له الترشح لولايات رئاسية جديدة تستمر حتى 2034.
وفي الرابع عشر من فبراير/شباط 2019، وافق البرلمان المصري بشكل مبدئي على طلب تعديل بعض مواد الدستور الذي أُقِرَّ عام 2014، وتهدف التعديلات المطلوبة إلى مدِّ فترة الرئاسة من أربع إلى ست سنوات، والسماح للرئيس السيسي بالترشح لولايتين جديدتين، بعد انتهاء ولايته الحالية عام 2022، وإنشاء مجلس أعلى برئاسة الرئيس يضم جميع الهيئات القضائية، ويتم إنشاء غرفة ثانية للبرلمان باسم "مجلس الشيوخ".
هذه التعديلات الدستورية كانت محور ندوة بحثية نظَّمها مركز الجزيرة للدراسات بالتعاون مع قناة الجزيرة مباشر ومركز دراسات الإسلام والشؤون الدولية بجامعة صباح الدين زعيم، في إسطنبول، يوم 19 مارس/آذار 2019، بعنوان "التعديلات الدستورية الجديدة في مصر: الأسباب والنتائج". وشهدت الندوة عقد جلستين حواريتين شارك فيهما نخبة من السياسيين والباحثين والأكاديميين والإعلاميين والمهتمين بالشأن المصري، وأدارها الإعلامي بقناة الجزيرة مباشر، سالم المحروقي.
1. دور التعديلات الدستورية في تعزيز استبداد السلطة
في سياق تفسير الحالة السياسية المصرية الراهنة والدوافع التي جعلت النظام السياسي يُقْدِم على طرح التعديلات الدستورية في هذه المرحلة، أوضح رئيس حزب الغد الجديد، أيمن نور، أن الأسباب التي دفعت السيسي إلى التعديلات في هذا الوقت، تتمثَّل أولًا في كون "الرجل الذي يحكم مصر الآن يريد بشكل واضح أن يُجفِّف ينابيع الأمل، ويُغلق الباب أمام أي فرصة لظهور أي بديل عنه، ولا يستطيع الانتظار حتى نهاية ولايته الحالية في عام 2022". وثانيًا: هناك الوضع الداخلي ووجود برلمان -يمثِّل برأي نور "أسوأ نوع" للمؤسسة التشريعية- يمكنه أن يمرِّر هذه التعديلات، إضافة إلى دعم إقليمي "لتمرير الجريمة الضخمة بحق دستور مصر" مُمَثَّلًا في دعم ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، وولي عهد أبوظبي، محمد بن زايد.
وتُشكِّل التعديلات الدستورية المطروحة، بحسب وجهة نظر نور، أكثر من رِدَّةٍ وانقلابٍ، بل تعبِّر عن "غباء المشرِّع الدستوري الحالي"، حيث عادة ما يطرح المشرعون مجموعة تعديلات يريدها النظام أو الدولة وأخرى يريدها المجتمع، "لكنهم اليوم يطرحون فقط مجموعة من الألغام لتفجير الحالة المصرية ولم يضعوا أي نص واحد لصالح الشعب المصري، ولذلك فإن الشارع اليوم بمختلف توجهاته هو ضد هذه التعديلات".
ولاحظ رئيس حزب الغد الجديد أن المخاطر الكبيرة قلَّلت من الجهود لبلورة موقف معارض على الأرض لمواجهة التعديلات، لافتًا إلى اعتقال السلطات المصرية لكثير من المواطنين على خلفية هذا السبب، مؤكدًا "أن هناك روحًا جديدة تسري في الشارع المصري وإن لم نستثمرها فهذه خطيئة لا نستطيع الاعتذار عنها".
ونفى نور اكتفاء القوى السياسية في الخارج بالعمل الإعلامي، مشيرًا إلى أن الإعلام داخل مصر فشل في دوره، ودعا المعارضة المصرية بكل أطيافها لبناء نفسها وصولًا لهيكل معارض يعبِّر عن الجميع دون تهميش أو إقصاء لأحد، ثم دعوة الشارع المصري لبدء مرحلة جديدة. وشدَّد نور على أن استمرار الاستبداد هو الخطر على العالم والمنطقة وليس ثورة 25 يناير.
وحذَّر الرئيس السابق لحزب البناء والتنمية، طارق الزمر، الشعب المصري من مجموعة الجنرالات التي تسيطر على إدارة الجيش وتختطف كافة المؤسسات وتدير المجتمع باحتراف خطير لكي تستأثر بالسلطة، فهؤلاء يدمرون- بحسب الزمر- الدولة وينهون سلطة الشعب ويستأثرون بالحكم على مدى طويل، "والآن جاءت التعديلات الدستورية أو الاعتداءات الدستورية التي تمثِّل فرصة تاريخية لإعادة بناء الصفوف مرة أخرى واستعادة ثورة 25 يناير، واستبعاد أي خلافات بين رافضي التعديلات".
وقال الزمر: "إن هذه الاعتداءات الدستورية لا تستهدف الاستقرار الذي لا يتأتى أبدًا من خلال تكريس الاستبداد فلا يمكن أن يتحقق الاستقرار إلا من خلال الشعب، أما الانقلاب والقوة الغاشمة والشرعية المسلحة التي تُفرَض على الشعب فلا يمكن أن تحقق استقرارًا وإن كانت حققته بشكل نسبي لفترة قصيرة". ورأى أن التعديلات الدستورية المطروحة تحقق فقط للجنرالات البقاء بالحكم بشكل مؤبد.
وأوضح الرئيس السابق لحزب البناء والتنمية أن كل شعوب العالم تحررت من الاستبداد والديكتاتورية حتى في إفريقيا ثمة دول شهدت نظمًا ديمقراطية يشار لها بالبنان، بينما يُراد للشعوب العربية أن يتم التعامل معها بالرصاص والبراميل المتفجرة والإعدامات، ويتم استهداف الشباب العربي الذي هو مستقبل الأمة.
وأضاف الزمر أن مصر لا تستحق هذه الإهانة وأن يُقتل شبابها بالرصاص في الشوارع، ويُزَجُّ بقادتها وشرفائها في السجون أو يبقوا ملاحقين في الخارج، ودعا إلى إنهاء ما سمَّاها بـ"الحقبة السوداء وإعادة مصر إلى مكانتها كدولة رائدة"، مطالبًا السيسي والجنرالات بتسليم السلطة لأصحابها.
وعرض الأكاديمي والقيادي بحزب العدالة والتنمية التركي، ياسين أقطاي، التجربة التركية مع الانقلابات العسكرية والطريق التي سلكتها تركيا للتخلص من تغول الجيش على البلاد، قائلًا: "إن الانقلابيين يعملون بنفس الطريقة ويفسدون البلاد بحجة مصلحة الوطن، ولكن مهما فعلوا فإنه ضد الوطن والمصلحة العامة، والانقلاب هو أم الجرائم، لأنه يسرق البلاد والقيم الوطنية، وفي مصر بعد الانقلاب العسكري انقلبوا على الدستور".
وأوضح أقطاي أن الانقلابات في تركيا لم تكن تنتج سوى التراجع وتلقي العبء على الشعب، وأن المجتمع كان يعاني بعد كل الانقلابات كي يتخلص من الأضرار التي أحدثها الانقلابيون بحجة حماية الدولة، "ولقد رأينا التطور والتقدم بعد أن أصبح الجيش تابعًا للشعب، وانفتحت الدولة على الإرادة الشعبية التي تُعَدُّ الأكثر قداسة".
وفي سياق تحليله لأهمية الدستور في الحياة السياسية، أكد أقطاي أن الدستور يعني العقد الاجتماعي الذي يأتي بحوار طوعي وليس بالإكراه، ووفق قواعد ونظم معروفة، "وفي تركيا لدينا تجارب في تعديل الدساتير"، لافتًا إلى تعديل 2017؛ حيث أصبح الشعب ينتخب الرئيس مباشرة وليس عبر المؤسسات الوصية على النظام، "والأمة لا تجتمع على الشر ولابد من الثقة بالشعب. وفي تركيا، فإن الشعب اليوم هو من يراقب الرئيس ويقرر ما إذا كان جيدًا أم لا وكل شيء لدينا يأتي عبر النقاش المفتوح وتساهم فيه المعارضة". وكان الجيش من قبل يقوم بالوصاية وفرض ما يريد على الدستور، وجاءت التعديلات في تركيا من طرف بعض الأحزاب وبينها حزب العدالة والتنمية لِتُخَلِّص النظام من وصاية الجيش ودفعه لمكانه الطبيعي لحماية الشعب. وأشار أقطاي إلى ضرورة الاتفاق بين القوى السياسية في مصر على تشكيل جبهة واسعة ترتكز على بعض القيم وتتجنب الخلافات للعمل ضد الانقلاب، مثل التجربة التركية.
أما أستاذ الفلسفة الإسلامية، جمال نصار، فأوضح أن أصل الحكاية في التعديلات الدستورية يعود لرغبة القوات المسلحة في التحكم بكل شيء في مصر، وهناك نماذج سيئة لتغيير الدساتير في مصر في عهد الرئيس أنور السادات والرئيس محمد حسني مبارك. وقد بدأ الترويج لتعديل دستور 2014 بداية من العام 2015 بحجج واهية، حين قال السيسي: "إن الدستور وُضع بنوايا حسنة، ولا يجب أن تُبنى الدول على نوايا حسنة".
وإذا كان الجيش يريد من خلال التعديلات -بحسب زعمه- حماية مدنية الدولة، يتساءل نصار: "أين هو الرئيس الذي جاء من خارج المنظومة العسكرية؟ بل انظر إلى المحافظين ورؤساء المؤسسات الموجودة في مصر حتى التعليم كلهم من الجيش". وأضاف أن المحيطين بالسيسي، والمنتفعين من وجوده، محليًّا وإقليميًّا، يريدونه أن يستمر، ويستخدمون أيضًا في الترويج للتعديلات فكرة استكمال المشاريع الكبرى مثل تفريعة قناة السويس التي قال عنها السيسي نفسه: إنها لرفع معنويات الشعب المصري.
وأوضح أستاذ الفلسفة الإسلامية، جمال نصار، أن الملف الاقتصادي يشهد تغولًا كبيرًا من قبل الجيش، "وبعد أن كانت القوات المسلحة تسيطر على 60% من الاقتصاد في عهد مبارك، أصبحت اليوم تسيطر على 95%، فهل هذه المشاريع تخدم الشارع المصري؟ كيف ذلك وقد ارتفعت الأسعار الآن بشكل كبير جدًّا، ولا تستطيع المؤسسات الرسمية القيام بدورها دون أن تستدين"، لافتًا إلى أن الانقلابات العسكرية في تركيا كانت تأتي بأثر عكسي على الاقتصاد، وهو ما تشهده مصر أيضًا.
وخلص الأكاديمي نصار إلى أن بقاء السيسي في الحكم بعد انقلابه على النموذج الديمقراطي الذي أنتجته ثورة 25 يناير، يعني المزيد من التراجع والتأزم والفشل لمؤسسات الدولة، والمزيد من التدخلات الخارجية في مصر.
2. التعديلات الدستورية ومستقبل مصر داخليًّا وإقليميًّا
وصف أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة سابقًا، سيف الدين عبد الفتاح، التعديلات الدستورية بـ"التعديات الدستورية"؛ "لأن التعديلات الدستورية تأتي في إطار جوهر وأصول الأسس الدستورية المتعارف عليها، والدستور هو نوع من التعاقد السياسي والاجتماعي لا يمكن بأي حال من الأحوال أن مؤسسة أو فئة ما تستطيع أن تتحكم بالنص الدستوري وتوجد لها وضعًا مميزًا فوق الدولة أو دولة في الدولة".
ورأى أن هذه "التعديات الدستورية" تخالف المنطق بالأساس؛ "فكيف يمكن للعسكر أن يقوموا بحماية الدولة المدنية فهذه مفارقة عجيبة؛ لأن المدني في مواجهة العسكري". وهذه المفارقة المتعارف عليها داخل العلوم السياسية ودراسة العلاقات المدنية-العسكرية، يقول الأكاديمي عبد الفتاح، تجعل الجيش والعسكر آخر مؤسسة يمكن أن تسهم في حماية الحياة المدنية بحكم تكوينها، ثم لا يمكن أن تودع أمانة المحافظة على الدولة المدنية للعسكر الذين يلوِّحون بالسلاح، فهذا يمكن أن يُسمَّى "دَسْتَرَة للانقلابات"، والدَّسْتَرَة هي إضفاء وضع غير طبيعي على مسألة لا تتَّسق مع الأصول الدستورية المتعارف عليها؛ "ومن ثم تُوجد عملية الدَّسْتَرَة نصًّا ثم تضعه بالدستور وتقول: إنه صار دستورًا، لذلك فإن ما يحدث لا يمكن أن يسمى دستورًا حتى لو قام هؤلاء بعد ذلك بالاستفتاء فهي من الاستفتاءات المصنوعة وعمليات التزوير المتبعة في هذا المقام، ولا يمكن أن نطمئن للعسكر حين يديرون انتخابات مدنية، وهذا يؤكد أن اللفظ المتعلق بحماية مدنية الدولة لا يمكن أن يكون أو يُسند للعسكر".
واستدل الباحث على ذلك بما أسماه "الإعلان الدستوري المكبِّل أو المكمل للدستور" والذي أصدره المجلس العسكري قبل تولي الرئيس محمد مرسي الرئاسة، الذي أراد أن يحجِّم المسؤوليات المدنية لرئيس مدني؛ حيث سحب من يده ما يمكن تسميته بالاختصاصات التشريعية وأوكلها للجيش، ويضيف: "بحثت في كل دساتير العالم عن تولي الجيش الاختصاصات التشريعية ولم أجد، وهكذا هم العسكر يقومون بما يمكن تسميته بالتلهي بالعبث بالدستور؛ لأنهم يعتبرون أن السلاح الذي يلوحون به هو الدستور الحاكم في هذا المقام".
ويعبِّر الأكاديمي عبد الفتاح عن استغرابه من كيفية أن تدار حياة مدنية في ظل أحوال عسكرية تقوم على قواعد معينة تحكم الثكنات والمعسكرات، "وهذه هي المفارقة العجيبة بين الدَّسْتَرَة والعَسْكَرَة على طريق الفرعنة، فهذه الثلاثية التي يقوم بها العسكر وتشكِّل مربط الفرس في مثل هذه التعديات الدستورية في محاولة منهم لإحداث حالة لتكوين هيئة حاكمة فوق الدستور تستطيع أن تفعل ما تشاء فإن لم تعجبها أي سلطة معينة كانت هي الحكم ولها الكلمة الفصل في هذا المقام وبالسلاح، والسلاح لا مكان له في السياسة".
ويؤكد الباحث أن هناك تاريخًا لتكريس بنية الاستبداد، والآن هناك محاولة لتكريس البنية الاستبدادية لمصلحة فئة حاكمة على رأسها العسكر وأن هذا الأمر شديد الخطورة، لأن ذلك قد يمتد من عَسْكَرَة السلطة إلى عَسْكَرَة المجتمع، ويضيف أن: "مهمة السيسي عبر التعديات الدستورية هي استكمال ودَسْتَرَة عملية اختطاف مؤسسات الدولة بالكامل، ومنها المؤسسة القضائية مثلما رأينا في مجلس الدولة".
وبيَّن الدكتور عبد الفتاح خطورة السيطرة على مؤسسات الدولة المدنية، وضرب مثلًا على ذلك "إذا قام الطلبة بمظاهرة داخل الجامعة فيمكن أن يتم تحويلهم لمحاكمة عسكرية؛ لأن العسكر يعتبر الجامعة مؤسسة عسكرية وقد حُوِّلت بهذا الأمر كل المؤسسات لسيطرة العسكر"؛ فقد "عملت مستشارًا بشكل غير رسمي للدكتور عصام شرف، ووجدنا مثلًا أن 16 لواء في مجلس الوزراء لهم اختصاصات متعلقة بالسيطرة على هذه المؤسسة، عندما كنَّا نعقد اجتماعًا كان يبث مباشرة عند المجلس العسكري".
ويستدل الباحث بمثال آخر يتعلق بالحالة الإعلامية في مصر، ويقول: "النظام الاستبدادي له قواعد ودعائم مختلفة بينها المنظومة الإعلامية، فحتى عندما كانت هذه المنظمة متاحة لرجال الأعمال سابقًا، فإن ذلك لم يعد قائمًا والآن توجد سيطرة مباشرة على القنوات الإعلامية من المؤسسات الأمنية التي تشتري هذه القنوات، وتسيطر على الحالة الإعلامية بوضع اليد عليها".
وختم الدكتور عبد الفتاح بالقول: إن الدستور يعترف فقط بالسلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية، وما عدا ذلك ليست سلطات، وبينها المؤسسة العسكرية وهي تابعة وخادمة لكيان الدولة بما فيها السلطات الثلاثة، وهذه هي التركيبة التي يحاول العسكري التغول عليها وعلى كل مفاصل الحياة المدنية "ويدَّعون كذبًا وزورًا أنهم يحمون مدنية الدولة".
وردًّا على سؤال حول ردود الفعل الدولية على التعديلات الدستورية، وهل توجد فعلًا موافقة أميركية، قال رئيس أكاديمية العلاقات الدولية بإسطنبول، عصام عبد الشافي: إن دور العامل الخارجي في التحول السياسي في مصر كان منذ اليوم الأول لقيام ثورة 25 يناير، وقد مرَّ بعدد كبير من المراحل والأدوار ويرتبط بمجموعة كبيرة من الإشكاليات، أولها: طبيعة الدعم الخارجي للنظام المصري، وثانيها: إشكالية الشرعية والاعتراف؛ حيث إن أي نظام سياسي جاء بعد ثورة شعبية أو انقلاب عسكري يسعى دائمًا للحصول على الشرعية ومن وجهة نظره ترتبط ارتباطًا كبيرًا بالاعتراف ببنية وطبيعة هذا النظام.
وأكد الأكاديمي عبد الشافي أن الانقلاب العسكري، الذي حصل في مصر عام 2013، ما كان لينجح لولا وجود بيئة دولية وإقليمية داعمة وحاضنة بنسبة 100% على مستوى التخطيط والتمويل والتنفيذ والتوجيه والإشراف، وقد بدأ التخطيط لذلك في فبراير/شباط 2011، بعد تنحي حسني مبارك. فقد تفاجأت القوى الدولية والإقليمية بحجم الثورة الشعبية والزخم الكبير والتأييد الشعبي غير المحدود، وسمحت لهذه الموجة الثورية أن تمر ثم تعاملت معها هذه الدول بمنطق إدارة الأزمة، والتخلص من جماعة الإخوان المسلمين باعتبارها من تصدرت المشهد.
وأوضح رئيس أكاديمية العلاقات الدولية بإسطنبول أن الموقف الدولي يجب عدم ربطه بالتعديلات الدستورية بل بطبيعة المصالح الاستراتيجية بين هذا النظام والأطراف الإقليمية والدولية وطبيعة التحولات السياسية في عدد من الدول الإقليمية، وأن البيئة الدولية والإقليمية تشكِّل إحدى أهم الدعامات لبقاء هذا النظام والانقلاب، "فمثلًا التحول في السعودية بعد قضية مقتل خاشقجي والتحولات التي تشهدها السودان تصب في صالح النظام المصري الحالي؛ لأنه يتعامل مع نظام السعودية بأنه في حالة ضعف وسيكون في حاجة أكبر لنظام السيسي وهو نفس الأمر بالنسبة لنظام البشير فالسيسي سيحاول ابتزاز البشير، والنظام في مصر يستفيد من بقاء ترامب الذي جاء داعمًا للسيسي منذ اليوم الأول، ويجب عدم التقليل من الدور الخارجي في أي تحول سياسي في أي دولة عربية؛ لأن الدول الغربية وخاصة صاحبة الإرث الاستعماري ترتبط بعلاقات فوق استراتيجية؛ لأنها متغلغلة في كل مفاصل الدولة والنخب وتهيمن وتتحكم في الثروات، وبالتالي يكون المطلوب هو كيفية تحييد هذه الفواعل في حال أي ثورة أو حراك شعبي".
في المقابل، لاحظ الدكتور عبد الشافي أنه خلال السنوات الماضية كان هناك مجموعة من الرهانات الخاسرة للمعارضة فيما يتعلق بإدارة العلاقة مع النظام الحاكم في مصر أو فيما يتعلق بالفرص التي تتاح في مرحلة من المراحل؛ "فقد كان هناك رهان خاسر من قبل بعض القوى السياسية التي اعتبرت أن السيسي لن يترشح للسلطة بعد الانقلاب العسكري، ورهان خاسر آخر على التزامه بولايتين لثماني سنوات بعد إقراره لدستور 2014، والآن هناك رهان خاسر آخر هو ربط التحول في مصر بمجموعة من التحولات الإقليمية والدولية. إن العامل الخارجي مهم جدًّا لكن لا يمكن التعويل عليه باعتباره عاملًا وحيدًا".
ويرى الباحث أن الأمر يرتبط بمجموعة عوامل مهمة، أولها: ما تمتلكه القوى السياسية المصرية من إمكانيات وقدرات ذاتية تستطيع من خلالها تحريك هذا الملف بشكل فاعل، وثانيًا: وجود حسابات دقيقة للإمكانيات الذاتية لهذه القوى، وثالثًا: قدرة هذه الفواعل المصرية على إدارة الفرص، "ونحن رأينا كيف كان التعامل مع ثلاث فرص خلال الشهرين الماضيين، وهي: ملف الإعدامات، وملف التعديلات، وملف قطار محطة رمسيس (حريق القطار)، وهذا يؤكد أن على القوى المصرية استغلال الفرص والتغيير الإيجابي في أي دولة إقليمية".
ويرى أستاذ العلوم السياسية بجامعة ابن خلدون في إسطنبول، برهان كور أوغلو، أن التشابه بين مصر وتركيا قريب جدًّا، لافتًا إلى أن الدولة العثمانية بدأت بإصلاحاتها من الجيش، عندما شعرت بتراجع قوتها العسكرية وإخفاقاتها أمام الجيوش الغربية، فكان بناء الجيش أقرب للنموذج الغربي. وحتى إقامة تركيا الحديثة بدأ على يد قيادات من الجيش، وبقيت العلاقة بين الجيش التركي والجيوش الغربية علاقات قوية ليست فقط تقنية أو أيديولوجية.
وأضاف أن الجيش التركي نظر لنفسه باعتباره امتدادًا للجيش العثماني، لكن الثاني كان دائمًا تحت سيطرة السلطان والسلطة السياسية، لكن في فترات الضعف كان يستخدم الجيش كأداة لتغيير النظام، وكل الانقلابات العسكرية اعتمدت على وجود فوضى في النظام السياسي وبعد ذلك تدخل الجيش من أجل الوصول للاستقرار في البلد، "ولكن إذا درسنا الأمر فإن كل الانقلابات قامت ضد إرادة الشعب، وعند شعور المتنفذين بأن النظام يقترب من روح الشعب".
وعبَّر الأكاديمي أوغلو عن أسفه أنه "في الربيع العربي، عندما حذرنا من احتمال تدخل الجيش، قالوا: إن الجيش ملتزم بالإسلام، والسيسي رجل يصلي، ولم يعرفوا أن عقلية الجيش ترى نفسها وصية على النظام السياسي في البلد".
وعن إمكانية تغيير العلاقات بين النظام المصري والإقليم بعد التعديلات الدستورية، اعتبر الباحث أن الموقف التركي موقف مبدئي، فعلاقة مصر وتركيا متميزة تاريخيًّا وقد وصلت ذروتها قبل انقلاب 2013، لكنها تراجعت مع الانقلاب؛ لأن تركيا تعرف أنها إذا قبلت بهذا الوضع فإنه سيكون أولًا على حساب الشعب المصري، كما أن التجارب المريرة مع الانقلابات العسكرية علمتها أن أي موقف لدعم أي نظام عسكري سيكون على حساب الشعب، فالديمقراطية تقدم فرصة لكل مكونات المجتمع أن تتفاعل مع العالم.
وأوضح الباحث في المعهد المصري للدراسات، محمد إلهامي، أن النخب السياسية في مصر تسعى للتعامل في ظل السقف المتاح من قبل الدولة، وأقصى ما تسعى له أن تحشد الناس ليصوِّتوا بـ"لا" خلال الاستفتاء على التعديلات الدستورية، ولذلك يفتشون في النماذج الدولية عن ذلك، "لكن الحقيقة أن هذه الاستفتاءات نادرة جدًّا وبينها تشيلي وتجربة تشيلي مختلفة تمامًا، فالفاعل الأساسي في تثوير المعارضة كان أميركا كجزء من الصراع الأميركي-السوفيتي". وفي النظام الدولي، "الحكومة تستمد شرعيتها من القوى الخارجية المهيمنة، والآن نحن في عصر القطب الواحد وهي الولايات المتحدة الأميركية"، والفقيه القانوني المصري الدكتور عبد الرزاق السنهوري قال: إن القانون يهيمن بين قويين أو ضعيفين أما إذا حدث تفاوت في القوة فالقوة هي القانون".
وأشار إلهامي إلى أن الدساتير معركة حبر على ورق؛ حيث إن دستور 2012 كتبته لجنة بعد نقاشات وجهود كبيرة وفي النهاية حُذف بحبر آخر أنهى العمل به، فالنص الدستوري نص كاشف عن واقع القوة المهيمنة وليس نصًّا منشئًا لواقع القوة، ولو كانت الدساتير تعصم أحدًا لعصمت حسني مبارك أمام الثورة الشعبية، موضحًا أن الدساتير في مصر كانت للالتفاف على الثورات الشعبية، والعالم العربي منطقة حساسة لوجود "إسرائيل" فيُسمح بانتهاك كل مبادئ الديمقراطية؛ لأنها تفرز ما ليس مرغوبًا فيه وضد إرادة القوى الدولية المهيمنة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ