خلصت ندوة حوارية نظَّمها مركز الجزيرة للدراسات أمس، الثلاثاء، 19 نوفمبر/تشرين الثاني (2019)، بالعاصمة القطرية، الدوحة، بالتعاون مع منتدى العلاقات العربية والدولية وقناة الجزيرة مباشر، عن أوجه الشبه ونواحي الاختلاف بين موجتي الربيع العربي؛ الموجة الراهنة وتلك التي حدثت أواخر العام 2010 وأوائل العام 2011، إلى أنَّ دوافع الحراك الجماهيري العربي واحدة ومتشابهة، وتتمثَّل في البحث عن نظام سياسي لا يستأثر بالسلطة ولا بالثروة، وليس متورطًا في قضايا فساد ونهب للمال العام، ولديه الكفاءة والقدرة على استثمار الموارد الطبيعية والبشرية، ويتمتع باستقلال القرار السياسي والصمود أمام الضغوط الإقليمية والدولية، وذلك بعد أن طالت العقود على تلك الأنظمة دون أن تقدِّم مما سبق شيئًا؛ ما أثار حفيظة الشعوب، ودفعها إلى الثورة عليها والمطالبة بتغييرها وتغيير الطبقة السياسية التي أفرزتها بأكملها.
وانتهت الندوة كذلك إلى رصد جملة من التحديات والعقبات التي تعترض مسار التحول الديمقراطي، سواء المنشود أو الذي قطعت فيه بعض الدول شوطًا بنسب مختلفة مثل ما هي الحال في تونس والسودان.
من هذه التحديات، التي أشار إليها المتحدثون، ما هو داخلي ويتمثَّل في تكوين تيار وطني جامع، يتفق على شكل وطبيعة الدولة وأسس ومرتكزات وآليات المرحلة الانتقالية، دون أن يدبَّ الخلاف بين الثوار أنفسهم عقب تقلُّدهم سدَّة الحكم.
كما أشار المتحدثون في الندوة كذلك إلى تحدي التعامل مع الدولة العميقة، والحذر من الاكتفاء فقط بعزل أو إزاحة رأس النظام، وقصدوا بالدولة العميقة تلك المؤسسات التي استقرَّت مصالحها عبر عقود، سواء المؤسسات العسكرية أو الأمنية أو القضائية والإعلامية، فضلًا عن جماعات المصالح من رجال المال والأعمال الذين ارتبطوا بتلك الدولة وهاته الأنظمة وجودًا وعدمًا. وأكد المتحدثون أن بإمكان الدولة العميقة هذه إفشال ما يبدو على السطح تغييرًا، والعودة بالأوضاع إلى سابق عهدها، وربما إلى ما هو أسوأ.
كما أوضح المتحدثون أنَّ التحديات الخارجية لا تقلُّ خطورة عن نظيرتها الداخلية، وأنه يجب التعامل معها بحذر وحنكة حتى لا تتدخل القوى الإقليمية والدولية الرافضة لدمقرطة العالم العربي فتجهض الحراك الجماهيري، وتدعم أنظمة الحكم القائمة، خدمةً لمصالحهم المشتركة.
وألمح المتحدثون كذلك إلى أهمية أن يكون للحراك الجماهيري الراهن قيادة تستطيع، حينما يحين الأجل، التفاوض مع السلطات القائمة وبلورة الزخم الجماهيري على هيئة مكاسب سياسية.
وتوقَّع المتحدثون ألَّا يتوقف حراك الجماهير العربية، وأن يمتد إلى غيره من البلدان التي تتشابه في الحاجة إلى التغيير والإصلاح، وأنه لا توجد منطقة في العالم العربي مستثناة من هذا الحراك بما فيها دول الخليج، لأن ذلك -على حد قولهم- هو طبيعة اللحظة التاريخية الراهنة التي بدأت ولن تتوقف إلى أن تستكمل أغراضها.
وكانت الندوة سابقة الذكر قد انعقدت في مسرح معهد الجزيرة للإعلام بالدوحة تحت عنوان "موجتان من الربيع العربي من منظور مقارن: دروس الماضي وآفاق المستقبل"، وشارك فيها: محمد الأحمري، مدير منتدى العلاقات العربية والدولية، وسعود المولى، أستاذ العلوم السياسية بمعهد الدوحة للدراسات العليا، والتيجاني عبد القادر، أستاذ الفكر السياسي بجامعة قطر، وعز الدين عبد المولى، مدير إدارة البحوث في مركز الجزيرة للدراسات، والحواس تقية، الباحث في مركز الجزيرة للدراسات، ومن العراق، عبر القمر الصناعي، فاضل البدراني، أستاذ الإعلام الدولي في الجامعة العراقية.
حيوية فكرية
واستهلَّت حواراتها ونقاشاتها بمداخلة الدكتور محمد حامد الأحمري، الذي أشار إلى ما يميز الحراك الجماهيري الراهن فأشار إلى صفة الحيوية وتمظهراتها الفكرية والثقافية، وإلى قدرتها على الاستفادة من التكنولوجيا.
وعن بواعث هذا الحراك ودوافعه، قال الأحمري: إنَّ دوافع الشعوب العربية للانتفاضة متشابهة وهي في مجملها لها صلة بالاستبداد السياسي والفساد المالي ونهب الثروات والخيرات وترك الشعوب تئن تحت وطأة الفقر والعوز والحاجة رغم ما تزخر به بلدانها من موارد وثروات، فضلًا عن الرضوخ لإملاءات القوى الإقليمية والدولية التي لها مشاريعها الخاصة.
الاستبداد قاسمٌ مشترَك
وانتقل الحديث إلى الدكتور عز الدين عبد المولى، الذي قال: إنَّ حركة التغيير بدأت من تونس ثم امتدت إلى بقية بلدان الربيع العربي، ويمكن القول: إنَّ جذر التحركات التي يشهدها الشارع العربي المنتفض واحد، وإنَّ المآلات ستكون واحدة؛ فالاستبداد هو الجذر الذي تفرَّعت منه كل الآفات والموبقات، وإنَّ مفتاح الحل هو الحرية.
وعن توصيف اللحظة التاريخية الراهنة التي يعيشها العالم العربي، قال عبد المولى: نحن على أنقاض دولة انقضت لأنها فشلت في القيام بوظائفها الأساسية في التنمية والأمن والمحافظة على الاستقلال الوطني، وفي بداية انبثاق دولة جديدة، وإنَّ الفرق بين موجتي الربيع العربي؛ الراهنة وتلك التي حدثت أواخر العام 2010 وأوائل العام 2011، هو فرق في التوقيت، أما الدوافع والأهداف فواحدة.
وأضاف عبد المولى الذي خصَّ تونس بتوصيفه وتحليله: إنَّ تونس قد قطعت شوطًا بعيدًا في الانتقال الديمقراطي، وأصبح المواطن حرًّا في اختيار مَن يحكمه، وثمَّة قدر معقول من الحرية، وهو ما سيجعل البلاد تتجاوز أزماتها رغم العقبات والتحديات.
أفق الطائفية المسدود
من جانبه، قال الدكتور سعود المولى: إنَّ ما يحدث في لبنان من حراك شعبي قد جاء في موعده، وكان قد سبقه حراك واسع النطاق في العام 2015 لكنه وصل إلى أفق مسدود بسبب استدعاء الطائفية. وأضاف أن اللبنانيين قد وجدوا الطبقة السياسية التي تحكمهم متضامنة مع بعضها لتحقيق مصالحها بشكل فجٍّ، وأضاف: إنَّهم حين يتفقون على قانون انتخابي فإنما يُفصِّلونه على مقاسهم، وهم لا يشكِّلون حكومة إلا مع أنفسهم ثم يجعلون الناس تتصارع فيما بينها، وإنَّ مستوى الفساد قد أصبح لا يُطاق، خاصًّة في بلد مستنزَف اقتصاديًّا، سيَّما إذا علمنا أن حوالي 30% من الشعب اللبناني يعاني البؤس.
وأشار المولى إلى أنه بعد هذا اليأس وذلك الإحباط والظن أن التغيير أمرٌ صعب جاء الجيل الجديد الذي نشاهده في الساحات والميادين ليجدد الأمل.
وأكد المولى أنَّ موقع لبنان في معادلات ومشاريع القوى الإقليمية والدولية أجَّج الاستقطاب الطائفي، وعن هذا الموضوع، قال: إنَّ موقع لبنان الملاصق للكيان الصهيوني ولنظام الأسد صاحب المذابح، والذي كان يحتل لبنان وما زال له نفوذ، وموقعه كذلك حيث تتصارع المصالح الأميركية والروسية، والإيرانية والسعودية.. يؤجج الاستقطاب الطائفي". لكننا رأينا –والكلام لسعود المولى- أنَّ الناس قد نزلت من كل مكان، وهذا يدل على أن ثمَّة وعيًا جديدًا وثقافة جديدة وقيمًا جديدة بدأت تتشكل.
وعن مطالب الحراك الشعبي في لبنان، قال المولى: إنَّ المطالب واضحة، وهو تشكيل حكومة نظيفة، وحلُّ مجلس النواب الحالي، وسَنُّ قانون جديد، ولكنني لا أتوقع –يختم المولى- ألَّا يحدث ذلك كله بسهولة لأنَّ ميزان القوة في المنطقة يضغط على لبنان.
عقد سياسي جديد
أمَّا عن السودان وحراكه الذي أفضى إلى تقاسم السلطة بين العسكريين والمدنيين، فقد قال الدكتور التيجاني عبد القادر: إنَّ ثمَّة جيلًا شبابيًّا جديدًا يتميَّز بوعيٍ وجرأة، وإنَّ حراك السودانيين يشترك مع نظرائه في دول الربيع العربي في دوافعه وبواعثه ومطالبه، حيث كان المحرِّك هو ما وصلت إليه البلاد من فساد واستبداد، أمَّا ما يتميز به السودان فهو "اقتسام السلطة مع النظام ضرورةً وليس اختيارًا"؛ حيث لم يستطيع الثوَّار القضاء على النظام ولم يستطع النظام في المقابل القضاء عليهم، فضلًا عن الضغوط الإقليمية، وهي عوامل متضافرة أدَّت إلى الاقتسام المشار إليه.
وأضاف التيجاني قائلًا: إنه تُجرى حاليًّا محاولات دؤوبة لتأسيس عقد سياسي وشراكة سياسية جديدة، تشترك فيها الحركات المسلحة، والأمل معقود على أن تقبل هذه الحركات بالدخول في العقد الجديد، وأن يجد زخمًا ثوريًّا دافقًا ودافئًا، لأن المجتمع السوداني لا يزال حيًّا بالثورة، وهو ما يرفع من سقف الأمل رغم الصعوبات التي تحفُّ بالبلاد من الداخل ومن الإقليم المجاور.
واقع يتشكَّل
وعن الحراك الشعبي الدائر في العراق راهنًا، قال الدكتور فاضل البدراني في مداخلته التي جاءت من بغداد عبر القمر الصناعي: إنَّ العراقيين ضربوا مثلًا رائعًا في نضالهم وكفاحهم وتضحياتهم من أجل عراق جديد يقطع مع الطائفية والفساد والمصالح الحزبية الضيقة والتبعية للقوى الإقليمية والدولية الطامعة في خيرات البلاد.
وأشار البدراني إلى أن أهم ما يميز الحراك العراقي الراهن هو التمسك بالهوية العراقية الجامعة والعابرة للطوائف والمذاهب والأعراق، وإن الأمل معقود على قدرة شباب ساحة التحرير وساحات وميادين مدن ومحافظات العراق الأخرى على إحداث واقع جديد ينبئ بعراق جديد يختلف عن العراق الذي رأيناه طيلة ستة عشر عامًا المنصرمة.
وأشار البدراني إلى المشكلات التي يعانيها العراق هي السبب في بعث الحراك الحالي، موضحًا أن الفساد أضاع على العراق قرابة 800 مليار دولار منذ 2003 حتى الآن، ما تسبب في حالات من الفقر وسوء إدارة الدولة وجعل قطاعات بأكملها تخرج من الخدمة مثل القطاع الصناعي والزراعي.
وعن توقعاته لمآلات الحراك الراهن، أعرب البدراني عن تفاؤله بنجاح الحراك في إسقاط الحكومة وسن قانون انتخابي جديد سيَّما بعد تغير موقف المرجعية الدينية وتأييدها الواضح للحراك وبعد دخول الولايات المتحدة الأميركية والأمم المتحدة على الخط.
خبرات تتراكم
أما الحراك الجزائري الذي بدأ قبل تسعة أشهر ولا يزال مستمرًّا، فقد قال عنه الحواس تقية في مداخلته: إنَّ الجزائريين يعيشون الموجه الثانية من ربيعهم بعد موجتهم الأولى التي حدثت في التسعينات وراح ضحية العشرية الدموية التي أعقبته قرابة 200 ألف قتيل، وقد استفاد الجزائريون من تجربتهم تلك في حراكهم الراهن؛ حيث أعلنوا أنهم متمسكون بالسلمية مهما حدث.
وعن دوافع هذا الحراك، أشار الحواس إلى عامل الإهانة الذي شعر به الجزائريون حينما أصرَّ النظام الحاكم على إعادة ترشيح الرئيس، عبد العزيز بوتفليقة، رغم تقدمه في العمر وحالته الصحية التي تمنعه من القيام بوظائف المنصب وأعبائه. فضلًا -كما يقول الحواس- عن تراجع مداخيل النفط وارتفاع مؤشرات الفقر والبطالة.
وعمَّا يميز الحراك الجزائري الحالي -فضلًا عن السلمية- قال الحواس: إنَّ الصور المرفوعة في المظاهرات هي صور رموز الاستقلال والثورة الجزائرية ما يعني أن الحراك الحالي هو استئناف لمسيرة تلك الثورة ومحاولة متجددة لتحقيق أهدافها التي تعثَّرت.
وأشار الحواس إلى اتساع نطاق الحراك وامتداده إلى الغالبية العظمى من محافظات الجمهورية الجزائرية، ومشاركة مختلف الأعمار وألوان الطيف السياسي.
وأوضح الحواس أن الانتخابات التي دعا إليها النظام في الجزائر لن تحل المشكلة لأن الانتخابات ليست هدفًا في حدِّ ذاتها وإنما من المفترض أن تكون حصيلة مفاوضات ومشاورات واتفاقات بين الحراك والسلطات لكي تكتسب نتائجها الشرعية.
وأخيرًا، قال الحواس تقية: إن الحراك الجزائري هو الأطول نفسًا في كل بلدان الربيع العربي، ذلك لأنه يدخل شهره التاسع، وهو ما يدلُّ على عزيمة وإصرار المتظاهرين، وسعيهم، دون كلل، نحو تحقيق مطالبهم، وإنَّ هذا الإصرار قد بدأ يؤتي أُكله.
تجارب مستفادة
واختتم المتحدثون في الندوة مداخلاتهم بالتأكيد على حاجة الموجة الثانية من موجات الربيع العربي الراهن إلى الاستفادة من التجارب المستخلصة من الموجة الأولى وبخاصة فيما يتعلق بتوحيد الصفوف وبناء الثقة والوصول إلى تفاهمات حول ما من شأنه أن يُفجِّرَ مستقبلًا الخلافات ويؤجج الصراعات، والحاجة كذلك إلى بروز قيادات ناضجة وواعية لهذا الحراك تستطيع في الوقت المناسب التفاوض مع أنظمة الحكم والتوصل إلى ما يحافظ على البلاد من الانهيار والفوضى وسد الباب أمام التدخلات الأجنبية من جهة وإلى تحقيق مطالب الجماهير في الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة والمشاركة السياسية من جهة ثانية.