خلصت ندوة حوارية نظَّمها مركز الجزيرة للدراسات عبر الإنترنت، بالتعاون مع قناة الجزيرة مباشر، يوم الثلاثاء، 12 مايو/أيار 2020، عن سياقات عودة الحراك اللبناني إلى الشارع ودلالاته وتداعياته، إلى أن السبب الأساس هو تردي الأوضاع الاقتصادية وما نجم عنه من انهيار للعملة الوطنية، وتضخم في الأسعار، وتزايد في البطالة، وضغط على طبقات وشرائح اجتماعية واسعة لم تعد قادرة على توفير متطلبات الحياة الأساسية، وباتت تخشى من المستقبل.
وأشار المتحدثون في الندوة إلى أن أسباب تلك الأزمة تعود إلى غياب الدولة، وضعف دورها الرقابي على المنافذ والحدود، واستشراء الفساد السياسي والمالي والإداري، وسياسات المصارف التي تتبع نهجًا يخدم كبار المودعين أكثر مما يقدم مساهمةً حقيقية لاقتصاد البلاد، فضلًا عن التجاذبات والصراعات الإقليمية التي عَلِق بها لبنان، وأدت إلى توقف المداخيل المالية التي كانت تأتيه من الدول الخليجية الغنية.
وأكدت الندوة على أن الخروج من الأزمة الاقتصادية الخانقة الراهنة لابد أن يكون ضمن مسارين متلازمين: إصلاحًا سياسيًّا لبنية النظام السياسي الذي تأسس وفق قواعد الطائف وما أوجده من محاصصة طائفية وسياسية، وإيجاد نظام سياسي لبناني جديد تكون الأولوية فيه لمعايير الكفاءة والنزاهة بغضِّ النظر عن الطائفة والمذهب، وتتغير بموجبه الطبقة السياسية الراهنة التي لم يعد لديها ما تقدمه ليخرج لبنان مما هو فيه من أزمات، فضلًا عن كونها هي ذاتها جزءًا من المشكلة. والمسار الثاني هو مسار الإصلاح الاقتصادي وفق نموذج تنموي جديد مغاير للنموذج الرأسمالي بصيغته النيوليبرالية المتوحشة التي أفقرت البلاد لصالح فئة محدودة وقليلة.
طبيعة الاحتجاجات
تحدث في بداية الندوة الناشط السياسي، وليد فخر الدين، فأشار إلى أن ما يحدث في لبنان اليوم من احتجاجات شعبية إنما هو استكمال لتلك التي شهدها الشارع اللبناني في أكتوبر/تشرين الأول 2019، وقال: إن المحتجين قد منحوا الحكومة المهلة التي طلبتها لكي تصل إلى حلول لمشكلات البلاد والاستجابة لمطالبهم، ومع ذلك لم يروا تحسُّنًا؛ إذ جاءت الخطة المنوط بها انتشال لبنان من أزمته الاقتصادية واهيةً لا تعالج هموم الناس وقضاياهم، ولا تبشر بانفراج تلك الأزمة الضاغطة.
وعليه -والكلام لفخر الدين- فالذي أعاد الحراك للشارع مرة أخرى هو تلك المطالب التي لم تتحقق، فضلًا عن هؤلاء الناشطين الذين لا يزالون على نشاطهم يتحركون ويُحرِّكون الشارع، وقد ترافق ذلك مع استخدام مفرط للعنف من القوى الأمنية تجاه المتظاهرين، وإنَّ هذه الأسباب والعوامل سوف تمد الحركة الاحتجاجية بطاقة استمرارية، بل إنها ستدفعها نحو التصعيد، خاصة مع الانحسار التدريجي لتداعيات فيروس كورونا، ومع تزايد ثقة اللبنانيين في الحراك، ورفضهم للطبقة السياسية بأكملها.
السياقات والدلالات
من جهته، رأى الأستاذ بالجامعة اللبنانية، علي فضل الله، أنه من المبكر القول: إنَّ ما يشهده لبنان من احتجاجات حالية إنما هو موجة ثانية لتلك التي شهدها في أكتوبر/تشرين الأول الماضي (2019) بذاك الاتساع والزخم الذي كان. وأضاف أنَّه من المؤكد أن الاحتجاجات الحالية يتداخل فيها السياسي والمطلبي، وأنها تمثِّل عامل ضغط على الحكومة من أجل دفعها لتحسين الأوضاع الاقتصادية التي كانت السبب الرئيس في خروج المتظاهرين إلى الشارع، وطالما أنها مرتبطة بالأزمة الاقتصادية فإنها ستطول بنفس القدر الذي تحتاجه تلك الأزمة لتجد طريقها إلى الحل.
غير أنه من الضروري -يؤكد فضل الله- أن تتوجه هذه الاحتجاجات للمتسببين فعليًّا في هذه الكارثة الاقتصادية التي تشهدها البلاد، وأن تصرَّ على مطلب مكافحة الفساد، وما دام أنَّ العناوين الرئيسة لهذا الاحتجاج ذات مضامين اقتصادية اجتماعية فإنها ستبقى ضاغطة، وستجد تأييدًا ومشاركةً من قطاعات واسعة من الشعب اللبناني.
بل على العكس -يقول فضل الله- فإنَّ وقع الأزمة على المواطنين يتزايد حدَّةً، فالجوع ينتشر، ومؤشر البطالة يرتفع، ولنأخذ مثالًا يوضح ذلك: فمنذ عام ونصف العام بلغ عدد المتخرِّجين من الجامعات اللبنانية 34 ألف طالب؛ من وجد عملًا منهم 4 آلاف فقط، في حين بقي 30 ألفًا منهم عاطلين عن العمل، وقد تضاعفت هذه النسبة اليوم في ظل الأزمة الاقتصادية التي استفحلت جرَّاء وباء كورونا، كما أن هناك تزايدًا في نسبة التسرُّب المدرسي. فالمحرك الحقيقي للحراك الحالي -يخلص فخر الله- إنما هو الاقتصاد؛ ذلك لأن ثمة أناسًا جائعين، وثمة قطاعات واسعة في المجتمع باتت خائفة من المستقبل.
واختتم فضل الله كلامه بالتأكيد على أن التحدي الحقيقي أمام الحراك هو حسن إدارته، وتدارك الملاحظات التي كانت تؤخذ عليه، وذلك من أجل أن يستمر في ممارسة الضغط المؤثِّر على السياسات الحكومية، وعلى كبار المودعين في المصارف، فيتم حل الأزمة في أقصر وقت وبأفضل جودة.
الحاجة إلى حلول جذرية
أما راشد فايد، الكاتب والمحلل السياسي، فقد أشار إلى أن ما حدث في أكتوبر/تشرين الأول كان ثورة على الفساد السياسي والمالي في البلاد، وأنَّ ما يحدث اليوم هو استكمال لذاك الحراك غير أن عنوانه هذه المرة هو الجوع، ذلك لأن الناس قد نزلت إلى الشوارع محتجةً، وبالأخص في طرابلس وبعض المناطق الأخرى، على الجوع المستشري، وعلى الهزيمة الاقتصادية للمجتمع اللبناني.
أما فيما يتعلق بما إن كان ثمة تدخل لإفشال الحراك الشعبي أو السيطرة عليه من قبل الأحزاب السياسية، فقد أوضح فايد أنَّ الأمر ليس بهذه الحدة، مرجعًا ذلك إلى أن القوى السياسية اللبنانية تعرف أنها قد أصبحت خارج اللعبة بحكم تخلفها التنظيمي، وافتقادها إلى استراتيجية واضحة تنقذ من خلالها البلد. ولهذا، فقد أعطت الأحزاب حكومة حسان دياب مهلة، ليس لأنهم ينتظرون منها "البدائع" وإنما لأنهم هم أنفسهم لا يملكون حلولًا بديلة، وأن هذه الحكومة -والكلام لفايد- لا يبدو أنها حتى الآن قادرة على التعامل مع الأزمة أو اجتراح الحلول، فمنذ تشكُّلها لم تُظهر عملًا حقيقيًّا يغير في الأزمة أو يُسرِّع في حلها، فهي بذلك حكومة عادية، وإنَّ الأزمة الاقتصادية سوف تستمر لأن المعضلة الأساس تتمثَّل في غياب الدولة والعيش في ظل "دويلة" تترك المعابر مفتوحة كما حدث حينما قُبض على أشخاص يُهرِّبون خمسين صهريجًا من المازوت؛ ينقلونها من "لبنان الجائع" إلى سوريا، وفي ظل استمرار تهريب البضائع السورية إلى داخل السوق اللبنانية لتنافس ما بقي من صناعة لبنانية.. فستظل الأزمة تراوح مكانها.
وأشار فايد إلى أنه لا يعتقد بأن صندوق النقد الدولي سوف يستجيب ويُقرض لبنان، لأنه (الصندوق) لا يقدم عطاءً ماليًّا إلى "قربة مثقوبة" دون أن تقوم برتق الثقب واستعادة الدولة لدورها على مقدَّراتها ومرافقها ومرافئها.
وأوضح فايد ضرورة مكافحة الفساد الذي وصفه بأنه يشمل كل مرافق العمل العام، وأن التداعيات كانت غير محسوسة بهذا القدر الذي يشعر به اللبنانيون الآن نظرًا لأن البلاد كانت في بحبوحة في الماضي.
وقال فايد: إنَّ الحكومة الحالية غير جادة في مكافحة الفساد، واستدل على ذلك بما وصفه بـ"تجزئة التعيينات القضائية" الأخيرة التي لم يُترك المجال فيها لمجلس القضاء الأعلى ليختار من القضاة الأكفأ والأكثر نزاهة، ووصف حديث الحكومة عن مكافحة الفساد في ظل هذا الوضع بأنه "إضاعة للوقت وتدجيل على الناس". ودعا إلى حوار ديمقراطي جاد بين الفرقاء السياسيين، وضرورة توصل المسؤول الحكومي إلى قناعة مفادها أن هناك في المجتمع من يفهمون في الشأن العام من أجل تحسين وضع البلد، وأنَّ عليه الاستماع إلى آرائهم، وضرب فايد مثالًا على ما يقول بما وصفه بفشل مشروع سد مسيلحة في منطقة الشمال، لأنَّ المياه لا تُستوعب في الجوف الذي حُدِّد لها وأدى إلى تسريبها، وقد أصرَّ الوزير السابق، جبران باسيل، حينما كان وزيرًا للطاقة والمياه، على تنفيذ المشروع رغم الآراء الكثيرة المعترضة.
وأشار فايد إلى الوضع الإقليمي والصراعات الإقليمية وانعكاساتها على الوضع المتأزم في لبنان، وقال في هذا الصدد: إنَّ حرمان لبنان من مداخيل ومساعدات عربية كبيرة بسبب علاقة حزب الله بإيران، وتجمُّد المساعدات السعودية والإماراتية والقطرية والكويتية، وتوقف المصطافين الخليجيين الذين كانوا يُنشِّطون الاقتصاد اللبناني.. كل ذلك فاقم من أزمته الاقتصادية وزاد حلها صعوبةً.
واختتم فايد حديثه بالقول: إنَّ قيادة الحراك غير المرئية، مدعوَّة لاستنباط رؤى وأطر وآليات جديدة أكثر جدية إذا أرادت تغيير النظام السياسي الطائفي القائم.
المآلات وآفاق المستقبل
وردًّا على سؤال عمَّا إذا كان بالإمكان فصل الاقتصادي عن السياسي في الحراك الذي يشهده لبنان، وبالتالي دفع الحكومة لاجتراح حلول اقتصادية فقط أم هنالك رؤية متكاملة؛ سياسية اقتصادية تُحرِّك الشارع، قال الباحث في مركز الجزيرة للدراسات، شفيق شقير: إنَّ ثمة عاملين يحركان الشارع اللبناني، أولهما: العامل الاقتصادي سابق الذكر، وثانيهما: العامل السياسي. وأضاف أنه بالعودة إلى أجواء الربيع العربي والمطلب الأساسي الذي كان مرفوعًا آنذاك وهو محاربة الاستبداد، فإنَّ الأمر في لبنان مشابه؛ إذ يطالب اللبنانيون في حراكهم بالتخلص من هذا الاستبداد المتمثل في التوريث السياسي والطائفية، وتلك الاستثناءات التي تُمنح لزعامات وقيادات سياسية وطائفية.
لكن -يستدرك شقير- ومع الإشارة إلى البعد السياسي سابق الذكر، فإنَّ ما أعطى الموجة الحالية من الحراك اللبناني إشارة البدء كان الأزمة الاقتصادية التي تعمقت.
كذلك، فإن وجهًا من أوجه الربط السياسي بين موجتي الحراك اللبناني الأول في أكتوبر/تشرين الأول، والثانية تلك التي يشهدها حاليًّا، نراها -والكلام لشقير- في مطلب رفض الطبقة السياسية الفاسدة بأكملها، والذي عبَّر عنها شعار "كلن (كلهم) يعني كلن"، وقد استطاعت القوى السياسية إلى حدٍّ ما كسر حدَّة هذا الحراك من خلال إدخال المصارف في الأزمة. صحيح أن تلك المصارف كانت أحد مسبباتها لكن على "الرادار السياسي" فقد تم إدخالها لكيلا يكون اللوم كله موجهًا إلى السياسيين.
وأوضح شقير أنه بالنسبة للحراك الحالي فإنَّ البوصلة موجهة أكثر من ذي قبل إلى المصارف تحديدًا، وأصبح التركيز على الاقتصادي أكثر من السياسي، وقد ساعد على ذلك كثرة الطرح ذي الصيغة التقنية لمعالجة الأزمة.
وعليه -يؤكد شقير- فإنَّ طبيعة الاحتجاجات التي يشهدها لبنان في موجتيه الأولى والثانية إنما هي سياسية اقتصادية. وفي الشق السياسي ثمة ملمحان؛ الأول له علاقة بالأحزاب والسياسيين، والثاني خاص بالنظام السياسي اللبناني الذي تأسس على قواعد الطائف، واصطبغ بهذه الصبغة الطائفية المشاهدة حاليًّا. وأضاف شقير أنَّ العناوين السياسية للحراك ستبرز مرة ثانية لأنَّ الأزمة في رأيه إنما هي "في عمقها أزمة سياسية".
واختتم شقير مداخلته بالقول: إنَّ الحراك اللبناني أضحى وكأنه "قوة رقابية"؛ بعدما نقل المعادلة من الديمقراطية التوافقية بين القوى السياسية -وما كان يحدث في سياق ذلك من مواءمات يتسلل منها الفساد- إلى الرقابة الشعبية، وهو ما يعطي الحراك الراهن زخمًا وتأثيرًا واستقلالًا.