في ندوة للجزيرة للدراسات: تغيُّر مدخلات المعادلة الإقليمية والدولية بدَّل موازين القوة في ليبيا

(الجزيرة)
مصطفى عاشور (المذيع)، أسامة كعبار، أشرف الشَّح، عبد الرحمن الغراري، محمد بويصير. (الجزيرة)

خلصت ندوة حوارية نظمها مركز الجزيرة للدراسات وقناة الجزيرة مباشر عن تطورات المعارك الدائرة في الغرب الليبي إلى أن الانتصارات التي أحزرتها القوات التابعة لحكومة الوفاق أعاقت مشروع اللواء المتقاعد، خليفة حفتر، والذي يهدف من خلاله إلى وأد الثورة الليبية وتثبيت الحكم العسكري ومنع الليبيين من تأسيس الدولة المدنية الديمقراطية التي ينشدونها.

وأشار المتحدثون في الندوة إلى أن تلك الانتصارات إذا ما استمرت وشملت كامل التراب الوطني الليبي وإخراج خليفة حفتر من المشهد العسكري والسياسي من شأنها أن تنسحب إيجابًا على دول الجوار وأن تؤمِّن الثورة الليبية وتحول بين الإمارات -الداعمة لحفتر- وبين امتداد تأثيرها في دول الربيع العربي بشمال إفريقيا.

وعن العوامل التي ساعدت على تحقيق قوات حكومة الوفاق الانتصارات سابقة الذكر، أوضح المتحدثون أن التدخل التركي الذي حدث بعد أن أخذت أنقرة الضوء الأخضر من الولايات المتحدة الأميركية وحلف الناتو هو الذي غيَّر المعادلة ورجَّح ميزان القوة لصالح حكومة الوفاق.

وأشار المشاركون في الندوة إلى ضعف فرص نجاح مبادرة القاهرة التي أعلنها الرئيس، عبد الفتاح السيسي، بحضور رئيس برلمان طبرق، عقيلة صالح، واللواء المتقاعد، خليفة حفتر، في أعقاب الهزائم التي مُني الأخير بها. وقرأ المشاركون في الندوة تلك المبادرة في سياق محاولات القاهرة وأبو ظبي إنقاذ حليفهما، خليفة حفتر، ووقف سلسلة هزائمه ومنحه الوقت اللازم لإعادة ترتيب صفوف قواته مجددًا.

وكانت الندوة سابقة الذكر قد نظَّمها مركز الجزيرة للدراسات بالتعاون مع قناة الجزيرة مباشر يوم الأحد، 7 يونيو/حزيران 2020، عبر الإنترنت تحت عنوان "التطورات الميدانية في الغرب الليبي وفرص التسوية السياسية"، وشارك فيها: أشرف الشَّح، المستشار السياسي السابق بالمجلس الأعلى للدولة الليبية، ومحمد بويصير، المحلِّل والناشط السياسي، وأسامة كعبار، الباحث بمركز الدراسات الاستراتيجية بالدوحة، وعبد الرحمن الغراري، الباحث والصحفي الليبي.

خريطة المقاتلين

في بداية الندوة، قدَّم الباحث، عبد الرحمن الغراري، تعريفًا بمكونات طرفي الصراع في ليبيا؛ فقال: إنَّ المحاربين مع حكومة الوفاق هم تشكيلات مسلحة ينتمون إلى عدة مدن ليبية، منها: مصراتة وطرابلس والزاوية، وكذلك من مقاتلي المنطقة الشرقية الذين انسحبوا بعد سيطرة قوات خليفة حفتر على بنغازي ودرنة، وأيضًا ثمَّة جزء من المقاتلين ينتمون إلى مدينتي الزنتان وزوارة. وأضاف أن هذه القوات كانت مشتتة بل إنَّ جزءًا منها كان يحارب بعضه بعضًا، لكن بعد هجوم حفتر، يوم 4 أبريل/نيسان 2019، على طرابلس ورغبته في الاستيلاء على العاصمة، توحدت هذه القوات، وأعلنت ولاءها لحكومة الوفاق وأكدت أنها ستحارب إلى جانبها، في محاولة منها لمنع سقوط طرابلس، والحيلولة دون نجاح مشروع حفتر، الراغب في إعادة الحكم العسكري إلى البلاد. وأشار الغراري إلى أن هذه القوات هي التي قاتلت حتى استردت المناطق التي كان يسيطر عليها حفتر في المنطقة الغربية، وهي التي قاتلت في ترهونة وبني وليد، وتقاتل حاليًّا في مدينة سرت. 

أما قوات خليفة حفتر -يضيف الغراري- فتتكون بدورها من مكونات عدة؛ بعضها تيارات دينية، وبعضها قبلية، وأخرى مرتزقة، فضلاً عن أنصار النظام السابق. وبهذا، فلا يمكن أن يُطلق عليها وصف "جيش وطني"، وإنما هي ميليشيا متعددة الجنسيات، ومتعددة الولاءات.

السياق العسكري والاستراتيجي

من جانبه، استعرض الناشط والمحلل السياسي، محمد بويصير، السياق العسكري والاستراتيجي للمعارك الدائرة في ليبيا حاليًّا، فأشار في معرض كلامه إلى أن عدوان خليفة حفتر على طرابلس، في 4 أبريل/نيسان 2019، بدأ بإمكانيات عسكرية واستخباراتية كبيرة، وكانت تقديراته أنه سيدخل المدينة خلال يومين، مستندًا في ذلك إلى الدعم الذي يأتيه من حلفائه الخارجيين: فرنسا، ومصر، والإمارات، وروسيا.. فضلاً عن تجنيده أعدادًا كبيرة من المرتزقة. بدأ الهجوم على العاصمة مزودًا بالمعلومات الاستخباراتية التي قدمتها له فرنسا.

وإزاء ذلك كله -يضيف بويصير- بدأت الدول الأخرى التي لها مصالح في ليبيا تتدخل. وكان أن تشاورت تركيا مع الولايات المتحدة الأميركية؛ حيث كان الرئيس، رجب طيب أردوغان، في زيارة لواشنطن التقى خلالها بنظيره، دونالد ترامب، يوم 25 نوفمبر/تشرين الثاني 2019، وطرح الموضوع الليبي عليه بحضور قيادات من الحزب الجمهوري؛ أعضاء في الكونغرس، حيث أقنعه في تلك المقابلة بأن تركيا قادرة على تحقيق الاستقرار في ليبيا بعد أن عجز عن ذلك الأوروبيون، فوافق ترامب وأعطاه الضوء الأخضر، ومن ثمَّ بدأ التحرك التركي.

وأشار بويصير إلى أن تركيا سارت في تحركها نحو ليبيا مسارًا قانونيًّا واضحًا وليس استخباراتيًّا تآمريًّا كما فعلت الإمارات ومصر وفرنسا؛ حيث وقَّعت حكومتا أنقرة وطرابلس مذكرتي تفاهم وتعاون في المجالات الاقتصادية والعسكرية، ووافق البرلمان التركي وصدَّق عليهما، وبدأت تركيا بعد ذلك في تقديم الدعم بأشكاله المختلفة لحكومة الوفاق بما فيه الدعم العسكري خاصة منذ يناير/كانون الثاني من هذا العام (2020).

وكان هذا الدعم -يضيف بويصير- سببًا في تغيير ميزان القوة لصالح حكومة الوفاق، حيث أصبح لهم التفوق الجوي بعد أن كان ذلك حكرًا على قوات حفتر، واستطاعوا بذلك تحريك قواتهم التي رأينها تحرز الانتصارات العسكرية الأخيرة في غرب ليبيا وترهونة وبني وليد وصولًا إلى سرت.

وعن الموقف الروسي مما يجري في ليبيا، أوضح بويصير أن روسيا بدروها غيَّرت موقفها من حفتر وأوعزت إلى قوات الشركة الأمنية الخاصة (فاغنر) بالانسحاب في الوقت الذي ضغطت فيه الولايات المتحدة على الدول التي يأتي منها المرتزقة وبخاصة من تشاد والسودان لسحب هؤلاء؛ ما أحدث مزيدًا من الخلل في ميزان القوة لصالح قوات حكومة الوفاق.

وفي سياق تبريره لتغير الموقف الروسي، قال محمد بويصير: إن تركيا أقنعت الروس بالتفاوض مع حكومة فايز السراج، وفي زيارة الأخير إلى موسكو ألمح للروس بإمكانية دخول شركاتهم في عملية إعادة الإعمار التي ستتكلف نحو 300 مليار دولار وفقًا لتقديرات البنك الدولي، ما أغراهم ودفعهم لتغيير موقفهم، خاصة أنهم يعلمون أن وجودهم العسكري في ليبيا بالنسبة للولايات المتحدة وحلف الناتو غير مقبول لأنه يهدد الأمن الأوروبي والمصالح الغربية، وأن هذه القاعدة (قاعدة إبعاد روسيا عن ساحل البحر المتوسط الموازي للجنوب الأوروبي) مستقرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

واستطرد بويصير في تبيان الموقفين الروسي والغربي وسياقاتهما ودلالاتهما وتأثيرها في مجريات المعارك الدائرة في ليبيا فأشار إلى أن القناعة الروسية بصعوبة الوجود العسكري في ليبيا قد ازدادت حينما وجدت رد الفعل الغربي متمثلًا في دعم تركيا وحكومة الوفاق ضد خليفة حفتر، وأن ذلك جاء في أعقاب التحرك الروسي بإرسال بضع طائرات مقاتلة إلى ليبيا ردًّا على المناورة الأميركية الكبرى في أوروبا والمعرفة باسم  Exercise DEFENDER-Europe 20 والتي يشارك فيها 20 ألف جندي أميركي مع 14 ألف مركبة عسكرية في بولندا القريبة من روسيا؛ إذ حاول الروس القيام بتحرك خلفي فأرسلوا تلك الطائرات العسكرية بعد أن غيَّروا طلاءها لتكون على بعد نصف ساعة من قيادة الناتو في نابولي الإيطالية، وعلى بعد عشر دقائق إلى ربع ساعة من قوات الناتو الموجودة في لامبيدوزا وكريت.. فتحرك هنالك الأميركان من منطلق المحافظة على الأمن الوطني الأميركي والأوروبي.

ويختم بويصير مداخلته بتحذير حكومة الوفاق من إيقاف المعارك عند سرت والنظر في المبادرة المصرية التي أعلنها الرئيس، عبد الفتاح السيسي، بحضور خليفة حفتر وعقيلة صالح، يوم السبت 6 يونيو/حزيران الجاري، قائلًا: إن ترهونة وسرت مهمتان لكن الشرق الغني بالنفط والذي يصدِّر قرابة 2 مليون برميل يوميًّا هو الأهم، ومن يسيطر عليه تكون له اليد العليا في أية مفاوضات قادمة، ولهذا -والكلام لبويصير- فإن عدم السيطرة عليه يعتبر خطأ في التفكير الاستراتيجي يجب تجنبه، وإنه ليس متوقعًا أن تتدخل مصر عسكريًّا في تلك المنطقة وذلك لأنها ليست مستعدة حاليًّا لمثل هذا الأمر.

مسار سياسي دون حفتر

تطرقت الندوة إلى المسار السياسي وآفاقه وإمكانية مشاركة اللواء المتقاعد، خليفة حفتر، فيه، وهنا أشار أشرف الشَّح، المستشار السياسي السابق بالمجلس الأعلى للدولة الليبية، إلى أن هذا المسار حينما يبدأ فلن يكون حفتر موجودًا فيه، لأن المعارك الدائرة الآن ستستمر حتى دحر قواته وإخراجه من المشهد.

وأوضح الشَّح أن الليبيين يريدون دولة ديمقراطية مدنية حديثة ويرفضون العودة إلى حكم العسكر والأنظمة الشمولية، وأنهم قاموا بثورتهم من أجل ذلك، ويضحُّون الآن في سبيلها، ولن يتوقفوا حتى يحققوا ما يصبون إليه.

وعن مبادرة القاهرة سابقة الذكر، قال الشَّح: إنها وُلِدت ميتة وإن الهدف منها هو إنقاذ حفتر وتدارك هزائمه، لأنهم لا يملكون بديلاً له، وأشار إلى أنه لن يُكتب لهذه المبادرة النجاح لأنها تفتقد إلى التوازن، فضلاً عن كونها أتت من طرف يدعم أحد الأطراف في الصراع الدائر وليس من طرف يقف على الحياد.

وأوضح الشَّح أن من أبرز الملفات التي ستواجه حكومة الوفاق بعد أن تضع الحرب أوزارها هو ملف المصالحة الوطنية وجبر الضرر الذي خلَّفته الحرب وتعويض من أضيرت مصالحهم من الليبيين ومطالبة الدول التي اشتركت في العدوان عليه وعلى مقدَّراته بدفع التعويضات المناسبة.
إقدام بعد تردد

من جانبه، قال أسامة كعبار، الباحث بمركز الدراسات الاستراتيجية بالدوحة: إن الانتصارات التي تحققها حكومة الوفاق والمقاتلون المؤيدون لها حاليًّا إنما جاءت بعد طول تردد على المستويات السياسية والدبلوماسية والعسكرية، وإن هذا التردد لم يكن له -في رأيه- ما يبرره، وإنَّ ما أُحرز من مكاسب يثبت أن ذلك التردد كان ضارًّا بمسارات الأحداث في ليبيا وأنه تسبب في مزيد من الخسائر، بيد أن الأمور -والكلام لكعبار- قد تغيرت الآن، وبدأت العجلة تدور ولن تتوقف حتى يتم الحسم المنتظر.