تعيش بيئة الصحافة الورقية في العالم العربي أزمة متعددة المداخل والسياقات تشمل بنيتها وهيكلها ووظيفتها؛ جعلت عددًا من المؤسسات الصحفية يلجأ إلى خيار الخروج من المشهد الإعلامي المكتوب بعد تجربة صحفية امتدَّ بعضها سبعة عقود مثل دار الصياد اللبنانية وأخرى تجاوزت أربعة عقود مثل السفير، وكانت صحيفة المستقبل أكملت عقدها الثاني قبل أن تطوي صفحة تجربتها. وفي مصر وحدها أُغلق نحو 50 في المئة من الصحف التي حافظت على الصدور خلال الأعوام الخمس الماضية، بينما تراجع عدد المطبوعات الورقية في تونس من 255 صحيفة ومجلة عام 2010 إلى أقل من 50 في عام 2018. وقد تفاقم هذا الوضع، أي خيار الخروج، في سياق الأزمة الراهنة لانتشار وباء كورونا، والتي امتد تأثيرها لجميع القطاعات بما في ذلك الصحافة الورقية والرقمية؛ حيث كشفت عمق التحديات التي يواجهها هذا القطاع وهشاشته بعد أن اتجهت معظم الصحف إلى تعليق إصدار طبعاتها الورقية؛ فاضطربت البنية الاقتصادية للمؤسسة الصحفية ووظيفتها (النشر والطباعة والتوزيع والإشهار)، واضمحلت سوقها الأولية (سوق القراء) والثانوية (سوق المعلنين)، وهو ما سيؤدي ببعضها إلى الإفلاس والإغلاق.
تتعدَّد تفسيرات الأزمة الحادة التي يواجهها قطاع الصحافة الورقية في العالم العربي، لاسيما أن مداخلها وسياقاتها مركَّبة، تتجاوز انكفاء المنظومة الإعلامية التقليدية على ذاتها التي لم تستطع مواكبة متغيرات المنظومة الاتصالية/الرقمية الجديدة، وأيضًا التحوُّل في السلوك الاتصالي للجمهور واتجاهه نحو الإعلام الرقمي بحوامله التفاعلية المختلفة التي تتميز بخاصية القرب والآنية في تغطية الأحداث. ولئن كان المتغيِّر الأكثر تأثيرًا في قطاع الصحافة الورقية اليوم مُمَثَّلًا في تآكل النموذج الاقتصادي التقليدي الذي يعتمد أساسًا على المبيعات، وعائدات الإعلان التي عرفت تراجعًا حادًّا ومستمرًّا في ظل أزمة كورونا، والتمويل الحزبي، فإن المؤسسات الصحفية لم تتخلص أيضًا من ولائها وتبعيَّتها للسلطة السياسية سواء تحت مظلَّة الانتماء الحزبي أو الطائفي أو الولاء لهذا التيار أو ذاك -داخل الحدود الجغرافية للدولة أو خارجها والدفاع عن أطروحته السياسية- حيث لا تزال تُنْتِج خطابًا أيديولوجيًّا لا يفصل بين متطلبات العمل الإعلامي المهني وعمل النخب السياسية. كما لم تتبدَّل نظرة هذا الإعلام لمفهوم الممارسة الصحفية في سياق تغيُّر وظائف الإعلام التفاعلي ومتعدد الوسائط، بل لا يزال إعلامًا منغلقًا على أنماط تقليدية؛ إذ لم يتجاوز الدور الإخباري أو الوظيفية الإخبارية في ممارسة العمل الصحفي؛ ولم يستطع أيضًا مجاراة الإعلام الرقمي في جهده الاستقصائي وتوفير منصات للرأي والتعليق وابتكار أشكال وأنماط صحفية جديدة.
وعلى الرغم من النمو الذي يعرفه قطاع الصحافة الرقمية في العالم العربي اليوم وسرعة انتشاره، وقد تبدو الصحيفة الإلكترونية -في سياق الأزمة التي تعيشها الصحافة المكتوبة- صوتًا بديلًا للصحيفة الورقية التي تواجه تحدي الإغلاق والخروج من المشهد الإعلامي، فإن أغلب المشاريع لم تتطوَّر مُؤَسَّسِيًّا وتُشَيِّد نماذج مهنية مستدامة؛ إذ إن هيكلها يقوم على ذات النموذج الاقتصادي التقليدي الذي يعتمد على عائدات الإعلان التي يذهب أغلبها اليوم إلى شبكات التواصل الاجتماعي. ولم يُؤَسِّس هذا القطاع أيضًا نموذجًا اقتصاديًّا مبتكرًا يراعي خصوصية المنظومة الإعلامية والبيئة الرقمية الجديدة، ويُقدِّم خدماته للمستخدم باعتبار الصحيفة الإلكترونية علامة تجارية لها ميزتها المهنية المخصوصة التي تستجيب لاحتياجاته في الإخبار والمعلومات والتفسير والفهم والتعليم والتثقيف والترفيه والخدمات الحياتية اليومية في مختلف المرافق والقطاعات. كما أن معظم هذه الصحف ترتبط بالولاء للجهة المموِّلة لها ما يعرِّضها للفشل في أن تكون صوتًا بديلًا ووسيطًا بين المجتمع والدولة للقيام بدورها التنويري وليس الأيديولوجي.
يهدف هذا المؤتمر البحثي إلى مقاربة الإشكاليات والتحديات التي يعرفها واقع الصحافة الورقية في العالم العربي بنيويًّا وهيكليًّا ووظيفيًّا من خلال دراسة أزمات الحالات البارزة (في لبنان، ومصر، وتونس، وموريتانيا، والأردن..) وبحث مواطن خلل البيئة الإعلامية وسياقاتها المختلفة (الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والتكنولوجية...) التي تدفع بالمؤسسة الصحفية إلى التوقف عن النشر والخروج من المشهد الإعلامي، ثم دراسة أسباب عجز هذه الصحافة عن التكيُّف مع البيئة الإعلامية والاتصالية/الرقمية التي فرضت أساليبَ جديدةً لتلقي الجمهور للأخبار والمعلومات، وأنماطًا صحفيةً مبتكرة. ويسعى المؤتمر أيضًا إلى استقصاء بيئة الصحافة الرقمية وإشكالاتها، واستشراف مستقبلها في ظل الكوابح التي تُعطِّل تحوَّلها إلى تجارب مهنية مؤسسية أو صناعة إخبارية وخدماتية ذات جدوى اقتصادية (علامة تجارية).
لدراسة أزمة الصحافة الورقية والرقمية وإشكالياتها في العالم العربي، ينظِّم مركز الجزيرة للدراسات مؤتمرًا بحثيًّا بعنوان: تحديات الصحافة الورقية والرقمية في العالم العربي، يومي 28 و29 يونيو/حزيران 2020.
وتشمل محاور المؤتمر، الذي يشارك فيه نخبة من الأكاديميين والباحثين المختصين، القضايا الآتية:
1. تأثيرات أزمة كورونا في الصحافة الورقية والرقمية بنيويًّا ووظيفيًّا.
2. اقتصاديات الصحافة الورقية والرقمية والتعايش والتنافس بينهما: رؤى استراتيجية.
3. أبعاد حرية التعبير وانعكاساتها على بنية ووظيفة الصحافة الورقية والرقمية.
4. السلوك الاتصالي للجمهور والمستخدمين وأثره على مستقبل الصحافة الورقية والرقمية.