خلصت ندوة مشتركة نظَّمها أمس، الاثنين، 13 يوليو/تموز 2020، مركز الجزيرة للدراسات ومركز جسور للدراسات بالتعاون مع قناة الجزيرة مباشر، للبحث في مسار ومصير الأزمتين السورية واللبنانية، إلى أنَّ طبيعة العلاقات السياسية والاقتصادية بين هاتين الدولتين، وتداخل المصالح بين نظامي الحكم فيهما، يجعل ما يحدث في إحداهما يؤثر على الأخرى.
وتوقع المتحدثون في الندوة أن تكون تداعيات قانون قيصر أسرع أثرًا بالنسبة إلى لبنان منها لسوريا، مع الإقرار بأنَّ كلا البلدين سيتأثران بهذا القانون الذي يستهدف الضغط على النظام السوري من أجل تغيير سلوكه السياسي، وإجباره على تقديم تنازلات سياسية.
وأشاروا إلى أنَّ بمقدور النظام السوري التعايش لفترة أطول نسبيًّا مع هذا القانون، رغم ما في ذلك من آثار مدمرة على سوريا الدولة والمجتمع.
وذهب المشاركون إلى أنَّ الاحتجاجات الشعبية التي يشهدها لبنان منذ تسعة أشهر هي جزء من الربيع العربي، وأنه في حال نجاحها كليًّا أو جزئيًّا فإنها ستنعكس إيجابًا على استقرار لبنان سياسيًّا واقتصاديًّا، ودعوا في هذا الصدد إلى أن يغيِّر المحتجون ويطوِّروا من أدواتهم ويتجهوا صوب بناء جبهة وطنية واسعة.
واختتموا مشاركتهم بالتأكيد على أن التغيير السياسي هو الطريق الأقرب والأكثر أمنًا بالنسبة لسوريا ولبنان في التعامل مع ما يشهدانه من أزمات ويواجهانه من مخاطر ويعترضهما من تحديات.
وكانت الندوة قد انعقدت عن بُعد تحت عنوان "سوريا ولبنان: المسار والمصير في ظل متغيرات المنطقة"، وشارك فيها: ناصر ياسين، أستاذ السياسات والتخطيط في الجامعة الأميركية في بيروت، ومحمد حسام الحافظ، محام وأكاديمي سوري، ومحمد سرميني، رئيس مركز جسور للدراسات، وشفيق شقير، باحث بمركز الجزيرة للدراسات، وأدارتها حياة اليماني، المذيعة بقناة الجزيرة مباشر، وجرى بثها على شاشة الجزيرة مباشر ومنصات مركز الجزيرة للدراسات على مواقع التواصل الاجتماعي، مساء الاثنين، 13 يوليو/تموز 2020.
طبيعة العلاقة بين البلدين راهنًا ومستقبلًا
استهل الندوة الدكتور محمد حسام حافظ بمداخلة استعرض فيها طبيعة وسمات العلاقات اللبنانية-السورية وأثر التداخل السياسي والاقتصادي والاجتماعي عليها، وانتهى إلى أن ثمة قواسم مشتركة كثيرة تربط البلدين، وأن ما يحدث في إحداها يؤثر في الأخرى، وفي هذا الصدد، قال: إن لبنان ظل بالنسبة إلى سوريا يمثل امتدادًا له، وقد تداخلت أحداث البلدين أكثر منذ الثورة السورية، عام 2011، وبخاصة بعد تدخل حزب الله اللبناني تأييدًا ودعمًا لنظام الرئيس بشار الأسد، واشتراكه في الحرب إلى جانبه، فأصبح لهذا الحزب وجود عسكري في كثير من المواقع السورية ما اعتبره الشعب السوري قوة احتلال.
وأضاف حسام حافظ قائلًا: إنه بعد عسكرة الثورة السورية بدأ تدفق اللاجئين السوريين إلى لبنان، كما بدأ في الوقت نفسه تدفق الرساميل السورية إلى هذا البلد، ما أثر عليه سياسيًّا واقتصاديًّا بطرق وأشكال ودرجات مختلفة. وفي الوقت نفسه -يضيف حافظ- فإن النظام السوري استغل السوق اللبنانية وبخاصة المصارف وشركات الصرافة في الالتفاف على العقوبات الاقتصادية المفروضة عليه.
وأشار إلى أنه مع سريان تنفيذ قانون قيصر الذي شرعه الكونغرس الأميركي بغية الضغط الاقتصادي على النظام السوري وداعميه من الدول والأحزاب والمؤسسات والشركات لتغيير سلوكه السياسي فإن التأثيرات الاقتصادية تداعت في وقت متزامن بالبلدين، وكان من تجلياتها انهيار العملة وضعف القدرة الشرائية للمواطنين وتزايد انتشار رقعة الفقر.
وأوضح حسام حافظ أن لبنان لن يتحمل طويلًا هذه الأزمة الاقتصادية بينما النظام السوري ربما يكون أطول نَفَسًا منه.
واختتم حافظ مداخلته بالقول: إن الحل في سوريا ولبنان لابد أن يكون حلًا سياسيًّا وليس عسكريًّا أو أمنيًّا، وأن العلاقة الطبيعية بين البلدين يجب أن تؤسس على قاعدتي احترام الجوار والمصالح المشتركة.
ربيع لبنان مرتبط بربيع دمشق
من جانبه، تناول الدكتور ناصر ياسين العوامل التي جعلت العلاقة بين سوريا ولبنان تتسم بطابع التأزم والالتباس طيلة مئة العام الماضية، على حد وصفه، وأشار في هذا الصدد إلى أن ما وسم تلك العلاقة هو تعامل أنظمة الحكم المتعاقبة في سوريا مع لبنان من منظور عسكري وأمني، وليس تعاملًا طبيعيًّا؛ سياسيًّا ودبلوماسيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا. وأضاف أن التدخل السوري في لبنان إبان الحرب الأهلية ودعمه لأطراف بعينها ضد أطراف أخرى عمَّق من الخلافات اللبنانية وزاد من هوة الانقسامات.
وأشار ياسين إلى أن الأزمة الاقتصادية التي يعاني منها لبنان وسوريا هي في جوهرها أزمة مشتركة؛ ذلك لارتباط الاقتصاد في البلدين بعضهما ببعض بصورة أو بأخرى، حتى إنه بات بالإمكان القول: إنه اقتصاد واحد في بلدين، وعليه فقد انهارت العملة في البلدين وتدنت القدرة الشرائية للمواطنين في وقت متزامن.
وأرجع ياسين أسباب الأزمة الاقتصادية في لبنان إلى جملة من العوامل، من بينها: العجز السياسي عن وضع حلول لما يعانيه هذا البلد، وعدم استجابة الطبقة السياسية لمطالب الشارع، وتلك الدلائل والمؤشرات التي توحي بتقلُّص حرية الرأي التي عُرف بها لبنان، فيما يشبه العودة التدريجية للأجواء التي كانت مسيطرة إبان الوجود السوري في هذا البلد، فضلًا عن استحواذ السياسيين المتنفذين على مفاصل الدولة واعتبارها بمنزلة غنيمة لهم.
أما أسباب الأزمة الاقتصادية السورية فقد أرجعها ياسين إلى التداعيات الناجمة عن الحرب الأهلية، وإلى عدم القدرة على استحداث نظام سياسي حقيقي يلبي تطلعات السوريين، واعتماد نظام الرئيس، بشار الأسد، على الحلول الأمنية واستمرار فرض أدوات الهيمنة والتسلط والاستبداد.
وخلص ياسين في مداخلته إلى أنه لهذه الأسباب مجتمعة فإنًّ البلدين يشهدان انهيارًا اقتصاديًّا لن يجدا وسيلة تنجيهما منه سوى بالحلول السياسية التي تستجيب لمطالب الشارع؛ ذلك لأنه "لن يزهر ربيع لبنان ما لم يزهر ربيع دمشق".
التغيير في سوريا يؤثر إيجابًا على لبنان
ولم يبتعد كثيرًا محمد السرميني في مداخلته عن الطرح السابق، فأشار إلى تأثير الثورة السورية على الوضع في لبنان، وبخاصة بعد التدفق البشري السوري وأثر ذلك اقتصاديًّا وأمنيًّا. واستعرض دور حزب الله في الثورة السورية ومحطات تدخله فيها وأثر ذلك على استمرار نظام الرئيس بشار الأسد، فقال: إن حزب الله اعتبر ما يحدث في سوريا معركة وجود بالنسبة له ما دعاه للتدخل فكان تدخله مؤثرًا وأحدث تغييرًا في موازين القوة لصالح النظام.
وأوضح السرميني أن اللبنانيين تضرروا كثيرًا من النظام السوري قديمًا وحديثًا، وأن أي تغيير في بنية هذا النظام باتجاه تفكيك قبضته الاستبدادية يصب في صالح لبنان سياسيًّا واقتصاديًّا وأمنيًّا.
وعن قانون قيصر وتداعياته على سوريا ولبنان، أكد السرميني أن هذا القانون يمثل عامل ضغط على النظام السوري وحلفائه والدول الداعمة له من أجل تعديل سلوكه، لكن ليس بالضرورة أن يفضي إلى إسقاطه، واستشهد بتأثير عقوبات اقتصادية مماثلة مارستها الولايات المتحدة على أنظمة حكم مثل إيران وكوريا الشمالية وروسيا ومع ذلك فإنها لا تزال باقية وقادرة على الفعل والمناورة، ومع ذلك -والكلام للسرميني- فإنًّ الضغط الناجم عن قانون قيصر سيجبر الطبقة السياسية اللبنانية والنظام السوري على إحداث بعض التغيير، خاصة وأنهما لن يتحملًا طويلًا تلك الضغوط ولاسيما مع ضعف المدد الذي يأتيهما من إيران وروسيا اللتين تتعرضان بدورهما لعقوبات اقتصادية مماثلة.
واختتم السرميني مداخلته بالحديث عن مستقبل العلاقات السورية-اللبنانية، وأشار في هذا الصدد إلى أن طبيعة هذه العلاقات مرتبطة بمقدار التغير في بنية نظامي الحكم في البلدين، وقال: إنًّ التغيير في سوريا سوف يؤثر على لبنان، وإنَّ القوى السياسية المعارضة في البلدين تعرف ذلك، وتوقن بأنه بمجرد وصول إحداها الى السلطة فسيكون بينها وبين الأخرى علاقات مميزة تنعكس إيجابًا على العلاقات بين البلدين على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
تأثير اشتراك حزب الله في الحرب على علاقة البلدين
تحدث شفيق شقير في مداخلته عن أوجه الشبه ونواحي الاختلاف بين نظامي الحكم في سوريا ولبنان وأثر ذلك على طبيعة العلاقة بينهما من حيث الشد والجذب، وقال: إنَّ النظام اللبناني بعد الاستقلال قام على ما سمي بالصيغة اللبنانية، حيث لا يدخل المسلمون في مشاريع وحدة عربية وفي المقابل لا يلتجئ المسيحيون إلى الغرب، ويكون لبنان جسرًا بين الشرق والغرب، باعتبار أن لبنان بلد أقليات. وبالمقابل، اتسم النظام السوري بالطابع العسكري حيث شهد عدة انقلابات عسكرية، ومع مجيء نظام الرئيس حافظ الأسد فإنَّ المعادلة التي تبناها تقوم على أن يكون الحكم حكم أقلية لكنه يحمل قضايا الأغلبية. فكان اللبنانيون يشعرون أحيانًا بالاطمئنان له لكونه حكم أقلية ويستدعونه ليكون إلى جانبهم، وأحيانًا أخرى يرفضونه ويخشونه لأنه يحمل قضايا الأكثرية.
ومن هذا المقدمة، انتقل شقير للحديث عن التغير الذي طرأ على هذه المعادلة سواء في سوريا أو لبنان، فأوضح أن نظام الرئيس بشار الأسد وقف ضد الثورة السورية وكأنه جزء من الأقليات في مواجهة ثورة الأكثرية، وأن حزب الله دخل في الحرب السورية تحت نفس العنوان، وكأنه يعمل على مساندة الأقليات وحمايتها في المنطقة.
وبالنسبة للتداعيات الاقتصادية التي يمكن أن يحدثها قانون قيصر على لبنان بسبب وجود أطراف لبنانية مؤيدة لنظام الرئيس الأسد، رأى شقير أن الأزمة الاقتصادية اللبنانية لها أسبابها المتعددة، وأن قانون قيصر قد يكون عاملًا إضافيًّا لهذه الأسباب ولكنه لن يكون العامل الأكبر، لأن سبب الأزمة الأساس في لبنان هو الفساد وانهيار العملة الوطنية أمام الدولار، والأزمة هذه سابقة على قانون قيصر. وعن مواجهة حزب الله لتداعيات هذا القانون عليه، فبحسب شقير، فإنَّ حزب الله يرى في القانون استهدافًا لسلاحه، وأنه يذكِّر الحزب بالسياق الذي جاء وفقه القرار الأممي 1559 عام 2004 الذي يدعو لنزع سلاح الحزب وخروج القوات السورية من لبنان وانتهى بخروجها فعلًا عام 2005 بعد اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري. ورجَّح أن حزب الله سيغير تموضعه في الدولة اللبنانية ويتراجع قليلًا عن كونه "مهيمنا على الدولة اللبنانية" إلى "دولة داخل الدولة"، ومع التحفظ على تلك التعبيرات المتداولة لكنها في العموم تلخص الفكرة، فالحزب كان يتهم منذ عام 2005 أنه دولة داخل الدولة، ولكن بعد تدخله العسكري في سوريا بعد عام 2012 أصبح يتهم بأنه "يهيمن على الدولة".
وفيما يتعلق بمستقبل العلاقة بين البلدين وتلازم مسار الحل فيهما، رأى شقير أن ذلك سيكون متشابهًا في بعض جوانبه، لأن الحلول في المنطقة تستلهم اتفاق الطائف اللبناني كما حدث في العراق وكما تجري محاولات شبيهة في اليمن، رغم أن نسخ هذا الاتفاق حتى في لبنان قد تعددت، ولكن هذا لا يعني بالضرورة -والكلام لشقير- أن اليد العليا في هذا الاتفاق ستكون لمحور إيراني أو لمحور آخر يعارضه بل ربما يكون مختلفًا عما سبق.
واختتم شقير بالتحذير من تداعيات تدخل حزب الله في الحرب السورية وضرورة الإسراع بمعالجتها قبل أن ينشأ عنها أحقاد تاريخية بين عموم الطوائف اللبنانية وعموم الشعب السوري تؤثر على العلاقة بين البلدين.