نظم مركز الجزيرة للدراسات، بالتعاون مع قناة الجزيرة مباشر، ندوة حوارية عن بُعد، بعنوان: "أزمة إقليم تيغراي الإثيوبي: تأثيراتها الداخلية وتداعياتها الإقليمية"، يوم الاثنين،30 نوفمبر/تشرين الثاني 2020، شارك فيها الباحثون الإثيوبيون: عزيز عبد الحي، ومحمد العروسي، ونور الدين عبدا، فضلًا عن الباحث السوداني، صلاح الدين الزين، وقد ادارها المذيع بقناة الجزيرة مباشر، مصطفى عاشور .
وأرجع المتحدثون جذور الأزمة التي يواجهها إقليم تيغراي إلى الصراعات القديمة-المتجددة بين القوميات العرقية في إثيوبيا ومنها قومية التيغراي والأورومو والأمهرة، وبخاصة حينما استطاعت أقلية التيغراي، التي تبلغ نسبتها العددية 6% من تعداد سكان البلاد الذي يربو على مئة مليون نسمة، الوصول إلى حكم إثيوبيا في التسعينات، وما يقال عن تهميشهم بعض القوميات الأخرى ومنها قومية الأورومو التي ينتمي إليها رئيس الوزراء الحالي، آبي أحمد.
كما أوضحوا أن بداية الأزمة الراهنة بدأت حينما رغب آبي أحمد في تأجيل الانتخابات الفيدرالية بسبب تداعيات جائحة كورونا وما تبعه من تمديد فترة رئاسته، وهو ما اعتبرته الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي عملًا غير دستوري وأصرَّت من طرف واحد على إجراء انتخاباتها المحلية؛ الأمر الذي رفضته أديس أبابا واعتبرت نتيجته غير قانونية، وقد كان هذا الإجراء بمنزلة "القشة التي قصمت ظهر البعير"؛ إذ اندلعت الأعمال العسكرية بعد أن منحت الحكومة الإثيوبية إقليم تيغراي مهلة للتراجع عن خطوته ولم يستجب.
واعتبر المتحدثون في الندوة أن مشكلة تيغراي تشبه مشكلات غيرها من الأقاليم في إثيوبيا وعديد البلدان الإفريقية والتي تتمثل في الصراع الدائم بين المركز والأطراف، ورغبة المركز في السيطرة واحتكار السلطة والثروة، وشعور الأقاليم الأخرى بالغبن، ومن ثم تتأزم الأوضاع ولا تجد طريقها للحل فلا يكون أمام الجميع غير الالتجاء إلى السلاح لحسم الخلاف.
كما خلص المشاركون إلى أن إثيوبيا تمر بفترة انتقال سياسي بدأها آبي أحمد وأنها تحتاج إلى حكمة في التعامل مع المشكلات والقضايا المزمنة وأنها بحاجة إلى ترسيخ وتعزيز النهج الديمقراطي والاستمرار في توحيد القوى الداخلية على قاعدة من المشاركة في السلطة والتوزيع العادل للثروة، والمحافظة على الاستقرار حتى تؤتي مشاريع التنمية أكلها وتنعكس على المجتمع الذي عانى طويلًا من تردي الأوضاع الاقتصادية ونقص الخدمات الأساسية. وأضافوا أنه ما لم يحافظ آبي أحمد على هذا النهج ويبتعد بالبلاد عن النهج التسلطي الذي كان سائدًا إبان فترة حكم هيلاسيلاسي فإنها معرضة للقلاقل والفتن التي لن يقتصر أثرها على إثيوبيا وحدها وإنما ستمتد إلى منطقة القرن الإفريقي بأكملها.
خلفيات الصراع
وكانت الندوة سابقة الذكر قد بُثَّت على قناة الجزيرة مباشر والمنصات الرقمية لمركز الجزيرة للدراسات أمس، وبدأها الباحث الإثيوبي، محمد العروسي، بالحديث عن جذور وخلفيات الصراع بين الحكمة المركزية وجبهة إقليم تيغراي؛ فقال: إن تلك الخلافات بدأت تتصاعد مرحلة تلو الأخرى حتى بدأت تظهر للعلن منذ انتخابات إقليم تيغراي التي أقرَّ البرلمان ببطلانها حسب الدستور، وتلا ذلك العديد من الإجراءات التي اتخذتها الحكومة لفرض القانون، ومنها إيقاف الدعم المالي، وإسقاط الحصانة عن عدد من أعضاء الجبهة، كله قد أتى في ظل حدة الخطابات التي تصدر من قياديي الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي والتي يراها كثير من المراقبين خطابات استفزازية ومتحدية للحكومة الفيدرالية.
وعن التأثيرات الداخلية لهذه الأزمة، قال العروسي: إن المتأثرين بها هم عدة شرائح في المجتمع من أهمهم النازحون، خاصة من الأطفال والنساء، فهم من يدفعون جزءًا باهظًا من الثمن. وأضاف أن الحكومة المركزية التزمت بالعمل على إعادة تأهيلهم ومساعدتهم حتى يعودوا إلى وطنهم بعد تحقيق الأهداف المنشودة من العمليات العسكرية. وأشار العروسي في هذا السياق إلى ما أسماه بـ"التكاتف المجتمعي" الذي لوحظ مؤخرًا بين الأوساط الشعبية الإثيوبية لتخفيف تداعيات تلك الأزمة.
المعارك لم تنته بعد
أما الباحث الإثيوبي، عزيز عبد الحي، فقد أشار في مداخلته إلى أن المعارك لم تنته بعد وأن العمليات لا تزال مستمرة، وأوضح أن الحكومة الفيدرالية تقوم بالتعتيم الإعلامي من خلال قطع وسائل الاتصال، وأكد أن قوات حكومة إقليم التيغراي ستواصل قتالها حتى بعد سيطرة القوات الحكومية على مدينة ميقيلي. وأوضح أن المواجهة بين القوتين كانت بالأمس (الأحد) في عابي عدي، وسط التيغراي، وكانت حكومة التيغراي قد أعلنت أنها أسقطت طائرة حربية وألقت القبض على الطيار الذي كان يقودها، وقد صوَّرت ذلك في مقطع فيديو، كما حررت مدينة أكسوم التاريخية ومحيطها من القوات الفيدرالية والقوات الإريترية الموالية لها.
أما عن الجانب الإنساني الناجم عن العمليات العسكرية، فقد أضاف عبد الحي أنه لا يزال على حاله، وأن النزوح داخليًّا واللجوء خارجيًّا إلى السودان المجاور يتم بأعداد كبيرة، وأن الأوضاع الإنسانية عمومًا هي أوضاع سيئة.
وفيما يتعلق بأسباب اندلاع الأزمة في إقليم تيغراي كما يراها، قال عبد الحي: إن السبب الحقيقي لتأجيل الانتخابات -التي جاء ذكرها في المداخلة السابقة- هو أن فرصة رئيس الوزراء آبي في الفوز بها فرصة ضئيلة إن لم تكن معدومة، لذلك -والكلام لعبد الحي- فقد زَجَّ في السجون بمعارضيه الذين يشكِّلون تهديدًا لسلطته.
وأضاف عبد الحي أن لُبَّ الموضوع هو تباين الآراء السياسية والأيديولوجية بين آبي أحمد ومناوئيه، فرئيس الوزراء -يقول عبد الحي- يريد أن ينسف الدستور الحالي الذي يقر بأن الحكم فيدرالي، وأنه (الدستور) يعطي جميع الأقاليم الحق في تقرير مصيرها، بينما آبي أحمد يريد تحطيم ذلك دون أخذ رأي مواطنيه بعين الاعتبار، ويهدف إلى إحلال النظام المركزي بدلًا من النظام الفيدرالي، رغم أن المركزية أثبتت فشلها في الماضي.
وعن تفسيره لإصرار إقليم تيغراي على إجراء الانتخابات في موعدها المحدد، أوضح عبد الحي أن ذلك جرى ليثبت الإقليم استقلاليته ورفضه لإملاءات حكومة آبي أحمد، وليسحب اعترافه بالحكومة المركزية التي انتهت صلاحيتها بموجب الدستور.
الدور الإريتري في الأزمة
من جانبه، رأى الباحث نور الدين عبدا أن المواجهات العسكرية في شمال إثيوبيا بين جبهة تحرير تيغراي والحكومة الإثيوبية كانت مفاجئة لعديد المراقبين من الخارج، لكنها بالنسبة لمتابعي التطورات السياسية في إثيوبيا عن كثب -وخاصة بعد التغيير الذي حصل في 2018 بوصول آبي أحمد للسلطة- لم تكن مفاجئة، ذلك لأن بوادرها كانت موجودة على المستوى السياسي. وأضاف أن "مجموعة الأزمات الدولية" قد أصدرت في هذا الشأن عدة تقارير، وأنها رسمت في آخر تقرير لها سيناريو الحرب فيما لو اندلعت، وحذَّرت المجتمع الدولي من عواقبها.
وعن العوامل التي عززت المواجهة السياسية في هذا الإقليم، كما يرصدها عبدا، قال: إنها تتمثل في فقدان جبهة تحرير تيغراي قيادتها للمشهد السياسي في إثيوبيا بعد وصول آبي أحمد للحكم، وأنها كانت تستشعر الخطر ومن ثم اتجهت نحو التخندق للدفاع عن نفسها سياسيًّا فإن لم يؤْتِ هذا الأمر ثماره فإنها تستعد للدفاع عسكريًّا، وذلك بناء على رؤية الجبهة وقراءتها للدولة الإثيوبية وللتنافس التقليدي بين التغاروة والأمهرة في حكم إثيوبيا التاريخية وتشكيل إثيوبيا الحديثة.
وخصَّ نور الدين عبدا في مداخلته جملة عوامل بالذكر، مُرجعًا إليها السبب في تزكية نيران الصراع بين جبهة تحرير تيغراي والحكومة الفيدرالية، منها: تطبيع العلاقات بين إثيوبيا وإريتريا، وما أعقب انتهاء الحرب بينهما، والتي أدت فيها الجبهة دور رأس الحربة، وتصريحات إريتريا التي ما فتئت تكررها بأن زمن الجبهة قد انتهى، وأنها يجب أن تدفع الثمن، وحَلُّ التحالف الحاكم الذي كانت الجبهة جزءًا منه، فضلًا عن عمل الجبهة على تأسيس تحالف عريض من التيارات والأحزاب الفيدرالية، وأخيرًا تأجيل الانتخابات العامة من قبل الحكومة، وعقد الانتخابات المحلية من طرف الجبهة، ثم تبادل الاتهامات بعدم الشرعية.
وأشار عبدا إلى أن الحكومة المركزية تأمل في إحداث انشقاق داخل صفوف الجبهة بفعل الضغوط السياسية التي تمارسها ضدها، لكنه أوضح أن ذلك لن يتم، موعزًا السبب إلى "التنظيم الثوري المحكم داخل الجبهة وتحكمها الأمني". وربما أن الجبهة أحسَّت -يضيف عبدا- بتأثير وخطورة تلك الضغوط السياسية فلجأت إلى تفجير الوضع وجَرِّ الجميع لمربع الحرب التي كانت تعتقد أنها قادمة لا محالة.
وأوضح عبدا أن التصريحات الرسمية الإثيوبية الراهنة لا تزال تفرِّق بين الجبهة كتنظيم وتيار وبين قيادتها الحالية التي تتهمها بالمسؤولية عمَّا حدث، وأن هذا التفريق يأتي في إطار محاولة لخلق صدع في صفوفها من جهة وللحفاظ على توازنات ما بعد الحرب من جهة ثانية. لأنه -والكلام لا يزال لعبدا- لا يمكن العمل بنظرية استئصال الجبهة واجتثاثها من المشهد السياسي كما تقترحه بعض التيارات الأمهرية المتطرفة.
وتوقع عبدا إذا ما أطبق الخناق على الجبهة أن تسلك عدة خيارات، منها التحول لشنِّ حرب عصابات طويلة الأمد، أو أن تتوصل إلى اتفاقٍ ما مع "حزب الازدهار" الذي يقوده آبي أحمد حول الإبقاء على الجبهة كتنظيم مع استئصال قيادات الصقور، أو الإمساك بالعصا من المنتصف فيذهب الصقور للجبال ويبقى التنظيم المهادن في الجسم السياسي للدولة، حتى إشعار آخر.
واستعرض نور الدين عبدا التداعيات الإقليمية لأزمة تيغراي وأكد في هذا الصدد على أن إريتريا لا تخفي دعمها لآبي أحمد، مشيرًا إلى تقارير يصفها بالمتواترة حول تورطها عسكريًّا في الصراع، بل والتقدم دخل الحدود الإثيوبية والسيطرة على العديد من المناطق، على حدِّ قوله. ويقول: "إنه رغم عدم وجود تأكيدات على هذا الأمر إلا أن منطق الأمور وجميع الشواهد السياسية والميدانية تؤكد ذلك".
واختتم عبدا مداخلته بالقول: إن إريتريا سوف تعمل على الانتقام من جبهة تيغراي، وأوضح أن العقلية الجمعية للنخبة الإريترية لا ترى نفسها خارج إطار العمق الاستراتيجي الذي تمثله إثيوبيا بالنسبة لإريتريا، وبالتالي لا يمكن لإريتريا أن تستمر دون دور ما في إثيوبيا.
لعبور المرحلة الانتقالية بأمان
من زاويته، رأى الباحث صلاح الدين الزين أن أزمة تيغراي هي مثال على سوء إدارة العلاقة بين المركز والأطراف، وهي أزمة يراها المتابعون للشأن الإفريقي متكررة في عديد البلدان، حيث يحاول المركز الاستئثار بأكبر نصيب من السلطة والثروة مما يثير حفيظة الأطراف ويشعرها بالغبن، وحينما تعجز الوسائل السلمية عن إدارة الصراع تلجأ الأطراف إلى السلاح لحسم ما بينهما من خلاف.
وأكد صلاح الدين الزين أن من مصلحة دول شرق إفريقيا بأكملها استقرار إثيوبيا لأن الفوضى إذا ما انتشرت في هذا البلد فإن تداعياتها يمكن أن تطول غيرها من دول الجوار.
وشدَّد الزين على أن الطريق الأمثل لتجنب إثيوبيا مثل هذا السيناريو هو استمرار رئيس الوزراء، آبي أحمد، في نهجه الإصلاحي الذي بدأه منذ توليه السلطة، وذلك بتوسيع دائرة المشاركين في الحكم، وعدالة توزيع الثروة، والاهتمام بالجانب الاقتصادي حتى يرفع من مستوى معيشة السكان ويخفف من وطأة البطالة على الشباب، والاستفادة من دروس التاريخ الإثيوبي نفسها بعدم احتكار المركز للسلطة أو استبداده بها، ومواصلة طريق الديمقراطية حتى تتم إثيوبيا مرحلة الانتقال السياسي الراهنة بأمان، ومحاولة حل مشكلة سد النهضة مع مصر والسودان حتى ينعكس ذلك استقرارًا على بلاده، وبهذا -يختم صلاح الدين الزين- يمكن أن تمر أزمة إقليم تيغراي وأزمات أخرى مشابهة قد تندلع في المستقبل بأمان.