متحدثون في ندوة للجزيرة للدراسات: "الروح البراغماتية" مؤهلة لإخراج تونس من أزمتها السياسية

أحمد إدريس، وجوهر بن مبارك، ونور الدين العلوي، والحبيب بوعجيلة. وقد أدارتها المذيعة بقناة الجزيرة مباشر، وعد زكريا. (الجزيرة).

انتهت ندوة حوارية نظَّمها مركز الجزيرة للدراسات وقناة الجزيرة مباشر عن طبيعة وأسباب أزمة الحكم الراهنة في تونس وطرائق الخروج منها إلى أن هذه الأزمة تعد من أخطر الأزمات السياسية التي مرَّت على البلاد، وأنه ما لم يتوصل الفاعلون إلى منطقة وسط تتقارب فيها وجهات النظر فإنها ربما تكون بمنزلة الطوفان الذي يجرف تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس ويعيدها إلى مربع الاستبداد.

وأشار المتحدثون في الندوة إلى أن أسباب تلك الأزمة ليست فقط دستورية وقانونية ولكنها في العمق سياسية متعلقة برغبة القوى المتحكمة في المشهد في توسيع صلاحياتها ونفوذها ومكاسبها على حساب بعضها بعضًا.

وأكدوا أن هذا التنازع وبخاصة بين الرئاسة والبرلمان والحكومة أدى إلى تعطيل دولاب الدولة في وقت لا تحتمل فيه الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية ذلك.

غير أن الندوة -ومع هذه الصورة التي بدت في بداية النقاش قاتمة- خلصت إلى أن "الروح البراغماتية" التي يتحلى بها الشعب التونسي ونخبه السياسية، فضلًا عن وساطة الحكماء ولاسيما الاتحاد العام التونسي للشغل، بالإضافة إلى إكراهات الداخل والخارج، سوف تجد في النهاية لهذه الأزمة مخرجًا ولو مؤقتًا إلى حين مجيء موعد الانتخابات القادمة في العام 2024.

وكانت الندوة سابقة الذكر قد انعقدت أمس، الثلاثاء، 30 مارس/أذار 2021، عن بُعد، بعنوان "أزمة الحكم في تونس: أسبابها ومظاهرها والحلول الممكنة"، واستضاف فيها مركز الجزيرة للدراسات وقناة الجزيرة مباشر كلًّا من: أحمد إدريس، رئيس مركز الدراسات المتوسطية والدولية بتونس، والحبيب بوعجيلة، أستاذ الفلسفة والكاتب الإعلامي، ونور الدين العلوي، أستاذ علم الاجتماع بالجامعة التونسية، وجوهر بن مبارك، أستاذ القانون الدستوري والناشط السياسي، وأدارتها المذيعة بقناة الجزيرة مباشر، وَعْد زكريا.

أزمة دستورية

بدأت الندوة بمداخلة للدكتور أحمد إدريس قدَّم فيها قراءته لأزمة الحكم التي تشهدها تونس؛ فقال: إنَّ هناك تحولًا في شكل أزمة الحكم في تونس؛ فنحن نعيش منذ عشر سنوات على وقع أزمات اجتماعية وسياسية لكنها كانت محصورة بين الأحزاب فيما بينها، ثم إبان المجلس التأسيسي كان ثمة خلاف حول شكل الدستور والدولة التي نريد، وصاحب ذلك أزمات عديدة ومتكررة كان أبرزها تلك التي أدت إلى استقالة حكومة النهضة، أما الأزمة الراهنة فهي بين المؤسسات وبين الأطراف السياسية معًا، فهو صراع على السلطة والتموقع بين رأسي السلطة التنفيذية، وأحيانًا بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية.. كما أن ثمة تطورًا في شكل الأزمة الحالية وطبيعتها؛ ما جعلها "من أخطر الأزمات التي تعيشها تونس"، لأنها تؤدي إلى شلل تام في عمل المؤسسات، وإن كان في الظاهر يبدو أن هذه المؤسسات تشتغل لكن في الحقيقة فإن الأزمة في عمقها تعطِّل السير العادي لدواليب الدولة، وبالتالي لا يمكنها أن تضع سياسات أو أن تستجيب لمطالب المواطنين أو تطوِّر من الاقتصاد بشكل يجعله أكثر إنتاجية، فالوضع "متردٍّ وخطير".

وثمة سبب دستوري تشريعي لهذه الأزمة -يضيف إدريس- ينبغي لفت الانتباه إليه، فمنذ تأسيس النظام التونسي الحالي وهناك تنازع في الصلاحيات ورغبة من السلطات الثلاثة لتوسيع تلك الصلاحيات، بل إن ثمة ثقافة في المجتمع لا تزال موجودة ترى ضرورة وجود شخص واحد على هرم السلطة يضع سياسة ويعمل على تنفيذها، وإن هذا الشكل لم يعد الوصول إليه ممكنًا في الوقت الراهن خاصة بعد الثورة.

فالدستور يرى -يعود إدريس ليفصِّل ما أجمل- أن يكون رئيس الجمهورية هو الحَكَم حال وجود اختلاف بين السلطات، ولم يتصور واضعو الدستور أن يكون الرئيس نفسه طرفًا في الأزمة، لهذا فإنه "لا توجد حلول دستورية لما تشهده تونس حاليًّا".

أما السبب الثالث، في رأي أحمد إدريس، فهو تشريعي ويتمثل في أنَّ النظام الانتخابي الحالي لا يمكِّن من أن تكون هناك أغلبيات واضحة تستطيع تشكيل الحكومات بطريقة مريحة؛ ذلك ما يجعل الفائز الأول في الانتخابات يحتاج إلى التحالف مع أطراف عديدة ليصل إلى تشكيل الحكومة، وما رأيناه حتى اليوم أن الفائز في الانتخابات لم يتمكن من ذلك أبدًا.

أزمة سياسية بتجليات اقتصادية-اجتماعية

من جانبه، سلَّط جوهر بن مبارك الضوء على أثر غياب المحكمة الدستورية على تفاقم أزمة الحكم في تونس، وقال: إن هذا الغياب "جعل اللعبة السياسية المعقدة والمتداخلة والمشحونة بالأزمات تدار بدون حَكَم وبدون قواعد ما شجَّع على استفحال الأزمة السياسية".

لكن الأزمة في حقيقتها أزمة سياسية -يضيف جوهر- قبل أن تكون دستورية؛ ومنطلقها هو هذا الصراع الدائر بين موازين القوى، فضلًا عن وجود تيار يحاول أن يعود بالبلاد إلى ما قبل الثورة حيث الحكم الاستبدادي، فالمسألة الديمقراطية، والتداول السلمي على السلطة، والحوكمة ومكافحة الفساد.. كل ذلك لا يزال مادة لانقسام الشارع التونسي، ولا تزال تلك القضايا بعيدة عن أن تكون موضوعَ توافقٍ مجتمعي شامل، وهو ما يعتقد أنه يمثِّل عمق الأزمة الأول.

أما عمق الأزمة الثاني، من وجهة نظره، فهو اقتصادي واجتماعي، بمعنى أن الشعب التونسي لا يشعر أن التحول الديمقراطي أنتج على المستوى الاقتصادي والاجتماعي ما كان ينتظره من تحديث الاقتصاد، والعلاقات الاجتماعية، ومكافحة الاقتصاد الريعي والاتكالي، والتمييز بين الجهات والقضاء على الفوارق الشاسعة بينها، ومحاربة الفقر والبطالة.. أي إن المنظومة الديمقراطية -يخلص جوهر- لم تستطع أن تفرز نتائجها الاقتصادية والاجتماعية، فهذا هو "لُبُّ الموضوع"، ولا ننسى أن "كثيرًا من رجال الأعمال المرتبطين بالخارج يَحُولون دون هذا التحول الاقتصادي والاجتماعي المنشود".   

أثر التعطيل الرئاسي على استفحال الأزمة

"نحن بصدد البحث عن جمل منطقية لتحليل وضع يغيب عنه المنطق"، هكذا بدأ نور الدين العلوي مداخلته، والتي أَبَان فيها أن النزاعات الشخصية هي الغالبة والحاكمة في سلوك هذا الطرف أو ذاك من أطراف الأزمة، كما أنهم يتمترسون حول بعض بنود الدستور التي يؤولونها وفق مصالحهم دون أن يسعوا نحو البحث عن حلول لهذه الأزمة تُخرج البلاد من هذا الوضع غير المنطقي.

إن سبب الأزمة لا يعود إلى البرلمان ولا إلى حكومة المشيشي الذي اختاره الرئيس ولكن في جزء منه يعود إلى الرئيس نفسه -يقول العلوي- الذي أراد أن تكون له قراءته الخاصة للدستور وللمسائل الإجرائية المتعلقة بالمصادقة على الحكومة، وقد سايره البرلمان في ذلك بانتهاجه (البرلمان) نهجًا يحاول فيه التوفيق، وقد تسبب موقف الرئيس -لخَّص العلوي- في التعطيل الراهن، والذي كان من مظاهره إدارة البلد بالحد الأدنى من الوزراء، وإيكال مهام وزارة لوزير آخر حتى تدور العجلة، لكنها لم تَدُر على الوجه المرجو، فالتعطيل إذن "لا يأتي من السلطة التنفيذية الممثَّلة في الحكومة، ولا من البرلمان الذي أرسل دومًا إشارات إيجابية تجاه الرئيس الذي كلما حاولنا أن نفهم ماذا يريد لا نستطيع، والتي كان آخرها محاولة "الالتفاف" على تعديل القانون المنظِّم للمحكمة الدستورية، حيث كان ثمة تعطيلات في النص الأول منعت تصويتًا سلسًا من البرلمان على أعضاء المحكمة الدستورية الأربعة، ونحن نتابع الآن نقاشًا يدل على أن النص لن يمر ما يعني أن الأزمة ستتواصل.

دور العامل الإقليمي والدولي

من زاويته، رأى الحبيب بوعجيلة أن انتخابات 2011 و 2014 لم تستطع إرساء دعائم الاستقرار السياسي والانطلاق نحو حل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية فجاءت انتخابات 2019 والتي صوَّت فيها التونسيون بطريقة تشي بالرغبة في العودة إلى مطالب الثورة وقضاياها الأساسية. وقد أسفرت النتيجة عن مجيء رئيس من خارج السياق السياسي والحزبي القائم، كما أبرزت أحزابًا عُرفت بانحيازها عمومًا إلى الثورة، حتى حزب قلب تونس القادم من رَحِم النظام السابق فإن المصوِّتين له -يضيف بوعجيلة- انتخبوه بناء على خطاب يقوم على محاربة الفقر؛ أي إنه لم يعد "صوت الدولة القديمة"، فكان من المفروض أن ينطلق هذا المزاج الجديد نحو الإنجاز الاقتصادي والاجتماعي، لكن ذلك لم يحدث.

في هذا الإطار -يستطرد بوعجيلة- لا يمكن إغفال دور العامل الإقليمي في تعطيل مسار الانتقال الديمقراطي التونسي، ولاسيما مع بروز الشعبوية على المستوى العالمي، وعودة الخطابات المعادية للربيع العربي، ومع التدخلات السافرة لعدد من دول الإقليم لإرباك الوضع التونسي والتي وصل بها الحد إلى رفع شعارات تدعو إلى حل البرلمان والعودة إلى النظام الرئاسي القائم على حكم الفرد، وقد استحضر خطابها الاستقطابات الأيديولوجية، فاندلعت صراعات في قلب الأطراف السياسية المفروض أن تكون محمولة على الثورة.

فضلًا عن ذلك -يضيف بوعجيلة في قراءته لأسباب الأزمة السياسية- فإن الوضع الليبي انعكس على الحالة التونسية، ذلك لأنه كلما اتجه الأمر هناك نحو محاصرة ثورة السابع عشر من فبراير/شباط والانقلاب عليها تأثر الوضع التونسي سلبًا.

أضف إلى ذلك -يختم المتحدث- أن اللوبيات الاقتصادية التي تخشى الوضع الراهن تنتعش كلما تعطل مسار التحول السياسي في البلاد.

الحلول المقترحة

وعن الحلول المقترحة كما يتصورها المتحدثون في الندوة، أشار أحمد إدريس إلى أن الحل بيد الرئيس لأنه مسؤول عن المشكلة، وأن من المفترض عليه أن يسعى إلى تمرير قانون المحكمة الدستورية، وقال: لا أرى حلًّا في الأمد القريب، لأن الحل يمر عبر تعديل الدستور وهذا شبه مستحيل، كما أنه يحتاج إلى تعديل جملة من القوانين، وهذه تحتاج إلى توافقات سياسية غير موجودة الآن، فضلًا عن احتياجه إلى كثير من التنازلات ولا أرى أن الأطراف السياسية مستعدة لها الآن.

وقبل أن يختم إدريس تصوره للحل بهذه النبرة التشاؤمية، استدرك قائلًا: ربما إنْ تمكنت الأطراف الوسيطة مثل الاتحاد العام التونسي للشغل من التوصل إلى تقريب وجهات النظر بين الفاعلين في الأزمة، ربما تكون هذه هي الفرصة الأخيرة قبل الطوفان.

أما جوهر بن مبارك، فقد رأى أن المخرج "الوحيد" يمر عبر الحوار "إن نجح في الوصول إلى حل"، مضيفًا أن تونس بحاجة إلى "حكومة إنقاذ وطني بقيادة شخصية سياسية توافقية بين الرئيس والأغلبية البرلمانية"، تأتي بخريطة طريق تتعلق بالإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية المطلوبة.

كما أنها تحتاج إلى "هدنة" سياسية واقتصادية واجتماعية بين الفاعلين، يُبرَم في سياقها "ميثاق استقرار" ينعكس على المؤسسات السيادية للدولة فلا نعد نرى بعده من يطالب بعزل رئيس الجمهورية أو رئيس البرلمان أو رئيس الحكومة؛ هدنة تستمر ثلاث سنوات إلى أن تصل البلاد لعام 2024؛ موعد الانتخابات القادمة.. وبالتوازي مع ذلك -يختم بن مبارك- فقد تحتاج تونس حاليًّا إلى تغيير الحكومة الراهنة، "لكن على أساس من التوافق وليس المغالبة".

أما نور الدين العلوي فقد قدم تصوره عن الحل بتمثيل استعمل فيه نموذج لعبة كرة القدم، وقال: إننا نشاهد لعبة على الميدان أشبه بلعبة كرة القدم وقد أمسك أحد اللاعبين الكرة بيديه ورفض استئناف اللعب إلا أن يكون مرمى الخصم بلا حارس ليسجل فيه العدد الذي يريد من الأهداف، والمخرَج هو أن يعيد هذا اللاعب الكرة إلى الملعب، وأن يستمر اللعب طبقًا لشروط اللعب مع شيء من الروح الرياضية (الوطنية)، فالبلد لم يعد يحتمل هذه الأزمة، فتونس -يختم العلوي- باقية في مكانها والشعب باق أما السياسيون فذاهبون، وإنْ أراد اللاعبون مواصلة اللعب فعليهم ذلك لكن بروح رياضية دون "تكسير وجه البلد".

أخيرًا، رأى بوعجيلة أن المخرج من أزمة الحكم التي تعيشها البلاد راهنًا يكمن فيما أسماه "تونس البراغماتية"، إذ يرى أن تونس النخبة والشعب يتميزون بـ"الروح البراغماتية" التي لا تريد أن تدفع دائمًا ضريبة موجعة، والتي بواسطتها يستطيع التوانسة أن يوازنوا تمامًا بين "الغُنم والغُرم". ثم يستطرد قائلًا: لو أردنا أن نصف أنفسنا وصفًا سلبيًّا عوض البراغماتية قلنا: إنَّ "توازن الضَّعف" لا يستطيع أن يمكِّن أحدًا من كسر الانتقال الديمقراطي، ودائمًا ما يدفع التونسيين إلى أن يجلسوا إلى الطاولة، ولسوف نسير في طريق فيه كثير من المطبات والضباب لكن في النهاية نستطيع دائمًا في تونس أن نجترح الحل، ونصل إلى مخرجات تسمح لتونس بأن تشق طريقها وتبتعد عن حافة الهاوية، وأن نتملك الشجاعة اللازمة لإنجاز آخر خطوات الانتقال الديمقراطي، وترسخ هذا النهج الذي شعر بقيمته التونسيون.