رغم انتصار أذربيجان على أرمينا في الحرب التي اندلعت بينهما مؤخرًا على إقليم ناجورنو كاراباخ، ورغم دخول روسيا على الخط كضامن لأمن واستقرار تلك المنطقة، فإنَّ عوامل الاستقرار في جنوب القوقاز لا تزال غير متوفرة بالقدر المُطَمْئِن، وإنَّ احتمالات تجدد الصراع بأشكاله المختلفة لا تزال قائمة، خاصة بعد الفراغ الذي خلَّفته الولايات المتحدة بانسحابها الاستراتيجي من تلك المنطقة لتعطي الأولوية لمجابهة الصين، الأمر الذي يتطلَّب مزيدًا من التعاون بين القوى الفاعلة، ولا سيما روسيا وإيران وتركيا، حتى لا تتحول المصالح المتضاربة بينها إلى بواعث جديدة للقلاقل والصدامات التي لن يقتصر تأثيرها على القوقاز فحسب بل ستمتد إلى الشرق الأوسط أيضا.
هذا ما خلصت إليه ندوة بحثية نظَّمها عن بُعد مركز الجزيرة للدراسات، بالتعاون مع مركز جيوكيس (GEOCASE)، المختص بالدراسات القوقازية، ومقرُّه جورجيا، بعنوان "القوى الإقليمية وسياساتها في جنوب القوقاز"، أمس، الأربعاء، 28 يوليو/تموز 2021، واستضاف فيها: فيكتور كبياني، رئيس مركز جيوكيس (GEOCASE) في جورجيا، وإميل أفدلاني، مدير دراسات الشرق الأوسط في نفس المركز، والحواس تقية، الباحث بمركز الجزيرة للدراسات، وواثق السعدون، الباحث في مركز دراسات الشرق الأوسط (أورسام) بأنقرة، وأدارها مصطفى عاشور، المذيع بقناة الجزيرة مباشر.
تاريخ من التعاون والصراع
استعرض المتحدثون في بداية الندوة تاريخ العلاقات بين منطقتي القوقاز والشرق الأوسط، وأشاروا إلى أنها علاقات قديمة تعود إلى القرن الأول الهجري حينما وصلت طلائع جيوش المسلمين إلى تلك المنطقة وتحوَّل العديد من ساكنيها إلى الإسلام، ثم استمرت العلاقات على المستويات كافة؛ السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والتجارية، غير أنها كانت عُرضة، كأي علاقات بين الدول، لفترات من الشد والجذب، ومن التعاون والصراع.. وكانت منطقة القوقاز خلال القرون الأخيرة ميدانًا للتنافس والصراع بين الإمبراطوريات الروسية والعثمانية والفارسية، ثم كانت خلال حقبة الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي والشرقي ميدانًا أيضا للصراع.. فالتاريخ السياسي عمومًا لتلك المنطقة –يخلص المتحدثون- هو تاريخ من عدم الاستقرار.
الواقع الجيوسياسي بعد حرب ناجورنو كاراباخ
انتقلت الندوة من استعراض تاريخ العلاقات بين القوى الدولية والإقليمية الفاعلة والمؤثرة على منطقة القوقاز إلى الحديث عن الواقع الجيوسياسي راهنًا وقراءة موازين القوة بعد الحرب التي شهدها إقليم ناجورنو كاراباخ وخرجت منها أذربيجان منتصرة، وخلت النقاش إلى جملة من الرؤى والتصورات، أبرزها، وجود توازن بين أرمينيا وأذربيجان لكنه "توازن هش"، رغم جهود ضابطي الإيقاع الروسي والتركي. وأرجع المتحدثون ذلك إلى أن الاتفاق الموقع بين أرمينيا وأذربيجان عُرضة الاختلاف التفسير والتأويل، ما يجعله بحاجة دائمًا إلى تدخلات الدول الراعية للمحافظة عليه إطارًا ومرجعًا للعلاقات.
وعن مكاسب بعض القوى الإقليمية من حرب ناجورنو كاراباخ خلصت الندوة إلى أن تركيا –على سبيل المثال- حققت مكسبًا جيوسياسيًّا كبيرًا من تلك الحرب، يتمثل في تواجدها العسكري في أذربيجان، وهو مكسب لم يتحقق بهذا القدر من قرابة المئة عام، كما أن نفوذها السياسي عمومًا صار أقوى من ذي قبل خاصة بعد أن أصبحت لها حدود متصلة مع أذربيجان التي يمكن القول إنَّ العلاقة بينهما وصلت لدرجة "التحالف الاستراتيجي"، وهي مسألة مهمة لأي تطورات مستقبلية.
والحال نفسه بالنسبة إلى روسيا، إذ أصبح لها تواجد عسكري هناك حتى ولو كان محدودًا، إذ تعتبر موسكو القوقاز ركنًا مهمًا في سياستها الخارجية، باعتباره مجالًا حيويًّا لها لا يمكنها التفريط فيه، رغم ما يمثله أحيانًا من تحدٍ بسبب كثرة الصراعات الإثنية والدولية والإقليمية هناك.
أما إيران، فقد أشار المتحدثون، أن موقفها من حرب ناجورنو كاراباخ لم يكن واضحًا أو حازمًا، فلم تقف إلى جانب أرمينيا كما كان يحدث في الماضي، وبعد الحرب غيَّرت سياستها إزاء أذربيجان وباتت أقرب ميلًا إليها. وخلص النقاش في هذه المسألة إلى أن التغير الذي طرأ على الموقف الإيراني ربما يكون مرجعه رغبة طهران في تمتين علاقاتها بموسكو لأن الأخيرة هي القادرة على ضبط النفوذ التركي في القوقاز ومن ثمَّ تتحصل (إيران) على "توازن النفوذ" بينها وبين تركيا في تلك المنطقة.
وبالنسبة لتداعيات حرب ناجورنو كاراباخ والمستجدات الجيوسياسية التي أفرزتها هذه الحرب من المنظور الخليجي، فقد خلصت الندوة إلى أن دول الخليج باتت تنظر إلى جورجيا باعتبارها فرصة استثمارية نظرًا لبيئة الاستثمار الجيدة هناك وما تتيحه من عوامل جذب لرؤوس الأموال، خاصة وأنه سيكون لها دور مهم على طريق الحرير الصيني والعلاقة التجارية بين الشرق والغرب.
مستقبل مفتوح على احتمالات الحرب والسلام
واختتمت الندوة نقاشاتها بالإشارة إلى أن القوقاز ستبقى منطقة غير مستقرة نسبيًّا رغم ترتيبات إحلال الأمن التي ترعاها روسيا وتركيا، وأوعزت السبب إلى وقوع أرمينيا وأذربيجان وجورجيا (القوقاز الجنوبي) في دائرة الصراع الإقليمي والدولي الآخذ بالتصاعد، خاصة فيما يتعلق بالسياسات الروسية والأميركية. وأشارت الندوة أنه في حال تصاعد العداء الروسي-الأميركي ووقع أي نوع من الصدام فإن الساحة القوقازية مرشحة لأن تكون ميدانًا للثأر وتصفية الحسابات. وكذلك الحال بالنسبة للخلافات والصراعات المستقبلية بين تركيا وإيران وإسرائيل. فبواعث الاضطراب موجودة –كما تخلص الندوة- ما يرشِّحُها لمزيد من التوتر إلَّا إذا استطاعت دول الشرق الأوسط والقوقاز وروسيا التعاون فيما بينها، وانتهاج هذا التعاون طريقًا بديلًا للتنافس والصراع.
ولمزيد التفاصيل بشأن هذه الندوة يمكن مشاهدتها عبر الرابط التالي: (اضغط هنا)