إعادة هندسة دستور 2014: هل يمكن أن تكون مخرجًا لأزمة الحكم في تونس؟

المتحدثون من اليمين: عبد الرزاق المختار، أحمد إدريس، عصام عبد الشافي، وعبر الهاتف رابح الخرايفي، وقد أدارت الندوة وعد زكريا، المذيعة بالجزيرة مباشر.

نظَّم مركز الجزيرة للدراسات وقناة الجزيرة مباشر ندوة بحثية عن بُعد يوم الثلاثاء، 10 أغسطس/آب 2021، لمناقشة الظروف والأوضاع التي تعيشها تونس بعد اتخاذ رئيس البلاد قرارات يوم 25 يوليو/تموز الفائت تقضي بتجميد عمل البرلمان ورفع الحصانة البرلمانية عن نوابه وحل الحكومة وإعلان حالة الطوارئ وتولي مهام النائب العام، وما رافق ذلك من انقسام داخلي بين مؤيد ومعارض ومواقف إقليمية ودولية أيدت وعارضت وأخرى تنتظر ما ستؤول إليه الأوضاع.

وقد استضافت الندوة ثلاثة باحثين تونسيين مختصين في السياسة والقانون، هم: رابح الخرايفي، وعبد الرزاق المختار، وأحمد إدريس، وباحثًا مصريًّا مختصًّا أيضًا في السياسة هو عصام عبد الشافي، وأدارت الندوة المذيعة بقناة الجزيرة مباشر، وعد زكريا.   

وناقش المتحدثون ثلاثة محاور أساسية، الأول: عن الأسباب الداخلية التي أوصلت البلاد إلى هذا الوضع المتأزم، والثاني: عن دور العامليْن، الإقليمي والدولي، فيما حدث وما سيحدث، والثالث: عن آفاق الحل وطبيعته. وقد اختلفت زوايا النظر لما حدث بين متحدث وآخر كما اختلفت التوقعات التي يمكن أن تذهب إليها تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس على النحو التالي:

تعديلات دستورية منتظرة

يرى الباحث في القانون الدستوري والنيابي، رابح الخرايفي، أن الرئيس التونسي، قيس سعيِّد، يتَّبع في سياسته العامة وإدارته شؤون البلاد أسلوب المفاجأة والغموض وبالتالي لا يستطيع المراقب توقع ما سيحدث غدًا، وقال: إن الذي نعلمه فقط أننا نعيش في إطارين استثنائيين؛ الأول وفق الفصل 80 من الدستور، والثاني وفق إجراءات الطوارئ التي أعلنها الرئيس يوم 25 يوليو/تموز الفائت، وهما أمران استثنائيان يخالفان السير العادي لمؤسسات الدولة، وإنَّ هذا الغموض وتلك المفاجآت يتنافيان مع مطالبات قسم من التونسيين بضرورة وجود خارطة طريق تحدد وتوضح خطوات السير في الحاضر والمستقبل. ويؤيد الخرايفي تلك القرارات التي أقدم عليها الرئيس باعتبارها في رأيه ضرورة بعد أن وصلت الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية وقدرة الحكومة على تلبية الاحتياجات الضرورية للمجتمع إلى درجة لم يكن مجديًا التعامل معها بغير تلك الطريقة التي انتهجها الرئيس.

وبشأن المخاوف المثارة على الديمقراطية التونسية من جرَّاء تلك القرارات يعتقد الخرايفي أنها مبالغ فيها وأن التجربة الديمقراطية التونسية بخير ولن تضار مستقبلًا.

كما يرى الخرايفي أن الحديث عن دور إقليمي أو دولي دفع الرئيس قيس سعيِّد لاتخاذ تلك القرارات هو حديث أيضًا غير دقيق، بدليل -وفق ما قال- أن الدول الإقليمية والدولية فوجئت بما حدث وتراوحت مواقفها بين مؤيد ومعارض وواقف على الحياد.

وعن الجذور العميقة للأزمة الحالية، يعتقد الخرايفي أنها تعود إلى طبيعة النظام السياسي الذي تأسس في تونس بعد الثورة والذي يوزِّع السلط التنفيذية بطريقة غير حكيمة بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، وأن المرحلة القادمة -بحسب تقديره- سوف تشهد إقدام رئيس الجمهورية على إدخال تعديلات على دستور 2014 خاصة في باب السلطة التنفيذية بحيث تكون اختصاصات وصلاحيات رئيس الحكومة بيد الرئيس، مع توافر مزيد ضمانات ومزيد صلاحيات للبرلمان حتى لا يتحول الرئيس إلى ديكتاتور، وقال الخرايفي: إن هذه هي الجرعة الثانية التي ألمح إليها الرئيس في اليوم الوطني للتلقيح ضد وباء كورونا يوم 8 أغسطس/آب الجاري.

الحل "الاستراتيجي" المنشود

هذه كانت رؤية رابح الخرايفي لأسباب الأزمة ومسارها، أما عبد الرزاق المختار، أستاذ القانون الدستوري بالجامعة التونسية فله قراءة تتفق مع القراءة السابقة في جزء منها وتختلف في أجزاء أخرى. فهو يتفق على أن الأوضاع السياسية والاجتماعية في تونس وصلت قبل قرارات الرئيس قيس سعيِّد إلى حالة مزرية، غير أنه يرى أن الرئيس "استثمر" تلك الحالة واتخذ القرارات سابقة الذكر والتي جعلت البلاد تعيش مناخ أزمة عميقة تتمثل تجلياتها في العطالة الكلية أو الجزئية لمؤسسات الدولة، وقد بات الجميع في حالة من محدودية الفعل والتأثير، بما فيهم الاتحاد العام التونسي للشغل، انتظارًا للفاعل الوحيد في المشهد وهو رئيس الجمهورية. بل إنَّ ثمة غيابًا نسبيًّا -يضيف المختار- للجدل العام بشأن الحالة الاستثنائية التي تعيشها البلاد مما يجعلها لا تحظى بأولوية مجتمعية في الوقت الراهن. 

كما اتفق عبد الرزاق المختار أيضًا في توصيف الشق الدستوري المتعلق بالأزمة الحالية مع ما قاله الخرايفي قائلًا: إنَّ تونس مضت في طريق أخذت فيه بخلطة جمعت فيها بين النظامين، البرلماني والرئاسي، مع توزيع غير متكافئ للسلطات والصلاحيات نصَّ عليها الدستور انطلاقًا من شرعيات لم تكن متماثلة؛ فالرئيس منتخب انتخابًا عامًّا ومباشرًا بينما أعضاء البرلمان منتخبون انتخابًا نسبيًّا، مما خلق صراعًا حول الشرعيات. ويوضح المختار وجهة نظره بقوله: إنه قد قام التصور الدستوري على فكرة تعاون السلط مع بعض تعاونًا غير مشروط، وهو ما لم يكن موجودًا لاعتبارات هيكلية وسياسية؛ الأمر الذي جعل النظام السياسي مولِّدًا للأزمات.

والعنصر الثاني الذي تسبب في الأزمة العميقة التي تعيشها تونس حاليًّا، وفق قراءة عبد الرزاق المختار، هي ما أطلق عليه "السبب البنيوي"، ويقصد به الحالة الحزبية والثقافة السياسية السائدة في البلاد، فالحالة الحزبية في رأيه لا تزال هشة وغير مكتملة الأركان، وإن الموجود منها في تونس ليست أحزابًا بالمعنى الغربي للأحزاب بقدر ما هي "ظاهرة حزبية" محكومة في تصرفاتها الراهنة بالعقلية التي كانت عليها قبل الثورة؛ عقلية رد الفعل على الاستبداد، ورد الفعل على تحديات الانتقال الديمقراطي.. "إن الأحزاب التونسية خلال السنوات العشرة الماضية لم تكن متشبعة بالقيم البرلمانية وهو ما جعلها في حالة عجز حيال الحكم".

أما السبب الذي وصفه بـ"السياقي" فمتعلق في رأيه بالانتقال الديمقراطي، وهنا يقول المختار: نحن نتحدث عن تونس وكأنها ديمقراطية مستقرة والحال أنها ديمقراطية ناشئة، وإنَّ الانتقال الديمقراطي أمواجه متلاطمة ومتعارضة وهو ما يولِّد في العادة حالة من السيولة المؤسساتية على مستوى الأحزاب الشائخة وعلى مستوى الدولة المرتخية، وهذا كله كان من الأسباب التي غذَّت موضوعيًّا أزمة الحكم التي كان لها -كما ذكرتُ- أبعادها الدستورية والبنيوية.

ولا يرى عبد الرزاق المختار، أستاذ القانون الدستوري، في المحكمة الدستورية التي لم تر النور بعد مخرجًا نهائيًّا لأزمة النظام السياسي التونسي، فإن موضوع المحكمة الدستورية في تقديره إنما هو إجراء "تكتيكي" وليس حلًّا "استراتيجيًّا"، والحل الاستراتيجي الذي يتصوره هو في "إعادة هندسة دستور 2014 والبقاء داخله".  

الشرعية الشعبية مقابل الشرعية الدستورية

لم يبتعد كثيرًا أحمد إدريس، المدير التنفيذي لمركز الدراسات المتوسطية والدولية عمَّا قاله المختار في مداخلته السابقة، غير أنه لم يكن متفائلًا فيما يتعلق بإمكانية حل الأزمة التونسية في القريب، وفي هذا السياق يقول: نحن الآن في وضعية مؤلمة ونفق مظلم ولا نرى النور قريبًا، لأن ما دخلنا فيه يوم 25 يوليو/تموز أدخلنا في وضعية مجهولة لا نعلم مآلها بعد. ويضيف: يأمل البعض في العودة إلى الشرعية الدستورية والسياسية سريعًا، لكن ما نعيشه اليوم من ضبابية يجعلنا نقول: إنَّ من الصعوبة أن يكون هذا الأمل قريبًا.

وعن توصيفه للوضع التونسي الراهن على وجه التحديد، أوضح أحمد إدريس أن العقد الاجتماعي الذي تم التوافق حوله في دستور 2014 قد انفصم، وأن المجتمع وصل بانقسامه إلى حافة الحرب الأهلية، وأوضح أن التشنج الذي كان موجودًا في الشارع يوم 25 يوليو/تموز قد يعمِّق الأزمة ولا يجعل لها أفقًا، وأن هذه الحالة عمومًا تحول دون تقارب أطراف الأزمة من أجل وضع تصور للحل أو إطار لعقد اجتماعي جديد.

وبشأن تصوره للعقد الجديد إن تم، قال إدريس إنه سيكون انفراديًّا وأحاديًّا، وسوف تُغلَّبُ فيه الفكرة الأحادية التي يدافع عنها رئيس الجمهورية، والتي عبَّر عنها في حديثه الهاتفي مع الرئيس الفرنسي مؤخرًا حينما حدَّثه عن "الشرعية الشعبية مقارنة بالشرعية الدستورية". وهذا يدل، من وجهة نظره، على أن هنالك استعدادًا للتخلي بشكل نهائي عن دستور 2014 والخوض في تجربة دستورية جديدة، أو سياسية جديدة لا تكون بالضرورة دستورية وإنما عن طريق مساهمة جزء من الشعب أو الشارع في صياغتها.. وكل هذا "يجعل النفق الحالي طويلًا جدًّا ومظلمًا، ويجعل الأمل في العودة إلى الحالة العادية بعيدًا جدًّا"، خاصة أن جزءًا من الرأي العام يدفع رئيس الجمهورية لاتخاذ قرارات صارمة كوضع بعض الأشخاص تحت الإقامة الجبرية، ومحاسبة من يعتبرونهم فاسدين أو مفسدين سياسيين، وربما الإقدام على حل بعض الأحزاب والجمعيات.. وإن الفكرة تختمر الآن في رأس رئيس الجمهورية -يقول إدريس- ولا نعلم ما سيفاجئنا به، لقد قال أثناء زيارته لأحد مراكز التلقيح خلال اليوم الوطني للتلقيح صراحة: إن هنالك جرعة ثانية (يقصد من الإجراءات الاستثنائية) ما يعني أنه يهدد بجرعة ثانية ضد "كل الأدران العالقة في الحياة السياسية في تونس"، معنى ذلك -والكلام لإدريس- أنه مُقدِم على إجراءات أخرى سوف تقلب الحياة السياسية التونسية رأسًا على عقب، وهذا لن يخرجنا من عنق الزجاجة.

وأكد إدريس على أن من يدفعون رئيس الجمهورية لاتخاذ قرارات صعبة يرون في ذلك فرصة أمامهم للتخلص من بعض المنافسين السياسيين لهم ولكن لا يعلمون كذلك أنهم يدفعون برئاسة الجمهورية إلى خوض تجربة قد تكون قريبة جدًّا من الديكتاتورية رغم تصريحه في مناسبات عديدة بأنه لا مجال للعودة إلى الديكتاتورية لكنه قد يجد نفسه مدفوعًا إلى اتخاذ قرارات تعتبر من الإجراءات التعسفية.

وعن رؤيته لدور المجتمع المدني من غير الأحزاب في حلحلة الأزمة التونسية الراهنة، لا يعتقد إدريس أنه سينجح في ذلك هذه المرة كما نجح عام 2013، وفي هذا الصدد يقول: سوف يكون من الصعب أن تلعب منظمات المجتمع المدني، والفاعلون من غير الأحزاب السياسية، أي دور في حلحلة الأزمة، لأن الأحزاب هي منظمات تمثيلية وسيطة بين المجتمع والسلطة، وأنَّ الطرف القوي اليوم الماسك بالأمر والنهي وهو رئيس الجمهورية لا يؤمن بهذا الدور الوسيط للمنظمات الموجودة في المجتمع، وبالتالي فإن عدم الإيمان هذا يخلق جزءًا من الأزمة، لأنه لا يمكن حلحلة الأزمة إلا إذا قبلنا بالوساطات وهو ما نراه اليوم صعبًا جدًّا رغم ما رأيناه في اليوم الثاني للقرارات الاستثنائية من اجتماع الرئيس بممثلين عن المجتمع المدني، لكن هذا اللقاء -يضيف إدريس- كان بغرض طمأنتهم على الوضع وليس بغرض حلحلة الأزمة، وإنَّ الرئيس لم يطلب من هذه المنظمات القيام بأي دور، ورأينا بعدها أن أهم هذه المنظمات -وهو الاتحاد العام التونسي للشغل- عمل على وضع خارطة، وعرض على رئيس الجمهورية أن يكون هناك نوع من التعاون للخروج من الأزمة لكن الرئيس أطال الوقت ولم يأخذ بمقترحه وبالتالي أسهم في تعميق الأزمة. وعليه، فلا نرى اليوم أن الاتحاد يقوم بنفس التجربة التي حدثت في عام 2013، وإنما بات ينتظر قرارات الرئيس. إنَّ ما نعيشه اليوم هو أن الرئيس قد لا يلجأ إلى هذه المنظمات لأنه سار في موقفه وقراراته وسوف يعمل على تنفيذها والمضي فيها إلى أبعد الأشواط، وربما تكون القطيعة هذه المرة بين السلطة والمنظمات الوسيطة المتمثلة في منظمات المجتمع المدني.

وقال إدريس في مداخلته: ربما إذا كان لا يزال ثمة دور للمجتمع المدني فإنه يتمثل في ضغطه على رئيس الجمهورية حتى لا نخرج من إطار الشرعية الدستورية، ولا نخرج من دائرة دولة القانون في مواجهة الأزمة، وأشار إلى أن الرئيس ربما يكون قد حقق الآن انتصارات سريعة على خصومه كما هي الحال في مشهد اليوم الوطني للتلقيح، لكن -والكلام لإدريس- كيف سيكون التصرف حينما تأتي أيام أخرى يكون الرئيس مطالبًا فيها باتخاذ قرارات يحتاج فيها إلى دعم لكي يطبقها في الشارع؟ إنه في هذه الحالة سيحتاج إلى دعم منظمات المجتمع المدني التي لا يوليها الآن اعتبارًا.

وعمَّا إن كان أفق للحوار والتوافق السياسي في تونس يُخرج البلاد من أزمتها الراهنة، قال إدريس: إنَّ الحوار هذه المرة قد لا يكون مخرجًا، لأن طريقة رئيس الدولة في التعامل مع الأحزاب والمجتمع المدنية "طريقة أحادية"، كأنه لا يستمع إلى آراء الآخرين، ولا يذهب إلَّا إلى النهج الذي يحدده لنفسه، وقد ظل لمدة طويلة بنفس الفردية ونفس الخطاب ونفس المفردات وكأنه يُهيِّئ لشيء ما وأن قراراته تسير في هذا الاتجاه.

وأوضح إدريس بعدًا آخر يعزز به رأيه فيما يتعلق باستبعاد الحوار كأداة مجدية لحلحلة الأزمة التونسية الراهنة؛ إذ قال: إنَّ الحوار قد لا يكون مجديًا مع الأحزاب الحالية لأن النظام السياسي الذي قد يرغب فيه رئيس الجمهورية قد لا يكون هو ذاته الذي ترغب فيه تلك الأحزاب، فمثلًا الحديث عن "الديمقراطية القاعدية كبديل للديمقراطية التمثيلية" هو حديث مرفوض من كل الأحزاب والفاعلين السياسيين ما عدا رئيس الدولة، فالأمر عنده إذًا ليس فقط تغييرًا في النظام السياسي من نظام برلماني إلى رئاسي وإنما "تغيير في المنظومة الديمقراطية بأكملها لتنطلق من الأسفل مضيًّا إلى الأعلى"، وهذه الفكرة ليست واضحة في فكر من يتعاونون مع رئيس الدولة كما أنها ليست واضحة في ذهن معارضيه، خاصة وأن الرئيس لم يعبِّر عنها بشكل منهجي ولم يقدِّم خريطة طريق لتحقيقها ولا تصورًا نظريًّا في كيفية تحقيق ذلك، وبالتالي -يختم إدريس- هي مجرد استنتاجات من قبل محلِّلين؛ الأمر الذي يجعل المناخ الحالي مناخًا "غير توافقي" على الأقل، لاسيما أن هذا التوافق قد أصبح مرفوضًا في ذهن الكثيرين.. "ولا أدري في نهاية المطاف ما هو البديل إذا لم نذهب إلى التوافق".

تبديد الأوهام

وهكذا دارت نقاشات الندوة بين الباحثين التونسيين الثلاث؛ فمنهم من هو مطمئن على المسار الديمقراطي ويهوِّن من الإجراءات التي اتخذها الرئيس، ومن هو متشائم ويرى صعوبة بالغة في الخروج مما وصفه بالنفق المظلم، ومنهم من يرى الأمور بين هذا وذاك.. أما الباحث المصري، عصام عبد الشافي، مدير المعهد المصري للدراسات ومقرُّه تركيا، فإنه يرى أن ما يحدث في تونس هو أمر مخطَّط من قبل الدول الإقليمية والدولية الراغبة في إفشال ثورات الربيع العربي والتي قادت الثورة المضادة في مصر وليبيا وسوريا واليمن والسودان بأدوات مختلفة لكن لتحقيق ذات الهدف وهو وقف مسار التحول الديمقراطي وإبقاء هذه المنطقة عبر الاستبداد في حالة من التبعية.

وعدَّد عبد الشافي أوجه التشابه بين ما يحدث في تونس وما حدث في مصر وتبرير البعض إجراءات الرئيس التونسي بأنها رغبة مجتمعية، وقال في هذا الصدد: إنَّ شبكات التواصل الاجتماعي ليست معيارًا لقياس شعبية قرارات رئيس الجمهورية، لأنه يمكن التحكم بها، بل في كثير من الأحيان يتم توجيهها من قبل جهات بعينها، وإنَّ عدم وجود فعاليات شعبية رافضة لقرارات الرئيس التونسي ليست دليلًا على الرضا عن تلك القرارات.. فهذا معيار غير دقيق، لأنها (الفعاليات الشعبية غير الموجودة حاليًّا) قد تكون تعبيرًا عن حالة من الغضب المكتوم، كما أن ثمة حالة من "الزهد الشعبي" في العملية السياسية بأكملها، وبالتالي هي حالة من الغضب العام تعبِّر عن نفسها بعدم الرغبة في المشاركة بأية فعاليات، لأنه في النهاية -والكلام لعبد الشافي- أصبحت الشعوب العربية على قناعة بأنها لا أهمية ولا دور لها في إحداث التغيير، وقد وصلت إلى هذه القناعة بسبب آلات القمع التي مورست ضدها.

وعلَّق عصام عبد الشافي على ما وصفه أحمد إدريس في مداخلته السابقة حينما قال: إن فكرة المزيد من الإجراءات الاستثنائية "في طور التخمر" بعقل الرئيس، قائلًا: إنَّ الأمر واضح ومحدد وإن الإجراءات واضحة ومحددة.. قد تكون لتونس خصوصيتها السياسية كما للسودان والمملكة المغربية ومصر لكن، ومع مراعاة هذه الخصوصيات، فإنَّ هناك "مطبخًا واحدًا يدير عملية الثورة المضادة في العالم العربي"؛ هذا المطبخ يتفق على الإجراءات والسياسات ويترك تنفيذها للوقت المناسب في كل بلد من بلدان الربيع العربي، سواء كانت هذه الإجراءات انقلابات عسكرية كما حدث في الحالة المصرية والسودانية، أو انقلابات سياسية تحت المسمى الدستوري كما حدث في الحالة التونسية. وبالتالي -والكلام لا يزال لعبد الشافي- فنحن لدينا منذ 2011 ما يسمى بحلف الثورة المضادة، وإنَّ أطرافه واضحة معروفة، وإن بعض الممارسات التي شهدتها تونس، على سبيل المثال، حينما هوجمت مقرات حركة النهضة وقع ما يشبهها تمامًا بمهاجمة مقرات جماعة الإخوان المسلمين في مصر عام 2013.

وبشأن المستهدف تحديدًا من محاولات تعطيل المسار الديمقراطي وما إن كانت هي جماعات الإسلام السياسي كما يعتقد البعض، قال عبد الشافي: إنَّ المستهدف الحقيقي ليس حركات الإسلام السياسي لكن، وفي كل الانقلابات العسكرية والسياسية، هو التجربة الديمقراطية في العالم العربي.. فالفزَّاعة التي تُستخدم هي الحركات الإسلامية، لكن الحلف المضاد للثورة يعنيه في المقام الأول والأخير ألَّا تكون هناك بأية حالة من الحالات إرادة سياسية للشعوب العربية، أو سعي لها من أجل الحرية والديمقراطية، وإن هذا الحلف يقوم بدعم النظم التسلطية لتحقيق أهدافه.

واتفق عصام عبد الشافي مع ما قاله أحمد إدريس بشأن تحقيق الرئيس انتصارات سريعة وأنه لن يستمر في تحقيقها مستقبلًا حينما يصطدم بالواقع، وفي هذا الصدد، قال: إن التجربة المصرية تثبت ذلك بالفعل؛ فقد راهن النظام المصري على بعض المشروعات، كالعاصمة الإدارية الجديدة وإنشاء الكباري والجسور، لكن هناك قضايا ومشكلات حقيقية لم يستطع التعامل معها وتسببت في زيادة معدلات الفقر وتردي الخدمات وارتفاع الدَّيْن العام.

وعن دور وتأثير العامل الخارجي في الحالة التونسية الراهنة، قال عبد الشافي: إن العامل الإقليمي والدولي هو الأكثر تأثيرًا في كل التحولات التي شهدتها الدول العربية، والمقصود به هنا -يوضح عبد الشافي- هو بعض الأطراف الدولية التي تحرك أطرافًا إقليمية للعبث بالمسار الديمقراطي والتحول السياسي في هذه الدول.. وهنا اختلف مع قراءة رابح الخرايفي حينما تحدث عن أن المساعدات الدولية فيما يتعلق بلقاحات كورونا دليل على أن هناك دعمًا لهذا المسار، وأن المواقف الدولية قد تغيرت وأصبحت أكثر حيادية.. وقال عبد الشافي: إن المواقف الدولية لم تتغير؛ فقد كانت ابتداء داعمةً لما اتُّخذ من قرارات استثنائية ليس يوم 25 يوليو/تموز فحسب بل وقبل ذلك حينما زار قيس سعيِّد القاهرة في شهر مايو/أيار الماضي، وكذلك حينما زار فرنسا، واتضحت أكثر بزيارة وزير الخارجية الإماراتي لتونس خلال الأيام الماضية. 

واختتم عصام عبد الشافي مداخلته بالحديث عمَّا أسماه الحاجة إلى "تبديد الأوهام وتجنُّب خلط المفاهيم"، وعدَّد جملةً منها قائلًا: من ذلك أنه لا خوف على الديمقراطية في تونس. والحقيقة أن ثمة خوفًا حقيقيًّا على الديمقراطية التونسية، لأن هناك انقلابًا متكامل الأركان بوابته الرئيسية هي الانقلاب على الدستور والمؤسسات القائمة وترسيخ الاستبداد بيد رئيس الجمهورية الذي أصبح يتحكم في كل مفردات العملية السياسية منذ 25 يوليو/تموز الماضي.

الوهم الثاني الذي يجب تبديده -وفق عبد الشافي- هو الحديث عمَّا يسمى بالجمهورية الثالثة، فالحديث عن الجمهوريات ليس بهذه السهولة، وليس بمرور أيام وأسابيع أو سنوات، فالجمهوريات تحتاج إلى فلسفة نظام، وإلى بنية تشريعية لهذا النظام، وتحتاج أيضًا إلى وضوح رؤية في توجهات النظام ومؤسساته، فضلًا عن ضرورة وجود أجيال جديدة تؤمن بالديمقراطية الحقيقية التي ترسَّخت.

الوهم الثالث الذي يرى عبد الشافي ضرورةً لتبديده يتمثل في السؤال التالي: هل النظام الرئاسي أفضل أم النظام البرلماني؟ ويقول في هذا الصدد: من وجهة نظري ليست المشكلة في أن يكون هذا أو ذاك أو خليطًا من هذا وذاك؛ فلدينا نماذج من نظم سياسية مختلفة الأشكال ومع ذلك تعاني من إشكاليات، وإنَّ النقطة الجوهرية هنا هي في طبيعة العلاقة بين السلطات والضوابط التي تضمن وتضبط وترسِّخ الفصل بين هذه السلطات وعدم هيمنة أية سلطة على الأخرى أو على مسارات هذه العملية السياسية بأكملها.

واختتم عصام عبد الشافي مداخلته ومن ثم اختتمت الندوة أعمالها بقوله: أقول للتونسيين، بمنتهى الأمانة: لستم في حاجة إلى انتظار ثماني سنوات لتصلوا إلى ما وصلت إليه مصر من أجل تقييم المسار الحالي؛ فلديكم شواهد مباشرة حولكم، والمؤشرات تدفع للقول: إنَّ هناك تشابهًا، إن لم يكن توافقًا، بين ما آلت إليه الأوضاع في مصر مع ما ستؤول إليه الأوضاع في السودان وما ستؤول إليه الأوضاع في تونس خلال فترة زمنية قليلة.