نظَّم مركز الجزيرة للدراسات بالتعاون مع قناة الجزيرة مباشر مؤتمرًا بحثيًّا عن بُعد بعنوان "إفريقيا: تحديات مزمنة ومخاطر متزايدة"، يومي الأحد والاثنين، 16و17 يوليو/تموز 2023، بمشاركة نخبة من الباحثين والخبراء المتخصصين في الشؤون الإفريقية.
ناقش المؤتمر الذي أداره سالم المحروقي، المذيع بقناة الجزيرة مباشر، عبر 6 جلسات، التحديات الراهنة والمستقبلية للقارة الإفريقية؛ وسلَّط الضوء على ظاهرة الهجرة السرية من القارة إلى دول أوروبا والمخاطر الناجمة عن ذلك، واستعرض تداعيات تغيُّر المناخ على الأمن الغذائي لدول القارة، كما بحث سياسات القوى الكبرى تجاه القارة، وبالأخص فرنسا والصين وروسيا، والصراع الناشب بين تلك القوى لتكريس الحضور والتأثير، وأثر ذلك على استقلالية دول القارة وحسن استثمار مواردها.
وأفرد المتحدثون في المؤتمر مساحة من نقاشاتهم للبحث في طبيعة النزاعات الداخلية والبينية الدائرة في العديد من دول القارة الإفريقية، ونقَّبوا عن خلفياتها وتعمقوا في فهم أسبابها وحللوا أسباب تعثُّر التوصل إلى حلول لها.
وتطرق الباحثون والخبراء كذلك إلى الانقلابات العسكرية التي ازدادت وتيرتها في السنوات الأخيرة بالقارة، وتداعيات هذه الانقلابات على أمن واستقرار تلك الدول.
واختتم المؤتمر جلساته بالحديث عن مستقبل القارة الإفريقية في ظل المتغيرات الجارية على الخريطة التقليدية لموازين القوى العالمية، ولاسيما بعد حالة الاستقطاب التي شهدها العالم منذ اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا قبل نحو عام ونيِّف.
الأهمية وسياق الانعقاد
انعقد المؤتمر في سياق ما تواجهه إفريقيا من تحديات خطيرة قد تؤدي في المستقبل المنظور إلى تفاقم مستويات هشاشة الدول والسكان والمجتمعات، كما تهدد الأمن الغذائي والقدرة على الصمود، كما جاء على لسان الدكتور محمد المختار الخليل، مدير مركز الجزيرة للدراسات، في كلمته الافتتاحية التي استهل بها جلسات المؤتمر والتي قال فيها: إن اهتمام مركز الجزيرة للدراسات بالبحوث والفعاليات المتعلقة بالقارة الإفريقية لا يرجع فقط إلى ما تعانيه أغلب دول القارة من حروب بينية ومشكلات اقتصادية واجتماعية، وإنما، فضلًا عن ذلك، إلى وجود القارة الإفريقية في بؤرة الصراع الدولي وما نجم عنه من تنافس كبير بين الدول الكبرى ليكون لها حضور ونفوذ؛ الأمر الذي يستلزم عرض هذا الحضور وذلك التنافس على مائدة البحث العلمي الرصين لرصده وتحليله وقراءة تفاعلاته واستشراف تداعياته.
وأوضح الخليل أن إفريقيا حاضرة بالنسبة للجمهور العربي جغرافيًّا وتاريخيًّا وديمغرافيًّا بالإضافة إلى حضورها سياسيًّا، راهنًا ومستقبلًا.
الهجرة السرية
خلص المتحدثون في جلسة خصصها المؤتمر للحديث عن أسباب الهجرة السرية من إفريقيا باتجاه القارة الأوروبية والسبل الكفيلة بتنظيم هذه الهجرة للحد من خطورتها من جهة ومراعاة مصالح المهاجرين والبلدان المستقبلة من جهة ثانية، خلصوا إلى أن هذا النوع من الهجرة يعتبر تهديدًا بنيويًّا للقارة الإفريقية، وأنه بات في حاجة إلى مقاربة دولية جماعية في إطار "حوكمة الحدود وآلية الهجرة"، وما يتطلبه ذلك من وضع خطة لتنمية القارة الإفريقية حتى لا تصبح دولها طاردة للعمالة، بالإضافة إلى تحسين ظروف احتجاز المهاجرين في البلدان التي يتخذونها منصات انطلاق، واحترام حقوقهم القانونية والإنسانية، والتوصل إلى تعريف دقيق وواضح لمصطلحي الهجرة واللجوء، بالإضافة إلى توفير الأمن والحماية لهم وفقًا للقانون الدولي، وتوفير فرص حقيقية للهجرة الفعالة وميسورة التكلفة، وقيام الدول الأوروبية بمسؤوليتها تجاه الدول الإفريقية الفقيرة؛ باعتبار أن هذه الدول كانت مستعمرات لها، وبخاصة فرنسا، لمدة تتراوح بين 70 إلى 130 سنة؛ ما أثرَّ سلبيًّا على مقدراتها وقدرتها على التنمية.
المخاطر المناخية
استعرض المؤتمر في جلسته الثانية المخاطر الناجمة عن التغير المناخي وتداعياتها على القارة الإفريقية وأنجع السبل لمواجهة هذه المخاطر والتعامل مع تلك التداعيات، وانتهى المتحدثون إلى أن إفريقيا عمومًا وشرقها على وجه الخصوص من أكثر مناطق العالم تأثرًا بالتغيرات المناخية والتي تتجلى في موجة الجفاف الحالية والمستمرة دون توقف منذ عام 2008، والناجمة عن "جريمة الاحتباس الحراري التي لم تشارك في صنعها".
وأوضحوا أن للتغيرات المناخية آثارًا سلبية على القارة بأكملها؛ تتمثل في فقدان التنوع البيولوجي، وانخفاض إنتاج الغذاء، والتقلبات المناخية الحادة التي تلقي بظلالها السلبية على حياة السكان.
وأشاروا إلى أن الجفاف ليس هو الظاهرة الأبرز لتداعيات التغير المناخي على القارة الإفريقية وإنما الكميات غير المعتادة من هطول الأمطار أيضًا، والتي أدت في بعض البلدان إلى سيول وانجراف في التربة ووفاة العديد من السكان ونزوح قرابة المليون إنسان في الصومال وجنوب السودان عن قراهم التي أصابها التدمير جرَّاء تلك السيول الغزيرة.
يأتي هذا بالتزامن مع موجات الجراد الصحراوي التي هجمت على المنطقة خلال العامين الماضيين وما خلَّفته من تدمير للمحاصيل والمزروعات.
وقد أدى ذلك إلى تعرُّض عشرات الملايين من السكان إلى مخاطر تهدد حياتهم، لاسيما أنهم يعيشون أنماط حياة "هشة"، تعتمد على الزراعة الموسمية والرعي.
وأوصى المتحدثون باتباع سياسات زراعية تحد من تفاقم ظاهرة التغير المناخي وتقلِّل من تداعياته وفي مقدمتها السياسات الهادفة إلى "دعم المزارعين" لتشجيع قدرتهم التنافسية في مجال الإنتاج الزراعي من جهة ولتحقيق الأمن الغذائي من جهة ثانية. والسياسات المتعلقة بتحسين "البنية الزراعية"، ومن ذلك: زيادة مساحة الأراضي الزراعية، وتدريب العمالة الزراعية وبخاصة الشباب منهم، وتطوير طرق المواصلات، والاهتمام بالتمويل الزراعي، وتشجيع إنشاء التعاونيات الزراعية المستقلة والمتحررة من أسر الشركات الخارجية الكبرى.
وخلص المتحدثون إلى أنه في حال اهتمت دول القارة بالجانب الزراعي، واتبعت سياسة حمائية للإنتاج الزراعي، فإن أغلب السكان سيبقون آمنين مكتفين ذاتيًّا في قراهم، ولن ينزحوا إلى المدن بحثًا عن العمل ومنها إلى الدول الأوروبية عبر "قوارب الموت".
النزاعات الداخلية
خصص المؤتمر جلسته الثالثة للحديث عن الصراعات والنزاعات الداخلية التي تضرب أسس الأمن والاستقرار في القارة الإفريقية، وأرجع المتحدثون أسباب تلك النزاعات إلى جملة من العوامل الداخلية والخارجية؛ أبرزها تركة الاستعمار الغربي الثقيلة التي زرعت الفرقة والشقاق بين شعوب القارة، وأججت الصراعات العرقية والقبلية والجهوية والدينية والمذهبية، ودعَّمت أنظمة حكم و"أقليات" موالية لها.
كما أرجع المتحدثون استمرار تلك الصراعات وصعوبة التوصل إلى حلول لها إلى العامل الخارجي والمتمثل في تنافس القوى الكبرى على موارد القارة، واستخدامها كل الوسائل لتحقيق ذلك، بما فيها الوسائل غير المشروعة عبر توجيه "شركات قتال من المرتزقة" مثل شركة فاغنر على سبيل المثال لتنفيذ أجندة الدولة الروسية الداعمة لها.
بعد استعراض أسباب تلك النزاعات وطابعها خلصوا إلى أنها مرشحة للاستمرار؛ بل ومتوقع لها أن تزداد ما لم توفق جهود الاتحاد الإفريقي لوقف النزيف الدموي الناجم عن تلك النزاعات، وما لم تتوقف الأطراف الخارجية عن تغذيتها وإدامتها.
النفوذ الأجنبي
ناقش المؤتمر في جلسته الرابعة سياسات القوى الكبرى وبالأخص فرنسا والصين وروسيا تجاه القارة، وما تمثله مواردها الغنية بالطاقة والموارد الطبيعية والبشرية وموانئها ذات الموقع الإستراتيجي من عوامل جذب لتلك الدول، وما يدور بينها من صراع لتكريس الحضور والتأثير في القارة، وأثر ذلك الصراع على استقلالية دول القارة وحسن استثمار مواردها.
وخلص المتحدثون في هذه الجلسة إلى أن القارة الإفريقية ستبقى طيلة القرن الحادي والعشرين مفتوحة على التنافس الدولي ومستقطبةً له، وأن الصين ستبقى الخيار المفضل للكثير من دول القارة نظرًا لعدم وجود ماض استعماري لها في القارة، غير أن المتحدثين أشاروا إلى أن ذلك لا يعني اختفاء القوى التقليدية مثل الولايات المتحدة الأميركية وروسيا وفرنسا من المشهد، وقد انضافت إليها دول إقليمية أخرى لها مصالح وتطلعات في القارة مثل الهند وتركيا واليابان.
وأشار المتحدثون، فيما يتعلق بالنفوذ الفرنسي على سبيل المثال، إلى "فشل المقاربة العسكرية الفرنسية الرامية إلى التحكم في دول القارة"، كما اتضح في مالي، وما أعقب ذلك الفشل من انسحاب من منطقة الساحل، كما أن اللاعبين الدوليين الكبار أصبحوا يزاحمون فرنسا في نفوذها الاقتصادي بالقارة. وانتهى المتحدثون من هذا المثال إلى أن أي انسحاب لقوى استعمارية تقليدية من القارة الإفريقية سيخلِّف وراءه فراغًا ستحاول قوى أخرى غيرها شغله واستغلاله؛ ما يعني ديمومة التنافس والصراع الدولي على هذه القارة؛ الأمر الذي يتطلب من شعوبها وحكوماتها أن تأخذ زمام المبادرة بيدها وأن تسعى نحو استقلال قرارها السياسي والاقتصادي، وهذا لن يتأتى إلا على يد أنظمة حكمة متصالحة مع شعوبها وقيم مجتمعاتها.
بين الإصلاحات السياسية والانقلابات العسكرية
تطرقت الجلسة الخامسة إلى بحث العوامل المفضية إلى عدم الاستقرار في العديد من دول القارة، وبالأخص تلك التي تتعثر مسيرة الإصلاحات السياسية بها وتدخل بسبب ذلك في دوامة من العنف والانقلابات العسكرية تلقي بظلالها السلبية على شتى مناحي الحياة، ولاسيما فيما يتعلق بانتشار الفساد واستشرائه، وتهميش الجماعات السياسية والعرقية الأخرى.
ناقشت الجلسة ذلك واستشهدت ببعض نماذج الإصلاح السياسي الناجحة لمقارنتها بتلك التي أخفقت في تلبية التطلعات.
وانتهى المتحدثون في هذه الجلسة إلى أن الانقلابات العسكرية في إفريقيا لم تنقطع منذ حصول الدول الإفريقية على "استقلالها"، غير أن السنوات الثلاث الأخيرة شهدت "كثافة" ربما غير مسبوقة في هذا الحيز الزمني الضيق؛ ففي سنة 2020 مثلًا، وقع في إفريقيا 12 انقلابًا من أصل 13 انقلابًا حصل في كل أنحاء العالم. وفي سنة 2021، شهدت القارة 6 انقلابات؛ 4 منها ناجحة. وتشير الإحصائيات إلى أنه خلال العقدين الأخيرين شهدت القارة ما معدله انقلابان كل سنة، ما يؤكد على تواصل الانقلابات وعدم انقطاعها، بيد أن الانقلابات الأخيرة تميزت بسمات ربما لم تكن بذات السمة مقارنة بالانقلابات السابقة، ومنها أن بعضها حظي باحتضان شعبي، وأن أغلبها حدث على يد ضباط شباب من جيل الثمانينات، كما هي الحال مثلا بالنسبة لانقلاب مالي وتشاد وبوركينا فاسو، فضلًا عن حدوث هذه الانقلابات في ظل تنامي الظاهرة الإرهابية في إفريقيا، وحدَّة الصراع الدولي في إفريقيا لاسيما بين القوى الاستعمارية السابقة والقوى الدولية الجديدة الساعية إلى بناء نفوذ ومصالح لها في إفريقيا والتي بات لها وجود عسكري مسلح فيها.
وأشار المتحدثون إلى أن العسكريين حينما يستولون على السلطة يكون بقاؤهم فيها صعبًا ومغادرتهم لها أصعب؛ ما يعني أن الديمقراطية الإفريقية تعيش حاليًّا محنة وستظل تعاني وسط هذه المحنة لسنوات طويلة قادمة ما لم تنتفض الشعوب ضد هذا النوع من الانقلابات وأنظمة الحكم.
المجتمع المُعولَم
بحثت الجلسة السادسة والأخيرة من المؤتمر تأثيرات العولمة على دول ومجتمعات القارة الإفريقية؛ لاسيما الجانب السلبي من تلك التأثيرات.
وخلص المتحدثون إلى أن القارة الإفريقية دخلت "عصر العولمة" دون استعداد كافٍ، وبلا أجندة اجتماعية أو وطنية للتعامل مع التحديات والمخاطر التي تمثلها هذه العولمة؛ ما أدى إلى تقليص قدرة دول القارة على استقلالية قرارها الوطني، وتسبب في تصدع "الكتلة الإفريقية"، وتفاقم أزمة النظم والدول والمجتمعات الهشة والمهددة في بنيتها.
كما انتهى المتحدثون إلى أن الضغوط السياسية الناجمة عن العولمة أدت إلى تفريغ النظم السياسية من محتواها السياسي والاجتماعي والاقتصادي. كما عملت تلك العولمة على إيجاد نظم وجماعات مصالح تعمل خارج إطار القانون، وتتعامل مع الموارد الوطنية كما لو كانت ملكًا خاصًّا بها، مما ساعد على إشاعة الفساد وانتشار الفوضى السياسية والإدارية، فضلًا عن اتساع رقعة الفقر ونسب البطالة وتسارع وتيرة التفكك الاجتماعي.
وأشار المتحدثون إلى التداعيات السلبية للعولمة على القارة الإفريقية لم تقتصر عند حد ما سبق وإنما امتدت تداعياتها السلبية إلى "نظام العلاقات المدنية"؛ فتخلت المجتمعات، أو كادت، عن الرابطة الوطنية لحساب العلاقة الطائفية والعشائرية والعائلية.
وانتهى المتحدثون إلى أن مخاطر العولمة على القارة الإفريقية سوف تستمر نظرًا لتعدد اللاعبين الدوليين واشتداد الصراع فيما بينهم، وتعقُّد وتشابك المصالح، وسمات "العولمة" التي تتميز بـ"الشمولية" والتي لا تعترف بالحدود الجغرافية، كما هي الحال بالنسبة إلى تغير المناخ على سبيل المثال.
وأوصى المتحدثون بأهمية تعزيز الهوية الوطنية، وتحوُّل منظومة المفاهيم والإدراكات لدى الدول المتحكمة في النظام الدولي من مفهوم الصراع والهيمنة وبسط النفوذ إلى مفهوم التعاون والتكامل. كما أشار المتحدثون إلى أهمية تنمية "حركة هموم إفريقيا"، بأبعادها التحررية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والتي تنادي ببناء "إفريقيا الحديثة" من منطلق إفريقي ذاتي.
واختتم المتحدثون نقاشاتهم بأهمية إدراك قادة إفريقيا ونخبها السياسية والفكرية لمخاطر وتحديات العولمة وضرورة توصلهم إلى "رؤية ذاتية جامعة" تعمل على توجيه وتفاعل إفريقيا مع تلك المخاطر، استنادًا إلى البعدين الإدراكي والمعرفي.
ولمزيد من التفاصيل بشأن ما جاء في المؤتمر من رؤى وأطروحات ونقاشات، يمكنكم مشاهدة الجلسات عبر هذه الروابط:
الجلسة الأولى – الجلسة الثانية – الجلسة الثالثة – الجلسة الرابعة – الجلسة الخامسة – الجلسة السادسة