أضواء على التجربة التونسية في الانتقال الديمقراطي

تعاني تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس من اختلال توازن القوة بين التيار الإسلامي من جهة وبقية المكونات الأخرى، وستظل هذه الحالة مستمرة إلى أن تتحول التيارات الفكرية إلى تكتلات سياسية لها شعبية حقيقية على أرض الواقع مثل التيار الليبرالي واليساري والعروبي.
2013124143138471734_20.jpg

تنطلق هذه الورقة من فرضية أن الثورة التونسية قامت في أساسها لتلبية حاجات ثلاث غيّبتها منظومة الحكم القديمة: حاجة إنسانية تتعلق بالكرامة، وحاجة اجتماعية تتعلق بالعدالة، وحاجة سياسية تتعلق بالحرية. وسيكون التركيز هنا على الثورة باعتبارها طريقا لتحقيق المطلب الثالث، مطلب الحرية السياسية، وذلك بإحلال نظام ديمقراطي محل منظومة الاستبداد السابقة.

وقبل تناول التجربة التونسية بالتحليل والغوص في تفاصيلها، سنضع المسألة في إطارها النظري من خلال عرض موجز لأبرز نظريات التحول الديمقراطي. فقد واكب التحولات السياسية التي جرت في أوروبا الشرقية في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات من القرن الماضي وما رافقها وأعقبها من تغييرات سياسية في كل من أميركا اللاتينية وجمهوريات الاتحاد السوفياتي السابقة وبعض البلدان الإفريقية، كم هائل من التنظير للتحول الديمقراطي. ولئن زخرت الأدبيات العالمية خلال العقدين الماضين بعدد كبير من الدراسات المقارنة التي مسحت أغلب تلك المناطق وأثرت الفكر العالمي بمقاربات على غاية من الأهمية، إلا أن حظ المنطقة العربية من تلك الدراسات كان محدودا جدا. ولا يكفي أن تتذرع تلك النظريات في إسقاطها المنطقة العربية من حسابها بذرائع منهجية من قبيل غياب موضوع البحث (التحول الديمقراطي) (1)، ذلك أن الخلل المنهجي يكمن في الأطر النظرية التي تنطلق منها لمقاربة الموضوع وليس في ميدان البحث ذاته. إحدى المشكلات المنهجية التي تعوق تلك النظريات عن ملاحظة ما يحدث في العالم العربي منذ عقود، وتحجب عنها رؤية الحراك الاجتماعي العميق الذي لم يبدأ في الإثمار إلا مؤخرا، تتعلق بخلفيتها الفلسفية التي تضرب بجذورها في التراث الاستشراقي وفي نظرته للشرق عموما وللعرب خصوصا باعتبارهم كائنات تحمل إعاقة بيولوجية ثابتة متأصلة في وسط ثقافي معاد بطبيعته للحرية كقيمة وللتغيير كقابلية للتحرر.

التأسيس على مثل هذه المسلّمات النظرية يضرب في العمق موضوعية أي نتاج معرفي مهما ادعى من العلمية، ويطبع المقاربة كلها بطابع الانحياز لموقف قيمي بعينه. فحتى وإن عجزت البلدان العربية عن إنجاز تحول ديمقراطي على غرار ما حصل في مناطق أخرى من العالم، فإن محاولات الانتقال جارية على أكثر من صعيد وبإمكانها أن تقدّم للباحثين حالات دراسية لا تقل أهمية عن تلك التي أنجزت تحولاتها. وإذا كان الربيع العربي، في أحد وجوهه على الأقل، تعبيرا سياسيا عن ذلك الحراك الاجتماعي طويل المدى، فإن مسارات الانتقال التي أفرزها ينبغي أن تتحول إلى موضوع للبحث لإثراء معرفتنا وتقديم نماذج عربية في الدراسة المقارنة لتجارب الانتقال الديمقراطي.

مقاربات في التحول الديمقراطي

يمكن إجمال نظريات التحول الديمقراطي في أربع مقاربات أساسية: المقاربة التحديثية، والمقاربة البنيوية، والمقاربة الثقافية، والمقاربة الانتقالية. وإذا كانت المقاربة التحديثية تبدو في ظاهرها مغرية لتفسير ما يحدث في تونس باعتبار ما تُعرف به تونس في محيطها العربي من تقدم في مظاهر التحديث سواء في مجال التعليم أو الإدارة أو التنظيم الاجتماعي والأحوال الشخصية، إلا أن المسألة أعمق من هذا التوافق وأكثر تعقيدا. فالمقصود من علاقة التحديث بالتحول نحو الديمقراطية في المقاربة التحديثية يتخطى مجرد المظاهر ليغوص في عمق البنى الاقتصادية والاجتماعية ومستوى التصنيع والتمدن ومؤشرات الرفاه المادي. فكلما ارتفعت تلك المؤشرات في مجتمع معين كان أقرب إلى التحول الديمقراطي حسب منظري هذه المدرسة (2). بمعنى آخر، وبما يشبه العلاقة السببية والتصور الخطي للتاريخ، يربط هذا الاتجاه في التحليل بين مستوى النمو الاقتصادي والاجتماعي من جهة، والقابلية للتحول الديمقراطي من جهة أخرى. فالمجتمعات غير الرأسمالية وغير الصناعية تحديدا ومن بينها المجتمعات العربية، هي من حيث المبدأ أبعد المجتمعات عن الديمقراطية.

ولا يختلف الاتجاه البنيوي في مقاربته للمسألة الديمقراطية، حيث يرتكز في تحليله للتحولات الاجتماعية ومن بينها تحولات النظم السياسية على المسارات التاريخية بعيدة المدى. فالتحول من نظام سياسي إلى نظام سياسي آخر محكوم بالدرجة الأولى بسياق تفاعلي يتداخل فيه الصراع الطبقي مع جهاز الدولة ومع الجغرافيا السياسية بما لها من تأثير لا يقل أهمية عن تأثير العوامل الاقتصادية والاجتماعية الداخلية (3). إن اشتراط تغيير شكل النظام السياسي بتغيير بنية الدولة وبما تؤول إليه الصراعات الطبقية يجعل من العسير التفكير في التحول الديمقراطي في أي مجتمع قبل أن تنضج فيه شروط ذلك التحول على صعيد البنى الاقتصادية والاجتماعية. وكما هو الشأن مع الطرح البنيوي في مختلف المجالات والتخصصات، لا دور للقوى السياسية أو الاجتماعية من نخب وأحزاب وأفكار وإرادات جماعية أكانت أم فردية في إحداث التغيير إذا لم يكن انعكاسا لصراع طبقي أو دليلا على تحول في بنية الدولة ذاتها.

أما المقاربة الثقافية والتي تركز على دور الثقافة السياسية في إحداث التغيير الديمقراطي، فقد تطورت كاتجاه فكري من داخل المقاربة التحديثية اعتبارا لما يلعبه التحديث والتقدم الصناعي والتقني من دور في تحديث منظومة التعليم وإحلال الثقافة محلا مؤثرا في مسيرة المجتمعات. هنا أيضا تبقى الثقافة مشروطة بمدى تقدم المجتمع وارتفاع مستوى العيش بمقاييسه المادية، ويظل دورها رهينا بمدى "مدنيتها" وقابليتها لقيم التعددية السياسية والفكرية، وإدارة الشأن العام وفقا لمبدأ الإقناع بدل الإكراه، والقبول بالتداول السلمي على السلطة تمثيلا لإرادة الشعب العامة لا سلبا لها باسم فكرة أو طبقة أو حزب. ورغم ما يبدو من انسجام ظاهري في المنطق المؤسس لهذا الاتجاه في مقاربة مسألة التحول الديمقراطي (4)، إلا أن ثمة اعتراضات منهجية جوهرية على اعتبار الثقافة أداة تفسيرية نفهم بها ومن خلالها ما يجري من تحولات سياسية، فضلا عما تنطوي عليه هذه المقاربة من أحكام قيمية ترفع بموجبها ثقافات وتحط أخرى. فالثقافة السياسية عموما، أكانت مدنية أم غير ذلك، غالبا ما تتشكل في سياق التحولات السياسية وتأتي كنتيجة لها بدلا من كونها مولدا لتلك التحولات ومسببا لها. وكما يرى منظرو المقاربة الانتقالية، فالثقافة تلعب دورا أكبر وأبعد أثرا أثناء المراحل الانتقالية التي تعقب تغيير النظام وتسبق عملية ترسيخ الخيار الديمقراطي وليس قبلها.

هذه المقاربات الثلاث، وإن اختلفت في زاوية التناول وفي نقاط ارتكازها النظرية فإنها تلتقي في الملامح العامة التالية:

  • مركزية الدولة: فالدولة تظل هي اللاعب الرئيس بل الأوحد في صناعة التحول عبر تحكمها في وتيرة التحديث، وتطوير البنى الاقتصادية والاجتماعية، وتوجيه المنظومة التعليمية والثقافية. فلا دور في هذه المقاربات لقوى غير "دولتية" سواء تعلق الأمر بالمجتمع المدني أو بجمهور الناس أو بتوافقات النخب أو بالإرادة سواء كانت فردية أم جماعية. فالتغيير الثوري والسريع على سبيل المثال، والذي يحدث نتيجة حراك شعبي واسع كما حصل في بعض البلاد العربية مؤخرا، لا يمكن تفسيره باعتماد هذه المقاربات، بل بمنهجية تحليلية جديدة تنطلق في رؤيتها لحركة التغيير السياسي والاجتماعي من تحت إلى فوق أو من أسفل القاعدة الاجتماعية إلى أعلاها. 
  • الحتمية التاريخية والاتجاه الخطي في التغيير: تحصر هذه المقاربات تطور المجتمعات في رؤية خطية تترابط فيها الحلقات ترابطا حتميا بحيث يفضي سابقها إلى لاحقها دون اعتبار الاختلاف في السياقات التاريخية والثقافية للشعوب. ولا يكون التحول الديمقراطي بهذا المنظور إلا ضمن سياق حداثي نمطي يجعل حداثة المجتمعات الإنسانية، على تنوعها، لا تتحقق إلا بعبورها حتما من حيث عبرت المجتمعات الغربية، بما في ذلك المرور بمراحل التصنيع والتحديث التقني والعسكري والإداري. فلا يبقى أمام المجتمعات التي لا تنتمي للفضاء الغربي والتي اختلفت تجربتها الحضارية وسبيلها إلى الحداثة أن تنجز تحولا ديمقراطيا.
  • الملمح الاستشراقي: تنطلق هذه المقاربات من رؤية مشتركة، مضمرة حينا وصريحة أحيانا، تقوم على التفريق الجوهري بين المجتمعات، مستندة في ذلك إلى حكم قيمي يجعل من المجتمعات الغربية معيارا للفضل، ومن تجربتها التاريخية مقياسا لما سواها. وبناء على هذه الرؤية التي ظل المستشرقون من مؤرخين وأنثروبولوجيين وسياسيين يضعون أساساتها منذ قرون، لا يمكن للمجتمعات، الشرقية عموما والعربية خصوصا، أن تدرك ما أدركه الغرب من عقلانية وتقدم لعلة في طبائعهم وخلل في تاريخهم وتخلف في ثقافتهم. ومن أبرز ما انتهت إليه هذه الرؤية الاستشراقية مقولة "الاستثناء" العربي وما يعنيه ذلك من عجز مزمن وفشل محتوم في اللحاق بركب الأمم المتقدمة وبناء أنظمة ديمقراطية. إن أبرز ما حملته ثورات الربيع العربي في هذا السياق هو تحدي هذه المقاربات والإطاحة بمقولة الاستثناء العربي كما أطاحت بأنظمتها الاستبدادية.

بعد هذا العرض النقدي السريع لثلاث من أبرز نظريات التحول الديمقراطي، نعرض الآن لمقاربة أخرى تبدو أقرب لتفسير ما يجري في بلدان الربيع العربي، وخاصة تونس، من ترتيبات ما بعد الثورة، هي المقاربة الانتقالية (5). أدبيات سياسية كثيرة أُنتجت في العقدين الأخيرين، جلها يندرج في سياق الدراسات المقارنة، تبحث في تحولات ما صار يعرف بديمقراطيات "الموجة الثالثة". تركز المقاربة الانتقالية بدرجة أولى على دور النخب في المراحل الانتقالية قصيرة المدى ولا تنظر إلى السيرورات التاريخية المركبة ذات الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والثقافية العميقة. فالمفاوضات والمساومات وحتى الصفقات التي تحصل بين النخب السياسية، بما في ذلك مع بقايا نخبة النظام القديم، ينبغي أن تكون ضمن معادلة محلية صرفة وفي مدى زمني محدود. وما تنتهي إليه تلك النخب من توافقات وتعاقدات وقرارات وآليات انتقالية هو الذي يحدد أسس وشكل النظام الديمقراطي الناشئ. ما تجدر الإشارة إليه هنا أيضا هو حالة التردد وغياب اليقين الذي يعقب سقوط النظام القديم ويسبق بناء النظام الجديد فيطبع المرحلة الانتقالية برمتها. هذا التردد الذي يفسره جزئيا غياب الخبرة ونقص الثقة لدى النخب الجديدة في قدرتهم على إدارة الدولة، يجعل مرحلة الانتقال الديمقراطي محفوفة بالمخاطر ومعرضة للانتكاس وحتى الفشل. ولعل ذلك ما حدا بمنظري هذه المدرسة إلى دعم المرحلة الانتقالية بمرحلة أخرى تسمى في الأدبيات الانتقالية بمرحلة تعزيز أو ترسيخ النظام الديمقراطي (6). لا شك أن الكثير مما تقترحه هذه المقاربة من آليات وإجراءات انتقالية ينطبق على المرحلة التي أعقبت سقوط الأنظمة العربية في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن، ولكنها تظل تحمل نقاط ضعف أساسية لا سيما بالنظر إلى السياق الثوري والشعبي الذي حصلت في ظله ثورات الربيع العربي. فالتركيز المفرط على النخب يهمل دور الجماهير في إحداث التغيير أو في ترسيخ المسار الديمقراطي. كما أن هذه المقاربة تظل قاصرة عن فهم وتفسير الانتقال الديمقراطي عن طريق الثورة الشعبية وهو موضوع هذه المقالة.

الثورة التونسية والمطلب الديمقراطي

لم تكن تونس قبل ثورة 14 يناير 2011 بدعا من الوضع العربي العام، فقد كان نصيبها من حكم الدولة العربية التسلطية وافرا، ولم تكن تداعيات ذلك النمط من الحكم على اقتصادها وثقافتها وتعليمها بأفضل من تداعياته على أوضاع باقي بلدان المنطقة. ولم يكن نقاش النخبة حول المسألة الديمقراطية يدور حول ترتيبات الانتقال الديمقراطي والمشاركة السياسية والتداول السلمي على السلطة وغيرها من إشكالات الواقع العملي، وإنما كان حول غياب الديمقراطية كلية (7).

فمنذ استقلال البلاد عن الاستعمار الفرنسي عام 1956 آلت شؤون الحكم إلى نخبة تحديثية تمثلت أولى إنجازاتها في إقامة نظام سياسي شمولي بامتياز يتعارض مع أبسط قواعد النظم السياسية الحديثة. فقد جمع نظام الرئيس بورقيبة، الذي حكم تونس من 1957 إلى 1987، بين يديه مختلف أنواع السلط وأمّم الحياة العامة وارتقى بموقع الرئاسة إلى ما يشبه موقع الربوبية، فوق المعارضة والمساءلة والمحاسبة، إلى أن أُعلن بورقيبة سنة 1974 رئيسا مدى الحياة. وبذلك أغلقت كل السبل أمام التداول السلمي على السلطة، ولم يبق أمام الراغبين في الوصول إلى الحكم غير طريق الانقلاب العسكري أو الانتظار إلى حين وفاة الرئيس، فانقلب عليه رئيس وزرائه ووزير داخليته زين العابدين بن علي بعد أن بلغ أرذل العمر. وإذا كان الرئيس بورقيبة، لتكوينه الحقوقي وطبيعته المدنية، قد أرخى الحبل لمخالفيه بين الحين والآخر ليمارسوا نشاطا سياسيا ولو متقطعا ومن خارج الأطر القانونية التي احتكرها الحزب الدستوري الحاكم، وإذا كانت بعض المنظمات الوطنية مثل الاتحاد العام التونسي للشغل والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان قد وفرت مظلة لناشطي المجتمع المدني ليمارسوا ضغوطا على سياسات الحكومة في ظروف تاريخية محددة، فإن نظام بن علي قد أغلق المجال السياسي تماما ولم يسمح بأي نشاط معارض إلا في أطر شكلية.

لم يفلح الخطاب السياسي "الحداثي" الذي حاولت السلطة الجديدة بناءه وترويجه على مدى ثلاثة وعشرين عاما (1987-2010) في جسر الفجوة مع واقع استبدادي يهيمن فيه النظام على الحياة العامة بكافة وجوهها وأنشطتها السياسية والاقتصادية والثقافية والإعلامية. فظل الخطاب والممارسة متنافرين ومتناقضين، ما ولّد لدى شرائح اجتماعية واسعة حالة من انعدام الثقة في الخطاب والممارسة معا، وخلق من جهة أخرى جسورا من التواصل والتنسيق بين مكونات المعارضة السياسية وعدد من الفاعلين السياسيين ونشطاء المجتمع المدني. هذه الفجوة بين الخطاب السياسي والممارسة العملية رافقتها فجوة أخرى بين استبدادية المنظومة الحقيقية وديمقراطية الواجهات المزيفة (8).

لقد أقام نظام بن علي عالمين متوازيين ومتقابلين في الوقت ذاته، عالم الحكم الشمولي الذي يتحكم في مفاصل الدولة والسلطة بمختلف أنواعها، وعالم الديمقراطية الشكلية التي تسوّق للعالم في هيئة برلمان وانتخابات دورية منتظمة وأحزاب سياسية ومجتمع مدني بلغ عدد جمعياته الأهلية قبل الثورة أكثر من 9000 (9). وقد بلغ اتساع الفجوة بين العالمين، عالم الواقع وعالم الصورة، حدا يدعو إلى السخرية ويمكن استجلاء ملامحه من خلال النسب الخيالية المعلنة التي كان بن علي يحصل عليها في الانتخابات الرئاسية الخمس التي انتظمت خلال عهده:

  • انتخابات العام 1989: 99,7%.
  • انتخابات العام 1994: 99,6%.
  • انتخابات العام 1999: 99,44%.
  • انتخابات العام 2004: 94,49%.
  • انتخابات العام 2009: 89,62%.

بعيدا عن النظام السياسي بوجهيه الحقيقي والشكلي، وخارج الأطر القانونية التي ضاقت بكل مستويات النقد والاعتراض على سياسة الحكم ولو كان ذلك من أصدقاء النظام وحلفائه المحليين والدوليين، كانت المعارضة بمكوناتها الحقيقية تقترب من بعضها البعض وتفتح لنفسها مساحات للفعل السياسي، حينا داخل البلاد وأحيانا خارجها. وإذا كان العمل المشترك بين مكونات المعارضة التونسية قد بدأ مبكرا، في زمن الرئيس بورقيبة، حيث شهدت ثمانينات القرن الماضي أشكالا من التنسيق بين حركة الاتجاه الإسلامي (النهضة لاحقا) والحزب الشيوعي التونسي (التجديد لاحقا) وحركة الوحدة الشعبية وحركة الديمقراطيين الاشتراكيين (10)، فإن حقبة بن علي، وخاصة في سنواتها الخمس الأخيرة التي استحكم فيها الاستبداد وبدأ الفساد المرتبط بعائلة الرئيس يظهر للعيان وينخر المؤسسات العامة والخاصة، قد دفعت المعارضة إلى تكثيف نشاطها المشترك وإقامة ما يشبه العقد الاجتماعي بين الإسلاميين والليبراليين وبعض مكونات اليسار. تأسست هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات في شهر أكتوبر/تشرين الأول 2005 وشكلت إطارا غير مسبوق للحوار الفكري والسياسي بين تشكيلات رئيسة في المعارضة التونسية، تبلورت في ضوئه جملة من المواقف المشتركة تجاه قضايا أساسية وحساسة تشغل الرأي العام وتتمحور حول مطلب الديمقراطية (11).

ظل مطلب الديمقراطية بما تعنيه من تعددية حزبية ومشاركة سياسية وتداول سلمي على السلطة وسيادة للقانون وبسط للحريات العامة والخاصة، ملازما للحركة السياسية التونسية بأحزابها ومنظماتها المدنية وتياراتها الفكرية الكبرى، برغم الحصار المطبق على حركتها وأنشطتها وعلاقاتها بجمهور الناس. إن من أولى إنجازات الثورة التونسية حتى قبل إسقاط نظام بن على هو وضعها لمطلب الديمقراطية في قلب الحركة الثورية وذلك بتكريس "إرادة الشعب" رمزا لها من خلال رفعها شعار "الشعب يريد" الشهير. لقد وحّدت الثورة قلوب الجماهير وعقولها كما وحّدت أصواتها في مختلف ساحات التظاهر من جنوب البلاد إلى شمالها ومن شرقها إلى غربها حين استلهمت بيت شاعر تونس الكبير أبي القاسم الشابي: "إذا الشعب يوما أراد الحياة .. فلا بد أن يستجيب القدر"، فنحتت منه شعارها المركزي.

لا شك أن ترديد هذه الجملة السياسية بصوت عال على مدار أربعة أسابيع في شوارع المدن وأحيائها وفي القرى النائية وبلداتها التي لا تكاد تعرفها الدولة أو تصلها إلا في مناسبات طلب الولاء، قد مثل نقلة نوعية في وعي الجماهير الثائرة وأعاد إليها ثقتها في ذاتها وفي قدرتها على التغيير. كما أطاح، من جهة أخرى، بجملة من الأفكار والأطروحات التي انبنت عليها ثقافتنا السياسية والتي عرضنا لبعضها عند تناول مقاربات التحول الديمقراطي، وفي مقدمتها فكرة مركزية الدولة في عملية التغيير. لقد قامت الثورة التونسية، ومن بعدها ثورات الربيع العربي، بتصحيح معادلة التغيير في فكرنا السياسي من خلال إعادة التأكيد على محورية دور الجماهير، وعلى مرجعية الشعب ومصدريته في إقامة السلطة أو إطاحتها، وعلى شرعيته الغالبة وتبعية الحكم لتلك الشرعية.

صحيح أن الثورة التونسية فاجأت الجميع بما في ذلك قوى المعارضة التي غمرها الحراك الثوري فتفاوت أداؤها في الميدان وارتبك موقف البعض منها إزاء المشاركة في حكومات المرحلة الانتقالية الأولى بقيادة رموز النظام الذي كان يتهاوى (12)، ولكنها سرعان ما استعادت تماسكها والتقت مجددا ولكن على أرضية جديدة، وبأجندات مختلفة وأحيانا متصارعة، وفي إطار سياسي غير مسبوق هو إطار الانتقال الديمقراطي.

التجربة الانتقالية في تونس بين التراث الدستوري والمسار الثوري

كثير مما تتداوله أدبيات الانتقال الديمقراطي ينطبق على ما يجري في تونس في المرحلة الانتقالية. فعلى إثر انهيار النظام السابق وهروب الرئيس بن علي في الرابع عشر من يناير/كانون الثاني 2011، آل الأمر برمته إلى النخبة السياسية للتداول في شأن ترتيبات المرحلة الانتقالية. ولعل مما سهّل على تلك النخبة أن تلعب دورا حاسما في توجيه دفة الأحداث ورسم خارطة طريق للمرحلة الانتقالية أمران أساسيان: استمرارية الدولة وأجهزتها الأساسية في العمل دون توقف، وقدرة النخبة ذاتها على الالتقاء على الحد الأدنى من الرؤية السياسية التي أطّرت عملية الانتقال.

ولعل التراث الدستوري العريق لتونس قد أسهم في توجيه هذه المرحلة وتغليب الطابع الدستوري على ما سواه. فقد عرفت تونس صدور أول دستور في البلاد العربية عُرف بدستور 1861 (13). أقر هذا الدستور الفصل بين السلطات، وأنشأ المجلس الأكبر (14)، ونظاما قضائيا وشبكة من المحاكم. جاء دستور 61 بعد وثيقة "عهد الأمان" (15) التي منحت الأمان لسكان تونس "على اختلاف الأديان والألسنة والألوان في أبدانهم المكرّمة وأموالهم المحرّمة وأعراضهم المحترمة" (16). وساوت بينهم أمام القانون "بحيث لا يسقط القانون عن العظيم لعظمته ولا يحطّ على الحقير لحقارته" (17). وقد توالت الإصلاحات وكان أبرزها على يد المصلح خير الدين التونسي بين سنوات 1873 و1877 حيث سعى من موقعه كرئيس للوزراء (الوزير الأكبر) إلى إقامة نظام للحكم يسود فيه القانون وتديره المؤسسات، في محاولة لتطبيق أفكاره التي جمعها في كتابه الشهير "اقوم المسالك في معرفة احوال الممالك".

ومنذ الربع الأول من القرن العشرين ارتبطت الحركة الوطنية التونسية في مقاومتها للاستعمار الفرنسي ارتباطا وثيقا بمطلب الدستور، وقد انعكس ذلك في اتخاذ الحزب الذي قادها اسم "الحزب الحر الدستوري" (18). وكان على رأس أهدافه إرساء نظام دستوري يقوم على مبدأ الفصل بين السلط وضمان الحرية والمساواة. واستمر البعد الدستوري حاضرا في تسمية الحزب الذي تولى حكم البلاد بعد الاستقلال برغم تبدل الظروف السياسية وتغير رموزه وأفكاره وسياساته. فمن "الحزب الحر الدستوري" (الجديد ثم القديم) إلى "الحزب الاشتراكي الدستوري"، إلى "التجمع الدستوري الديمقراطي" الذي أطاحت الثورة بحكمه وأمر القضاء بحله في مارس/آذار 2011.

لم يكن هذا التراث الدستوري غائبا عن وعي النخبة السياسية التونسية وهي تضع ترتيبات نقل مقاليد السلطة من نظام سقط إلى نظام في طور التشكل. وقد كان لاستمرار جهاز الدولة بمكوناته الأساسية ومؤسساته المركزية والجهوية وكثير من فروعه المحلية في العمل دون توقف، إسهام كبير في تأمين المرحلة الانتقالية الأولى من الاضطراب أو الانتكاس. وانعكست تلك الاستمرارية بالخصوص في مظهرين اثنين: دستورية انتقال السلطة، وانخراط بعض من بقي من رموز النظام في تأمين ذلك الانتقال. فرغم الطبيعة الثورية للتغيير الذي أطاح برأس النظام، ورغم المناخ الثوري الذي كان سائدا في تلك المرحلة، استطاع جهاز الدولة أن يحتفظ بالمبادرة في ترتيب وضع السلطة الجديدة ضمن الأطر الدستورية التي كانت تحكم النظام السياسي. ورغم الارتباك الذي حصل ليلة هروب بن علي وإعلان رئيس الوزراء الأسبق محمد الغنوشي توليه مسؤولية الرئاسة بمقتضى الفصل 56 من الدستور الذي ينص على أن يفوّض الرئيس مهامه إلى رئيس وزرائه في حالة عجزه مؤقتا عن مزاولة تلك المهام (19). وبصرف النظر عن الحسابات الخفية التي دفعت بالوزير الغنوشي إلى فعل ذلك، فقد وقع تصحيح الوضع في غضون ساعات بمقتضى قراءة أخرى لأحكام الدستور الخاصة بشغور منصب الرئاسة. وبدل اعتماد الفصل 56، اعتمد الفصل 57 الذي ينص على تولى رئيس مجلس النواب منصب الرئاسة باعتبار أن هروب الرئيس يمثل شغورا نهائيا لا مؤقتا وأن بن علي لم يقم قبل هروبه بتفويض مهامه إلى رئيس الوزراء (20). أما انخراط مسؤولي النظام السابق في تأمين عملية انتقال السلطة، فتمثلت في تولي فؤاد المبزع، بصفته رئيسا لمجلس النواب، منصب رئيس الجمهورية وأعاد تسمية الغنوشي رئيسا للحكومة الانتقالية. كما شارك في حكومة الغنوشي وفي الحكومة التي أعقبتها برئاسة الباجي قايد السبسي، الذي تقلد مناصب وزارية متعددة في عهد الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة، عدد من وزراء النظام السابق.

في ظل هذه الاستمرارية وفي إطار من التوافق العام الذي طبع علاقة النخبة ببعضها وجعلها تلتقي على القواعد الأساسية للعمل المشترك، نشأت المؤسسات الأولى التي رسمت ملامح المرحلة الانتقالية. وإذا كان التوافق بين مكونات النخبة القادمة حديثا إلى الدولة، رغم اختلاف أيديولوجياتها ومواقعها الاجتماعية وخياراتها السياسية والفكرية، ممكنا بفضل التجربة المشتركة والطويلة في معارضة النظام القديم، فإن توافق تلك النخبة مع بقايا النخبة الخارجة من الحكم إثر الثورة عليه، تطلب قدرا غير يسير من المفاوضات والتفاهمات والتنازلات.

ورغم أن التوافق قد غلب في نهاية المطاف على المشهد الجديد وشكل أساسا لعمل المؤسسات الناشئة ورتب  أولويات المرحلة التي أفضت إلى انتخابات المجلس التأسيسي، إلا أن تلك التجربة لم تخل من تجاذبات وصراعات على عدة محاور، لكنها لم تصل إلى حد تهديد المسار العام للمرحلة الانتقالية. فقد ظل الجدل محتدما بين مكونات النخبة من سياسيين وممثلي هيئات المجتمع المدني وشخصيات عامة، وكانت حدة التوتر بينها تنخفض وتتصاعد بحسب طبيعة القضايا المطروحة للنقاش وتصادم التصورات تجاه تلك القضايا. فنحن إزاء مرحلة جديدة كلّيّا قامت على أنقاض مرحلة شائكة انعدمت فيها قنوات الحوار وارتفعت فيها الأسوار بين مكونات المجتمع ونشأت في ظلها صور نمطية متبادلة حكمت علاقات مختلف الأطراف فيما بينها من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. فأن تتعدد الأصوات ويحتد الجدل حول هذه القضية أو تلك في أعقاب ثورة أطاحت لتوها بدكتاتورية عاتية، فذلك غير مستغرب، بل هو أمر طبيعي في ظل اختلاف الرؤى وتباين الأجندات السياسية وتفاوت أوزان القوى السياسية الساعية إلى توسيع حضورها وزيادة تمثيلها في المؤسسات الجديدة. يضاف إلى ذلك حداثة جميع الأطراف بتجربة العمل المشترك من موقع صناعة القرار لا من موقع المعارضة.

إلى جانب استمرارية الدولة ووفاق النخبة، لعب الحراك الثوري دورا أساسيا في الضغط على حكومتي الغنوشي والسبسي من خلال حركة شعبية احتجاجية تمكنت من المحافظة على النفس الثوري واستعاد الشارع من خلالها موقعه المحوري في تحديد وجهة الأحداث في تلك اللحظات الحساسة من المرحلة الانتقالية. تعدّدت الأسباب التي فجّرت الغضب الشعبي مجددا ودفعت بالمتظاهرين للنزول إلى الشارع والاعتصام في ساحة الحكومة المعروفة بساحة "القصبة" في مناسبتين اثنتين عرفتا بـ"القصبة 1" و"القصبة 2". تركزت مطالب الثوار في اعتصام "القصبة 1"  (21)في التخلص من رموز النظام السابق وفي مقدمتهم رئيس الحكومة محمد الغنوشي ووزير داخليته أحمد فريعة، باعتبارهم استمرارا لذلك النظام، فرفعوا شعارات "الشعب يريد إسقاط النظام"، و"الشعب يريد إسقاط الحكومة". أما اعتصام القصبة 2 الذي انطلق في 20 فبراير/شباط وجدد مطالبته بإسقاط حكومة الغنوشي وحل "التجمع" (الحزب الذي كان حاكما قبل الثورة) وحل مجلس النواب وانتخاب مجلس تأسيسي، فقد انتهى باستقالة الغنوشي وتولي الباجي قايد السبسي رئاسة الوزراء لتبدأ المرحلة الانتقالية الثانية التي أفضت إلى تنظيم انتخابات المجلس التأسيسي وتولي حكومة حمادي الجبالي مقاليد السلطة.

هذه المزاوجة بين المسار الدستوري والمسار الثوري أو جدلية الشرعية الدستورية والشرعية الثورية في رسم ملامح الانتقال الديمقراطي وترتيب أولوياته وترجيح بعض الخيارات على حساب أخرى. فقد طرحت خلال تلك الفترة عدة خيارات لإدارة مرحلة ما بعد الثورة كان من بينها: انتخابات رئاسية يتولى إثرها الرئيس المنتخب حل المجلس النيابي وتنظيم انتخابات تشريعية جديدة، أو تنظيم انتخابات رئاسية وتأسيسية في نفس الوقت، كما طرح أيضا خيار تشكيل لجنة خبراء لإعداد دستور جديد يعرض على الاستفتاء وتنظم في إطاره انتخابات رئاسية وتشريعية. أما الخيار الذي رجح في نهاية المطاف فهو تنظيم انتخابات مجلس وطني تأسيسي يتولى وضع دستور جديد للبلاد كما يتولى مهام السلطة التشريعية وينتخب رئيسا مؤقتا ويشكل حكومة لإدارة المرحلة الانتقالية.

ما طبع التجربة التونسية في الانتقال الديمقراطي أيضا، وخاصة في مرحلتها الأولى، هو التردد وغياب اليقين في الطريق إلى المستقبل. وقد بدا ذلك التردد واضحا منذ اللحظة التي شغر فيها منصب الرئاسة وإعلان الغنوشي نفسه رئيسا للبلاد. لاشك أن التغيير المفاجئ الذي حصل بمغادرة الرئيس السابق التراب التونسي قد ولّد حالة من الحيرة لدى من بقي يمسك بزمام الأمر، وأربك حسابات المسؤولين وسادت بينهم الخشية من انهيار مؤسسات الحكم وبالتالي دخول البلاد في المجهول، فألجأهم ذلك إلى اعتماد تأويل مستعجل لنصوص الدستور سرعان ما استُبدل به تأويل مختلف. كما أن تساقط الحكومات في ظرف وجيز ومحاولة المزاوجة في إدارة المرحلة الانتقالية بين رموز النظام القديم والوجوه الجديدة لم تصمد طويلا فكانت الاستقالات تحدث من الجانبين وخاصة إبان حكومتي الغنوشي الأولى والثانية. غير أن ذلك لا ينبغي أن ينسينا دقة تلك المرحلة وتعقيداتها على جميع المستويات، لا سيما مع افتقاد الجميع للخبرة سواء من كان حاكما أو جاء إلى الحكم حديثا. ما تجدر الإشارة إليه هنا هو قدرة النخبة التونسية، رغم تلك التعقيدات، على إدارة المرحلة الانتقالية بنجاح وتفادي مخاطر الانزلاق إلى العنف أو الانتكاس إلى الخلف، وبالتالي إجهاض المسار الثوري وانتصار الحركة المضادة للثورة. أما ما يعرف بالثورة المضادة أو الحركة المضادة للثورة، وهو التعبير الأصوب، (فالعمل الذي يستهدف إجهاض الثورة وإعادة الأمور إلى سالف عهدها ليس ثورة ولو ألحقنا بها صفة المضادة)، فهو من طبائع الثورات ذاتها، وسنعود لمناقشته لاحقا.

بناء المؤسسات الانتقالية

لا يمكن الحديث عن مرحلة الانتقال الديمقراطي في التجربة التونسية دون التطرق إلى الحلقة الأساس التي وضعت معالم طريق تلك المرحلة وضبطت إيقاع المسار الانتقالي بمحطاته الرئيسة، ونقصد "الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي". لقد مثلت تلك الهيأة، رغم ما اكتنف تكوينها وصلاحياتها ومدى تمثيليتها لمختلف القوى السياسية والاجتماعية من جدل لم يتوقف طوال فترة عملها، الإطار الأساسي لحوارات النخبة ومشاوراتها ومفاوضاتها، منذ تأسيسها في 18 فبراير/شباط 2011 بمقتضى مرسوم رئاسي وإلى غاية إنهاء مهامها في 13 أكتوبر/تشرين الأول من العام نفسه.

لم تنشأ الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة من فراغ بل سبقتها ومهدت لها هيئتان سبقتا تكوينها، أولاهما "المجلس الوطني لحماية الثورة" والذي تشكل كليا خارج الأطر الرسمية وضم أحزابا سياسية ومنظمات وطنية وشخصيات عامة وسعى للحصول على موافقة رئاسة الدولة في محاولة لاعتماده الإطار الرسمي لتحقيق أهداف الثورة وإدارة المرحلة الانتقالية (22). وجدير بالذكر الإشارة هنا إلى معارضة بعض مكونات المجلس، وخاصة الأطراف اليسارية المكوّنة لـ"هيئة 14 جانفي" (يناير)، فكرة تشكيل هيئة عليا "رسمية" بصلاحيات شبه مطلقة، ورأوا فيها محاولة للالتفاف على أهداف الثورة وليس خدمة لها (23).

أما الهيئة الثانية التي سبقت نشأتها ولادة الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة فهي "اللجنة العليا للإصلاح السياسي"، وهي إحدى ثلاث لجان استشارية شكلتها حكومة الغنوشي بهدف الشروع في عملية إصلاحية في مجالات أساسية تتعلق بالإطار السياسي والقانوني، وقضايا الفساد والرشوة ونهب المال العام في العهد السابق، والتجاوزات الأمنية التي حصلت منذ اندلاع الثورة وذهب ضحيتها عشرات القتلى والجرحى. ترأّس اللجنة العليا للإصلاح السياسي أستاذ القانون عياض بن عاشور، قبل أن يتولى لاحقا رئاسة الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة، وترأّس الخبير القانوني عبد الفتاح عمر اللجنة الوطنية لتقصي الحقائق حول الرشوة والفساد، في حين عادت رئاسة اللجنة الوطنية لاستقصاء التجاوزات إلى توفيق بودربالة، الرئيس السابق للرابطة التونسية للدفاع عن لحقوق الإنسان.

من أبرز الأهداف التي سعت لجنة الإصلاح السياسي لتحقيقها تنقية المنظومة القانونية المتعلقة بالعملية الانتخابية بما في ذلك مراجعة المجلة الانتخابية وقانوني الصحافة والأحزاب وتنقيح القوانين المنظمة للحريات الأساسية. وقد ضمت في عضويتها خبراء وأساتذة في القانون العام والعلوم السياسية من مختلف كليات الجامعة التونسية، إلى جانب عدد من القضاة من سلكيْ القضاء العدلي والقضاء الإداري. وإذا كان إدماج المجلس الوطني لحماية الثورة في الهيئة الوليدة قد أثار اعتراضات بعض مكوناته كما سبق ذكره، فإن اندماج لجنة الإصلاح السياسي في تلك الهيئة جاء بمثابة تطور طبيعي بحكم تماثل وظائفهما واشتراكهما في ذات الرئيس.

جاءت الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة إذن لترث ما سبقها من مبادرات تأسيسية وتصبح الهيكل الرئيس لإدارة المرحلة الانتقالية. وقد عُهد برئاستها لأستاذ القانون الدستوري، عياض بن عاشور وضمت في عضويتها، التي شهدت عمليات توسعة متتالية، ممثلين عن 12 حزبا سياسا (24) وعن 18 هيئة وجمعية ومنظمة من منظمات المجتمع المدني على رأسها الاتحاد العام التونسي للشغل والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، والهيئة الوطنية للمحامين وجمعية القضاة، ونقابة الصحفيين، بالإضافة إلى عدد من الشخصيات الوطنية وممثلين عن الجهات وعن عائلات شهداء ثورة 14 يناير/كانون الثاني.

تكمن أهمية هذا الإطار في عدة نواح أهمها تمثيلها للشرعيتين الدستورية والثورية، وصلاحياتها الواسعة، وطبيعتها التأسيسية. فقد جمعت الهيئة في تركيبتها طيفا واسعا من مكونات المجتمع التونسي بأحزابهم السياسية ومنظماتهم المدنية وشخصياتهم الوطنية والعامة، والأهم من ذلك، بمطالبهم الثورية في القطع مع المرحلة السابقة من حيث رموزها وسياساتها ومنظومتها التشريعية. فالحوار المفتوح في كل القضايا، برغم ما كان يعتريه من تشنجات دفعت بعض الأطراف إلى الانسحاب من الهيئة ثم العودة إليها،  أسس لثقافة تداولية كانت غائبة على الجميع، ودفع الكل للاعتراف بالكل وتجاوز عقلية الإقصاء المتبادل التي قامت عليها سياسة النظام السابق. من جهة أخرى لم تكن الهيئة تعمل خارج الأطر الدستورية والقانونية القائمة. فقد نشأت بمرسوم رئاسي وعملت كجزء من منظومة انتقالية يرأسها رمزان من رموز النظام السابق على مستوى الحكومة، والأسبق على مستوى رئاسة الدولة.

لقد جمعت الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة بين يديها صلاحيات واسعة ولكنها في الوقت نفسه تحملت مسؤولية تاريخية في نقل البلاد من مرحلة ثورية في غياب شرعية مؤسسية إلى مرحلة المؤسسات الشرعية التي تستبطن روح الثورة وتسهر على تحقيق أهدافها. جاء في الفصل الثاني من المرسوم المؤسس للهيئة أنها تتعهد "بالسهر على دراسة النصوص التشريعية ذات العلاقة بالتنظيم السياسي واقتراح الإصلاحات الكفيلة بتجسيم أهداف الثورة بخصوص المسار الديمقراطي". انطلاقا من الصلاحيات الممنوحة لها، أصدرت الهيئة خلال الأشهر الثمانية من عملها، عددا من مشاريع المراسيم والقوانين لتنظيم الحياة السياسية والعامة كان من أبرزها المرسوم عـدد 27 لسنة 2011 المؤرخ في 18 أبريل/نيسان 2011، والذي نشأت بمقتضاه اللجنة العليا المستقلة للانتخابات.

ورغم الصبغة الاستشارية الواردة في نص المرسوم الذي أنشأها، إلا أن أغلب مقترحات الهيأة تحولت إلى قرارات نافذة ثم إلى واقع تشكل بالتدريج وأسس لسلسلة الإجراءات القانونية والتنظيمية التي أطرت عملية الانتقال وأوصلت البلاد إلى انتخابات المجلس التأسيسي. فإذا كانت الحكومة قد شُغلت بتسيير شؤون الدولة في ما يخص عملها اليومي إلى جانب إدارتها لملفات الاقتصاد والأمن والسياسة الخارجية، فإن الهيئة قد وضعت الإطار التشريعي العام وأسست لنظام سياسي جديد. لقد نجحت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، التي أفرزتها هيئة تحقيق أهداف الثورة وأوكلت رئاستها إلى الناشط الحقوقي والرئيس السابق لشبكة المتوسطية لحقوق الإنسان، كمال الجندوبي، في تنظيم أول انتخابات حرة ونزيهة وشفافة في تاريخ تونس، انبثق عنها المجلس الوطني التأسيسي، أولى مؤسسات الثورة  ذات الشرعية الانتخابية.

أفرزت الانتخابات التي انتظمت يوم 23 أكتوبر/تشرين الأول 2011 مشهدا سياسيا كان متوقعا في مجمله وإن اختلفت التفاصيل والأوزان. فقد فازت حركة النهضة ذات التوجه الإسلامي، بزعامة راشد الغنوشي، بأغلبية نسبية حازت بموجبها على 90 مقعدا في المجلس التأسيسي الذي يبلغ مجموع مقاعده 217 مقعدا، تلاها في الترتيب حزب المؤتمر من أجل الجمهورية بزعامة منصف المرزوقي بـ30 مقعدا، ثم التكتل من أجل العمل والحريات بزعامة مصطفى بن جعفر، بـ21 مقعدا. وتوزعت بقية المقاعد على الأحزاب والمترشحين المستقلين. وإذا كان ثمة من مفاجآت في نتائج الانتخابات فهي فوز كتلة "العريضة الشعبية للحرية والعدالة" برئاسة الهاشمي الحامدي، الذي يعيش في لندن ويدير فضائية المستقلة من هناك، بـ26 مقعدا وحلت بذلك في المرتبة الثالثة في قائمة الفائزين. لقد تقدمت "العريضة" على أحزاب معروفة ولها تاريخها ومؤسساتها مثل الحزب الديمقراطي التقدمي بزعامة أحمد نجيب الشابي وحركة التجديد بزعامة أحمد إبراهيم وحزب العمال الشيوعي التونسي بزعامة حمة الهمامي. المفاجأة الثانية وهي مرتبطة بالأولى، تتعلق بما كشفت عنه الانتخابات من انحسار عام لشعبية القوى السياسية ذات التوجه اليساري وعلى رأسها الأحزاب المذكورة أعلاه. ولا يختلف الأمر في ذلك بين الأحزاب الراديكالية والإصلاحية حيث حصل حزب العمال الشيوعي على 3 مقاعد وحصل القطب الحداثي الذي يضم عدة أحزاب أبرزها الحزب الاشتراكي اليساري وحركة التجديد على 5 مقاعد، بينما اكتفى الحزب الديمقراطي التقدمي بـ17 مقعدا بينما كانت التوقعات تضعه ضمن أكبر المنافسين لحركة النهضة ذات التوجهات الإسلامية.

مثل انتخاب المجلس التأسيسي خطوة هائلة باتجاه طي صفحة الماضي وإرساء قواعد النظام السياسي الجديد، كما أنقذ التونسيين من متاهات النقاشات السياسية والدستورية العقيمة التي غرقت فيها ثورات الربيع العربي الأخرى وخاصة الثورة المصرية. فقد قامت بموجب هذه الانتخابات أول مؤسسة سيادية ذات شرعية كاملة وتتمتع بصلاحيات تأسيسية وتشريعية لا سلطة عليها لأحد غير المجلس ذاته. وإذا كانت الوظيفة الأساسية للمجلس التأسيسي هي كتابة الدستور، فإن أولى مهامه تمثلت في انتخاب رئيس للجمهورية يتولى بدوره تسمية رئيس للحكومة. ومع تشكيل أول حكومة تونسية بعد الثورة منبثقة من خيار الشعب، اكتملت الأركان الأساسية للنظام السياسي الانتقالي في إطار من الشرعية الانتخابية التي افتقدتها حكومتا الغنوشي والسبسي. وبذلك دخلت تونس مرحلة جديدة في تاريخها السياسي المعاصر وتجاوزت كثيرا من التعقيدات السياسية والقانونية التي لا تزال بقية ثورات الربيع العربي تسعى لتجاوزها.

ما يعزز من حظوظ نجاح التجربة الانتقالية التونسية، بعد الخطوات التي قطعتها ووصلت بها إلى انتخاب المجلس التأسيسي هو تشكيل حكومة ائتلافية ضمت الأحزاب الثلاثة الفائزة في الانتخابات والتي حصلت مجتمعة على نحو ثلثي مقاعد المجلس التأسيسي: حركة النهضة وحزب المؤتمر من أجل الجمهورية والتكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات إلى جانب عدد من الشخصيات المستقلة. ورغم ما بين هذه الأحزاب الثلاثة من فوارق أساسية، حيث تنحدر من خلفيات أيديولوجية وسياسية متباينة منها الإسلامي ومنها الليبرالي ومنها الاشتراكي اليساري، فقد تمكنت عبر مفاوضات دامت عدة أسابيع من تشكيل ائتلاف حكومي قطع مع مرحلة حكومة الحزب الواحد التي امتدت منذ استقلال تونس عام 1956 وإلى غاية سقوط رأس النظام في يناير 2011.

عوائق في الطريق

ككل التحولات التاريخية الكبرى، لا سيما تلك التي تعقب ثورات شعبية تطيح بموازين القوى القديمة وتسعى لإرساء موازين جديدة، يعترض بناء النظام الجديد في تونس جملة من العوائق نشير إلى أبرزها في ما يلي:

الحركات والقوى المضادة للثورة
إن النظم الاستبدادية بطبيعتها العنكبوتية، حيث تتداخل مصالح الحكم برأس المال وتُستخدم آلة الإعلام لتجميل قبح السياسة، وتُستقطب النخب الثقافية لتتحول إلى أجهزة لتبرير سياسة النظام فتستقيل من أداء دورها الإبداعي والنقدي وتكتفي بلعب دور "كلاب الحراسة" بتعبير بول نيزان، تتحول في لحظة السقوط إلى حركة مقاومة تبرز وتخمد بحسب ما تتخذه قوى الثورة من سياسة تجاهها، وتستخدم كل السبل ما كان مشروعا وما لم يكن، لاستجماع قوتها والتحرك في الوقت المناسب لاسترداد مواقعها. ولأن الثورة إذا قامت لا تطيح بالنظام كله من الوهلة الأولى وإنما تكثّف جهدها لإسقاط رأس النظام أولا، فإن ما ينشأ عن الثورة من روح انتصارية وما يعقبها من تعقيدات الانتقال الفجائي والسريع غالبا ما يغرق القوى الثورية في تفاصيل تلهيها عن مقاومة ما بقي من النظام القديم وتفكيك البنى التي كانت تسنده وتستفيد منه. تلك الطبيعة العنكبوتية يصعب معها تحديد ما يبقى من تلك البنى وما ينحلّ منها على إثر سقوط رأس النظام، فلكل بلد ظروفه ولكل ثورة طريقتها في التعامل مع الحركة المضادة لها. وفي المثال التونسي، تظل بقايا "التجمع" الذي كان حاكما زمن بن علي وحُل بقرار قضائي بعد الثورة، المحور الذي تدور حوله وتلتقي معه ذاتيا وموضوعيا بقية القوى التي أطاحت الثورة بمصالحها أو تضررت مواقعها المادية والرمزية جراء ما أفرزه الانتقال الديمقراطي من قوى وأفكار وسياسات جديدة. ولا يقتصر الحديث هنا على بقايا النظام القديم أو من خدمه وتحالف معه، بل يشمل أحيانا بعض القوى الثورية التي قد تكتشف أن تناقضها مع النظام الذي أفرزته الثورة لا يقل حدّة وعمقا عن تناقضها مع النظام الذي أطاحت به. ومن يريد أن يرصد الحركة المضادة للثورة في تونس، لا بد وأن يقف على نفَسها مبثوثا في وسائل الإعلام وفي عدد من التشكيلات الحزبية وفي ساحات القضاء وفي دورات الانفلات الأمني المنتظمة والتي يصعب تصور حدوثها عفويا دون تخطيط وتنسيق (25). نجحت الثورة التونسية إلى حد الآن في ترسيخ أقدامها وخاصة على الصعيد السياسي وبناء المؤسسات الانتقالية ولكنها ما تزال تواجه صعوبات كبيرة على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، جراء انكشاف زيف مقولة "المعجزة الاقتصادية" التي روّجها النظام السابق طيلة فترة حكمه وساعده على ترويجها دوليا ولدى المؤسسات المالية العالمية من كان يدعم سياساته في الخارج (26)

التحدي الاقتصادي والاجتماعي
إلى جانب الركود والارتباك وأحيانا التوقف في السير الطبيعي لبعض القطاعات الاقتصادية أثناء الثورة وبعدها مباشرة نظرا لما يصاحب الثورات عادة من فوضى وانفلات وانهيار للانضباط العام، فقد ورثت الثورة التونسية تركة اقتصادية ثقيلة كشفت عن حجم التناقض بين الخطاب السياسي لنظام بن علي بأرقامه الوهمية، وواقع الحال الذي لا يبعد وصفه كثيرا عن الوضع الكارثي. فنسبة نمو الاقتصاد كانت سلبية حيث بلغت 1,8 تحت الصفر، كما كشفت الأرقام أن عدد العاطلين عن العمل بلغ 700 ألف عاطل بنسبة تتجاوز 18% من القوة العاملة. وكان آخر المؤشرات السلبية لأداء الاقتصاد التونسي تخفيض التصنيف الائتماني السيادي لتونس إلى الدرجة عالية المخاطر بسبب ضعف مؤشرات الاقتصاد والمالية العامة والدين الخارجي.

أما على الصعيد الاجتماعي، فقد خلّف نظام بن علي وراءه نسبة عالية من الفقر تمس ربع سكان تونس حيث وصلت إلى نحو 25?، وذلك وفقاً للمقاييس العالمية التي تحدد عتبة الفقر بدولارين للفرد الواحد يومياً. ونظرا لاختلال ميزان التنمية الجهوية سواء في العهد السابق أو في عهد الرئيس بورقيبة،  فإن الفقر يسود في أغلب المناطق ما عدا الشريط الساحلي حيث تتركز المشاريع التنموية الكبرى وتُضخ رؤوس الأموال والاستثمارات الداخلية والخارجية وخاصة في القطاع السياحي الذي يشغل نسبة نحو 12% من اليد العاملة التونسية. في البلاد ترتفع نسبة الفقر في المناطق الداخلية وخاصة في الجنوب والغرب والجنوب الغربي حيث تتركز الاحتجاجات وتتواصل منذ انطلاق شرارة الثورة وإلى يومنا هذا، مطالبة بتحسين ظروف العيش وتوفير فرص العمل وتحسين الخدمات الأساسية المتردية في جل تلك المناطق والمفقودة في بعضها من الأساس. لا يكمن الخطر في تلك الاحتجاجات في موجة الغضب التي تصاحبها فتتحول أحيانا إلى أشكال من العنف تستهدف مصالح الدولة وممثليها ورموزها فحسب (27)، وإنما في تهديدها لاستقرار تلك المناطق وهروب المستثمرين إلى مناطق أكثر أمنا، وربما مغادرة البلاد أصلا، فيستمر التهميش وتستفحل البطالة وندخل في حلقة مفرغة يصعب كسرها والخروج منها.

ورغم هذه الصعوبات والتي من المنتظر أن يطول أمد معالجتها، فإن هناك أربعة إنجازات أساسية تحققت في عهد الحكومة الانتقالية: أولها منع الاقتصاد الوطني من الانهيار، وثانيها الحفاظ على حد معقول من احتياطيات النقد الأجنبي وثالثها السيطرة على التضخم، وآخرها عكس المسار السلبي لنسبة النمو واستعادة الاقتصاد نموه الإيجابي بتحقيق ارتفاع ما زال الجدل بشأن نسبته الحقيقية دائرا (28).

المحيط الإقليمي
كما كسبت الثورة التونسية أصدقاء في محيطها الإقليمي وعلى الصعيد العالمي، لا سيما بعد سقوط نظامي مبارك والقذافي وبعد نجاح النظام المغربي في إدخال إصلاحات سياسية ودستورية أعادت توزيع مناسيب السلطة بين مكونات النظام السياسي، ومنحت الحكومة صلاحيات لم تكن تتمتع بها الحكومات السابقة، فإن ثمة من بين بين القوى الإقليمية القريبة والأبعد نسبيا من يرى في الربيع العربي تحولا ليس في مصلحته. ومثلما توجد في الداخل قوى مضادة للثورة ففي الخارج أيضا قوى مضادة للثورة تسعى لإرباكها سعيا للحد من تأثيراتها سواء عبر العمل الميداني المشترك بين طرفي الداخل والخارج، أو بتقديم دعم استخباراتي ومادي ولوجستي لمجموعات عابرة للإقليم تشترك في نظرتها للثورة مع نظرة تلك القوى الإقليمية وتلتقي معها موضوعيا على إجهاضها. ولا تزال قوى الأمن التونسية تواجه الاختراقات الأمنية المتكررة عبر حدودها الجنوبية والغربية. وسيظل المحيط الإقليمي مؤثرا إلى حد كبير في مدى تقدم التجربة الانتقالية في تونس أو تعثرها، لا سيما مع التطورات التي تشهدها مالي والتدخل الفرنسي عبر الأجواء الجزائرية وما يمكن أن ينجرّ عنه من تهديد لأمن المنطقة المغاربية بأسرها. في حال نجاحه، سيدفع التدخل الفرنسي مدعوما بحلفائه الأفارقة والأوروبيين والأميركيين، القاعدة وعناصر الجماعات المسلحة إلى إعادة انتشارها خارج شمال مالي، ما يعني ذلك تدفقا للسلاح والمقاتلين واللاجئين إلى الدول المجاورة.. ولن تكون تونس بوضعها الأمني الهش بمنأى عن تلك التداعيات التي ستضيف إلى تعقيدات التجربة الانتقالية عناصر إرباك جديدة.

النموذج التونسي.. رؤية مستقبلية

بالمقارنة مع المسارات الانتقالية التي تسلكها بقية بلدان الربيع العربي، تبدو تونس وكأنها قطعت الأشواط الأكثر تعقيدا وأنها في طريقها إلى تحقيق سبق عربي في ترسيخ قواعد النظام الديمقراطي كما سبقت في تفجير أولى ثورات الربيع العربي. فهي تمتلك كل المقومات لتحقيق هذا الإنجاز التاريخي، وقد سلكت إلى ذلك طريقا يبدو إلى حد الآن سليما في خطه العام. فالمسار السياسي الذي بدأ بانتخاب المجلس الوطني التأسيسي وإقامة المؤسسات الانتقالية سيفضي في غضون أشهر قليلة إلى كتابة دستور جديد للبلاد، وتنظيم أول انتخابات رئاسية وتشريعية تطوي صفحة المرحلة الانتقالية وتنقل تونس إلى وضع جديد تتغير فيه قواعد اللعبة السياسية عما كانت عليه منذ أن استقلت وأرخت زمامها إلى حزب واحد استبد بها وهيمن على مقدراتها وعمل على تدميرها تحت عناوين ومسميات مختلفة.

ما يخشى معه في المرحلة القادمة هو اختلال التوازن في القوى السياسية بين التيار الإسلامي من جهة وبقية المكونات الأخرى. وإذا كانت نتائج انتخابات المجلس التأسيسي قد دفعت الإسلاميين إلى تشكيل ائتلاف حكومي صمد إلى حد الآن في مواجهة تحديات المرحلة الانتقالية، فإن احتمال أن تفوز حركة النهضة بنتيجة أوسع في الانتخابات القادمة يظل قائما خاصة إذا تغير القانون الانتخابي الحالي والذي يمنع حصول أي حزب على أغلبية مطلقة. في ظل موازين القوى الحالية، ومع النزعة الراديكالية التي تطبع خطاب المعارضة وسلوكها السياسي، لا يبدو أن الأشهر القادمة ستأتي بتغيير حقيقي سوى في اتجاه مراكمة الإسلاميين لمزيد من المكاسب والأصوات، وبالتالي تكريس الخلل القائم في المعادلة السياسية. لقد شهدت الفترة الماضية عدة محاولات لإعادة تشكل بعض قوى المعارضة في أطر حزبية وجبهوية جديدة ولكنها لم تفض إلى حد الآن إلى نتيجة ملموسة على الأرض. وحتى التكتلات التي نشأت خلال الأشهر الماضية لا يبدو أنها قادرة على إحداث التوازن المطلوب إذ تشقها تناقضات جوهرية ولن يكفي التقاؤها على قاعدة معارضة حركة النهضة لتحويلها إلى قوة سياسية منافسة. من بين تلك التكتلات: "الجبهة الشعبية" ذات التوجه اليساري (29)، وحركة "نداء تونس" التي يتزعمها رئيس الوزراء السابق الباجي قايد السبسي وتجمع وجوها من أقصى اليسار ومن بقايا الدستوريين وعددا من رجال الأعمال، ويتهمها خصومها بأنها مظلة لعودة "التجمع الدستوري الديمقراطي"، الحزب الحاكم سابقا، والذي قامت الثورة لإنهاء حكمه ووقع حله بحكم قضائي في مارس/آذار من العام 2011.

ستستمر تلك المحاولات خلال الأشهر وربما السنوات القادمة إلى أن تجد الحياة الحزبية التونسية توازنها في إطار عائلات سياسية وفكرية كبيرة مثل العائلة الإسلامية والعائلة اليسارية والعائلة الليبرالية والعائلة العروبية. وإلى أن يحدث ذلك لن يكون هناك من سبيل إلى توازن آخر غير التوافق والتآلف على الحد الأدنى وهو ما جمع بين مكونات الترويكا الحاكمة في هذه المرحلة الانتقالية بكل تعقيداتها.
______________________________________
د. عز الدين عبد المولى - رئيس قسم البحوث والدراسات بمركز الجزيرة للدراسات

المصادر والهوامش
(1) انظر مقالة ليزا أندرسون بعنوان "نقد مقاربة الثقافة الديمقراطية":
Anderson, Lisa. "Critique of the Political Culture Approach" in Rex Brynen and Bahgat Korany (eds.), Political Liberalization & Democratization in the Arab World: Vol.1, Theoretical Perspectives (Lynne Rienner Publishers, 1995). p. 78
(2) Lipset, Seymour M. "Some Social Requisites of Democracy: Economic Development and Political Legitimacy", The American Political Science Review, Vol. 53, No. 1, March 1959) p. 75.
(3) لمزيد من التفصيل حول أطروحات المدرسة البنيوية ورؤيتها للتحول الديمقراطي، انظر دراسة بارينغتون مور بعنوان "الأصول الاجتماعية للديكتاتورية والديمقراطية"، وكذلك الدراسة المطولة التي حررها ديتريتش روشماير وإفلين ستيفن وجون ستيفن بعنوان "النمو الرأسمالي والديمقراطية".
(4) Gabriel A. Almond and Sidney Verba, The Civic Culture: Political Attitudes and Democracy in Five Nations (Princeton University Press, 1963), p. 8
(5) انظر دراسة دنكوارت راستو عن الانتقال نحو الديمقراطية بعنوان "تحولات نحو الديمقراطية"
(6) من أبرز الأعمال التي ألفت حول المقاربة الانتقالية، المجلدات الأربعة التي حررها كل من فيليب شميتر وغيلرمو أودونيل ولورنس وايتهاد وصدرت تحت عنوان: الانتقال من النظام التسلطي.. نحو آفاق ديمقراطية.
وكذلك أعمال جوان لينز وألفرد ستيبان: مشكلات الانتقال الديمقراطي وترسيخ الديمقراطية: جنوب أوروبا وأميركا الجنوبية وأوروبا ما بعد الشيوعية
(7) انظر: العربي صديقي، البحث عن ديمقراطية عربية: الخطاب والخطاب المقابل، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2007
(8) انظر: مارينا أوتاواي وجوليا شقير فيزوسو، ما وراء الواجهة: الإصلاح السياسي في العالم العربي
Ottaway, Marina and Choucair-Vizoso, Julia. Beyond the Façade: Political Reform in the Arab World (Carnegie Endowment for Peace, 2008), p. 7
(9) انظر: مقال أيمن الزمالي، بعنوان: خلافا للأحزاب.. الجمعيات والمنظمات لم تتأقلم مع المرحلة الانتقالية، جريدة الصباح التونسية، بتاريخ 5 مايو/أيار 2011.
(10) انظر: توفيق المديني، المعارضة التونسي: نشأتها وتطورها، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق 2001، ص290
(11) ضمت الهيئة كلا من حركة النهضة الإسلامية وحزب العمال الشيوعي التونسي والحزب الديمقراطي التقدمي وحزب التكتل من أجل العمل والحريات وحزب المؤتمر من أجل الجمهورية إلى جانب عدد من الشخصيات الوطنية، وأصدرت على مدى أربع سنوات عددا من البيانات والوثائق الهامة مثلت أرضية مشتركة بين مكونات المعارضة التونسية من بينها: "حرية الضمير والمعتقد"، "العلاقة بين الدين والدولة"، "حقوق المرأة والمساواة بين الجنسين".
(12) يذكر في هذا الصدد أن الحزب الديمقراطي التقدمي وحركة التجديد شاركا بوزراء في حكومتي محمد الغنوشي اللتان أعقبتا سقوط بن علي.
(13) صدر دستور 1961 في عهد محمد الصادق باي (1859-1882) بمقتضى نص وثيقة عهد الأمان وبدأ العمل به يوم 26 أبريل/نيسان 1861 وأوقف العمل به إثر اندلاع ثورة علي بن غذاهم سنة 1964. وقد نظم هذا الدستور الحياة السياسية في تونس على أساس الفصل بين السلط الثلاث والحد من سلطة الباي الذي اعتبر مسؤولا أمام المجلس الأكبر.
(14) وهو عبارة عن برلمان يتكون من 60 عضوا يعينون لمدة خمس سنوات ويتم تعويضهم تدريجيا بالقرعة. ومن وظائف المجلس الأكبر التشريع والسهر على تنفيذ الدستور.
(15) صدرت وثيقة "عهد الأمان" في سبتمبر من العام 1857 في عهد محمد باي بعد سلسلة من الإصلاحات على يد سلفه أحمد باي في مجالات سياسية واجتماعية وإدارية توّجت بصدور قانون إلغاء الرق سنة 1864.
(16) من المادة الأولى من وثيقة "عهد الأمان".
(17) من المادة الثانية من وثيقة "عهد الأمان".
(18) تأسس الحزب الحر الدستوري كأول حزب وطني تونسي في شهر مارس من العام 1920 على يد عبد العزيز الثعالبي. وحتى الحزب الذي انشق عنه بقيادة الحبيب بورقيبة حافظ على نفس الاسم مع إضافة "الجديد" للتمييز بينه وبين الحزب الأصلي.
(19) ينص الفصل 56 من الستور التونسي القديم والمعروف بدستور 1959 على التالي: لرئيس الجمهوريّة إذا تعذّر عليه القيام بمهامّه بصفة وقتية أن يفوّض بأمر سلطاته إلى الوزير الأوّل ما عدا حق حل مجلس النوّاب.
(20) ينص الفصل 57 من الدستور على التالي: عند شغور منصب رئيس الجمهورية لوفاة أو لاستقالة أو لعجز تام، يجتمع المجلس الدستوري فورا، ويقرّ الشغور النهائي بالأغلبية المطلقة لأعضائه، ويبلغ تصريحا في ذلك إلى رئيس مجلس المستشارين ورئيس مجلس النوّاب الذي يتولّى فورا مهام رئاسة الدولة بصفة مؤقّتة.
(21) انطلق اعتصام "القصبة 1" في 23 يناير/كانون الثاني 2011، أي خلال عشرة أيام فقط من رحيل بن علي.
(22) جاء في الفصل الثاني من مشروع المرسوم الذي أعده المجلس لتقديمه لرئيس الدولة من أجل الاعتماد ما يلي: إعداد مشاريع النصوص التشريعية ذات العلاقة بالتنظيم السياسي والكفيلة بتحقيق أهداف الثورة... بالإضافة إلى صياغة مشروع قانون خاص بانتخاب مجلس تأسيسي يعهد له وضع دستور جديد للبلاد وإقرار الصيغة العملية والقانونية والآليات التي تضمن إجراء انتخابات حرة وديمقراطية ونزيهة.. ومراقبة أعمال الحكومة والتوافق مع الرئاسة المؤقتة للجمهورية حول آليات تسيير المرحلة الانتقالية.
(23) انظر نص "بيان حزب العمال حول "الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي" بتاريخ 15 مارس/آذار 2011 حيث جاء أن الحزب يعتبر "أن الهدف من هذه الهيئة هو الالتفاف على "المجلس الوطني لحماية الثورة" وإجهاضه" وبالتالي فإنه "يؤكد تمسكه بالمجلس الوطني لحماية الثورة إطارا لقيادة المرحلة الانتقالية".
(24) الأحزاب التي شاركت في تكوين الهيأة العليا لتحقيق أهداف الثورة هي: حركة الديمقراطيين الاشتراكيين، حركة التجديد، الحزب الديمقراطي التقدمي، حركة النهضة، المؤتمر من أجل الجمهورية، التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات، الحزب الاشتراكي اليساري، حزب العمل الوطني الديمقراطي، حزب تونس الخضراء، حزب الإصلاح والتنمية، حركة الوطنيين الديمقراطيين، حزب الطليعة العربي الديمقراطي.
(25) بعد الفشل المتكرر لهذه القوى في إجهاض المسار الثوري ومن بعده المسار الانتقالي وانتصاب شرعيات الحكومة ورئاسة الدولة وخاصة المجلس التأسيسي، برزت إلى السطح  دعوات إلى إسقاط حكومة الثورة وانتهت إلى دعوة الجيش للتدخل وتولي زمام السلطة. جاء ذلك على لسان أحمد منصور رئيس "الحزب الدستوري الجديد". انظر كذلك تصريح الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل حسين العباسي على موجات إذاعة شمس أف أم بتاريخ 13 يونيو/حزيران 2012 حيث دعا إلى تدخل قوات الجيش لحماية مقرات الاتحاد بكافة تراب الجمهورية بحجة ما تواجهه قوات الأمن من ضغوط جعلها تخفق في القيام بدورها.
(26) كان أول من بدأ بترويج هذه المقولة الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك.
(27) يذكر هنا احتجاجات بعض أهالي سيدي بوزيد بمناسبة إحياء الذكرى الثانية لانطلاق شرارة الثورة في 17 ديسمبر/كانون الأول 2012، والتي رُشق فيها الرئيس منصف المرزوقي ورئيس المجلس الوطني التأسيسي مصطفى بن جعفر بالحجارة وسط شعارات تطالب برحيلهما.
(28) في حين صرحت الحكومة على لسان رئيسها حمادي الجبالي بأن تلك النسبة بلغت 4.8% في الربع الأول من العام الجاري مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي الذي شهد سقوط الرئيس بن علي، تشكك بعض الأوساط في تلك النسبة وترى أنها قد لا تتجاوز 1,2%.
(29) تتشكل الجبهة الشعبية من أحزاب أغلبها ذات توجهات يسارية أو قومية أبرزها: حزب العمال التونسي (بعدما تخلى عن صفة "الشيوعي")، حركة الوطنيون الديمقراطيون، حزب العمل الوطني الديمقراطي، رابطة اليسار العمالي، الحزب الوطني الاشتراكي الثوري، حزب الطليعة العربي الديمقراطي، حركة البعث، حركة الشعب..

 

المراجع
الدستور التونسي، (1959)

توفيق المديني، المعارضة التونسي: نشأتها وتطورها، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق 2001

Anderson, Lisa. "Critique of the Political Culture Approach" in Rex Brynen and Bahgat Korany (eds.), Political Liberalization & Democratization in the Arab World: Vol.1, Theoretical Perspectives (Lynne Rienner Publishers, 1995).

Lipset, Seymour M. Some Social Requisites of Democracy: Economic Development and Political Legitimacy (The American Political Science Review, Vol. 53, No. 1, March 1959).

Moor, Barrington. Social Origins of Dictatorship and Democracy: Lord and Peasant in the Making of the Modern (Beacon Press 1966).

Rueschmeyer, D, Stephens, Evelyne H. and Stephens, John D. Capitalist Development and Democracy (Cambridge University Press 1992).

Rustow, Dankwart. Transitions to Democracy (Comparative Politics, Vol. 2, 337-63) 1970.

Gabriel A. Almond and Sidney Verba, The Civic Culture: Political Attitudes and Democracy in Five Nations (Princeton University Press, 1963).

Ottaway, Marina and Choucair-Vizoso, Julia. Beyond the Façade: Political Reform in the Arab World (Carnegie Endowment for Peace, 2008).

Schmitter, Philippe. (edited with Guillermo O'Donnell, Laurence Whitehead), Transitions from Authoritarian Rule: Prospects for Democracy, Volume I: Southern Europe; Volume II: Latin America; Volume III: Comparative Perspectives; Volume IV: Tentative Conclusions about
Uncertain Democracies; (Baltimore/London: The Johns Hopkins University Press,
1986).

Linz, Juan and Stepan, Alfred. Problems of Democratic Transition and Consolidation: Southern Europe, South America, and Post-Communist Europe. (Johns Hopkins University Press, 1996).

Sadiki, Larbi. The Search for Arab Democracy: Discourses and Counter-Discourses (Columbia University Press, 2004).

عودة إلى الصفحة الرئيسية للملف

نبذة عن الكاتب