
وجهة نظر المغرب كما يعبر عنها محمد العربي المساري ترى أن الأسلوب الأمثل لحل قضية الصحراء الغربية كان و ما يزال هو الانصياع إلى الواقعية والنظرة البعيدة لمصالح أقطار المنطقة سواء على انفراد أو كمجموعة.
![]() |
محمد العربي المساري |
وكان توقيع المغرب لاتفاق الحدود مع الجزائر سنة 1970 خطوة في سبيل التفرغ لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب، بتكوين جبهة موحدة إزاء إسبانيا لحملها على الجلاء. ولكن الجزائر تراجعت عن الاستغلال المشترك لغارة جبيلات، وأعطت تفسيرا خاصا للاتفاق بشأن المنجم، بينما استمرت من جهة أخرى في استمالة حكم فرانكو في إسبانيا من أجل تسوية مسألة الصحراء معها هي ولحساب مخططاتها في المنطقة.
وغض المغرب الطرف عن ذلك وأقدم على مبادرات مهادنة بعد جلاء إسبانيا عن الصحراء كانت تنم عن رغبته الأكيدة في تجنب التصعيد والبحث عن حلول تحفظ المظاهر. واستمر يتعامل مع الهيئات الدولية باعتدال ومرونة. وآخر مبادراته المهادنة أنه تقدم رسميا بمقترح الحكم الذاتي الذي يحظى الآن بتفهم المجتمع الدولي كما يظهر من خلال توصيات مجلس الأمن المتكررة منذ ثلاث سنوات.
وليس اقتناع المبعوث الدولي السفير بيتر فان والسوم بصواب الاتجاه المغربي إلا تأكيدا لما ذهب إليه الأمين العام السابق خافيير بيريث دي كويليار، وبعده المبعوث الأممي جيمس بيكر، حيث تأكد لكل من أمسك بملف الصحراء، فساد فكرة الاستقلال وعدم تطابقها مع الواقعية ومع مصالح دول الجهة.
إن الدول الكبرى وكل مهتم بأمن المنطقة، وخاصة إسبانيا بسبب جزر الكناري، لا يمكن أن ينظروا بعين الرضا إلى قيام كيان ضعيف في الساحل الممتد من مدينة طنجة إلى دكار، يكون مطية لأي مافيا لإقامة نظام طالبان جديد يسخر لزعزعة الاستقرار في المنطقة.
المغرب دولة تتصرف بمسؤولية، وتريد حقا أن يسود حسن الجوار و السلم والتعاون فيما بين دول المنطقة، وهذا ما يتجلى في سياسته إزاء إسبانيا وموريتانيا، ومن الواضح أن اختياراته تنسجم كلها مع الرغبة في المهادنة بينما كل تشدد يأتي من جانب الجزائر.
ولا يتصور المغاربة حلا لكل المشاكل، أيا كان نوعها إلا في دائرة الحوار والتفاهم والاتفاقات المفيدة لكل الأطراف. وهذه رغبة إجماعية بالمغرب، للحكومة والأحزاب في كل الأحوال وفي كل الأوقات.
المغرب دولة تتصرف بمسؤولية، وتريد حقا أن يسود حسن الجوار والسلم والتعاون فيما بين دول المنطقة، وهذا ما يتجلى في سياسته إزاء إسبانيا وموريتانيا كما تنسجم اختياراته مع الرغبة في المهادنة بينما كل تشدد يأتي من جانب الجزائر |
مستقبل المنطقة
سيكون مستقبل المنطقة مشحونا بالتوتر وباستمرار التحفظ المتبادل، في حال فشل مشروع الحكم الذاتي الذي يطرحه المغرب، وهو ما يهدد باندلاع نزاعات أخرى غير منتظرة وقد لا يمكن التحكم فيها، وهو ما لا نريده.
إن أحسن حال يسود المنطقة هو التخلي عن التشدد وتصفية كل أسباب النزاعات التي تنشب بين آونة وأخرى، هنا وهناك. فلا يمكن تصور أي تقدم للمنطقة إلا في ظل التفاهم والتقدير الواقعي للأحوال السياسية والاقتصادية والاستراتيجية.
ونستطيع القول باطمئنان إن المغرب سعى دائما إلى التوصل إلى تسويات للنزاعات بكل أنواعها الترابية والسياسية والاقتصادية، وذلك بالحوار الثنائي مع دول الجوار، وبالابتعاد عن سياسة المحاور، وعن ممارسة الضغوط بخشونة. بل المغرب شديد الرغبة في إقامة تعاون أمثل على صعيد جماعي لدول المنطقة في إطار هياكل كفيلة بانسجام المصالح وجلب الفوائد المشتركة.
وأسوأ ما يمكن تصوره في حالة استمرار التوتر والتحفظ المتبادل هو اغتنام جماعات المافيا لأجواء عدم التنسيق. ومن جهة أخرى نحن نكره تدخل الغرباء وخاصة من الدول الكبرى التي قد تتمكن إذا لم توفق دول المنطقة في تسوية خلافاتها فيما بينها من أن تفرض قراراتها طبقا لمصلحتها هي وليس خدمة لمصالح دول المنطقة.
وقد رأينا كيف أنه منذ ما لا يقل عن 15 سنة أصبحت الولايات المتحدة ممسكة بملف الصحراء، تتدخل كل ستة أشهر بمقاربة تستميل بها أحد الأطراف. وما دام المغرب والجزائر عاجزين عن تسوية نزاعاتهما، فإن الدول الكبرى ستظل مستمرئة اللعب على كل الحبال من أجل الوصول إلى فرض قراراتها.
وعلاوة على ما ذكر من أن استمرار التوتر يهدد بنشوء مشاكل جديدة ويسهل تدخل الغرباء، فإن استمرار الابتعاد عن البحث عن الحلول الواقعية يضيع فرص إقامة تعاون جهوي في المنطقة في أجواء عالمية تقتضي التظافر والتنسيق في حظيرة تجمعات سياسية اقتصادية كبرى أو متوسطة لا يقل حجم أسواقها عن 150 أو 200 مليون نسمة.
ونعني بهذا تعطيل قيام المغرب العربي الذي خططنا لقيامه في مؤتمر طنجة منذ خمسين سنة بالضبط. وكان ذلك في الوقت الذي بدأت فيه أوربا الدول الست تتجه إلى توحيد جهودها اقتصاديا وصولا إلى وحدة نقدية وجمركية ولم لا سياسية أيضا.
إن انعدام قيام المغرب العربي يكلف خسارة تقدر بحوالي 2% على الأقل من الدخل القومي كل سنة، لكل بلدان المنطقة. والخسائر تتراكم وتنعكس الأضرار على جميع اقتصادات دول المنطقة. الجزائر نفسها التي تراهن على ثروتها من الطاقة، ليست بمنجاة عن الخسائر. فالأحوال الاقتصادية والاجتماعية فيها ليست أفضل من المغرب وتونس.
ثم إن كل الملاحظين وكل المسؤولين في الهيئات الاقتصادية الدولية يوصون بإلحاح، بالإسراع بإنجاز المغرب العربي. وقد كرر مدير البنك العالمي الفرنسي دومينيك شتروس كاهن، وقبله مدير صندوق النقد الدولي الإسباني راطو، بفتح الحدود بين المغرب والجزائر معتبرين أن استمرار إقفال الحدود بين البلدين حالة غير عقلانية.
وكلاهما ندد بضعف التبادل التجاري بين بلدان المنطقة وهو تبادل لا يتجاوز5% في أفضل الحالات في حين أن الدول الأوروبية يصل التبادل فيما بينها جوالي 70%. وكل هذه الحقائق المادية والسياسية توضح أن الأضرار شاملة لكل دول المنطقة، وبالتالي نستطيع القول
إن الأضرار تتراكم وأنها تنذر بمستقبل غير مريح لكل دول المنطقة على صعيد فردي أو على صعيد حماعي.
المغرب سيقيم الحكم الذاتي بالمناطق الصحراوية حتى لو فشلت المفاوضات وسنحمل الجزائر كامل المسؤولية، نظرا لأن المغرب من جانبه قام بكل ما كان عليه القيام به لتسهيل إيجاد مخرج، ولا ننتظر أن تقبل الجزائر أو لا تقبل |
المغرب سيقيم الحكم الذاتي بالمناطق الصحراوية حتى لو فشلت المفاوضات.
وفي حالة استمرار الحال على ما هو عليه يمكن توقع ما أشرنا إليه من قبل من تراكم الأضرار. أما في حالة فشل المفاوضات بالذات، فإننا سنحمل الجزائر كامل المسؤولية نظرا لأن المغرب من جانبه قام بكل ما كان عليه القيام به لتسهيل إيجاد مخرج، وذلك منذ أن قبل على صعيد منظمة الوحدة الإفريقية في الثمانينيات إجراء استفتاء بإشراف المنظمة الإفريقية، ثم بمطالبته المتكررة أمام الأمم المتحدة بإيجاد حل سياسي مقبول.
وأخيرا قبل المغرب الاتجاه إلى تقرير المصير، ولكن على أن يشارك التصويت كل أبناء الإقليم، أي بمن فيهم الذين نفتهم إسبانيا أيام الكفاح الوطني، وأيضا اشترطنا أن يشارك فقط أبناء الصحراء، ولا يقبل أحد من مالي والنيجر وغيرهم ممن كانوا محتشدين في تبندوف. وبعد أن تم إفشال كل هذه الصيغ، التي قبلها المغرب تسهيلا للحل، تقدم بمشروع الحكم الذاتي.
وإذا فشلت المفاوضات بشأن المشروع الذي تقدم به المغرب، فإننا سنستمر كما أعلن ذلك الملك محمد السادس في خطاب 6 نوفمبر/ تشرين الثاني الأخير، في إقامة الحكم الذاتي بالمناطق الصحراوية، ولا ننتظر أن تقبل الجزائر أو لا تقبل. وأنا من فئة ترى أنه كان علينا أن نتجه إلى إقامة الجهوية الموسعة في الأقاليم الصحراوية منذ سنوات.
فقد كانت الخلاصات التي انتهينا إليها في ندوة أقيمت في مؤسسة علال الفاسي سنة 2003 تصب كلها في اتجاه الإسراع بإقامة الحكم الذاتي في المناطق الصحراوية وتعميمها على باقي الجهات باعتبار أن مستقبل المغرب مرتبط لأغراض تنموية وسياسية بتدبير شؤون البلاد على أساس الجهوية الموسعة.
وأذكر هنا بأن أول خطاب للملك الراحل الحسن الثاني بعد المسيرة الخضراء كان واضحا لدى مخاطبته أبناء الجنوب، بشأن "تخويلهم الكلمة في تسيير شؤونهم المحلية، واستثمار ثرواتهم مع احترام عاداتهم". وهذا قبل أن يطلب منا المنتظم الدولي أي شئ.
وبالإضافة إلي الخطاب الذي وجهه عاهل البلاد إلي أبناء الإقليم في أول يوم جمعة بعد خطاب المسيرة، كانت تصريحاته في الندوة الصحافية يوم 25 نوفمبر/ تشرين الثاني 1975، وفي خطابه أمام ممثلي سكان الأقاليم الجنوبية يوم 6 ديسمبر/ كانون الأول 1975، وفي حديث صحافي يوم السابع من نفس الشهر واضحة في الكلام عن "مراعاة الخصوصيات المحلية".
وكان المغرب عام 1976 قد أخذ بنظام جديد للجماعات المحلية، اعتبر لبنة في بناء الجهوية، وذلك بتفويت بعض الصلاحيات من السلطة التنفيذية إلي المجالس المنتخبة، وفي 1992 تضمن الدستور الجهوية كوحدة ترابية، و في 1997 تم تجسيم تصور عام لهيكل الجهة وصلاحياتها.
إن النقاش الذي يدور في بلادنا حول مسألة الجهوية منذ أكثر من ثلاثة عقود، يدفع إليه أمران: الأول هو نشدان الحكامة الجيدة، والثاني هو مراعاة الخصوصيات المحلية. ولم يعد أحد يجادل في عيوب التمركز، ولا في أهمية اللامركزية في التسريع بالتنمية.
وبانتشار التعليم برزت كفاءات في مختلف جهات البلاد، قمينة بأن تيسر تدبير الجهوية، وبثورة تكنولوجيا المعلومات دخلت المجتمعات كافة في مراجعة تامة لمفهوم المركز والهامش.
ومثلما شهد القرن الماضي فوران فكرة السيادة والاستقلال الوطني، فإن المرحلة التي دخلت فيها البشرية الآن تشهد فوران فكرة الخصوصية المحلية.
ومن الجدير بالذكر أن المشروع كما قدمه المغرب إلى الأمم المتحدة، هو ضرب من اللامركزية في صيغتها القصوى. فهو ينص على أن الجهاز التنفيذي سينبثق عن خريطة البرلمان الجهوي المنبثق بدوره عن انتخابات عامة. وستكون لأجهزة الجهة صلاحيات لتدبير التنمية الاقتصادية، من حيث التخطيط والشغل وتشجيع الاستثمارات والتجارة والصناعة والسياحة والفلاحة.
كما سيكون لتلك الأجهزة تدبير التجهيزات الأساسية من ماء وكهرباء وتجهيزات مائية و أشغال عمومية، ونقل. ومن حيث تدبير الشؤون العامة سيكون لها الإشراف على الشرطة.
وكذلك الشأن بالنسبة للثقافة والشؤون الاجتماعية من سكنى وتربية وصحة. وبالإضافة إلى ذلك كله سيكون للجهة نوع من المشاركة في تدبير العلاقات الخارجية للدولة، بإبرام اتفاقات مع جهات أخرى أجنبية. وسيكون للجهة صلاحيات لتدبير التراث الثقافي، ويبقى للدولة الاختصاص بالمن الوطني والدفاع والسياسة الخارجية والشؤون الدينية. ومن الطبيعي أن يعمم هذا النمط على جهات أخرى في المملكة. وكان الملك قد أعلن منذ سنوات أن البداية ستكون بجهة الجنوب وبجهة الشمال.
إذن أتصور أن المغرب سيمضي في تطبيق مشروعه، الذي سيكون بمثابة إصلاح جوهري لبناء الدولة، وسيستمر تعاوننا مع الأمم المتحدة في هذا الصدد.
وسيتاح لأبناء الإقليم أن ينهمكوا في تدبير شؤونهم في إطار المؤسسات التي سينتخبونها. وسيتزايد عدد أبناء الإقليم الذين يختارون العودة إلى ديارهم لأنهم سيجدون المجال رحبا يستوعبهم جميعا في ظل دولة ديموقراطية وحديثة ذات هياكل ومؤسسات قابلة للعيش.
إن عدد العائدين من تيندوف إلى الأقاليم الصحراوية يقدر حاليا بما لا يقل عن خمسة آلاف مواطن أقدموا على مغامرات قاسية من أجل التخلص من ظروف الاحتجاز في تيندوف. ومن هؤلاء مسؤولون سياسيون وعسكريون في الأجهزة التنظيمية للبوليساريو ومنهم مؤسسون لهذه المنظمة، وشيوخ قبائل، أعياهم الانخداع بسراب كان قد تراءى لهم منذ حوالي ثلاثين سنة. لقد تكاثر عدد العائدين حتى أصبح ممكنا أن يقام مؤتمر للبوليساريو فوق الأرض المحررة بالمغرب.
ونستطيع القول إن التعددية السياسية في المغرب قادرة على أن تستوعب مختلف التعبيرات السياسية الجهوية والعقائدية.
ومعنى كل هذا أننا لن ننتظر قبول الجزائر، ولن نطلب منها بعد الآن إلا شيئا واحدا وهو أن تفتتح الحدود القائمة بيننا وبينها كعنوان لتطبيع العلاقات. وذلك لأن استمرار إقفال الحدود يضر باقتصادنا وباقتصاد الجزائر، إذ يترك المجال مفتوحا أمام المهربين بدلا من التنقل الطبيعي للسكان وللسلع في ظروف قانونية واضحة.
المغرب يشعر بفداحة الخسارة التي نمنى بها جميعا في الجانب الثقافي بسبب إقفال الحدود بين البلدين، وسنظل ندعو الجزائر إلى أن تسود فيما بيننا وبينها علاقات طبيعية تسمح بأن يكون هناك تواصل اجتماعي بين السكان في البلدين |
وسنظل ندعو الجزائر إلى أن تسود فيما بيننا وبينها علاقات طبيعية تسمح بأن يكون هناك تواصل اجتماعي بين السكان في البلدين، وهم أقرب إلى بعضهم البعض من أي منطقة متجاورة في العالم. وسيظل مطروحا علينا نحن المغاربة، لأن النسق الديموقراطي السائد عندنا يسمح بذلك، أن نكثف الجهود من أجل تأمين التواصل فيما بين مكونات المجتمع المدني في البلدين. وسنبذل أكبر ما يمكن من الجهد من أجل تامين التواصل الثقافي.
المغرب يشعر بفداحة الخسارة التي نمنى بها جميعا في الجانب الثقافي، بسبب إقفال الحدود بين البلدين. لقد شاركت في مؤتمر اتحاد الأدباء العرب الذي انعقد بالجزائر، وأحسست بأننا نعاني من قطيعة فظيعة. ولدى عودتي طالبت في تصريح بأن يعمل المغرب –من جانب واحد- على إلغاء التأشيرة. وحينما تم بالفعل إلغاء التأشيرة بالنسبة للجزائريين الراغبين في الدخول إلى المغرب، تلقيت الكثير من رسائل الثناء والترحيب بالمبادرة المغربية التي كانت قد استقبلت من لدن الرسميين في الجزائر بامتعاض شديد وكأنها إعلان حرب.
وسنستمر في هذا النوع من "الحرب" لأننا في المغرب جميعا نؤمن بأن لا بديل من إقامة علاقات طبيعية بين البلدين أي علاقات حسن جوار وتفتهم وتعاون. وعسانا ننجح في إنجاح هذ السيناريو الذي نفضله على غيره.
عقدة الهيمنة لدى المؤسسة العسكرية الجزائرية
هنالك عقدة للهيمنة تحذو المؤسسة الحاكمة في الجزائر، فمنذ الاستقلال في سنة 1962 تراءى للقيادات الجزائرية في غالب الأحيان أن الجزائر التي خرجت متوجة من حرب التحرير، تصورت أنها مخولة بفضل ذلك بقيادة أقطار المنطقة، وذلك لخوض منافسة على الزعامة، إسوة بالناصرية والبعث، وزاد توفرها على ثروة الطاقة من شعورها أن لها الوسائل التي تمكنها من ممارسة تلك الزعامة.
انبثقت الدولة الجزائرية المستقلة من "ميثاق طرابلس" الذي سطرته جبهة التحرير الوطني، وهي وثيقة تجاهلت ما بذلته شعوب ليبيا وتونس والمغرب لمؤازرة الثورة الجزائرية، وأعلنت أن الجزائر المستقلة ستكون مدعوة لمواصلة مناهضة الإمبريالية.
ومنذ ذلك الوقت لم تغادر قياداتها فكرة الزعامة، ونشأ أول نزاع علني للدولة الجديدة بعد أسابيع من استقلالها مع تونس. وتدخل الملك الراحل محمد الخامس لتسوية الوضع بين الشقيقين في مؤتمر انعقد بالرباط في فبراير/ شباط 1963 لكن لم تكن هناك نتائج مرضية، بسبب التصور الهيمني لقادة الدولة الجديدة، وبسرعة تدهور الوضع مع المغرب نفسه فكانت حرب الرمال بعد سنتين.
هنالك عقدة للهيمنة تحذو المؤسسة الحاكمة في الجزائر، فمنذ الاستقلال سنة 1962 تراءى للقيادات الجزائرية في غالب الأحيان أن الجزائر التي خرجت متوجة من حرب التحرير أنها مخولة بفضل ذلك قيادة أقطار المنطقة |
وحتى الآن أصبح علينا أن نتوقع تصعيدا في النزعة الهيمنية للجزائر كلما ارتفع سعر النفط. وحينما قامت وحدة "جربة" بين تونس وليبيا أعلنت الجزائر حالة التعبئة للجيش الوطني الشعبي لتأكيد الرفض لتلك الوحدة. وحينما كان المغرب ينتشر في الساقية الحمراء تبعا لجلاء القوات الإسبانية عن الإقليم على إثر اتفاقية مدريد، جردت الجزائر قواتها المسلحة النظامية لاحتلال بعض تلك المواقع، وكانت نتيجة ذلك معركتا إمغالة الأولى والثانية في يناير/ كانون الثاني وفبراير/ شباط 1976.
وقد استهدفت الوساطات التي قامت حينئذ، وخاصة وساطة نائب الرئيس المصري، أن يغض المغرب النظر عن التورط الجزائري، وأن يفك الحصار عن الجنود الجزائريين، الذين تسللوا إلى المواقع الصحراوية، وكان عددهم يتراوح ما بين أربعة إلى خمسة آلاف شخص. وفعلا قرر الحسن الثاني رحمه الله الصفح ورفع الحصار، ليتمكن المحاصرون من مغادرة المكان الذي كانوا مطوقين فيه بإحكام.
ومن جراء تلك المعركة وقع في الأسر 105 من الضباط والجنود الجزائريين وظلوا في قبضة القوات المسلحة المغربية حتى سنة 1988 حيث سلموا للصليب الأحمر الدولى خلال مراسيم رسمية. وكانت الصحافة الدولية قد تحدثت عن تلك المعركة بإسهاب في وقتها باعتبارها سباقا مع الساعة قامت به الجزائر لاحتلال موقع في الساقية الحمراء ووادي الذهب، وذلك بعد أن فشلت ضغوطها على حكومة فرانكو من أجل أن تتم تسوية مسألة الصحراء معها وليس مع المغرب وموريتانبا.
وكان كل ذلك الجهد السياسي والعسكري الذي بذلته الجزائر جزءا من مسلسل طويل كانت مندفعة في حمأته يرمي إلى فرض قراراتها على دول المنطقة. وقد تبين أنه ليس هناك من سبيل إلى تحقيق ذلك المخطط غير الواقعي.
وظهر جليا أنه لا يمكن أن يستقيم الوضع في منطقة المغرب العربي إلا على أساس التكافؤ بين مختلف أطرافه. وهذا ما فطن إليه الآباء المؤسسون حينما قرروا في مؤتمر طنجة أبريل/ نيسان 1958 لأحزاب المغرب العربي أنه يجب التطور في أفق وحدة فيدرالية بين بلدان المنطقة.
ومعلوم أن ذلك المؤتمر كان قد انعقد من أجل شيئين: الأول نصرة الجزائر في كفاحها التحرري، وذلك بتعبئة طاقات كل من المغاربة والتونسيين للنزول بكل ثقلهم إلى جانب الثورة الجزائرية، والثاني هو توجيه كل الجهود من أجل إعداد وحدة مغاربية تقوم على أساس فيدرالي.
وإذا رجعنا إلى الظروف التي انعقد فيها المؤتمر في 1958 وتذكر سطوة الشعارات الوحدوية ذات الشحنة الخطابية والنزوع الشعبوي نتصور ذلك القدر الكبير من الواقعية والوضوح الذي ساور قادتنا منذ خمسين سنة وهم يفكرون في المستقبل.
الجزائر تريد إبقاء القضية مفتوحةالجزائر وهي شاعرة بقدرة المغرب على مقاومة مخططات الهيمنة، تعمل على أن يبقى المغرب منشغلا بملف يمكن أن يسبب له إرهاقا أو على الأقل عدم اطمئنان، في انتظار أن تجبره الظروف على الخضوع
بقي الملف مفتوحا بإرادة الجزائر، وقد تمكن المغرب في فترة 1974/1975 من قلب الأوضاع لصالحه في مواجهة فرانكو، وكان الرئيس الجزائري المرحوم بومدين قد أعلن أمام القمة العربية عام 1974 أن بلاده تؤيد الاتفاق المغربي الموريتاني للتنسيق ضد إسبانيا، وأنه لا مطلب للجزائر في الصحراء. ولكن حينما انتهت المفاوضات بين المغرب وإسبانيا وموريتانيا بالاتفاق على الانسحاب قامت الجزائر بتحرش كثيف لمناوءة اتفاقية مدريد.
وأوفدت في نوفمبر / تشرين الثاني 1975 إلي مدريد وفدا حاشدا برئاسة الوزير عبد الغني عضو مجلس قيادة الثورة، من أجل أن تكون اتفاقية مدريد معها وليس مع المغرب وموريتانيا. لم يكن هناك حينذاك كلام عن حركة تحرير، و لا عن تقرير المصير، بل كان الأمر يتعلق بصفقة كانت إسبانيا مدعوة إلي أن تعقدها مع الجزائر رأسا لرأس، من دولة إلي دولة.
ولدى التصويت في الأمم المتحدة يوم 10 ديسمبر/ كانون الأول 1975 على توصية تتعلق بالمصادقة علي تلك الاتفاقية، تقدمت الجزائر بمشروع يرمي إلي تجاهل اتفاقية مدريد والتأكيد علي ضرورة إجراء استفتاء. وضمنت لفائدة أطروحتها أصوات 24 دولة إفريقية.
وحينما مال المغرب إلى الانفتاح والحوار، تشجعت الجزائر على الاستمرار في تحريك المسألة، وتم إغراق الملف في العديد من الحيثيات، وتم إفراز العديد من التفريعات (فكرة مؤتمر القمة الاستثنائي لمنظمة الوحدة الخاص بالصحراء - لجنة الحكماء - اللجنة السباعية للتنفيذ - عضوية البوليساريو في المنظمة الأفريقية الخ).
وكانت ضغوط الجزائر علي إسبانيا من كل نوع، حيث فتحت مكتبا لمنظمة "إيتا" في الجزائر. وفضلا عن تقديم الدعم المالي والدعائي لحركة تحرير جزر الكناري، عملت الجزائر بعد سنوات على تسجيل مسألة الأرخبيل الكناري في جدول أعمال منظمة الوحدة الإفريقية. وتأتى حينئد للمغرب أن يبين أنه وفي للاتفاق مع إسبانيا فعمل علي شطب المسألة من جدول أعمال منظمة الوحدة الأفريقية في دورة عقدت في طرابلس.
وقد كان جائزا في وقت ما أن يفكر البعض في أن هدف الجزائر هو الحصول علي ممر نحو الأطلسي، أو خلق كيان طيع في المنطقة يخدم رغبات الجزائر، أو يقطع الامتداد الإفريقي للمغرب.
ولكن ما ثبت طيلة العقود التي مضت هو أن الجزائر، وهي شاعرة بقدرة المغرب على مقاومة مخططات الهيمنة، تعمل علي أن يبقى المغرب منشغلا بملف يمكن أن يسبب له إرهاقا أو على الأقل عدم اطمئنان، في انتظار أن تجبره الظروف على الخضوع، وهذا هو الأساس في حسابات الجزائر.
_______________
كاتب وصحفي ووزير إعلام مغربي سابقا
![]() |