واهم من يقول بأفول نجم الليبرالية والرأسمالية

كبير المحاضرين في علم الاقتصاد بجامعة هارفارد جيفري ميرون، لا يتطرق الشك إلى ذهنه في قدرة النظام الرأسمالي على الاستمرار في قيادة الاقتصاد العالمي. وفي معرض رده على تساؤلات مركز الجزيرة للدراسات قال إن تدخل الحكومات في الأزمة المالية عقدها أكثر.
f17ca7d4a2824e25ac3fc082f92977bc_18.jpg
كبير المحاضرين في الاقتصاد بجامعة هارفارد (الجزيرة)

كبير المحاضرين في علم الاقتصاد بجامعة هارفارد جيفري ميرون لا يتطرق الشك إلى ذهنه في قدرة النظام الرأسمالي  على الاستمرار في قيادة الاقتصاد العالمي.

 

وفي معرض رده على تساؤلات مركز الجزيرة للدراسات (1) ذهب بعيدا إلى حد القول إن التدخل الذي رأيناه من قبل الحكومات في الأزمة المالية الحالية عقَّدها أكثر مما ساعد على حلها، وانتقد من قالوا إن الولايات المتحدة "أفرطت" فيي النزعة التحررية لنظامها الاقتصادي. وكان مما جاء في إجاباته قولة :

"
الأزمة المالية لا تدلل على فشل الرأسمالية، بل على العكس من ذلك، تجلي كيف يفضي تدخل الحكومات في شؤون الرأسمالية إلى تعميق الأزمة وخلق أوضاع اقتصادية كالتي نشهدها الآن
"

- إن الأزمة المالية الراهنة إنما جاءت نتيجة لما نهجته بعض الدول من سياسات لا تخلو من مجازفة شجعت مالكي العقارات على أخذ القروض، كما شجعت البنوك التجارية والاستثمارية وغيرها على منح هذه القروض. وعليه، فإن هذه الأحداث لا تشهد بأي شكل من الأشكال على فشل الرأسمالية، بل على العكس من ذلك، تجلي كيف يفضي تدخل الحكومات في شؤون الرأسمالية -بتوسيع قاعدة الملكية للعقار وتقديم ضمانات ضد مخاطر هذا التوسيع- إلى خلق أوضاع اقتصادية مثل الوضع الذي نشهده الآن.

- إنني أخالف من قالوا إن الطرف الذي يجب إدانته فيما يحدث هو السياسة المالية المفرطة في التحررية (التي أقصت كل نوع من أنواع التدخل في حق البيع والشراء) هذه السياسة المعتمدة خلال السنوات الأخيرة من طرف الولايات المتحدة الأميركية على حد زعم الكثيرين.
- ولا أوافق على ما ذهب إليه بعضهم (2) "إننا وسط انهيار اقتصادي عالمي ناتج عن أفكار تحررية وإن بعض دعاة التحرر-لتفاهة طرحهم الفكري- لا يقبلون بفكرة أن تكون الأسواق غير عقلانية، وأنها لا تزن المخاطر، كما بإمكانها وضع المقدرات والثروات في غير موضعها الصحيح؛ ولا يسلمون بأن الأنظمة المالية، في معزل عن مراقبة الحكومة الصارمة وقدرتها على  التدخل البراغماتي، إنما تقدم وصفة للكوارث".
 
إنني لا أوافق على هذا الطرح الذي يخلص من كل ذلك إلى نتيجة مفادها أن السياسات قد فشلت فشلا ذريعا، وأنه قد حان الوقت للإطاحة بالنظام المفرط في التحرر ثم الإلقاء به إلى مزبلة التاريخ، تماما كما حصل مع شيوعية السوفيات.
- وردي على كل هذا الطرح (3) هو أنه مهما تعددت الآراء بخصوص السياسات المفرطة في الليبرالية، فإن الحقيقة التي لا تقبل النقاش هي أن أميركا لم تنهج هذه السياسات، لا خلال العشر سنوات الأخيرة، ولا خلال القرن الماضي، باستثناء تلك الفترة القصيرة التي أقبل فيها ألكساندر هاملتون (1755-1804) على تقديم أول دعم أميركي للأسواق المالية. وإنه لو كانت أميركا بلدا مفرطا في الليبرالية كما يدعون لكانت جملة السياسات الكامنة وراء اندلاع الأزمة الحالية مختلفة اختلافا جدريا.
 
"
المدافعون عن الليبرالية المفرطة يفسرون ما يقع ويقترحون سبل تفادي وقوعه المتكرر، وذلك عبر تنظيراتهم وقدرتهم على الاستباق، وتأكيدهم على الفشل الصريح من جراء المزج بين دينامية السوق الحرة والتدخلات السياسية في الاقتصاد
"

كيف؟ سأشرح لك:
- لو كانت أميركا بلدا مفرطا في الليبرالية لما عرفت ما عرفته من تعاقد مع البنوك ومن تحديد لوضعها وضبط أمورها من طرف الحكومة؛ وبشكل أخص، لكانت البنوك تتمتع بحق "تعليق قابلية التحويل (convertibility) بمعنى أنه باستطاعتها أن تقول لأصحاب الودائع "معذرة لا يمكنكم الحصول على نقودكم كاملة الآن" في وقت تكون فيه البنوك مهددة بعدم الإيفاء بالديون.

هذا بالتحديد ما تقوم به البنوك خلال فترات الاضطراب المالي حيث كان التعليق غير قانوني، لكن مسموحا به ويتم التشجيع عليه من طرف المنظمين. بهذا كانت البنوك تحد من اتساع رقعة التوتر والاضطراب، وكان بإمكان البنوك القادرة على السداد والمفتقرة للسيولة تفادي السقوط بالجملة.
- في بلد مفرط في الليبرالية لا يوجد بنك احتياطي فيدرالي. وهذا معناه أنه من غير الممكن أن يحول البنك الفيدرالي ركودا اقتصاديا عاديا إلى كساد كبير بسبب الفشل في إيقاف الانخفاض الحاد في التموين النقدي. إن هذا الانخفاض وما لحقه من فشل للبنوك وقع لأن وجود البنك الاحتياطي اعتبر مؤشرا على أن البنوك لا تستطيع، أو لا يجوز لها، تعليق "القابلية للتحويل" (convertibility) كما فعلت بنجاح في الماضي. وهكذا فالكساد العظيم ما كان ليحدث في بلد مفرط في الليبرالية.
- لو لم يستحدث البنك الاحتياطي الفيدرالي لما عين ألان غرينسبان على رأسه؛ ولما أعطى المستثمرين تطمينات في غير محلها بخصوص المخاطر الثانوية أو المتعلقة بمدى قابلية أسواق البورصة المنتعشة وسط التسعينيات من القرن الأخير للحياة والنمو على المدى البعيد. لولا وجود البنك الاحتياطي الفيدرالي لما وجد غرينسبان وبالتالي لما حافظ على معدل الفوائد منخفضا لمدة طويلة، نافخا بذلك فقاعة العقار التي كان لها دور رئيس في اضطرابات السنتين الأخيرتين. كان بإمكان المشاركين في السوق أن يقيموا الوضع بأنفسهم، وبالنتيجة كانوا، على الأرجح، سيتحلون بالحذر والتريث.
"
يستطيع العقلاء التناظر بخصوص مواصلة نهج سياسات ليبرالية مفرطة بيد أنهم لا يستطيعون الادعاء بأن الأحداث الأخيرة تدل على فشل السياسات المفرطة في الليبرالية، وذلك ببساطة لأن هذه السياسات لم يسبق وأن اعتمدت
"

- إن الليبرالية المفرطة تتنافى مع وجود لجان السندات المالية والصرف، وكذا مع تنظيم السوق المالي كشروط أساسية. وهذا معناه أن المستثمرين لن يضمنوا بأن الحكومة تتولى تخليص السوق من السندات المالية المحفوفة بالمخاطر وأشكال النصب والاحتيال. في هذه الحالة، سيفضل الكثير من المستثمرين الصغار البقاء على الهامش، فاسحين المجال أمام أولئك الذين هم على استعداد لتحمل الخسارة.

- لو كان البلد مفرطا في الليبرالية لما كان هناك تشجيع على رفع عدد المالكين للعقار، وبالتالي لما استحدثت مؤسسات من قبيل "فاني ماي، فريدي ماك" أو تشجيع هذه المؤسسات على منح قروض (extend subprime loans) أو الإيحاء لها بوجود تعهد بتقديم الدعم في حال وقوع فشل في تأدية هذه القروض؛ وبالتالي لما برز إلى الوجود أهم عنصر من العناصر وراء الاضطراب المالي الحالي. 
- في البلاد المفرطة في الليبرالية لا تقدم الحكومة الحماية للخواص من الوكلاء ضد النتائج السلبية لقراراتهم التي لا تخلو من مجازفة؛ وهذا معناه عدم الهرع إلى إنقاذ أو تقديم الدعم للبنوك وشركات الطيران والسيارات؛ لا ضمان على الودائع، ولا ضمانات بتقديم معاشات التقاعد، وهكذا. 
- في البلاد المفرطة في الليبرالية، يجازف الأفراد وأصحاب الأعمال، ويفكرون مليا في عواقب مجازفتهم وطبيعة المخاطر المحدقة باستثماراتهم. فقد يجني البعض منهم الكثير من مجازفاتهم الذكية، لكن البعض الآخر قد يخسر، وهكذا يأخذون من أرباحهم زمن الرخاء ما به يعوضون به خسارتهم زمن الشدة والأزمة.
- يستطيع العقلاء من الناس التناظر بخصوص مواصلة نهج سياسات ليبرالية مفرطة ومدى قدرة هذه السياسات على تحسين أداء الاقتصاد الأميركي خلال القرنين الماضيين؛ بيد أنهم لا يستطيعون الادعاء بأن الأحداث الأخيرة تدل على فشل السياسات المفرطة في الليبرالية، وذلك ببساطة لأن هذه السياسات لم يسبق وأن اعتمدت.

- ولا يمكن لهؤلاء العقلاء القول "إن المدافعين عن الليبرالية المفرطة أبعد من أن يقدموا التفسير المقنع لما حدث". الواقع أن المدافعين عن الليبرالية المفرطة يفسرون ما يقع ويقترحون سبل تفادي وقوعه المتكرر، وذلك عبر تنظيراتهم وقدرتهم على الاستباق، وتأكيدهم على الفشل الصريح من جراء المزج بين دينامية السوق الحرة والتدخلات السياسية في الاقتصاد.

أقل ما يمكن أن يقال هو أن هيئة المحلفين لم تفصل بعد فيما إذا كان نظام السياسة الليبرالية شيئا مرغوبا فيه. ومع قليل من الحظ، ستتحلى إحدى الحكومات في يوم ما بما يكفي من الشجاعة لمنح هذه السياسة فرصة التجريب.

_____________
1- أعد الحوار: محمد عبد العاطي وخالد حاجي.
 
2- يقصد جيفري ميرون ما كتبه يعقوب فايسبيرغ رئيس تحرير سليت في مقالته نهاية الليبرالية.
 
3- كثيرا ما كتب ميرون عن هذا الموضوع، وقد أحالنا لبعض كتاباته التي نشرها في موقع http://reason.com/.
 

جيفري أ. ميرون كبير محاضرين في الاقتصاد بجامعة هارفارد. حصل على شهادة البكالوريوس بامتياز مع درجة الشرف من كلية سوارثمور سنة 1979، وعلى شهادة الدكتوراه في الاقتصاد من معهد مساتشوسيتس للتكنولوجيا (MIT) سنة 1984. وقد عمل في كل من جامعة ميشيجان (أستاذا مشاركا مثبتا) وجامعة بوستن (أستاذا مثبتا)؛ كما كان أستاذا زائرا في معهد سلون للإدارة، معهد مساتشوستس للتكنولوجيا، وبشعبة الاقتصاد بجامعة هارفارد من عا 1992 إلى 1998. وقد تولى رئاسة شعبة الاقتصاد بجامعة بوستن. له أكثر من 25 مقالة في مجلات محكمة، وثلاثون مرجعا في هيرالد بوستن، بوستن بيزنس دجورنل، وبوستن غلوب. وقد حصل على منحة أولين من المكتب الوطني للبحث في مجال الاقتصاد، وكذا منحة مؤسسة إيرهارت، ثم منحة مؤسسة سلون للأبحاث. ومجال خبرته هو الاقتصاد الحر، مع اهتمام مركز على اقتصاد المخدرات الممنوعة.