لم يكن عام 2008 عاما جيدا بأي معيار بالنسبة للمنطقة العربية، فالصراعات الكثيرة المحتدمة في عدد من البلدان العربية ما تزال قائمة وتشكل تهديدا خطيرا ليس فقط للأمن القومي العربي وإنما أيضا لمصير ومستقبل الشعوب العربية بأسرها.
2008
عام سيء بالمنطقة
بعض هذه الصراعات يعكس وجود فتنة طائفية بالغة الخطورة بدأت تشتعل وتتغلغل بالفعل في عدد من الدول العربية، وها هي تطل برأسها في دول عربية أخرى إلى أن أصبحت عدواها قابلة للانتقال والانتشار في كل أرجاء الوطن العربي دون استثناء.
ورغم أن حدة بعض الصراعات العربية، كالصراع اللبناني، بدأت تخف قليلا، إلا أن درجة المعاناة الإنسانية الناجمة عن صراعات أخرى راحت تزداد سوءا إلى أن وصلت إلى حدود ماسة بالكرامة العربية ذاتها. فالدول العربية لا تبدو فقط عاجزة عن فك الحصار المضروب على أكثر من مليون ونصف مليون إنسان فلسطيني عربي يعيشون في قطاع غزة، لكن الأدهى من ذلك أن بعض هذه الدول يبدو شريكا متواطئا في هذا الحصار.
كان يفترض أن يشهد هذا العام ولادة دولة فلسطينية سبق لبوش أن تعهد بقيامها قبل رحيله، لكن ها هو بوش يتهيأ لمغادرة البيت الأبيض دون أن يتحقق شيء من الوعد المزعوم، بل واعترف رسميا بعجزه عن الوفاء بوعده. وقد حاولت الأطراف الفلسطينية والعربية التي انساقت وراء السياسة الأمريكية تجميلَ موقفها، بالتأكيد على أن تقدما كبيرا حدث في مفاوضات لم تنقطع بين السلطة الفلسطينية وحكومة إسرائيل، غير أن هذا الكلام ليس سوى نوع من ذر الرماد في العيون.
ولا يوجد دليل واحد على وجود تقدم حقيقي. فالاستيطان الإسرائيلي لم يهدأ قط بعد مؤتمر أنابولس بل إن تقارير إسرائيلية عديدة تشير إلى ازدياد وتيرة الاستيطان سرعة وكثافة بعد مؤتمر أنابولس! ولم يطرأ على المواقف الإسرائيلية من قضايا الحل النهائي, خاصة قضيتي اللاجئين والقدس، أي تغير جوهري. ليس هذا فقط بل إن الحديث عن إسرائيل "كدولة لليهود"، والذي كان يجري بين الحين والآخر على استحياء شديد، راح يعلو بشدة هذا العام وكأنه بات مسلمة وأضحى تحقيقه مسألة وقت لا أكثر ومتروكة للظروف الملائمة.
لم يكن عام 2008 عاما تقليديا أو عاديا في حساب الزمن والسنين ولكنه يعد خطا فاصلا بين مرحلتين لأنه العام الذي كرس سقوط وانهيار المشروع الامبراطوري للمحافظين الجدد وفي القلب منه مشروع الشرق الأوسط الجديد |
عام فاصل بين مرحلتين
لم يكن عام 2008 عاما تقليديا أو عاديا في حساب الزمن والسنين ولكنه يعد خطا فاصلا بين مرحلتين لأنه العام الذي كرس سقوط وانهيار المشروع الإمبراطوري للمحافظين الجدد وفي القلب منه مشروع الشرق الأوسط الجديد أو الموسع. صحيح أن معالم هذا السقوط كانت قد بدأت تتضح منذ نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2006 حين صوت الشعب الأمريكي لصالح الحزب الديمقراطي في انتخابات التجديد النصفي وبدأ يقتنع بخسارة الحرب في العراق ويميل للانسحاب من هناك.
غير أن بوش الذي لم يقر بهذه الخسارة أبدا، راح يكابر وأصر على عدم الالتزام بالتوصيات التي تضمنها تقرير بيكر- هاملتون، وقام بدلا من ذلك بزيادة القوات الأمريكية في العراق، ثم راح يسوق العالم العربي سوقا إلى أنابولس مجددا التأكيد على تعهده بقيام دولة فلسطينية قبل انتهاء فترة ولايته.
كان بوش ما يزال حتى نهاية النصف الأول من هذا العام, يبدو واثقا من نفسه ومن قدرته على تحقيق النصر ومصمما على سياساته حتى النهاية. شجعه على ذلك بعض التقدم الذي أحرزه في العراق، خاصة بعد تمكنه من الحصول على دعم واضح من تحالف العشائر، وتراجع حدة المقاومة ومعه معدل الخسائر الأمريكية. لذا راح يسعى بكل قوته لعزل ومحاصرة إيران والقوى العربية المتحالفة معها، خاصة سوريا وحزب الله وحماس، ويمارس كل أنواع الضغوط لحشد الأطراف العربية "المعتدلة" خاصة مصر والسعودية والأردن، في مواجهتها.
وطوال هذه الفترة خيم على المنطقة كلها شبح احتمال قيام الولايات المتحدة منفردة أو بالتعاون مع إسرائيل، بتوجيه ضربة عسكرية لإيران، كما زاد الضغط على حزب الله من جانب قوى 14 آذار، وجرى فرض حصار قاس على حماس. أما سوريا فقد جرت محاولة للضغط عليها والسعي لعزلها من خلال العمل على إفشال القمة العربية التي كان مقررا أن تنعقد في دمشق برئاسة بشار الأسد.
وفي هذا السياق بدا وكأن ميزان القوى في المنطقة العربية يميل لصالح معسكر "المعتدلين". غير أن نجاح سوريا في عقد القمة العربية في موعدها، رغم تخلف العديد من القادة عن حضورها، ثم نجاح حزب الله في قلب الطاولة على قوى 14 آذار دون أن تتمكن الولايات المتحدة من القيام بأي شيء لنجدتها، غير معطيات المعادلة في المنطقة العربية ورجح كفة الميزان لصالح الجهة الأخرى.
مع اتضاح استحالة قيام إدارة بوش بتوجيه ضربة لإيران أو تمكنها من تحقيق اختراق في المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية بدا أن هذه الإدارة أصبحت مقيدة، وشعرت أطراف عربية ودولية عديدة بهامش أكبر للحركة وبوسعها التحرر ولو قليلا, من الضغوط الأمريكية |
التخلص من الضغط الأميركي
فمع اتضاح استحالة قيام إدارة بوش بتوجيه ضربة عسكرية لإيران أو تمكنها من تحقيق اختراق في المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية بدا واضحا لجميع الأطراف أن هذه الإدارة أصبحت بطة عرجاء مقيدة لا تأثير لها، وأن مشروعها للشرق الأوسط الجديد في طريقة إلى الانهيار إن لم يكن قد انهار بالفعل.
وهكذا شعرت أطراف عربية ودولية عديدة أن لديها هامشا أكبر للحركة وبوسعها أن تتحرر وتتحلل، ولو قليلا، من الضغوط الأمريكية وأن تقوم بأدوار ما كان يمكن لها أن تقوم بها من قبل.
وفي سياق كهذا يمكن فهم المبادرة القطرية التي نجحت في تهدئة واحتواء الأزمة اللبنانية، والمبادرة التركية التي توسطت ونجحت في عقد مفاوضات غير مباشرة بين سوريا وإسرائيل, والمبادرة الفرنسية التي سعت لتقديم "حوافز" لسوريا مكافأة لها على ما أظهرته من "مرونة" تجاه الأزمة اللبنانية، لتتحول سوريا فجأة من دولة يراد عزلها إقليميا إلى نجم متألق في قمة "الاتحاد من أجل المتوسط" التي عقدت في باريس، ويصبح بشار الأسد ضيف شرف رئيسي على منصة العرض العسكري في احتفالات فرنسا بعيدها الوطني في 14 يوليو/ تموز.
غير أن الضربة القاضية لمشروع المحافظين الجدد جاءت من الداخل الأمريكي نفسه. فقد بدا واضحا من سير معركة الانتخابات الرئاسية الأمريكية، خصوصا بعد فوز أوباما بترشيح الحزب الديمقراطي، أن الشعب الأمريكي يريد التغيير. وعندما انفجرت "فقاعة" الرهن العقاري وتبين أنها ليست كالفقاعات السابقة وأنها قادرة على إصابة الاقتصاد الأمريكي في مقتل، أدرك الشعب الأمريكي أنه لم يعد ممكنا الاستمرار في نفس السياسات التي انتهجتها إدارة بوش على مدى السنوات الثماني المنتهية.
لذا لم يكن غريبا أن يصوت الشعب الأمريكي بكثافة ليس فقط لصالح المرشح الرئاسي الذي قاد حملته الانتخابية تحت شعار التغيير، ولكن أيضا لصالح الحزب الديمقراطي الذي فاز بأغلبية مقاعد الكونغرس بمجلسيه. وبهذا تكون مرحلة جديدة في تاريخ المنطقة والعالم قد بدأت أو بالأحرى على وشك أن تولد.
تشير نتائج الانتخابات الأمريكية الرئاسية والتشريعية على السواء، وبوضح تام، إلى نهاية مرحلة سقطت فيها سياسات تأكد عدم صلاحيتها لإدارة المرحلة الراهنة، وتطلع أمريكا والعالم نحو مرحلة جديدة ما تزال معالمها غير واضحة بعد.
غير أنه يبدو واضحا أن السياسات التي سقطت تمحورت، داخليا، حول الاعتماد المفرط على آليات السوق، مما أدى إلى اختلال التوازنات الاقتصادية والاجتماعية بسبب انحياز هذه الآليات للقلة الغنية على حساب الأغلبية الفقيرة، وخارجيا، حول إطلاق العنان لطموحات إمبراطورية استهدفت التمكين، بوسائل مشروعة وغير مشرعة، لهيمنة أمريكية منفردة على العالم بدعوى رقي نظامها السياسي ونبل رسالتها الحضارية، مما فتح الباب أمام انهيار القانون الدولي وانتشار العنف الأعمى.
وإذا صح هذا الاستنتاج، وأظن أنه صحيح، فمعنى ذلك أن المرحلة القادمة سوف تتطلب بلورة سياسات داخلية وخارجية تقوم على:
1- تدخل الدولة في إدارة الاقتصاد على نحو يوازن بين اعتبارات الكفاءة الاقتصادية المطلوبة، بتجنب كل ما من شأنه الحد من قدرة القوى الأكثر حيوية على الانطلاق واعتبارات العدالة الاجتماعية بتوزيع عائد التنمية على منتجيها الحقيقيين.
![]() |
2- نظام دولي متعدد الأقطاب يوازن بين الحاجة لمنظومة أمنية تلعب فيها الدول الكبرى دورا أكبر بحكم مسئوليتها وقدرتها على توفير إمكانات فرض السلم، ولكن وفق قواعد وضوابط متفق عليها، والحاجة في الوقت نفسه لنظام ديمقراطي يضمن مشاركة الجميع في صنع القرار ويوفر آليات سياسية وقانونية للرقابة الفعالة على أداء مؤسسات النظام ككل.
لا يخالجني أي شك في أن طريق التغيير سيكون طويلا وشاقا وأنه سيقاوم، وبكل السبل والوسائل المتاحة المشروعة منها وغير المشروعة، من جانب كافة القوى المستفيدة من النظام القائم, والحريصة على المحافظة على مكاسبها ومواقعها وبالتالي الرافضة لقيام أي نظام بديل، سواء كانت هذه القوى داخل الولايات المتحدة أو خارجها. غير أن التغيير قادم لا محالة، ليس لأن أوباما يريده أو يطالب به ولكن لأن أوباما هو الأداة المهيأة لتحقيقه بالطرق السلمية في الظروف الحالية.
ولأنه يستحيل العودة إلى ذات السياسات التي كانت متبعة قبل وصول أوباما إلى السلطة فإن إخفاقه في التأسيس لنظام أمريكي، ومن ثم عالمي، جديد قادر على إزالة الاحتقان الراهن قد يمهد لانفجار كبير.
وأيا كان الأمر، قد يكون مفيدا أن نتذكر، في هذه المرحلة الحرجة من مراحل التطور التاريخي للبشرية، أن إرهاصات الحرب العالمية الثانية بدأت في أعقاب أزمة الكساد العظيم حيث بدت هذه الحرب, في أحد أبعادها على الأقل، وكأنها المخرج أو الوسيلة لإنعاش وتنشيط الاقتصاديات الرأسمالية الكاسدة (قانون الإعارة والتأجير).
ومن الجنون بالطبع أن يفكر أحد في تفجير حرب عالمية ثالثة في هذا العصر النووي كوسيلة لإخراج النظام الرأسمالي من حالة الكساد الراهنة، غير أن سيناريو الفوضى الشاملة والحروب الصغيرة ليس مستبعدا. ولأن منطقة الشرق الأوسط بصفة عامة والعالم العربي بصفة خاصة تقع في قلب الصراعات العالمية الراهنة بكل أبعادها المادية والمعنوية، وذلك بسبب ما يتوفر لها من احتياطات نفطية هائلة وكذلك بسبب الطبيعة الدينية للدولة اليهودية التي غرست في قلبها، فالأرجح أن مصير الصراع الدائر حول هذه المنطقة وفيها هو الذي سيحدد مصير ومستقبل النظام العالمي، سلما أو حربا.
كل الدلائل تشير إلى أن العالم العربي لا يعرف لا ما ذا يريد، ولا ماذا يستطيع أن يفعل، فكل دولة عربية تفهم ما يجري من تحولات بطريقتها |
تحولات إقليمية ودولية
فكل دولة عربية تفهم ما يجري من تحولات بطريقتها وربما يكون لديها رؤية خاصة حول ما تطلبه من أوباما في المرحلة المقبلة وكيف تسعى للحصول عليه، غير أنه لا توجد رؤية عربية مشتركة لطبيعة هذه التحولات أو حول طبيعة التغيير الذي يمكن أن تطلب من أوباما أن يدخله على السياسة الخارجية الأمريكية ولا حتى ماذا تملك سواء لمساعدته على تحقيق ما تريده هي أو لعرقلة وإجهاض ما يخطط له الآخرون لإلحاق الأذى بها أو بالعرب جميعا. لكن الفرصة على أي حال لم تضع نهائيا بعد، وما زال هناك متسع لكثير يمكن إنقاذه.
ويبدو واضحا أن الأزمة الاقتصادية هي من الحدة إلى الدرجة التي ستفرض على إدارة أوباما أن تكرس جل وقتها لمعالجتها. غير أن ذلك لا يعني أن الأزمات الأخرى في العالم ستنتظر إلى أن يفرغ أوباما من معالجة تلك الأزمة، فمن الطبيعي أن يسعى كل اللاعبين الدوليين للتأثير عليه وربما فرض أجندتهم الخاصة عليه. ولأنه لا يستطيع أن يعالج تلك الأزمة العالمية وحده فلا جدال في أنه سيحتاج كثيرا لمساعدة الآخرين ومنهم دول عربية كثيرة. غير أن العالم العربي يحتاج لترتيب بيته من الداخل كي يصبح مؤثرا على الصعيد الدولي.
ربما تكون المصادفة وحدها هي التي أدت إلى تحديد موعد انعقاد القمة الاقتصادية والاجتماعية العربية في الكويت في ذات اليوم الذي سيبدأ فيه أوباما ممارسة مهامه كرئيس للولايات المتحدة الأمريكية. وانعقاد قمة عربية خاصة لمناقشة القضايا الاقتصادية والاجتماعية في ظل هذه الأزمة العالمية الطاحنة حدث كبير يتعين الاستفادة منه.
فاللاعبون الكبار لا يرون في العالم العربي سوى بقرة حلوب مستباحة. والمطلوب من القادة العرب أن يثبتوا أن واجب البقرة توفير الحليب لشعوبهم قبل أي شيء آخر. وإذا كانت المصالح العربية تقضي بأن يسهم أغنياء في تمكين الولايات المتحدة والعالم من تجاوز أزمته المالية فعليهم أن يتعلموا من جديد علم التفاوض ويتقنوا أصوله وفنونه وأن يتخلوا عن تقديم هدايا مجانية على الطريقة البدوية.
_______________
كاتب ومحلل سياسي
![]() |