تستكشف الأطروحة بعض أبعاد لغة السياسة العربية، لتقدم مراجعة نقدية لحقل اللغويات السياسية في هذه الأدبيات، من خلال دراسة الوظائف التي استهدفتها خطب الرئيس الراحل أنور السادات، وآثارها على فئات الشعب المصري، معتبرة أن خطاباته كانت أداة بارزة للاتصال السياسي في عصره.
تُعنى هذه الأطروحة باستكشاف بعض أبعاد لغة السياسة العربية، انطلاقا من توجه يؤمن بأن لغة السياسة قد تكون أخطر في تأثيرها من السيف والذهب. وأنه لا يفل لغة السياسة إلا النقد العلمي، كما أنه لا يُبطل القوة إلا الوعي بمكمنها وآليات اشتغالها.
|
وقدم التأسيس النظري للبحث بعض الحقول والمشاريع المعرفية التي تُعد متكئا نظريا لتحليلٍ نقدي للغة السياسة. مع الحرص في هذا القسم على أن تتسم الحقول والمشاريع المختارة بالمعاصرة، أي أن لا تتجاوز بداية نشأتها العقدين من الزمن، وأن تنتمي إلى حقول معرفية متنوعة. فالتحليل النقدي للخطاب خارج من رحم أحد أسرع فروع علم اللغة تطورا، وهو تحليل الخطاب.
أما بلاغة الجمهور فهي وليدة البلاغة العربية، وامتداد محتمل لها. هذه الحقول تشترك جميعا في توجهها النقدي، أي في سعيها لتعرية ومقاومة الخطابات السياسية التي تمارس هيمنة وسيطرة على مستهلكيها. كما تشترك في استخدامها أدوات تحليل لغوية وبلاغية لتحقيق ذلك.
في القسم التطبيقي من الأطروحة، عالج الباحث ظاهرتين من أهم الظواهر المميزة للخطابة السياسية، هما الاستعارة والتضفير الخطابي، محاولا الإجابة عن أسئلة منها:
- ما هي الوظائف التي استهدفتها بلاغة الرئيس الراحل أنور السادات إنجازها، وكيف تقوم بإنجازها؟
- ما الآثار التي كان يمكن أن تُحدثها في الشعب المصري؟
وقد تطلبت الإجابة عن هذه الأسئلة الانخراط في تحليلات بلاغية ولغوية مفصلة، تتخذ من خطب ممثلة مادة لها. وفي سياق ذلك سعت الأطروحة لتطوير أدوات دراسة الخطب، من خلال الدمج بين إجراءات تنتمي إلى بلاغة الجمهور وإجراءات التحليل النقدي للخطاب، والإفادة من بعض النظريات مثل نظرية الاستعارات المفهومية ونظرية المزج الاستعاري، وبعض المفاهيم النظرية والإجرائية مثل مفهوم الأبوية والمناورة الاستراتيجية والرأسمال الرمزي.
" كان الخطاب الديني بذخيرته الخطابية من نصوص مقدسة وتراث شعبي ديني ونسق كامل من الرموز والعلامات الدينية مكونا أساسيا من مكونات لغة السادات السياسية. وقد تم توظيفه توظيفا سياسيا نفعيا، فوضعت قوته التأثيرية في خدمة أغراض سياسية، واستخدمت نصوصه المقدسة لتنجز أفعالا سياسية " |
لغة السياسة والتأثير على الجماهير
هناك بعض النتائج الجزئية للبحث، منها ما يخص الطبيعة النوعية للخطابة السياسية العربية، وما يخص واقع دراسات الخطابة السياسية العربية، والعوامل التي تؤثر فيها. ومنها ما يخص إمكانية الإفادة من المناهج والمقاربات التي تدرس الخطابة السياسية وكيفيتها، وواقع الدرس البلاغي المعاصر ومستقبله. ونتائج أخرى تخص الظواهر التي عالجتها الأطروحة في مختارات من خطب الرئيس السادات.
لم يكن من أهداف الأطروحة دراسة مجمل الخصائص والسمات البلاغية، لذا تم الاقتصار على دراسة ظاهرتين هما الاستعارة والتضفير الخطابي، وظواهر بلاغية أخرى مثل تقنيات السرد والضمائر الشخصية واستراتيجيات الحجاج وصيغ الاستهلال والكناية. وقد كانت محدودية الظواهر المدروسة ومحدودية المادة المدروسة مقيدة لأية نزعة لتعميم نتائج التحليل، سواء نحو الحديث عن خطب السادات ككل أو نحو الحديث عن البلاغة السياسية العربية.
ومن الضروري النص على أن نتائج التحليل تخص -إلى حد كبير- الخطب التي تم تحليلها، والظواهر التي تمت دراستها فيها، فهي في النهاية نتائج مقيدة، يحتاج إطلاقها إلى دراسات أخرى. ورغم الاحتراز يمكن بكثير من الاطمئنان الوقوف على بعض النتائج العامة التي أفرزها التحليل، أولها يخص طبيعة العلاقة بين لغة السياسة والفعل السياسي.
![]() |
لقد أوضح القسم التطبيقي للأطروحة أن خطب السادات السياسية لم تكن معنية بوصف العالم بقدر ما كانت منخرطة في إنشائه وتشكيله وتغييره. فخطبه لم تكن قولا سياسيا بقدر ما كانت فعلا سياسيا. فبواسطة لغة الخطب أنجزت أفعال الوعد والتهديد والإغراء والإقصاء والتمييز والإدماج والتحريض وفرض الصمت..إلخ. وكانت اللغة العدة في كثير من الظروف السياسية، فأنجز بالإقناع ما لم يكن من الممكن إنجازه بالقمع.
ومن النتائج العامة أيضا ما يخص الاستخدام الطاغي للخطاب الديني في الخطاب السياسي للسادات، فقد كان الخطاب الديني بذخيرته الخطابية من نصوص مقدسة وتراث شعبي ديني ونسق كامل من الرموز والعلامات الدينية مكونا أساسيا من مكونات لغة السادات السياسية. وقد تم توظيفه توظيفا سياسيا نفعيا، فوضعت قوته التأثيرية في خدمة أغراض سياسية، واستخدمت نصوصه المقدسة لتنجز أفعالا سياسية.
والخطب المدروسة تمثل حالة نموذجية لما يمكن تسميته " الخطابة الحميمة". فقد كانت خطب السادات دوما في متناول المواطن العادي، سواء من حيث لغتها ومعجمها وتراكيبها أو من حيث طرق أدائها. كانت خطبه العامية -وهي القسم الأكبر من الخطب- تنهل من نفس الذخيرة الخطابية التي ينهل منها هذا المواطن وتتوسل بها. فغدت حافلة بالمفردات التي تنتمي إلى قلب الريف المصري والتراكيب التي تتسم بالبساطة المتناهية، والأمثال الشعبية السيَّارة والعبارات المألوفة والاستعارات المتداولة والسخرية التي تكاد تتحول إلى تنكيت.
بالإضافة إلى الحكايات المثيرة، وعبارات الود والألفة التي تشبه تلك التي يستخدمها الحكاء في مد الجسور مع جمهور مفتون. وكذلك إتقان توزيع مساحات الصمت والكلام وأوان اللعثمة والطلاقة، والتمكن من تطويع نبرات الصوت وحركة الجسد، مستلهمة الأداء الشعبي لفعل الحكي والكلام.
هذه العناصر أسهمت جميعا في أن تتغلغل الخطب في الطبقات والفئات الشعبية المصرية، وأن تقيم جسورا من الألفة معهم.
ويكشف القسم التحليلي عن انشغال الخطب الفائق بصياغة التاريخ وتوظيفه في صناعة الحاضر والمستقبل. وقد كان الماضي محور كثير من الخطب، سواء أكان الماضي الديني أم الوطني، السياسي أم الاجتماعي، الفردي أم العام. وسواء أكانت صياغته تتم بواسطة التناص والتضفير الخطابي أم بواسطة الاستعارة.
ويمكن القول إن صياغة الماضي كان استراتيجية خطابية فاعلة في خطب السادات، فلم يكن الماضي مقصودا لذاته، فالماضي بوابة الحاضر وقنطرة المستقبل. وكل صياغة للماضي توجهها ظروف الحاضر وحاجاته. وهكذا كانت الخطب وهي تكتب تاريخ مصر الحديث تصوغ واقع مصر المعاصر.
لقد كانت خطابة السادات "الحميمة" أداة أساسية من أدوات الاتصال السياسي في عصره، وأتاح ذلك تعزيز التواصل بين مؤسسة الرئاسة والشعب المصري. وقد نجحت الخطب في إحداث تغييرات جوهرية في توجهات وسلوكيات فئات شعبية عريضة من قضايا جوهرية مثل فكرة القومية العربية والصراع العربي الإسرائيلي. هذا النجاح يمكن أن يُفسَّر إلى حد كبير بواسطة التحليل اللغوي والبلاغي للخطب.
![]() |
اللغة والسياسة والدين.. علاقات متشابكة
أثبت تحليل الاستعارات التي استخدمها السادات في صياغة العلاقة بينه وبين المصريين مثل (رب العائلة المصرية)، و(كبير العائلة المصرية) أن هذه الاستعارات تعمل كسلطة رمزية فاعلة. هدفها تجريم أية معارضة محتملة للسلطة، والقضاء على أية معارضة ممكنة لها، بواسطة تحويل المعارضة والنقد من حقوق سياسية مباحة للجميع إلى سلوكيات أخلاقية مشينة تندرج في إطار"العيب" و" قلة الأدب". فهذه الاستعارات تستهدف خلق عالم مواز يشمل جميع تجليات الحياة السياسية في مصر.
في هذا العالم تحل العائلة ومؤسساتها وقيمها محل الدولة ومؤسساتها ودستورها. فالعائلة تحل محل الدولة بمؤسساتها صغيرة كانت أم كبيرة، والأبوة تحل محل العقد الاجتماعي، والأب يحل محل الحاكم، والأم تحل محل الوطن، والأبناء يحلون محل المواطنين، وأخلاق القرية تحل محل الدستور، والقيم تحل محل القانون، والعيب يحل محل الخروج على القانون، ومجلس العائلة يحل محل مجلسي الشعب والشورى..إلخ.
حاولت الدراسة تفسير كيف يُنجز الخطاب السياسي أفعالا سياسية كالتحريض والتهديد، وذلك من خلال تحليل الصورة التي شكلها العصر الساداتي لصورة مصر قبل الثورة، بواسطة عدد من الاستعارات التي تربط بين الحياة في مصر قبل الثورة والحياة الجاهلية، فتمزج بين عالم ما قبل النبوة وعالم ما قبل الثورة من ناحية، وعالم ما بعد النبوة وعالم ما بعد الثورة من ناحية أخرى، حتى يحل أحدهما في الآخر.
فقد انتقت خطب السادات عناصر محددة من كلا العالمين لتمتزج في فضاء المزج الاستعاري، منها ما يخص طبيعة الأنظمة الحاكمة والجماعات المسيطرة في كليهما، وامتدادات كلا العالمين في وقت إنتاج الخطب (الأحزاب امتداد لما قبل الثورة، وحكم السادات امتداد للثورة). كما يمتزج في هذا الفضاء أيضا المشاعر والانفعالات والأحكام القيمية والأخلاقية التي توجد لدى الجمهور، وتخص كلا العالمين ومن يمثلونه.
" كانت لغة خطب السادات في متناول المواطن العادي، ونهلت خطبه العامية من نفس الذخيرة الخطابية التي ينهل منها هذا المواطن. فغدت حافلة بالمفردات التي تنتمي إلى الريف المصري، إضافة إلى الأمثال الشعبية والعبارات المألوفة والاستعارات المتداولة والسخرية التي تكاد تتحول إلى تنكيت " |
لا تكمن فعالية هذه الاستعارة في استدعاء الصورة النمطية للعصر الجاهلي فحسب، بل في المشاعر والمواقف والاتجاهات التي تصاحب عملية الاستدعاء. فالشعب المصري المسلم يكره الجاهليين الكفار، ويتوحد مع المسلمين الأوائل في صراعهم مع الجاهليين.
وعلى ذلك فإن المزج بين الأحزاب الجديدة والجاهليين ينطوي على تحريضٍ غير مباشر على هذه الأحزاب. كما أن إسقاط نعت" الجاهليين" على رجال ما قبل الثورة يتضمن تبريرا مقبولا إلى درجة كبيرة بين أوساط كثير من فئات الشعب لما يمكن أن تكون الثورة قد فعلته بهؤلاء "الجاهليين"، وما ينوي النظام أن يفعله بمن بقي منهم، خاصة الوفديين الجدد الذين كانوا أحد المنافسين الفعليين للحزب الوطني الديمقراطي الذي كان يتزعمه السادات في ذلك الوقت، وقد حظي حزبهم القديم "الوفد" بنصيب الأسد من نعوت الجاهلية.
حاولت الدراسة أن تفسر كيف يؤدي تناص الخطب السياسية للسادات القرآن الكريم إلى التضفير الخطابي بين خطابين متمايزين هما الخطاب السياسي والخطاب الديني. وكيف أن هذا التضفير الخطابي هدفه استثمار خصائص الخطاب الديني الإلهي، وتوظيفها في خدمة الخطاب السياسي. هذا الاستثمار لا يقتصر على الإفادة من القدرة الإقناعية أو التأثيرية للخطاب الإلهي فحسب، بل الإفادة من الضوابط الصارمة التي تُفرض على طبيعة استجابة العباد المؤمنين الذين يستقبلون الخطاب الإلهي.
ومن خلال تحليل خطبة السادات بعد أحداث انتفاضة الجوعى في يناير 1977 تتبين كيفية استخدام النص القرآني لإدانة من شاركوا في هذه الانتفاضة وتبرير عملية ضربهم بيد من حديد بحسب تعبير السادات.
كما تتبعت الدراسة الدور الذي لعبه توظيف السادات للنص القرآني في خطبه في السنوات الأخيرة من حكمه في دفع العلاقات العربية-المصرية إلى مشارف القطيعة، وذلك من خلال تحليل طريقة استخدامه للنص القرآني في خطبته الشهيرة التي ألقاها إثر توقيع اتفاقية كامب ديفيد، ووصف فيها الدول العربية بالكفر والباطل والعمى في مقابل وصف نفسه بالإيمان والحق والبصيرة مستندا إلى آيات قرآنية تدور حول نفس المعنى.
وانتهت الدراسة إلى التأكيد على أهمية مراجعة واقع الدراسات اللغوية العربية المعاصرة، التي تبدو منعزلة بشكل كبير عن المحيط الاجتماعي الذي تنتمي إليه. ومواجهة القيود والعراقيل التي تحد من حرية حركة هذه الدراسات، وتفرض عليها التقوقع داخل التراث، وقطع صلاتها بالعالم الذي تنتمي إليه.
وإحداث تطوير جذري في الدراسات البلاغية الأكاديمية في العالم العربي، لكي تكون أكثر انفتاحا على خطابات الحياة اليومية، وأكثر قدرة على طرح أسئلة معرفية جديدة، وتبني منظور غير تقليدي في الدراسة. وضرورة فهم الكيفية التي تعمل بها اللغة الدينية في المجال السياسي، سواء أكان مستخدموه من رجال الدين المسيَّسين أم من رجال السياسة الساعين لاستخدام اللغة الدينية. انطلاقا من قناعة بأنه يمكن من خلال دراسة تضفير الخطابين السياسي والديني في سياقات زمنية وثقافية مختلفة الوصول إلى فهم دقيق لطرق اشتغال الخطاب الديني والسياسي.