![]() |
عالم المفاهيم.. كلمات كالعرض والأرض
المفاهيم انعكاس للجوهر الحضاري
المفاهيم وتحريف المعنى
غزة العز.. الوعي والرؤية
البوتقة الحضارية للصراع العربي الإسرائيلي
غزة العزة بين قاموسين ومشروعين
غزة العزة.. عصر الرويبضة والوهن
غزة الفاضحة معركة المعاني
مشروع وليد سيف في سلسلة السند الحضاري
تذكرت وأنا أقرأ هذه المقالة للأديب وليد سيف الأديب مصطفى صادق الرافعي حينما أشار إلى أن الكلمات كالعرض والأرض، ومالك بن نبي حينما يفرق بين قاموس البلوتيك المخادع وقاموس السياسة المفضية إلى الصلاح والإصلاح، وعلي شريعتي حينما تحدث عن جغرافية الكلمة، والبشير الإبراهيمي حينما أشار إلى الكلمات المظلومة، هذا بشأن معركة المعاني، أما بشأن المعاني حينما تتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي فقد استدعت الذاكرة جمال حمدان وطارق البشرى وحامد ربيع وعبد الوهاب المسيري، وتواصلت مع ابن خلدون حينما أكد أن المغلوب مولع أبدا بتقليد الغالب مشيرا إلى حالة الولع الحضاري من بني جلدتنا فصاروا يتحدثون بنفس مفردات الغالب حتى لو أفنت المغلوب، فكانت تلك الخواطر التي سنحت للتعرف على تلك الصلة، صلة الرحم الحضارية.
وها هو الأديب السالي حينما يحمل الكلمة في قلبه وعقله ويجعل محبرته من دمه، فيكتب قاموسا يختلف عن ذلك القاموس الذي يراد له أن يشيع ويسود ويرسخ ويتمكن في النفوس وفي القلوب وفي العقول.
"تتأرجح الكتابة بين لغة الفؤاد النازف ولغة العقل الناقد، بين ابتزازين: ابتزاز خطاب عقلاني زائف يحرّم علينا الغضب الجارف في وجه أبشع صور الظلم والإبادة، مثلما يحرّم علينا بكاء ضحايانا بصوت مجروح يليق بالجنازة الجمعية، وكل ذلك تحت طائلة الاتهام بالانجراف وراء العواطف والانفعالات المعطّلة للعقل والتدبير، وبين ابتزاز عواطف متفجرة متدفقة كالنهر الهادر تصرخ تحت وطأة الكابوس بصوت لا يُسمع: إذا كان العقل يحرّم غضب القلب والضمير فليذهب إلى الجحيم، وإن لم يكن في الوسع أن نتكافأ مع جلادينا في الحياة فلنتكافأ بالموت.. ولتكن القيامة الآن!"، هكذا يقول وليد سيف.
الأدباء من نمط وليد سيف- وهم نادرون- يكتبون عن أمتهم ويمارسون رسالتهم في أدب حي تحيى به الأمة علها أن تفيق ولعلها أن تنهض.
عالم المفاهيم.. كلمات كالعرض والأرض
نحن بحاجة إلى رفع الظلم عن الكلمات المظلومة، ورفع الستر والنقاب عن الكلمات الظالمة التي تغسل الأمخاخ جماعيًّا وتستوطن العقول فتجعلها مؤجرة أو مفروشة لحساب ثقافة غير ثقافتنا |
إننا في حاجة إلى فقه الكلمات "... يحدد المواقف ويحرر الأحكام ويقدم البدائل... فهل لنا أن نُكَوِّن معجمًا في "فقه كلمات الأمة".
فهذه كلمة "طيبة" في كينونتها وجوهرها، وآثارها وثمرتها، وتلك كلمة "خبيثة" في مقصودها وأغراضها، فهناك من الكلمات الميتة، والقاتلة والمميتة، والوثن، والمخذولة.
وهذه كلمات على ما يصفها البشير الإبراهيمي "كلمات مظلومة"، "كلمات مغتصبة"، و"كلمات المستوطنات" و"كلمات عدوة"، وهذا تصنيف آخر يسوقه لنا ابن حيَّان في رسالته للعلوم "اللفظ الحر" و"اللفظ العبد"، والمعاني الحرة والمعاني العبدة.
وها هو مصطفى صادق الرافعي يكتب في "وَحْي القلم" أن الكلمات كالحياض وكالجيوش، وجب الدفاع عنها كالأرض والعرض؛ لأنها تنتهك في حرماتها، وتدنس في معانيها.
نحن بحاجة إلى رفع الظلم عن الكلمات المظلومة، ورفع الستر والنقاب عن الكلمات الظالمة، التي تغسل الأمخاخ جماعيًّا وتستوطن العقول فتجعلها مؤجرة أو مفروشة لحساب ثقافة غير ثقافتنا. وانتهاك حرمة معاني الكلمات لا تأتي فقط من معتد من خارج يحاول أن ينحرف بالمعاني ويدلس الدلالات، فتصير الكلمات لا تدل أو ترشد، بل قد تأتي من داخل تهون فيه الكلمات وتُهان، أين نحن من كلمات الكرامة؟! وعقلية العزة ونفسية الأحرار، أين مقامنا من كلماتنا، ومقام كلماتنا فينا؟! أين نحن من كلمات تبدو في ثوب الرحمة وهي تحمل كل معاني العذاب في باطنها ومكنونها، في توابعها وآثارها؟!
ألا يستحق كل ذلك منا أن نستَنْفِر كل صاحب كلمة أن يكتب في زاوية "فقه الكلمات المتجدد".
المفاهيم انعكاس للجوهر الحضاري
أول ما تصاب به الأمم في أطوار تراجعها الفكري والمعرفي والثقافي مفاهيمها وأول ما يتأثر بعمليات الصراع الفكري والثقافي مفاهيمها كذلك وأهم الأمراض التي تعتري المفاهيم الميوعة ثم الغموض |
أهم هذه القواعد جميعا المفاهيم عملية في صميم قضية الهوية، والمفاهيم كانعكاس للجوهر الحضاري ليست سوى منظومة فكرية يفترض فيها الانسجام والمفاهيم كمنظومة تتضمن عناصر مختلفة ووحدات مفاهيمية متعددة ومتنوعة لا يمكن رؤيتها إلا كعناصر متراتبة متراكمة تؤثر يقينا على موقعها في البنية المعرفية وقيمتها في السياق الفكري وحجيتها في العملية الحضارية الممتدة، وسواء تراتبت المنظومة المفاهيمية كدرجات سلمية أو كحلقات دائرية متداخلة، فإنها بحكم القاعدة التي تحكم النظام والمنظومة هي متفاعلة، وربما تكون متكاملة متساندة.
أول ما تصاب به الأمم في أطوار تراجعها الفكري والمعرفي والثقافي مفاهيمها، وأول ما يتأثر بعمليات الصراع الفكري والثقافي مفاهيمها كذلك، وأهم الأمراض التي تعتري المفاهيم الميوعة ثم الغموض.
بدأت المفاهيم السائدة تتحول إلى أداة للتضليل والتشتت والتشرذم، بدلا من أن تكون أداة معرفية وبيان وإيضاح وجلاء للغموض.
كما تحولت المفاهيم السائدة في ظل ذلك التداخل والتشابك العجيب الذي حدث في الساحة المعرفية العربية بالذات بين الوافد الدخيل والموروث المترسب من وسيلة تعبير عن الذات والهوية إلى وسيلة للانفكاك عن الهوية دون حصول على بديل لها، وتذبذب في الانتماء واختلاط في الانتساب.
وحين تكرست الاختلافات في داخل الأمة وتحول الناس إلى معسكرات متحاربة صارت المفاهيم الوافدة ـ بحد ذاتها ـ هدفا ومقصدا لبعض الفصائل يستحق أن يفرض على الفصائل الأخرى، ولو بالقوة، ومع أنه كان هناك وعي لا بأس به بان هذه المفاهيم تستبطن في ثناياها أهداف ومقاصد الثقافات المجلوبة وتستتبعها إلا أنه كان هناك إصرار بنفس القدر على فرضها على الساحة الفكرية العربية حتى لو أدت إلى مسخ وتشويه أهداف ومقاصد هذه الأمة.
وإذا كان معنى الكلمة أو العبارة هو "استعمالها" في اللغة فيجب أن يكون هذا الاستعمال محكومًا بقواعد؛ بحيث يجعل الكلمة أو العبارة ذات مغزى، ومن ثم تأتي ضرورة التفرقة بين الاستعمال الصحيح والاستعمال غير الصحيح، فالاستعمال الصحيح هو الذي يجيء منسجمًا مع القواعد التي تضبطه، أما الاستعمال غير الصحيح فهو الذي لا يخضع لتلك القواعد، ومن هنا راح أصحاب نظرية الاستعمال يبحثون عن قواعد استعمال الكلمات والعبارات.
ولقد فطن البلاغيون المسلمون – بالإضافة إلى الأصوليين – إلى نظرية الاستعمال أو السياق وبخاصة سياق الموقف عندما قالوا "لكل مقام مقال" ، والحق أن توضيح المعنى على المستوى الوظيفي (الصوتي والصرفي والنحوي) وعلى المستوى المعجمي (العلاقة المعرفية بين المفردات ومعانيها) لا يقدم لنا إلا "معنى المقال" أو "المعنى الحرفي" كما يسميه النقاد أو "معنى ظاهر النص" كما يسميه الأصوليون، وإذا شئنا أن نقدم المعنى الدلالي في صورته الكاملة فلا بد أن نضيف إلى "المعنى المقالي" جانبًا آخر هو "المعنى المقامي" وهو ظروف أداء المقال ويسمى بالمقام، أو سياق النص والبيئة المحيطة به.
دفعتنا مقالة وليد سيف المهمة للاهتمام بعالم المفاهيم والتعامل معه باعتباره أهم أعمدة بنيان الهوية وأنساقها وعقلها الجمعي |
هكذا تذكرنا كل هذه المعاني ونحن بصدد قراءة هذه المقالة المهمة رابطة لها بالعدوان على غزة "ستون عاما على النكبة.. الصراع على المعاني׃ الصراع على الوجود" وهو أمر دفعنا للاهتمام بعالم المفاهيم والتعامل معه باعتباره أهم أعمدة بنيان الهوية وأنساقها وعقلها الجمعي، ومدار الرحى في أي أمة، ذلك أن المفاهيم إذا ما عرفنا المقام الذي يتعلق بها وجب علينا أن نؤسس علما لها يهتم ببناء وعي الأمة حتى لا تنطلي عليهم الكلمات الخبيثة طاردة لأصول الكلمات الطيبات.
التاريخ والنماذج التاريخية معمل تجارب :الذاكرة الحضارية الحية: المشاريع الحضارية المتدافعة
هذا تعبير عن فكرة كان يرددها أستاذنا الدكتور المرحوم حامد عبد الله ربيع؛ فكرة ورؤية للتاريخ كمختبر للأفكار والنظريات، وكأرضية صالحة لابتناء "نماذج" تعمل عمل النظريات في إحسان الوصف والتفسير والتأويل والتصديق والاستشراف: مقارنة ومقاربة وتسديدًا. وضمن هذه الرؤية الواجب تفعيلها يمكن قراءة المشروع الأكبر الراهن: "الشرق الأوسط الكبير" وما يرتبط به من مفاهيم متصادمة أو ما يمكن العنونة له بـ"صدام المفاهيم"، وذلك على النحو الذي قدم مثله الرافعي في المفاهيم العدوة، والكلمات المقاوِمة...ولغة التاريخ الحاملة لكل معاني الذاكرة الحضارية.
إن الفكرة الرئيسة التي يمكن أن نستلهمها من عبرة التاريخ ونماذجه الواضحة وضوح الشمس في ضحاها تتمثل في أن الاحتكاك الإسلامي مع الغرب كانت له سمات ودلالات مهمة أنموذجية تنبع من الطابع اللازم والملازم لأصول هذين الطرفين الحضاريين؛ تنبع من المركَّب الأصيل المحفّز لبناء كل منهما ابتداءً، والموجِّه لتطور كل منهما ولمساره انتهاءً، والمؤثر في تفاعلات هذين الكيانين عبر تاريخ العلاقة بينهما وعلى امتداده زمانًا ومكانًا. هذه السمات والدلالات يمكن استخلاصها من المرور على مراحل أو حالات ثلاث سابقة، مثلت لحظات فارقة معبّرة، بالإضافة إلى المرحلة الراهنة الرابعة:
الحالة الأولى: ويمكن تسميتها "الحالة الأندلسية"، وهي حالة عجيبة؛ إذ برزت فيها إرهاصات ظهور "الدولة-القومية" في عالم المسلمين، وإن كان باسمٍ مختلف هو "ملوك الطوائف" أو "طوائف الملوك".. تلك الدويلات التي كرست حالة التشرذم، كاشفةً عن القابلية الأساسية لتحقق الاستئصال الذي تم بعد ذلك للوجود الإسلامي في الأندلس وما تبعه من وحشيات تنصير إجباري ومحاكم تفتيش. لقد قَدِم المسلمون إلى هذه البقاع ومعهم مشروع فكري (فكرة) فاستطال وجودهم، إلى أن ذبلت الفكرة وانقشع شذاها، ثم جاءهم الغرب بفكرته "قوية" وإن لم تكن ذات قيمة، فكان لابد أن يَستأصل الشأفة؛ هكذا كان دخول المسلمين لشبه جزيرة أيبيريا وهكذا كان دخول الغرب بعدهم أو حلوله، كل كان يصدر أمامه مشروعًا حضاريًا حملته "الفكرة" أكثر مما حملته القوة العسكرية.( في هذا المقام فلنتذكر الأعمال الروائية لوليد سيف : صقر قريش ،ربيع قرطبة، ملوك الطوائف ).
إن عالَم اليوم في "أمتي" لم يعتبر درس التاريخ؛ فظل هؤلاء المتغلِّبون يمثلون نموذج "ملوك وحكام الطوائف"، ويحملون كل سيئات النموذج، ولم يقدموا حتى ما قدمه أمراء التغلب في تاريخنا حينما اضطلعوا ونهضوا بحماية الأمة أربطةً وثغورًا
الحالة الثانية: ويمكن تسميتها "بالحالة الصليبية"؛ وهي اللحظة الثانية الكبرى للاحتكاك مع الغرب، كان التنازع فيها في جوهره -على خلاف ظاهره - فكريًا رمزيًا؛ تنازعًا على رمز: "بيت المقدس". في هذه الحالة أيضًا كانت دويلات "شرقنا" الإسلامي تمثل تكرارًا لنموذج طوائف "غربنا" الأندلسي، وكانت طبائع هذه "الدول-القومية" تفرز ذات ميولها وقابلياتها للتشرذم والانفصال.. لكن مع تميز قد يبدو ضئيل القيمة؛ هو الاعتراف الاسمي والرمزي بمظلة الأمة والخلافة. لكن يلاحظ أن هذا الاعتراف وهذا الاستظلال -رغم رمزيته وشكليته- فربما هو الذي ولّد –سراعًا- خمائر مقاومة وتجميع؛ فكان أن انبلج النورويون وصلاح الدين والأيوبيون؛ مما أحدث حالة من المد والجزر لم تزل تتدافع فيها قابليات الوهن المفرّقة مع خمائر عزة مجمِّعة، فيسترد المسلمون بيت المقدس (صلاح الدين وأخوه العادل)، ثم تؤخذ منهم بصورة عجيبة زمن الكامل أبي بكر ابن العادل.. إلى أن يجتمع العدوّان: من الشرق (المغول) ومن الغرب (الصليبيون).. وتستمر القابليات تعالجهما وتدافعهما. هذه التجربة والتي قبلها أفرزتا مقولات مهمة منها:
- أن الغزو حين يكون عسكريًا بحتًا يسهل التغلب عليه، وحين يصحبه فكر ومشروع فكري –ولو كان رمزيًا- فإنه يعمّر زمنًا ويستطيل (حتى يصل إلى قرنين في الحالة الصليبية، بينما كان ما بين سقوط بغداد باجتياح مغولي عسكري بجحافل مادية وبين المواجهة المنتصرة في عين جالوت عامان فقط أو يكاد: 1258م/ 656هـ - 1260م/ 658هـ). إن المشروع الفكري يطيل أَمَدَ الفعل الاستعماري وإن كان باطلاً.
- أن أمراء التغلب (ساعتها) الذين تغلبوا بقوتهم على بعض مكامن السلطة، رغم أنه بتغلبهم واستيلائهم برزت الدويلات والإمارات الممزقة؛ إلا أنهم أيضًا استطاعوا أن يؤسِّسوا معادلات صعودهم واستيلائهم على السلطة (بشكل غير شرعي طبعًا على حساب المركز: الخلافة) في توازن مع استخدام تلك القوة –من جانب آخر- للقيام بوظيفة "حماية الأمة". لقد كانت قوتهم هذه نفسها سلاحًا ذا حدّين؛ فهي التي مكنتهم -من ناحيةٍ- من حماية الثغور وحراسة حدود الأمة، وخاضوا بها الحروب ضد أعداء الأمة وخصومها، لكن -من ناحية أخرى- فإن تشرذم هذه القوة وتسرب عناصر الضعف لها تباعًا كان يصبُّ في ضعف الكيان العام؛ الأمر الذي استثمره العدوان الصليبـي.
- وهذا الأمر -للأسف- لا تقوم به اليوم دول-قومية صناعتها التجزئة واحتراف التبعية؛ تَصْدَع بالسيادة حيث يجب ألا تصدع بها، وتتخلى عنها حيث تجب تقويتها والاحتماء بها قولاً وفعلاً. إن "السيادة" في معادلاتها الواجبة ليست إلا "الإرادة" و"العُدّة" في واصلةٍ بينهما هي "الإدارة": إدارة الكيان، وإدارة العلاقات، وإدارة التماسك، وإدارة الاستراتيجيات والسياسات، وإدارة المواجهة للتحديات والممانعة على الخضوع والاستسلام والمقاومة للخصوم والأعداء. ليس هذا إلا صياغة لمفهوم "السيادة" ضمن معادلة الإرادة والمكانة والتمكين، وهذه ليست صياغات بلاغية لفظية؛ بل هي عمل تأسيسي وتراكمي مستمر يشكل البنُية التحتية والقومية معًا لمضمون "السيادة".
إن عالَم اليوم في "أمتي" لم يعتبر درس التاريخ؛ فظل هؤلاء المتغلِّبون يمثلون نموذج "ملوك وحكام الطوائف"، ويحملون كل سيئات النموذج، ولم يقدموا حتى ما قدمه أمراء التغلب في تاريخنا حينما اضطلعوا ونهضوا بحماية الأمة أربطةً وثغورًا.( في هذا المقام يمكن التوقف عند أعمال روائية مهمة للأستاذ وليد سيف : صلاح الدين الأيوبي، الخنساء وشجرة الدر)
الحالة الثالثة: "الحالة العثمانية"، التي شهدت مع إرهاصات ضعفها بروز دولتنا–القومية الحديثة، وذلك أثناء الحرب العالمية الأولى، والتي انتهت بأقصى ما كان يمكن أن يصل إليه الاحتكاك بالغرب، في صورة "الاستعمار" والاحتلال والحلول بعقر دار الإسلام، وتنفيذ المشروع ألاستلابي بين يدي الآخر وعلى عينه.
لقد طرح الغرب مشروعه واضحًا إبان هذه المرحلة متمثلاً في "المسألة الشرقية" و"عبء الرجل الأبيض"، و"مسألة الرجل المريض"، فكيف واجهنا هذا المشروع؟ إنها المواجهة المرتدة على أعقابها، المسترشدة من التاريخ فقط بعروبة الجاهلية أو المكتفية منه فقط بجاهلية العرب.
الحالة الرابعة وهي الراهنة: "الشرق الأوسط: من رحلة المسألة الشرقية إلى الشرق الأوسط الكبير": وهذه المرحلة هي خلاصة ما سبقها، إن كل الحالات السابقة إنما قامت على مشروع "فكّ وإعادة تركيب" للمنظومة، ومن ثم لم تكن لتمضي قٌدمًا دون قابليات لهذا الفك ولإعادة التركيب، فكان لابد أن تستقبلها قابليات الدولة-القومية، أيًّا كانت صورتها: ملوك طوائف (طوائفية)، دويلات مستقلة (شعوبية)، ولايات مستقلة (دولة محمد علي وخلفائه، الباشوات، البايات، الدايات وانفراط أوصال حياة الرجل المريض...).. أو دول تدعى مستقلة حاليًا (قطرية).
إن بعضًا من "أمتي" لا يَعُون الدرس، ولا يتخذون العبرة من الخبرة والفكرة، ما بالهم لم يتعرفوا على درس مصطفى صادق الرافعي حينما بحث في متتابعات منظومة السُّنن فوجد أن "أصغر خَـرْق يَعنِي أوسعَ قَـبْر"؟
حتى كان المشروع الراهن الذي أتى على حالٍ أخذت الأمة فيه من ماضيها كل ما كان سيئًا: فملوك الطوائف متترسون –إزاء بعضهم البعض- داخل قومياتهم وقطرياتهم وحدودهم التي رسمها لهم "الغرب": صاحب مشروع الغزو والهدم والغصب...، وأمراء التغلب كرَّسوا تغلُّبهم في العلاقة مع شعوبهم فيما لا حراسة لثغر، ولا حماية لسور، ولا رعاية لبوابة من بواباتنا المفتوحة على مصاريعها، فيما تبيّنه افتتاحية الحكيم البشري هنا أيَّما بيان.
إن "يوم الأحزاب" عاد أدراجَه، ولكنه عود غير أحمد، فالخندق الحائل الحامي قد ردمته "العولمة"، والاختراق صار -في ظل قابلياته- خرقًا وانخراقًا، والأحزاب صار فيهم مَن هم "من بني جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا"،.. وبرزت الأمة/ القصعة "تتداعى" عليها الأمم من فوقها ومن أسفل منها، لا من قلة، ولا من إقلال، بل من وهنٍ وقابليات استخفاف.
فأين سفينة أمتي من هذا الخضم؟ هل يعي هؤلاء ممن خرقوا "سفينة الأمة" ولسان حالهم يقول: "نخرق خرقًا في موضعنا هذا،.. ولم نؤذِ من فوقنا،.. نحصّل منه ماءنا... هذا موضعنا نفعل فيه ما نشاء"؟!! ما بال هؤلاء لا يفكرون إلا تفكيرًا "أخرق" يخرق السفينة حتى تشرف على الغرق والهلاك.. إن بعضًا من "أمتي" لا يَعُون الدرس، ولا يتخذون العبرة من الخبرة والفكرة، ما بالهم لم يتعرفوا على درس مصطفى صادق الرافعي حينما بحث في متتابعات منظومة السُّنن فوجد أن "أصغر خَـرْق يَعنِي أوسعَ قَـبْر"؟
إن المشروعات التي تحمل شعار "الشرق الأوسط" برزت تاريخيًا لتعبر عن هدف السيطرة على المنطقة بأشكال وأساليب تختلف حسب الزمان والمقام، وهي وسيلة تشكّل حلقة متصلة -سواءً أكان هذا "الشرق الأوسط" "جديدًا" أم "كبيرًا"- لتحويل أنظار الشعوب (إسلامية أو عربية) عن هدفها الاستراتيجي الذي أجمعت عليه "الأمة" منذ سقوط الخلافة العثمانية؛ والذي يهدف إلى إعادة بناء المنطقة العربية والإسلامية وإعادة توحيدها في صورة عصرية من خلال بناء تكتل إقليمي يضم دول العالم الإسلامي العربية وغير العربية، وهو أمر يحيلنا إلى قواعد النظر السليم لمشروعات الشرق الأوسط؛ هذا النظر الذي لا يكفي فيه مجرد رفض تلك المشروعات التي تحمل شعار الشرق الأوسط بل لابد من أن تضع القوى الفاعلة سياقات عملية لبناء تكتل عربي إسلامي إقليمي عصري مستقل عن نفوذ الإمبراطوريات الأجنبية التي تريد استغلاها والسيطرة عليها.
ومشروعات شعار الشرق الأوسط ليست إلا تحايلاً أجنبيًا يراد به تجاهل وحدة الأمة العربية الإسلامية صاحبة هذا الإقليم، بل وتجاهل وجودها وحقوقها، وإعطاء منطقتنا اسمًا جديدًا يفتح الباب لسيطرة قوى أجنبية، تهدف من وراء مشروعاتها ومبادراتها إلى تحقيق مصالحها التي ترى في الهيمنة والسيطرة عليها الطريق المؤكَّد لتحقيق ذلك في النظر إلى هذه المنطقة كعُقدة إستراتيجية، فهل يمكننا أن نتدبر تلك المعاني حينما يرِد علينا شعار تارة يوصف بشرق أوسط جديد، وتارة بالكبير؟
فدعوة "الشرق الأوسط الكبير" تعني من بين ما تعنيه، وضع العرب –أنظمة وقوًى شعبية وشخصياتٍ فكرية- أمام تحدٍّ ذي بعدين متضادين: الطروحات التي تستهدف خلخلة الأنسجة الاجتماعية العربية والإسلامية، وإدماجها على شكل كنتونات عِرقية وطائفية في نظام إقليمي، يدور بقيادة صهيونية في الفلك الأمريكي، مقابل الطموحات التي غايتها تعظيم قدرات وتعزيز منعة العالم العربي، وتنمية التفاعلات الإيجابية قطريًا وقوميًا، والاستفادة بقدر المستطاع من تجربة الاتحاد الأوروبي.
إنها حالة من تكريس "الوهن" في الكيان والتفكير والتدبير والتغيير، وفي المقابل حالة من تأكيد "العزة" في خمائرها في تماسك النسيج للكيان الاجتماعي الحضاري العربي وأصول التفكير الناهض والتدبير الرافع لمكانة الأمة، والتغيير الدافع لإمكاناتها وفاعليتها.
غزة العزة: وعي بحضارية الصراع ومصيريته الرؤية الحضارية للصراع العربي الإسرائيلي
الوعي الحضاري في مكوناته لا يكون إلا بمعرفة الخصوم ومن الوعي أن تنزل كل خصم منزلته، وأن تعرف أصول منازلته، |
حضارية الصراع وعي وسعي، وعي بالخصم والعدو والتعرف عليه بدقة لأن ذلك من ضرورات تعيين المواجهة والتحسب للمقاومة والاستجابة للتحدي، تحديات هذه الأمة مهما كانت جزئية أو متعينة، ممتدة أو متجذرة هي في مكنونها حضارية الطابع، وحضارية الطابع والتكوين تفرق، حضارية النظرة والمنظور، وحضارية الاستجابة والتحدي، وحضارية المواجهة شمولاً وتكتيلاً وتعبئة وتفعيلاً، الوعي الحضاري في مكوناته لا يكون إلا بمعرفة الخصوم ومن الوعي أن تنزل كل خصم منزلته، وأن تعرف أصول منازلته، معرفة المنزلة أول خطوة في أصول المنازلة، وأول درجات الوعي والسعي في مواجهة النوازل التي تخص الصراع العربي الإسرائيلي.
هكذا وجب علينا أن ننظر في مكنون هذه الرؤى فتكون المعادلة ذات أبعاد حضارية متنوعة متكافلة مؤتلفة:
المكان X الزمان X التدبير X الالتزام= رؤية حضارية إستراتيجية عميقة شاملة ممتدة:
منزل الصراع
نوازل الصراع ــ زمان ــ طارق البشري
منازلة الصراع ــ تدبير ــ حامد ربيع
منزلة الصراع ــ التزام ــ عبد الوهاب المسيري
هذه النماذج الفكرية التي تخيرناها تشكل البوتقة التي انصهرت فيها الرؤى لتؤسس عناصر رؤية حضارية كاملة ومتكاملة، متنوعة ومتكافلة،كلية حضارية شاملة.
من أي نقطة بدأت من حمدان أو البشري أو ربيع أوالمسيري، ومن أي مسار شرعت من المكان أو الزمان أو التدبير أو الالتزام فأنت تسير إلى تلك الرؤية الحضارية لصراع ممتد يستدعي عن كل هذه العناصر في بوتقة حضارية تؤسس الرؤى وتحقق وعي السعي من خلالها وسعي الوعي بالتعامل معها.
إن المكان لا يعد إلا في زمانه الممتد التي تشكل ذاكرته وامتداده مكانته وقيمته التاريخ ينادي الجغرافيا والزمان يدعو المكان والمكان يفرض على أهله التزاماً بمقتضياته ومعطياته ويفرض قدرة ومكنة على التدبير فيما كل ما يتعلق به من حفظ الكيان وحفظ المكان وحماية الإمكانيات والمكنة والمكانة وتأسيس التمكين والتأثير والفاعلية في المكان والزمان والإنسان.
والزمان ليس فراغ من الوقت، بل هو قيمة في ذاته وفينا يمتلأ به من فعل حضاري حاضر وفعال وهو يدعو المكان بما يشكله من ساحة حضارية للفعل الإنساني تدبيرا والتزاما.
ومعطيات الزمان وتدبير الالتزام، والتزام التدبير حركة فاعلة نحو قضايا الأمة تدبيراً وإلزاما، هاهو التدبير: تدبير المكان وتدبير الزمان وتدبير الالتزام في جامع حضاري يعي للأمة هو مهاد وقضاياها الناشئة عن حاجاتها واحتياجاتها عن تحدياتها وابتلاءاتها الحضارية عن خياراتها واستجاباتها الحضارية. التدبير حركة ماض "لو استقبلت من أمري ما استدبرت" وحركة حاضرة "حضور في الزمان والمكان وشهود يحمل الرسالة في المكان والزمان، وحركة استقبال تعني الاعتبار الماضي بالحضور الفعال بالمستقبل المنشود "ولتنظر نفس ما قدمت لغد" تدبير يتحرك صوب كل ما يحفز الكيان وينفعه.
أما إذا شرعنا في مسار الالتزام فهو التزام جامع بما يلزمه المكان وبما يلزمه الزمان حفاظاً على الكيان وبما بغية التدبير بالنسبة للمكان والزمان التزاماً بأصول التسيير وقواعد التدبير ومكان التأثير (التزام بقضايا الأمة وهو ما في امتداد المكان وطول الزمان وتدبير أهلهما والمسئولين عنهما في كل حركة تسيير وكل خطوة تدبير.
مسارات المعادلات تؤدي إلى بعضها البعض. وإن الخلل في واحدة منها يؤدي إلى اختلال الرؤية، بل هذا الاختلال يستطرق في كل العناصر الأخرى، المعادلة تتحرك صوب فعلين مهمين: الإدارة والإرادة.
(اضغط هنا لتوضيح زوايا الصراع العربي الإسرائيلي كما يراها الباحثون المذكورون في التحليل)
غزة العزة بين قاموسين ومشروعين
وغاية الأمر في هذا المقام أن نتلمس معنى "المنحة في المحنة"، ونتلمس طريق الخروج من المحنة–الأزمة، ونشرع في صراط الإصلاح الحقيقي المستقيم؛ لا سبله المتفرقة الضالة والزائفة |
تعيش الأمة ضمن عالم أحداثها لحظات كاشفة، إلا أن هذه اللحظات الكاشفة لا يمكن أن تؤتي أُكُلهَا في التأثير في الأمة إلا أن تتحول كاشفيتها (أين المحنة التي تواجه الأمة؟) إلى لحظات فارقة تفرق بين مرحلة مضت وأخرى آتية، نريد للأخيرة –ضمن "فارقة"- أن تتبين وهنَ أمرها ووهنَ تفكيرها وتدبيرها وعناصر تغييرها، وتفرق وتفرز بين إمكانات الأمة في المواجهة والممانعة والمقاومة وبين عناصر وآليات تخذيل الأمة ونشر اليأس في أرجائها والترويج للقبول الخانع والاستسلام الفاقع والفاجع. هذه اللحظة الفارقة لابد أن تتحول -وفق وعيٍ سُنني بحركة التاريخ- لتبحث في الشروط التي تقوّم عناصر وهن الأمة، إنها لحظة التقاط العبرة في الخبرة والفكرة، تتحول فيها هذه اللحظة الفارقة إلى لحظة مقوِّمة، تُقوّم ما نحن فيه وزنًا وتأثيرًا، وتقوّم ما مرَّ بنا من أنماط واهنة وفاسدة في التفكير والتدبير؛ بحيث تشرع في عمليات "إصلاح" ومنظومة متكاملة واعية للتمكين لشروطه وتفعيل مقوماته.
إن التساؤل الذي يستحق إجابة منا يدور حول "أين الطريق للخروج من المحنة؟"، إنها "المحنة" حينما نقتنص فيها -بوعي وسعي- مقام "المنحة" منها و"العبرة" فيها. في قلب كل محنة تكمن "المنحة" التي تمكّن "للقدرة والإرادة" بالخروج منها ومن عناصر استحكامها، وربما من استمرارها وتحكّمها.
هذا الخروج من حال "المحنة" و"الأزمة" لا يمكن أن يحدث إلا بسُننه الشرطية القابلة للفعل والتفعيل والفاعلية.
هذا الخروج لابد أن يمتلك الشرط التأسيسي بامتلاك الإرادة، وأن يستند إلى عناصر تأسيسية وبُنية أساسية من "العُدّة" والاستعداد والإعداد، تؤكد واصلة الإدارة بين الإرادة والعدة.
إن هذه العملية بكل تكويناتها هي ما نطلق عليه "الإصلاح" أو "النهوض"، إلا أنه مِنْ غَرَضِ هؤلاء الذين لا يريدون لنا "إصلاحًا" أن يموّهوا عليه وأن يتدخلوا فيه وعلى خطّه، حتى نكرهَ "الإصلاح" نفسه أو حتى كلمته؛ لمجرد أنه يرد على ألسنة مَنْ لا يريدون بنا خيرًا، أو يروجون لإصلاح زائف، ضالًّ ومضلًّ، لا يريدون منه إصلاحًا حقيقيًا أو مكينًا: )
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ( سورة البقرة: آية 11، ويطلقون وربما الأدق يغتصبون مفاهيم مثل الإصلاح والاعتدال يطلقون هذا وذاك على عكس المقصود فإصلاحهم ليس إلا عين الإفساد والتمزيق والتفتيت، والاعتدال ليس إلا الاستسلام والخنوع والتبرير للقعود والوهن في انتظار السلام الموهوم، السلام كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء إنها حيلة العاجز " السلام خيار استراتيجي " حتى لو كان العدو لا يعرف إلا لغة القتل مدعيا حماية أمنه فمنذ متى أمن اللص ؟!.. إنه التلبيس الحادث حينما تكون الكلمة كلمة "حق" يراد بها "باطل"، حق في محتواها، باطل في مقصودها. إنها المفارقات التي تتطلب تلك العقلية الفارقة التي أشرنا إليها، والتي تتولد من العقلية الكاشفة في حال المحنة والأزمة. لا نريد -ونحن على طريق الإصلاح- أن نضلَّل في بدايته أو يُموَّه علينا في مقصوده، أو نتلهَّى عن جوهر الإصلاح بشكل أجوف أقرب إلى الزُّخرف منه إلى الإصلاح الحقيقي: ) يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ( سورة الأنعام: آية 112.
وغاية الأمر في هذا المقام أن نتلمس معنى "المنحة في المحنة"، ونتلمس طريق الخروج من المحنة–الأزمة، ونشرع في صراط الإصلاح الحقيقي المستقيم؛ لا سبله المتفرقة الضالة والزائفة.
وغاية الأمر كذلك ألا نقف عند حدود آفاق الانحطاط الراهن مهما كان تراكمه ووهنه، فلا تتحكم هذه الحدود بنا تفكيرًا وتدبيرًا وتغييرًا وتأثيرًا.
الشرق الأوسط الجديد لم يكن إلا عنوانا لأحد كتب "شيمون بيريز" اقتطفته "كونداليزا رايس" وزيرة خارجية الولايات المتحدة لتصف هذه الحرب بأنها "مخاض ولادة شرق أوسط جديد"، وتندر البعض أن هذا ليس إلا , شرخا أوسط جديد’ أو " شرقا أوسخ جديد "يحقق عناصر كسر الإرادة والقضاء المبرم على الممانعة والمواجهة والمقاومة..
" الشرق الأوسط في عرفهم - تاريخا وجغرافيا - عقدة إستراتيجية ولكنه في ذات الوقت قوسا للازمات "
بدا ما اسمي بعملية السلام يأخذ مداه في عملية التفافية كبرى تقوم على قاعدة تحاول إخراج كل ما تستطيع من دول من حال التورط في الصراع العربي الإسرائيلي ومجاله الحيوي الإسلامي.
شكلت إسرائيل العصا الأمريكية في المنطقة ترفعها وقت تشاء وأنى ترغب، وأذعنت الأنظمة لتدخل بيت الطاعة الأمريكي فرادى وجماعات |
وتجاهل إسرائيل لها بل وانتهاك كل مستنداتها، تقفز فقط لضمان أمن إسرائيل والاعتراف بها.
توج ذلك اليوم الأمريكي في الحادي عشر من سبتمبر/أيلول الذي مثل على حد تعبير البعض فرصة يجب أن تستغل في فرض موازين جديدة على عالم العرب والمسلمين ،وبدا هؤلاء يخوضون حربا حضارية شاملة شكلت ترجمة حقيقة لمقولة "صمويل هنتنجتون" حول "صدام الحضارات" تحاول أن تخفي هذا التبني من خلال كلمات الزينة، ومن خلال فرض ما هو مطلوب لولادة شرق أوسط "أوسخ " جديد أو كبير أو موسع.
و برزت الولايات المتحدة بتفردها كقطب أوحد في المنظومة الدولية تمارس سياسة كونية، و بصعود اليمين الدين الأمريكي المحافظ، الذي خاض سلسلة من المعارك في أفغانستان والعراق وفلسطين التي تمثل معملا التجارب الدائم في إطار "اصطناع دولة إسرائيل " التي شكلت العصا القريبة في المنطقة ترفع وقت تشاء وأنى ترغب، وأذعنت الأنظمة لتدخل بيت الطاعة الأمريكي فرادى وجماعات وتمتثل لرؤية هنا أو هناك حول الشرق الأوسط الجديد.
إلا أن هذا لم يمنع من أن تكون للشعوب خياراتها والتي تختلف عن ادعاءات ضرورات الأنظمة إذ تأسست في مواجهة عمليات " عدوانية "، "احتلالية " وكأن الزمن قد دار ودورته وصرنا نعيش حلقة جديدة من الاستعمار الأمريكي تلعب فيه إسرائيل دورا " أوسخ " كجماعة وظيفية تقوم بأقذر العمليات للسمسرة في مثل هذه الحروب الأمريكية.
هذه هي المقاومة في أفغانستان ،والعراق ،والانتفاضة الأولى والثانية في فلسطين، والمقاومة في لبنان، وأخيرا صمود وثبات غزة العزة.
صفحات من المقاومة تؤكد ومن كل طريق أن "خمائر العزة" متأصلة في كيان هذه الأمة، فتحدث حركة ممانعة وفعل مقاومة وفعالية استجابة لتحديات هذه الأمة.. الشرق الأوسط يستعصي على التهذيب ودخول كافة قواه الشعبية والسياسية " بيت الطاعة الأمريكي " ليس أمرا ميسورا..
ومن هنا بدا لهؤلاء يقلبون موازين اللغة والكلمات فيسمون كل مقاومة إرهابا، وكل ممانعة عنفا وكراهية، وكل مواجهة حالة من عدم الواقعية، وبدت الأنظمة تنتقل من حال الامتثال إلى حال التبني لهذه الرؤية الأمريكية بل وضلوع بعضها بشكل مباشر وغير مباشر بادوار " قذرة " ضمن سيناريو " الشرخ الأوسخ الجديد وبدا هؤلاء المرجفون يتحدثون عن المقاومين بأنهم مغامرون ومقامرون يجرون المنطقة إلى الحروب ويورطون "النوام " والزعماء المزعومين ، ويقلقون عناصر خنوعهم واستلامهم ،بدعوى أن القيام بأي فعل للمقاومة إنما يهدد الانجازات التي أنجزت.. الانجازات في ميادين الاستبداد والفساد وفي مجالات الاستسلام والقعود تراكمت رؤية الناس والشعوب لمشاريع "الشرق الأوسط " بين " مساومات " الأنظمة، ومقاولات بعض الاتجاهات الفكرية وفي هذا السياق كان الخيار بين المقاومة من جانب والمساومة والمقاولة من جانب آخر.
وبدت الأمة من قلب محنتها تتساءل حول الكيفية التي تخرج بها من المحنة، والأسلوب الذي تحول من خلالها " المحنة إلى محنة " ولسان حالها يقول هذه مشروعات تستهدفنا فأين مشروعات هذه الأمة ونهوضها ؟
هل كتب على هذه الأمة أن تظل موضوعا أو مفعولا به لمشروعات من هنا أو هناك ،و تحت أسماء ما انزل الله بها من سلطان ؟! أين هذه الأمة من فاعليتها وخياراتها، إن مشروعات هذه الأمة يجب أن تنهض بها وتؤكد على عزتها وكرامتها وشرفها.
" المقاومة " تصدع كل يوم أن " المقاومة خيار بل وقرار استراتيجي " فكتبت هذه المقاومة صفحات، الصفحة تلو الصفحة في سياق يؤشر على " بلاغة هذه المقاومة وبيانها " على الأرض تقدم فاعليتها في مواجهة العدوان والاحتلال على الأمة وحياضها.
" المقاومة عملية حضارية وإستراتيجية ممتدة " وخيار لابد وان يتحول إلى إصرار، وإصرار يجب أن يتحول إلى قرار واختيار بل هو ضرورة تتعلق بالكيان والوجود.
مقاومة الأمة فعلها الحامي لكيانها، الضامن لفعاليتها، القادر على حفظ بقائها واستمرارها، المقاومة حالة شاملة متكاملة يتكافل فيها عناصر مقاومة الاستبداد في الداخل ومقاومة العدوان من الخارج، هي حال خمائر عزتها وقدرات ممانعة الحضارية.
ليس هذا فائض كلام وإنما هي بلاغة المقاومة حينما تبلغ بيانها، وتفعل فعلها على الأرض فتقدم انتصارات مهمة، التي تعنى ضمن ما تعنى أن هذه الأمة تستعصي على الموت كما تستعصي على الاحتواء وان عناصر ممانعتها هي حقيقة مناعتها وحصانتها، والصمود هو عين الانتصار.
المقاومة عملية معرفية وثقافية وفكرية واجتماعية وسياسية واقتصادية شاملة، حضارية في محتواها، وحضارية في مقاصدها تملك عناصر تمكينها من المفاهيم الحرة التي تشكل أساس خطابها للأمة "مفاهيم الحرية والتحرر" في مواجهة مفاهيم "العدو والعدوان والعبودية والاستسلام".
هذه أولى معاركنا المفاهيم والكلمات كالحياض وكالجيوش، وجب الدفاع عنها كالأرض والعرض، لأنها تنتهك في حرماتها، وتدنس معانيها.
وانتهاك حرمة معاني الكلمات لا تأتي فقط من معتد من خارج يحاول أن ينحرف بالمعاني ويدلس الدلالات، فتصير الكلمات لا تدل أو ترشد، بل قد تأتي كذلك من داخل حيث تهون فيه الكلمات وتهان، أين نحن من كلمات الكرامة ؟!، وعقلية العزة ونفسية الأحرار، أين مقامنا من كلماتنا، ومقام كلماتنا فينا ؟
وأين نحن كذلك من أيامنا ( أيام العرب والمسلمين )، أيام المقاومة ؟ ،المقاومة في هذا الاعتبار "قيام" و"قوام" و"مقام" و"قيمومية" و"قيمة" إنه جذر " قوم " الذي يحرك كل قيمة وكل عمل قيم وقائم ،المقاومة فعل الأمة وفاعليتها ،وعز الأمة وقدرات تمكينها، هل تعلمنا درس المقاومة من خبراتها المتعددة على مر التاريخ والتي استطاعت أن ترد العدوان وان تحمى شرف الأمة وكرامتها أم أن البعض لم يعد يعرف لمعاني الشرف والكرامة والعزة معنى، إنها المقاومة لا مساومة من أرباب السياسة القذرة وواقعيتها الواهنة التي في حقيقتها ليست إلا سقوطا واهنا ووقوعا لا واقعية، ولا مقاولة للمنتفعين من هذه السياسات في الحفاظ على كراسيهم، شاهت ووجوهم وساء ما يفعلون.
في هذا السياق يجب أن نرى حرب إسرائيل القذرة على غزة العزة.
غزة العزة.. عصر الرويبضة وحال الغثائية وعقلية الوهن
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: "سيأتي على الناس سنوات خداعات يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق ويؤتمن فيها الخائن ويخون فيها الأمين وينطق فيها الرويبضة. قيل وما الرويبضة قال الرجل التافه يتكلــم في أمر العامة"، أما الحديث فقد أخرجه ابن ماجه في سننه في كتاب الفتن، وأخرجه أيضاً الإمام أحمد في مسنده، واستقصى طرقه الشيخ ناصر الدين الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، وترجم له بعنوان: أليس هذا زمانه؟. بلى: إن هذا لزمانه، وإنها السنين الخداعة التي ينطق فيها الرويبضة. ويتكلم في أمر العامة، فيفوض في الأمر الجلل ويوكل إليه الأمور العظام التي تتعلق بمصير أمة ومكانة شعوب، وما هو بمستحقه، وهذا من جملة أن يوسد الأمر إلى غير أهله.
إذا تكلم الرويبضة في أمر العامة، وإذا صار الأمين خائناً، والخائن أميناً، فلا شك أن موازين القيم قد تغيرت بل انقلبت، وموازين الحياة كلها تخلخلت.نعم، الرويبضة هو الرجل التافه الذي رغم تفاهته يتكلم في أمر جليل جداً يمس الناس كلهم!!، ها هي هذه الأمور تقع في زمننا، فنحن نرى الرويبضة قد فضح نفسه لأن الناس قد رأوه أمام هذه الهامات الشامخة على حقيقته قزماً، والأمور العظام لا تطلب إلا عظيما، فشأن الرويبضة أن يتحرك الحركة التافهة في الأمر الجلل العظيم. انقلاب الموازين يتحرك صوب انقلاب في عالم الكلمات والمفاهيم وتحريف الكلم عن مواضعه.
تعريف الرويبضة: كما قال الرسول صلى الله علية وسلم: رجل تافه يتكلم في أمور العامة. وفي اللغة: كلمة رويبضة من ربض يربض فهو رابض... ويصغر تحقيرا، رويبضة، قال اللغوي ابن منظور: «الرويبضة: هو العاجز الذي ربض عن معالي الأمور وقعد عن طلبها، والغالب أنه قيل للتافه من الناس لُِربُوضِه في بيته، وقلة انبعاثه في الأمور الجسيمة".
يبين الرسول صلى الله عليه وسلم أموراً ستصير في مستقبل الأيام وهي حاصلة في واقعنا المعاصر، منها: أن يتمكن التافه من الكلام، وكأن الأصل أن لا يتكلم إلا العاقل الحكيم،
ومما يزيد المشكلة عمقاً ومساحة أن يكون هذا وأمثاله ممن يتناول أمور الجماهير فيساهم في تضليل الرأي العام، وتوجيه العامة إلى مستوى طرحه كتافه قاعد متقاعس، أو على ضعفهم فوُسِّد أمرهم لرويبضة. يصف الرسول صلى الله عليه وسلم الزمن الذي يصول فيه الرويبضة بالسنوات الخدّاعات، ذلك لأن الأمور تسير خلاف القاعدة، فالصادق يُكذَب والكاذب يُصدَّق، والأمين يُخَون والخائن يُؤتًمن، والصالح يُكمَّم والتافِهُ الرويبضة يُمكن.هل نحن الآن في زمن الرويبضة.. وقاموس الرويبضة؟
خطاب الرويبضة والسنوات الخداعات: غزة الفاضحة معركة المعاني
إذا كانت المقاومة الفلسطينية في غزة هي الوكيل الإيراني في هذه الحرب، فمن وكيل دول الاعتدال المستهدفة فيها؟ إذ لا نعلم أن صواريخ حماس قد سقطت في أرض عربية |
ولكن من اخترع ابتداءً هذه الثنائية المصطنعة بين العقل والقلب؟! أي عقلانية هذه التي تريد أن تقنعنا بأن الصراع في فلسطين لم يعد صراعا بين دولة الاغتصاب والاحتلال والشعب المنكوب بالاحتلال والحصار والتجويع والتركيع والذبح والقتل الجماعي، وإنما هو صراع بين محور التشدد وعلى رأسه إيران، ومحور "الاعتدال".
وعليه، فإن صواريخ حماس هي الفعل المحرّض الذي أوجب ردة الفعل الإسرائيلية، وإن هذه الصواريخ لم تنطلق ردا على الخروقات الإسرائيلية المتكررة لاتفاق الهدنة والتي شملت أكثر من مائة وخمسة وعشرين خرقا عسكريا، فضلا عن الحصار القاتل الذي امتد سنة ونصف السنة، وإنما انطلقت بأوامر إيرانية لتحقيق أجندة إيرانية ضد دول "الاعتدال" العربي؟!
إذن، فحرب غزة هي حرب بالوكالة لا شأن لها بالمقاومة والاحتلال! لا بأس إذن، ولكن أفيدوني: إذا كانت المقاومة الفلسطينية في غزة هي الوكيل الإيراني في هذه الحرب، فمن وكيل دول الاعتدال المستهدفة فيها؟ إذ لا نعلم أن صواريخ حماس قد سقطت في أرض عربية.
"نعم، لم يدخر الخطاب السياسي الإسرائيلي الصهيوني أثناء عدوانه النازي على غزة جهدا في التماهي مع خطاب الاعتدال العربي، ليتخذ منه ستارا أخلاقيا يسوغ العدوان"
هل نفهم إذن من هذا المنطلق العقلاني أن "إسرائيل" هي وكيل أطراف "الاعتدال"، وأن استهدافها بصواريخ حماس كان في باطن الأمر استهدافا لتلك الأطراف؟! هل بلغ الأمر بهذا المنطق "العقلاني" أن يماهي بين إسرائيل ودول الاعتدال؟ فأي دعاية أفضل من هذه لإيران ولأطراف الممانعة؟ وأي دعاية أقبح من هذه لدول "الاعتدال"؟! ما لكم كيف تحكمون؟
وفى إجمال بارع يستحق أن يدرس في عالم المفاهيم وتربى عليه الأجيال تنشئة وتذكرة يعطى الإشارات والتنبيهات حول معركة المعاني في المعجم السياسي للعالم العربي أو الصراع على استملاك أنظمة المعاني التي تشكل الوعي العام في ظل العقلانية والواقعية السياسية، تتغير المعاني إلى:
لا تقل "العدوان الإسرائيلي" و"المشروع الصهيوني" الإحلالي الاستيطاني الاستعماري التوسعي، ولا تتحدث في المقابل عن اغتصاب الوطن الفلسطيني عام 1948، وعن حق الشعب الفلسطيني في كامل وطنه، ولو من الناحية المبدئية، لأن هذا كله يحيل إلى الخطاب العاطفي الانفعالي "القومجيّ" البائد الذي عفا عليه الزمن وتجاوزته الظروف، ولكن قل "إسرائيل" وحسب، ودون مزدوجتين.
- لا تقل "عرب" و"عروبة" و"وطن عربي"، وأقبح من ذلك أن تقول: قوميّة. فإن هذا كله يحيل إلى التجارب "القومجيّة" (لاحظوا الجيم المقحمة هنا للتبخيس والتدنيس)، الفاشلة، وخطابها العاطفي الغرائزي الفجّ، ونظمها البوليسية القمعية التي انتهت بنا إلى الهزائم والكوارث. ولكن قل منطقة الشرق الأوسط وحسب، التي تشمل أقطارا ناطقة بالعربية (ولكنها لا تشكل أمة) وأقطارا أخرى غير عربية، وفي مركزها إسرائيل.
- لا تقل "إسلاميّ"، إلا لتحيل إلى التطرف والإرهاب والتخلف، وتوظيف الدين لأغراض سياسية. والمفردة الأصوب: "إسلامويّ"، تبخيسا وازدراء. ولن يمنع هذا إعلاميي العار من أن يتناسوا هذا التوجيه الذي يدين توظيف الدين لأغراض سياسية، ليستدعوا بأنفسهم فتاوى تحرم الجهاد ضد الاحتلال بغير إذن ولي الأمر (!!)، وتحرم استعمال صفة الشهيد لضحايا الاحتلال، وتحرم صور الاحتجاج الشعبي بدعوى أنها تصرف عن ذكر الله وتفضي إلى الفتنة، وتحرم العمليات الاستشهادية بدعوى أنها عين الانتحار المحرّم. لا بأس في صحوة تقوى مفاجئة مؤقتة يوظف بها إعلاميو العار الدين لخدمة سياسات الاعتدال (الخنوع والتواطؤ). إنما المنهيّ عنه توظيف الدين لإذكاء روح المقاومة والجهاد ضد المحتل
لا تقل: مقاومة وجهاد وعمليات استشهادية. فهذه مفاهيم ملوثة بالإرهاب والتطرف ومجافاة الواقعّية السياسية التي يفرضها الظرف. وهي ضد "الاعتدال".
- لا تقل "إمبرياليّة" في وصف الولايات المتحدة فإن هذا يحيل إلى الخطاب اليساريّ الذي يفترض أنه انقضى مع انقضاء الاتحاد السوفيتي والثورة العالمية. (وكأنّ إمبريالية الولايات المتحدة مجرّد أسطورة متخيّلة صنعها الاتحاد السوفيتي في سياق الحرب الباردة. أما هذه الهيمنة الأميركية الدولية التي بدأت قبل نشوء الاتحاد السوفيتي، وأثناء وجوده وازدادت توحشا بعد انهياره، فلا تكفي لاستعمال صفة الإمبريالية).
- لا تقل عدالة اجتماعيّة ولا دولة رعاية اجتماعية، فإن هذا يحيل من جديد إلى "الاشتراكية" المدنّسة، في مقابل الاقتصاد الحرّ المقدّس (الذي يوشك الآن أن يودي بالاقتصاد العالمي إلى الهاوية).
- لا تفسّر ظاهرة الإرهاب والتطرّف تفسيرا يحيلها إلى المظالم الفاحشة التي اقترفتها وتقترفها الولايات المتحدة وإسرائيل والدول الكبرى، فإن هذا التفسير يعني التبرير. ولكن اكتف بالتفسير الذي يردّ هذه الظاهرة إلى عوامل ذاتية ثقافية تتعلق بالنظم التربوية الدينيّة والخطاب الإسلاميّ بعامة، وإلى غياب مفاهيم التعدديّة وقبول الآخر. ولذا فإن معالجة ظاهرة التطرف والإرهاب تتمثل فقط في إشاعة ثقافة التعددية. فالصراع ليس أكثر من صراع ثقافي حضاريّ خالص. وإذ هو كذلك، فإن الذي يتحمل مسؤوليته الكاملة، ليس الغرب الليبرالي الديمقراطي التعدّدي، وإنما هو الثقافة العربية الإسلامية السائدة التي تحتكر "صناعة الموت".
ألاّ تكثر الحديث عن الاحتلال بوصفه أصل الداء وأسّ البلاء. (فهذا يستدعي في المقابل تسويغ المقاومة، ويصرف التهمة عن حماس ودورها في تنفيذ أجندة إيرانية سورية ضد محور الاعتدال العربي، لا ضد الاحتلال!). وفي المحصّلة يجب أن يصور الصراع، لا بكونه صراعا بين قوة الاحتلال والاغتصاب، والشعب المنكوب المقاوم، وإنما هو أقرب إلى أن يكون نزاعا سياسيا على حقوق مختلف عليها، بين شعبين اتفقا على أنهما يعيشان على نفس الأرض!
ها هو الرافعي يشد من أزر رحمه الحضاري في معركة المفاهيم والمعاني الأديب وليد سيف يقول له سلمت" إن الأمة لن تكون في موضعها إلا إذا وضعت الكلمة في موضعها، وإن أول ما يدل على صحة الأخلاق في امة كلمة الصدق فيها، والأمة التي لا يحكمها الصدق لا تكون معها كل مظاهر الحكم إلا كذبا وهزلا ومبالغة." سلمت " إن كلمة (حقي) لا تحيا في السياسة إلا إذا وضع قائلها حياته فيها؛ بوركت " فما دام هذا الشعب لين المأخذ، فإن هذا يوجد له من يأخذه، وما دامت الكلمة الأولى في معجم لغته السياسية هي مادة (خضع يخضع)، فهذه الكلمة تحمل في معناها الواحد ألف معنى، منها: ظلم يظلم، وركب يركب، وملك يملك، واستبد يستبد، ويدجل يدجل، وخدع يخدع، فهل يكثر أن يكون منها للأجانب امتاز يمتاز؟ " وأكمل وكان للمغتصب أن ينهب ما أراد ومؤبدا له نمكن له منا.
رابط على هذا الثغر لا تغادره " أثر الجيش معروف في دفاع الأمم العدوة عن البلاد، فأين أثر جيش العلماء في دفاع المعاني العدوة عن أهل البلاد، وقد احتلت هذه المعاني وضربت وتملكت.."
معركتنا الأساس في النهضة والمقاومة مع هؤلاء " وأقول ولا أبالي: إننا ابتلينا في نهضتنا هذه بقوم من المترجمين والنقلة قد احترفوا النقل من لغات أوروبا ولا عقل إلا عقل ما ينقلونه: فصنعتهم الترجمة من حيث يدرون أو لا يدرون صنعة تقليد محض ومتابعة مستعبدة، وأصبح عقلهم ـ بحكم العادة والطبيعة ـ إذا فكر انجذب إلى ذلك الأصل لا يخرج عليه ولا يتحول عنه، وإذا صح أن أعمالنا هي التي تعلمنا ـ كما يقول بعض الحكماء ـ فهم بذلك أخطر على الشعب وقوميته وذاتيته وخصائصه ويوشك إذا هو أطاعهم إلى كل ما يدعون إليه أن.... أن يترجموه إلى شعب آخر.." ولهم عقول عجيبة في اختراع الألفاظ، حتى لتكون شدة الوضوح في عبارة هي بعينها الطريقة لإخفاء الغموض في عبارة أخرى، وكثيرا ما يأتون بألفاظ منتفخة تحسب جزلة بادنة قد ملأها معناها، وهي في السياسة ألفاظ حبالى، تستكمل حملها مدة ثم تلد..
ولهم من بعض الكلمات، كما لهم من بعض الرجال السياسيين، فيكون الرجل من دهاتهم رجلا كالناس، وهو عندهم مسمار دقوه في أرض كذا أو مملكة كذا، ويكون اللفظ لفظا كاللغة، وهو مسمار دقوه في وثيقة أو معاهدة.
وما ذلت لغة شعب إلا ذل، ولا انحطت إلا كان أمره في ذهاب وإدبار ومن هذا يفرض الأجنبي المستعمر لغته فرضا على الأمة المستعمرة ويركبهم بها ويشعرهم عظمته فيها، ويستلحقهم من ناحيتها، فيحكم عليهم أحكاما ثلاثة في عمل واحد: أما الأول فحبس لغتهم في لغته سجنا مؤبدا، وأما الثاني فالحكم على ماضيهم بالقتل محوا ونسيانا، وأما الثالث فتقييد مستقبلهم في الأغلال التي يصنعها، فأمرهم من بعدها لأمره تبع. إنه السند الحضاري الموصول: الذاكرة واللغة والمعاني. (وليد الرافعي وسيفه).
مشروع وليد سيف في سلسلة السند الحضاري.. الذاكرة الحية ومعركة المعاني
يفند وليد سيف الخطاب السائد في أوساط بعض الليبراليين العرب أولئك الذين يعملون في خدمة السلطات الحاكمة الكارهين للظاهرة الإسلامية برمتها ولبرنامج المقاومة والأقرب في مواقفهم إلى العدو |
يؤمن سيف بأهمية العمل الفني كذاكرة جمعية تحقق من خلالها الأجيال معاني الترابط والتواصل والاستمرارية دون انقطاع أو تشويش في الذاكرة، وكلها معاني أساسية وجوهرية للحفاظ على القضايا الوطنية التي تتعرض في كثير من الأحيان لمخاطر التدليس وتزييف الوعي والانقطاع بالذاكرة الجمعية ومعارك المعاني ووعى المفاهيم.
تركز أعمال وليد سيف.. على معالجة التاريخ للاستفادة منه في الواقع، يكتب التاريخ ليستفيد به المعاصرون، إنه لا يفلت لحظة تاريخية دون استخلاص معناها وعبرتها(الخبرة، الفكرة، العبرة .
فهو دائم التركيز على أضرار الديكتاتورية والقهر على الشعوب وكيف أنها هي التي تسلم البلاد للغزاة (خاصة ملوك الطوائف).
وهو دائم التركيز على الكوارث التي تصنعها الخيانة والطمع وحب السلطة (خاصة صلاح الدين وملوك الطوائف.
ودائم التركيز على المصائب التي تنتج عن تفرق الأمة وتشتتها وتشرذمها.
إنه يفند الخطاب السائد في أوساط بعض الليبراليين العرب، أولئك الذين يعملون في خدمة السلطات الحاكمة، الكارهين للظاهرة الإسلامية برمتها ولبرنامج المقاومة، والأقرب في مواقفهم إلى العدو. يفنده من مبدأه إلى منتهاه، وينزع عنه كل الأثواب الزاهية التي يتدثر بها، ليتركه عارياً أمام العقل السوي: العقل الذي يريد معرفة الحقيقة، وليس الانتصار لمواقف مسبقة لا أكثر: مواقف تتأسس على أحقاد متعددة الدوافع (كما يشير إلى ذلك الأستاذ ياسر الزعاترة).
الفصل الجديد من التغريبة الفلسطينية ،"غزة الفاضحة.. عنوان المعاني" هو عنوان المقال الذي كتبه وليد سيف، وهو عنوان رمزي لأن معركة غزة كانت فاضحة بالفعل، فاضحة لمقولات وطروحات وأنظمة وحركات، تماماً كما كانت رافعة حملت القضية والأمة نحو محطة جديدة، سيكون لها ما بعدها من دون شك.وطور تلك الرؤية في "ستون عاما على النكبة.. الصراع على المعاني
׃ الصراع على الوجود". مشروع حضاري يجعل فلسطين في قلبه ؛إن القضية الفلسطينية أكبر من أي اتفاق أو ظرف سياسي تفرضه المعادلات السياسية ومعايير القوى، وأنه مطلوب من المبدع دائما الحفاظ على الرواية التاريخية وأن يبقى حارسا للذاكرة الفلسطينية، لأنه من الخطوط الحمراء إعادة كتابة التاريخ وفقا للتطورات المستجدة".
وليس ضروريا بأن تتطابق حدود الدولة مع حدود الوطن، لأنه قد يكون مفهوم الدولة في مرحلة معينة دون حدود الوطن، وبالنسبة للمبدعين والمثقفين يجب أن يبقى حاضرا لديهم بأن الوطن الفلسطيني تمتد حدوده من البحر إلى النهر، وليس محصورا بحدود تفرضها المعايير الدولية واختلال موازين القوى.وهو إذ يعي رسالته بين ارتباط ولادته في العام 1948 بالنكبة الذي يبقى دافعا لتقديم المزيد من الأعمال لصالح القضية الفلسطينية، والمطلوب منه كمبدع بالعمل للحفاظ على الرواية التاريخية وأن يبقى حارسا للذاكرة الفلسطينية.ينهض ليحل العقدة الخبيثة متواصلا مع رحمه الحضاري التي ذكرنا بها الرافعي :
"نهضت فلسطين تحل العقدة التي عقدت لها بين السيف، والمكر، والذهب.
عقدة سياسية خبيثة، فيها لذلك الشعب الحر قتل وتخريب، وفقر.
عقدة الحكم الذي يحكم بثلاثة أساليب: الوعد الكذب، والفناء البطيء، ومطامع اليهود المتوحشة".
_______________
أستاذ العلوم السياسية جامعة القاهرة