صناعة العدو.. الاستشراق والإسلام "المتشيْطن"

تتسم نظرة بعض المفكرين الغربيين الجدد للإسلام بالاستصغار وقد غذت ذلك أطروحات تحاول تنميط الإسلام وعدم التفريق بينه بين والمسلمين ضمن خطاب يعود بنا لغة الحرب الباردة







عبد الحسين شعبان


الغرب ونظرة الاستصغار
الاستشراق الأنجلو سكسوني والإسلام
تنميط الإسلام
الغرب لا يفرق بين الإسلام والمسلمين
الغرب والإسلام.. عودة إلى لغة الحرب الباردة



كان إدوارد سعيد المفكّر الفلسطيني، قد كشف قبل ثلاثة عقودٍ ونيّف من الزمان، الأبعاد المعلنة والمستترة، القديمة والجديدة، الآيديولوجية والدينية، الاقتصاسياسية والجيو-إستراتيجية، للفكر الاستشراقي بصورته النمطية أو بمحاولته "تنميط" الإسلام، والنظر إليه وإلى المجتمعات الإسلامية، نظرة تتسم بالاستعلاء والتفوق وإنكار الأدوار التاريخية، لاسيما للحضارة العربية- الإسلامية، التي لعبتها في العصر الوسيط، يوم كانت أوروبا تغطّ في ظلام دامس ونوم عميق، في حين شهد العالم العربي-الإسلامي ازدهاراً وتقدماً على جميع الصُعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأدبية والعمرانية.


الغرب ونظرة الاستصغار





حاول بعض المفكرين الجدد في الغرب رسم صورة متخيلة لشرق له مقاسات تم وضعها على هواهم، لا سيما وقد دُمغ فيه الإسلام بالإرهاب والعنف والتخلف، وصاحب ذلك صعود موجة من اليمين المتطرف، بعد انهيار الشيوعية الدولية
كان ذلك في العام 1978 عندما أصدر ادوارد سعيد كتابه الشهير "الاستشراق"، الذي كان بحق تأسيساً نقدياً للفكر الاستشراقي السائد، بما فيه بعض من كان ينظر إلى الغرب من موقع دوني، حتى وإن أراد تجاهله أو مواجهته، وكان إدوارد سعيد قد شخّص على نحو صحيح بعض الأفكار الاستشراقية، التي كانت تحاول بنظرة فوقية استصغار الشعوب والأمم الأخرى، بدعاوى الامتياز العنصري والإمبريالية، وذلك قبل أن يبرز بعض المفكرين الجدد أمثال برنارد لويس، وفرنسيس فوكوياما وصموئيل هنتنغتون وغيرهم، الذين حاولوا رسم صورة متخيلة لشرق له مقاسات تم وضعها على هواهم، لا سيما وقد دُمغ فيه الإسلام بالإرهاب والعنف والتخلف، وصاحب ذلك صعود موجة من اليمين المتطرف، بعد انهيار الشيوعية الدولية، في أواخر ثمانينات القرن الماضي والتي توّجت حينها بانهيار جدار برلين وبتحكّم لاعبٍ واحدٍ بالسياسة الدولية وهو الولايات المتحدة تدور في فلكه القوى الكبرى والصغرى، كما ترافق ذلك بصعود ما سمي بالصحوة الإسلامية وبخاصة بعد الثورة الإيرانية، والتي اتخذ بعضها اتجاهات متطرفة ومتعصبة.

لقد حاول بعض المستشرقين وتحت يافطات أكاديمية تزعم الجدية والاجتهاد، التأسيس لأطروحة أساسها "شيطنة" الآخر، باعتباره عدواً ينبغي تطويقه ومحاصرته وربما القضاء عليه، وهو ما دفع رئيس أكبر دولة في العالم وفي ظرف تاريخي ملتبس، أن يصرح في العام 2001 وبعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول الإرهابية الإجرامية، بأنه سيشن حرباً صليبية على الإسلام، وإن كان الرئيس جورج دبليو بوش قد تراجع واستدرك باعتبار ذلك زلّة لسان، لكنه كرّر الأمر على نحو أشد بشاعة، خصوصاً وقد جاءت تصريحاته بدمغ الإسلام بالفاشية خلال العدوان الإسرائيلي على لبنان العام 2006.


ولهذا فإن محاولة تصحيح صورة الولايات المتحدة، التي سعى إليها الرئيس أوباما، خصوصاً في خطابه التاريخي في جامعة القاهرة في مطلع يونيو/ حزيران 2009، ما تزال بعيدة المنال، في ظل التراكمات السلبية النظرية والعميقة وبخاصة التجارب المريرة للشعوب العربية والإسلامية ومعاناتها الفائقة من إستراتيجيات الولايات المتحدة، ولاسيما انحيازها الكامل لإسرائيل، والتي تحتاج إلى استعادة الثقة أولاً والسعي بالتجربة والبرهان لإقامة علاقات ذات صدقية وتوازن ثانياً، وبالتالي التخلص من بعض البؤر والنتوءات الحادة في السياسة الأمريكية وبخاصة إنهاء احتلال العراق ثالثاً.


وساهمت أحداث 11 سبتمبر/ أيلول في استمرار النظرة السلبية إزاء الإسلام والمسلمين وما تركته سياسات واشنطن من ممارسات عدوانية خطيرة من انعكاسات سلبية تجلّت باحتلال أفغانستان وغزو واحتلال العراق، بعد حصار شعبه طيلة 13 عاماً، واستمرار تواطئ واشنطن مع سياسات تل أبيب التي تتنكر للشعب العربي الفلسطيني وحقوقه العادلة والمشروعة وغير القابلة للتصرف، وقد تجلّى الأمر خلال العدوان على غزة الذي دام 22 يوماً (أواخر العام الماضي 2008 وأوائل العام الجاري 2009) وقبلها العدوان على لبنان.


الاستشراق الأنجلو سكسوني والإسلام





تظهر محاولة شيطنة الإسلام عند بعض المفكرين الأنجلو سكسونيين من خلال زواج السلطة بالمعرفة فهم يعبّرون عن توجهات اليمين المحافظ المتطرف الأمريكي الذي يسعى باستمرار إلى الصدام والمواجهة ويزعم أن الإسلام لا يتطور وأنه رسالة "بدو أجلاف" بدون حضارة، على عكس الحضارة الغربية الحداثية التي ستجد نفسها متصادمة
يعتبر كتاب برنارد لويس "اكتشاف الإسلام لأوروبا" نموذجاً للاستشراق "الأنكلوساكسوني- الأمريكي" الذي يسعى للحطّ من الحضارة العربية- الإسلامية، وليس الإسلام كتعاليم دينية فحسب، ولعله نتاج صورة نمطية جاهزة ونظرة مسبقة عن الإسلام، حتى وإن اختفت وراء جدار أكاديمي أو تلفّعت بالموضوعية، لأن هدفها المسبق قبل البحث والتمحيص هو "أبلسة الإسلام"، لدرجة جعل كل شيء من التاريخ إلى اللغة والأدب والسياسة والاقتصاد والثقافة والحضارة، تدور لخدمة هذا الهدف غير النبيل والامبريالي بامتياز.

إن محاولة "شيطنة الإسلام" تظهر من خلال زواج السلطة بالمعرفة، فهؤلاء المستشرقون والمنظّرون، إنما يعبّرون عن توجهات اليمين المحافظ المتطرف الأمريكي، الذي يسعى باستمرار إلى الصدام والمواجهة بحجة الخطر الداهم والمتجسّد في الإسلام من خلال النظرة السلبية المسبقة، التي تحاول إسباغ نوع من الهيبة والمشروعية، بل والموضوعية الزائفة بزعم أن الإسلام لا يتطور وأنه رسالة "بدو أجلاف" بدون حضارة، على عكس الحضارة الغربية الحداثية التي ستجد نفسها متصادمة، وربما لا محال حسب صموئيل هنتغتون معها ومع الحضارات الأخرى، وفي ذلك محاولة متعمدة لتشويه التاريخ العربي بما فيه تاريخ العلاقة العربية – الإسلامية مع بعض دول وشعوب أوروبا.


ولعل هذا ما يدفعنا لطرح السؤال الكبير الذي ظلّ يتردد بصوت عال أو خافت أحياناً لدينا ولدى الغرب: هل ثمة مواجهة أو مجابهة بين الغرب والإسلام؟


واستناداً إلى الحاضر، يمكن القول: رغم المأساة التي حصلت في الولايات المتحدة جرّاء الفعل الإرهابي اللاإنساني، فإن المتضرر، لم يكن الولايات المتحدة وحدها، بل إن الإسلام والمسلمين كانوا المتضررين الأساسيين، خصوصاً لجهة محاولات محمومة لإلصاق التهمة بهم، باعتبارهم "مسؤولين" وان بيئتهم الدينية والثقافية تحضهم على العنف والإرهاب، ناهيكم عن نظم التربية والتعليم وبخاصة الدينية، التي تشكل بؤرة خصبة لإنتاج الإرهاب وتعميمه لإلغاء الآخر أو استئصاله.


هذه الصيغة هي نفسها التي وردت على لسان الرئيس جورج دبليو بوش الذي سبق أسامة بن لادن أن قسّم العالم إلى معسكرين أو فسطاطين، أحدهما معسكر الشر والظلام، أما الآخر فهو معسكر الخير والنور. ولعل ذلك هو الذي دفعه إلى إطلاق صفة "الفاشية الإسلامية" مثلما كان قد ردد مصطلح "الحرب الصليبية" بعد 11 سبتمبر/ أيلول فليس زلّة لسان كما قيل وقتها، وإنما جاءت تعبيراً عن منظومة فكرية عدائية- استشراقية، استعلائية إزاء العرب والمسلمين.


ولم تسلم، حتى بعض الدول الصديقة للولايات المتحدة، من الاتهام بكونها بؤرة مشجعة على نمو الإرهاب وتفريخه وتصديره، وما عليها سوى التعاون الأمني واللوجستي وتغيير مناهجها الدراسية والتربوية، وإلاّ تمّ تصنيفها في خانة "الدول الشريرة" أو "الدول المارقة" ووضع اسمها ضمن القائمة التي صنفتها واشنطن، والتي تصل إلى نحو 60 حركة وتياراً سياسياً ودينياً وتشمل رقعة جغرافية واسعة تصل إلى حدود 40 بلداً.


وكان بيان المثقفين الأمريكيين الستين الذي صدر عقب أحداث سبتمبر/ أيلول على قاعدة نظرية صموئيل هنتغتون "صدام الحضارات" ونظرية نهاية التاريخ لفرانسيس فوكوياما، دليلاً على انعدام معايير التسامح إزاء ما حدث، بحيث يتم اختزال نحو مليار و400 مليون مسلم موزعين على 60 بلداً بينها 57 دولة إسلامية عضواً في المؤتمر الإسلامي، وتشكل نحو ثلث بلدان العالم التي بلغت 192 دولة ونحو خمس سكان المعمورة إلى مجرد مجتمعات تشجع على ممارسة الإرهاب وتغذيته فكرياً ومالياً.


لعل ذلك ينمّ عن فهم قاصر في النظر إلى المسلمين، باعتبارهم كتلة واحدة وباعتبار الإسلام شيئاً واحداً، ولا يجري التفريق أحياناً بين الإسلاميين والإسلامويين وبين هؤلاء وبين المسلمين، وكأن الإرهاب قدر لصيق بالإسلام.


تنميط الإسلام





الإسلام حضارة وهوية لأمم وشعوب وتكوينات عرقية وإثنية متنوعة وهو كدين لم يضع حاجزاً أمام انخراط المسملين في الركب العالمي نحو الحداثة والديمقراطية وحقوق الإنسان، والتجربة التركية خير دليل على ذلك
ومثلما نظر البعض إلى الغرب نظرة شمولية باعتباره "شرٌ مطلق" دون تمييز بين الغرب السياسي والذي لديه مصالح وسياسات وفلسفات وآيديولوجيات يريد فرضها، وبين الغرب الثقافي ببعض قيمه الإنسانية والجمالية الذي وقف إلى جانبنا في الكثير من الأحيان، فقد نظرت الأوساط المتنفذة في الغرب إلى الإسلام نظرة كلياّنية أي شاملة، دون تمايزات أو تلاوين أو تكوينات مختلفة لشعوب وأمم لها تاريخها ولغاتها وتوجهاتها الفكرية والقومية ونظمها السياسية المختلفة.

صحيح أن كل مسلم، متديناً أم غير متدّين، أصولياً أم ليبرالياً، علمانياً أم متزمتاً، مجدداً أم محافظاً، يمينياً أم يسارياً، يشعر أنه جزء من هوية كبيرة اسمها الإسلام، ويحتفل بأعياده الإسلامية ويطلق الأسماء الإسلامية على أبنائه وأحفاده، ويقيم مراسم العزاء والدفن على الطريقة الإسلامية، بل إن غالبيتهم الساحقة لا تتناول اللحوم إلا إذا كانت مذبوحة على الطريقة الإسلامية، لكن هذا شيء وتنظيم القاعدة أو توجهات حكومات طالبان أو غيرها من الحركات الإرهابية أو الحكومات الإسلامية، التي تستمد من الدين أساساً لشرعيتها شيء آخر. وهذه النظرة لا يفهمها مشروع الاستشراق سواءً في بعدها التاريخي أو الراهن.


الإسلام في نهاية المطاف حضارة وهوية لأمم وشعوب وتكوينات عرقية وإثنية متنوعة، لعبت دوراً كبيراً في توّجهاتهم لاحقاً، لكنه كدين لم يضع حاجزاً أمام انخراطهم في الركب العالمي نحو الحداثة والديمقراطية وحقوق الإنسان، ولعل التجربة التركية رغم التحديات التي ما تزال تواجهها وبعض النواقص الجدية فيها خير دليل على ذلك.


لقد أثارت العديد من الدعوات في الغرب بما فيها بيان المثقفين الأمريكيين بعض التداعيات إزاء عملية تنميط الإسلام أو "نمذجة" الإرهاب وربطه بالإسلام، لدرجة أن المفكر الراحل إدوارد سعيد، أشار بوضوح أقرب إلى الاتهام، إلى محاولة بعض هؤلاء إبقاء "خطر الإسلام والتنديد به وإلصاق ممارسات العنف والاستبداد والإرهاب به" من أمثال جودي ميلر وصاموئيل هنتنغتون ومارتن كرايمر وبرنارد لويس ودانيال بايس وستيفن أمرسون وباري روبن، إضافة إلى مجموعة من الأكاديميين الإسرائيليين الذين صنّفوا الإسلام كشيء مرعب لا نظير له.


ربما هناك الكثير من الإبهام والالتباس والغموض لدى المستشرقين وأهدافهم بشأن المشترك الإنساني للإسلام الذي يشكل الهوية الثقافية والدينية للمجتمعات الإسلامية، بغض النظر عن اللغة أو القومية. وإذا كان مثل هذا الأمر بعيداً عن تفكير المواطن العادي في الغرب، فإنه ليس بعيداً عن تفكير وخطط ومعرفة النخب السياسية الحاكمة ومصالحها، ولكن قد يكون هدف مثل هذا الترويج أو الدعاية السوداء هو أن الإسلامويين أو المتطرفين والمتعصبين هم الذين يراد تقديمهم كـ"نموذج" للإسلام، لأهداف ترتبط بالسياسة الإمبراطورية الكونية للولايات المتحدة، من أجل فرض الاستتباع والهيمنة، وليس البحث في حقيقة الظاهرة لتفادي مخاطرها والتوصل إلى السبل الناجعة لمكافحتها.


الغرب لا يفرق بين الإسلام والمسلمين






والمشكلة الفعلية لبعض المفكرين والمستشرقين الغربيين، بل والاتجاه السائد في الغرب ليست المشكلة في "الأصولية" الإسلامية أو أعمال التطرف والتعصب والغلو، بقدر ما هي في الإسلام كدين وتعاليم وحضارة عربية- إسلامية
لا يفرق معظم الغربيين والأمريكيين تحديداً بين الإسلام والمسلمين، وبين المسلم العربي والعربي غير المسلم، ولا بين المسلم العربي والمسيحي العربي، ولا بين المسلمين بطوائفهم المختلفة ومدارسهم واجتهاداتهم، طالما الجميع ينتمون إلى المنطقة ولديهم ملامح شرق أوسطية!! ولا يشمل هذا الأمر المواطن العادي حسب، بل إن بعض النخب الفكرية، ليست بعيدة عن ذلك، وليس من باب الجهل، بل من باب الإغراض الاستشراقي أحياناً، وبهدف تهيئة الرأي العام لتقبّل فكرة صورة العربي المسلم المشوهة المتخلفة والرهيبة أحياناً، وحتى صورة الإسلام توضع في مواجهة الحضارة الغربية ومنجزات العلم والتكنولوجيا في الإعلام الغربي.

والمشكلة الفعلية لبعض المفكرين والمستشرقين الغربيين، بل والاتجاه السائد في الغرب ليست المشكلة في "الأصولية" الإسلامية أو أعمال التطرف والتعصب والغلو، بقدر ما هي في الإسلام كدين وتعاليم وحضارة عربية- إسلامية.


ولعل السيدة مكير هولنجورث محررة الشؤون الدفاعية في صحيفة انترناشنال هيرالد تريبيون خير مثال على ذلك، حين تقول: "إن الأصولية الإسلامية ستتحول إلى الخطر الأعظم الذي يتهدد السلم والأمن العالميين، بالإضافة إلى كونها سبباً للاضطراب القومي والمحلي من خلال الإرهاب". وهي خطر مثل النازية في الثلاثينات ومثل الخطر الشيوعي في الخمسينات.


والإرهاب ليس صفة لصيقة بدين أو شعب أو أمة أو دولة أو جنسية ويتم أحياناً استخدام الدين المسيحي أو اليهودي أو الإسلامي للتغطية على بعض الأعمال الإرهابية بطريقة مزورة ومشوّهة، وبعيدة عن المُثل والقيم الدينية.


وقد أثار البيان الذي أصدره بعض المثقفين الأمريكيين مثل هذه التداعيات إزاء عملية تنميط الإسلام أو نمذجة الإرهاب وربطه بالإسلام. ولعل هذا هو الذي دفع إدوارد سعيد المفكر والجامعي الفلسطيني الكبير إلى وضع علامات استفهام حول دوافع وأهداف عدد من الأكاديميين والمستشرقين الغربيين.


إن مثل هذه الأطروحات تشكل خطراً على العقلانية وعلى أي تفكير منطقي، فالإسلام حسب هذه الأطروحات بمثابة القنبلة الموقوتة التي يتم تفجيرها في أية لحظة استناداً إلى مبدأ تحت الطلب ودون توفر شروط موضوعية مثل مقاومة الظلم وتطبيق العدالة وتحقيق حياة أفضل والدفاع عن العقيدة، كما يتضمن هذا المفهوم.


ومع الأسف فإن البيان الذي وقعه المثقفون الستون حظي باهتمام دولي كبير جداً، لكنه لم يحظ بمثل هذا الاهتمام عربياً وإسلامياً، ولعل ذلك يعطي مؤشراً لعدم متابعتنا أولاً وانغمارنا بأمور الحياة ومشاكلها اليومية ثانياً، ولعدم معرفتنا بآليات عمل السياسة الدولية والغربية ثالثاً، ولعدم وجود علاقات متينة بين المثقفين الأمريكان والمثقفين العرب والمسلمين رابعاً.


البيان هو تواطؤ "المعرفة والسلطة"، وهو انعكاس لدور المثقفين المندغمة مصالحهم مع مصالح الغرب السياسي في التعبير عن تطلعات الرأي العام، بل صياغتها طبقاً للمصالح السياسية والجيو-إستراتيجية للمجمّع الصناعي- الحربي في الولايات المتحدة.


الغرب والإسلام.. عودة إلى لغة الحرب الباردة


وإذا كان العقل والأخلاق، أي الانحياز إلى العدل والضمير، هاجسَ الثقافة والمثقفين الأساسي ومبرراً وجدانياً لعملهم الإبداعي، فإن هذا البيان جاء تبريرياً ذرائعياً لإضفاء نوع من "الأنسنة" على الحرب الأمريكية ضد أفغانستان وما سمي بالإرهاب الدولي، محاولاً أن يسوّغها بأنها حرب على الشر ولا تستهدف شعباً أو ديناً أو ثقافة، ولكنه يبرر استخدام السلاح للرد، فيما إذا اقتضت الضرورة ذلك، كل ذلك يأتي باسم العدالة العمياء "فثمة أوقات يصبح فيها من الضروري على الأمة أن تدافع عن نفسها بحد السلاح..."


إن البيان تأييد للحكومة الأمريكية ضد الجماعات الإرهابية وبخاصة في المنطقة العربية- الإسلامية. وحسب تعبير المفكر اللبناني، علي حرب أنه "بيان حربي لشرعية الحرب على الإرهاب" أي تسويغ العمليات الحربية.


وإذا كانت الحرب على الإرهاب مسألة دولية، فإن البيان أغفل علاقة الحكومات الأمريكية بالإرهاب والإرهابيين مما يثير الكثير من علامات الاستفهام.


إن البيان يعطي ويسوّغ للولايات المتحدة "حق التدخل" باسم مكافحة الإرهاب، بل الحق في احتكار العدالة، ومع أنه توجد إشارات انتقادية للسياسة الأمريكية واعترافات من بعض الموقعين عليها، إلاّ أن البيان يتغافل عن دور إسرائيل كبؤرة الإرهاب والتمييز العنصري.


وإذا كان ثمة إيجابية في البيان فهي دعوته للحوار والمداولة والشراكة بين المثقفين بغض النظر عن الاتجاه السياسي، وهو ما يدعو المثقفين العرب لتحمل مسؤولياتهم وأخذ دورهم الذي ينبغي أن يتناسب مع ما يتحملوه ، للنقاش في مسألة هي غاية الخطورة والأهمية. وثمة إيجابية ثانية هي الإشارة إلى أن حركة القاعدة التي تنطق باسم الإسلام، إنما تخون مبادئه.


ورغم بعض الإيجابيات والاعترافات إلاّ أن البيان بشكل عام يبقى عودة إلى لغة الحرب الباردة فمصطلح "محور الشر" بعد إمبراطورية الشر، و"الحروب المقدسة" ، و"من ليس معنا فهو ضدنا"، وكلها شعارات تفرض عقلية الإقصاء والإلغاء والعزل وتصدر عن فكر آحادي تبسيطي يقسم العالم إلى خير وشر ويفرض نمطاً من الصراع للهيمنة والسيادة المطلقة.


إنه دعوة لمحاربة الإرهاب بعقلية تكاد تكون إرهابية وذلك بحشر الآخرين كلهم في فكي الكماشة تحديداً: إما أن يكونوا مع الولايات المتحدة ضد الإرهاب أو مع بن لادن ومحور الشر. إنه تأكيد للعقلية الاصطفائية الاستعلائية والوصاية على العدالة. ولم يتعرض البيان إلى قضية حقوق الإنسان خصوصاً الإجراءات الأمريكية التعسفية سواءً إزاء الأجانب أو ما حدث في غوانتانامو، حيث تعرض السجناء إلى انتهاكات فظة لحقوق الإنسان وهو ما أكدته العديد من المنظمات الدولية، وما افتضحه أمره لاحقاً في سجن أبو غريب العراقي والسجون السرية الطائرة والعائمة. فهل سيكون خطاب الرئيس أوباما مقدمة أولية لمراجعة الموقف الأمريكي من الإسلام بهدف اتباع سياسات جديدة تأخذ المشترك الإنساني بنظر الاعتبار، لاسيما بعد فشلها الذريع في التعامل مع قضايا الإسلام والمسلمين على النطاق العالمي!؟
_______________
باحث ومفكر عربي