![]() |
المسافة بين ثنائية الأسماء والأشياء
العجز العربي الفلسطيني
لا شك أن الموضوع الذي يتناوله د. وليد سيف في مقاله "ستون عاماً على النكبة.. الصراع على المعاني: الصراع على الوجود" من الأهمية بمكان، باعتباره موضوعاً محورياً ومصيرياً في مسيرة الستين عاماً على احتلال فلسطين. حاول د. وليد في هذا المقال أن يكشف ويزيل الضبابية واللبس الذي اصطُنع على "المفاهيم والمعاني" كجزء من معركة الصراع على قضية فلسطين بأبعادها السياسية، والثقافية، والعسكرية، والحضارية، محاولاً الكشف عن حقيقة وعورات "التغّير" أو "التغيير" في هذه المعاني وما ارتبط بها من صراع حول الوجود، وساهم في جلاء هذه الصورة إلى حد كبير، إلا أن هيمنة الأسلوب الأدبي أحياناً على المقال – إذ أن د. وليد سيف كاتب دراما تلفزيوني من طراز رفيع- أدخلتنا في ضبابية وغموض آخر يدور حول ترابط أفكار الموضوع، وضاع منا في كثير من الأحيان تسلسل الأفكار وترابطها.
المسافة بين ثنائية الأسماء والأشياء
جميل ما تطرق إليه المؤلف من معاني محورية تمس الصراع وكينونته، ولكنّ الصورة ستكون أجمل لو استطاع أن يقدمها كمنظومة مترابطة |
فمثلاً، كدنا نضيع في حديثه عن "الأسماء والأشياء" ودخلنا في تفصيل فلسفي يكفي فيه الإيجاز، وحلق بنا المقال في منظومات المعاني بشكل تهْنا فيه عن إدراك علاقة المعاني في صراع الواقع، وذلك عندما أراد أن يشير إلى غياب المسافة بين ثنائية "الأسماء والأشياء"، عبّر عنه بقوله "لا يكون الخلاف حول المعاني والقيم المشتركة على المستوى النظري المجرد... ولكن الخلاف هو في إنزال المعنى على واقعة بعينها ويعرفها به... وهنا تتدخل في علاقات القوة... ليتمكن الطرف الأقوى من فرض تعريفاته وتأويلاته على عقول الآخرين، وبذلك يكون الصراع على المعاني والخطاب هو الصراع على العقول والمدركات، وهو في آخر المطاف الصراع على امتلاك الواقع وتشكيله.
جميل ما تطرق إليه المؤلف من معاني محورية تمس الصراع وكينونته، ولكنّ الصورة ستكون أجمل لو استطاع أن يقدمها كمنظومة مترابطة، فلو تعامل مع "المعاني" والأفكار ليس على شكل ورود وأزهار متناثرة، ولكن لو ضمنها في وعاء يحوي أزهاراً ووروداً بأشكالٍ جمالية متنوعة، ومتناسقة مترابطة، أعني جعلها "مزهرية" تحوي جمالاً وضوحاً مع إشراقة لأزهارها وورودها".
ولو تناول المؤلف صراع "المعاني" وما ارتبط به من صراع "الوجود" بمنهجية مترابطة محددة الأركان والأبعاد والمضامين، وبدأ فيها بتحديد عملية "إدارة الصراع" في ساحة المعاني موضع الصراع. إذ أن عملية إدارة هذا الصراع، هي عملية معقدة متعددة الأبعاد والمحاور، تتطلب تحديد مجموعة من العناصر، منها:
أولاً: أطراف الصراع خاصة الأطراف الرئيسية أو الفاعلة في الصراع العربي-الإسرائيلي حول فلسطين والتي تتمثل في الأطراف التالية:
"العدو الإسرائيلي": حيث تمثل إسرائيل بأنها مشروع استعماري/ استيطاني.
"النظام العربي الرسمي": الذي كان من المفترض به أن يكون صانع المشروع النهضوي العربي من جهة, وقائد مسيرة تحرير فلسطين "القضية المركزية" للأمة العربية والإسلامية من جهة أخرى
"حركات المقاومة والتحرير": بكافة أشكالها منذ نشأة دولة الاحتلال الإسرائيلية الطرف الذي يشكل رأس الحربة في عملية التحرير من الاحتلال الإسرائيلي عسكرياً وسياسياً.
"الآخر الغربي": الذي يتمثل في القوة الأميركية بشكلٍ خاص والدور الأوروبي بشكلٍ عام.
"الأمّة العربية والإسلاميّة": وهي تعني العمق الشعبي في العالم العربي والإسلاميّ وهي تعتبر عنصراً خارج دائرة الموقف العربيّ والرسميّ.
ثانياً: قضايا الصراع، والتي منها "صراع المعاني" كجزء من "صراع الفكر" في صراع القوة "Power".
وكان من المناسب لو حدد د. وليد سيف "المعاني" المرتبطة بهذه الأطراف التي أصبحت هي ساحة صراع المعاني. ثم يتعامل معها "توضيحاً" و"تحريراً".
ثالثاً: علاقات القوة، إن هذه الأطراف الأربعة هي مكونات وأطراف عملية متفاعلة تأثيرا وتأثراً وفق علاقات القوة، من هنا كانت هناك حاجة إلى تناول العلاقة بين التغيّر في علاقات القوّة في الميدان، والتغيّر في "المعاني والمصطلحات" في مسيرة الصراع حول فلسطين، فهناك علاقةُ جوهريّة بين هذين التغييرين.
التغير الحقيقيّ في مسيرة الستّين عاماً لاحتلال فلسطين يرتبط بعنصر أساسي هو الاختلال في علاقات القوة، والذي تسبب فيه عنصرين أساسيّين هما "الإرادة" و"الفكر"، وهذا العجز نتج عنه تغيّر وانقلاب "المعاني" وصراع "الوجود" وفق معادلة الصراع القائمة على السلوك "الانهزامي" |
و"صراع المعاني" وما يرتبط به من صراع الوجود وفق هذه الأبعاد الثلاثة، هي محاولة من الأطراف المتصارعة لتغيير وخلق اتجاهات ومواقف "إيجابية" مرغوبة من وجهة نظر كل طرف من الخصوم سعياً نحو تغيير وخلق سلوك إيجابي "تفاوض أو تسوية، بدلاً من المقاومة"، يحميه سياق من المعاهدات والتشريعات والاتفاقيات التي يُفترض أن ترفع الظلم والتهديد والمخاطر عن كل طرف، وهذه الأبعاد الثلاثية أيضاً تسير باتجاه آخر قد يبدأ من تغيير السياق مثل عقد اتفاقيات سلام، ومن ثم تغيير السلوك المقاوم سعياً إلى خلق اتجاهات إيجابية مثل "القبول النفسي والاجتماعي وإزالة مشاعر العداء تجاه الآخر".
ومن جهة أخرى فالتغير الحقيقيّ في مسيرة الستّين عاماً لاحتلال فلسطين كان يرتبط بعنصر أساسي هو الاختلال في علاقات القوة، والذي تسبب فيه عنصرين أساسيّين هما "الإرادة" و"الفكر"، وهذا العجز نتج عنه تغيّر وانقلاب "المعاني" وصراع "الوجود" وفق معادلة الصراع القائمة على السلوك "الانهزامي" والسياق والبيئة "ثقافة العجز عن التغيير" وضرورة قبول الآخر "القوي"، وأخيراً الاتجاهات "اللاعدائية" مع الآخر والمشاعر الإيجابية.
والتغيير في علاقات القوة والذي ارتبط بغياب "الإرادة" الحرّة المستقلّة والفاعلة للنّظام الرّسميّ العربي والفلسطينيّ في مسيرة احتلال فلسطين, وإن غياب الإرادة السّياسيّة رهنها "الرّسميّ العربيّ" بنفسه للآخر الغربيّ. وتمثلت خطورة هذا الأمر أنّ الرّسميّ العربيّ تنازل عن "إرادة الفعل" والتأثير أو "المبادرة للفعل" للآخر ليقوم "الآخر الغربيّ-الأميركي" بإدارة التّغيّر نيابة عنه . لاحظوا كيف ننتظر انتخابات القوى الكبرى نريد أن يفوز أوباما وليس ماكين، وقبله كلينتون وبوش، وفي إسرائيل باراك وشارون، أو ليفني وليس نتنياهو، ونريد اليسار الغربيّ وليس اليمين الغربيّ, وكأننّا نقول لهم "هلمّوا إلينا فأنتم تملكون القوّة والقدرة على حلّ مشاكلنا وإدارة قضيّتنا" أي أننّا نتنازل عن "إرادة الفعل وإدارة التغيير" في واقعنا ليقرّره "الآخر الغربيّ- شريك الإسرائيليّ" في جريمة احتلال فلسطين وحماية عدوانه حتّى الآن.
العربيّ والفلسطينيّ" ليسا ضعيفي الإمكانيّات والقدرات ولكن لأننّا ندير معركة فلسطين "بإرادة" شبه غائبة و"بفكرٍ وعقليّة لا تحسن استخدام العلم والمعرفة في عمليّة الصّراع"، فلا اهتمام علمي باستشراف مستقبل الصراع ودراسة سيناريوهاته |
إنّ إدارة الصّراع مع الاحتلال الإسرائيليّ على مدى ستّين عاماً غاب عنه إلى حد كبير حسن إدارة الموارد "الماديّة" العسكرية والاقتصادية، وغير المادية "السياسية والثّقافيّة والفكريّة" و"الإيمانيّة" و"الرّوحيّة" فنتج عنه عجزُُ أو تغييرَ في "صراع المعاني" لتبرير العجز والفشل، بالإضافة إلى تهديد باستمرار مسيرة النّكبة.
وكما أشرنا فإنّ التغيّر في علاقات القوّة بين الأطراف الخمسة هي عمليّة تفاعليّة، وهي ترتبط بعملية "إدارة الصراع العربي–الإسرائيلي"، وبالتالي فأيّ خللِ قي عناصر القوّة لأحدِ هذه الأطراف يعني تغييراً في علاقات القوّة، ومن ثم تغييراَ في معادلة العجز العربيّ-الفلسطينيّ، لذا توجد ضرورة أولية للمحافظة على مكوّنات العجز العربيّ حتّى يتمّ المحافظة على معادلة القوة بشكلها الحالي ضماناً للمحافظة على المشروع الإسرائيليّ في فلسطين.
ومن هنا فإن التغيير في جوهره تغيّراً في"إرادة الفعل والتّأثير" واستخدام الفكر المرتبط بالعلم، وارتباطهما بمعادلة "الإيمان" سيجعل "المعاني الانهزامية" خارج دائرة الصوت والصورة.
ومعركة "الإرادة" و"الفكر المنهجي المرتبط بالتخطيط السليم وحسن استخدام الموارد" في إدارة الصراع ظهرت بوضوح في معركة فلسطين في غزّة، حيث دخل فاعلاً جديداً من خارج معادلة "المجموع الرسميّ الفلسطينيّ والعربيّ" و"الآخر الغربيّ" و"الإسرائيليّ" شكل "إرادة جديدة" تملك المبادرة للفعل و"تحمل فكراً" محررّاً في معانيه وفي منهجيّته ليبدأ بإعادة صياغة المعادلة السّياسيّة مع العدوّ الإسرائيليّ والآخر الغربي، في نطاق خارج العجز الرسمي العربي – الفلسطيني، ويدخل "إرادة الفعل" لقوى الأمة والشعوب كمفهوم أساسي في إدارة الصراع، وليجعل من ثوابت الأمة هي الثوابت الفلسطينية.
وعلى أمل أن مقال "تجليات.. النكبة صراع المعاني والوجود" يكمل المشهد والصورة في مقال "ستون عاماً على النكبة... الصراع على المعاني: الصراع على الوجود"، وأن يسهم هذان المقالان في إدراك أبعاد ومعان أخرى في مشروع تحرير فلسطين وعلاقته بمشروع نهضة الأمة العربية والإسلامية.
_______________
مدير المركز العلمي للدراسات السياسية، أستاذ العلوم السياسية المشارك- الجامعة الهاشمية- الأردن