المسؤولية السياسية للسلطة التنفيذية في دول المغرب العربي

تسعى الدراسة للإجابة عن وجود المسؤولية السياسية للسلطة التنفيذية بدول المغرب العربي، وإلى أي حد تعد حكوماتها مسؤولة أمام برلماناتها ورؤساء دولها وخاضعة للمساءلة السياسية، وهل رؤساء هذه الدول مسؤولون سياسيا ودستوريا وقانونيا؟ لتتطرق إلى تفعيل مبدأ المسؤولية السياسية.


مبدأ المسؤولية السياسية أحد الضوابط الهامة التي تحدد طبيعة العلاقة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية في اتجاه خلق التوازن. وقد ظهر هدا المبدأ مصاحبا لامتلاك السلطة وكسلاح بيد البرلمان يستعمله في مقابل حله، حيث يتحمل كل من يمتلك السلطة ولديه صلاحية ممارستها، ما يأتيه من تصرفات وأعمال.






الباحث: يمينة هكو
إشراف: محمد بضري
الجامعة: وجدة -المغرب-
السنة:2005


وبذلك تنعقد المسؤولية السياسية حينما يرتكب وزير بمفرده أوالحكومة أخطاء تتعلق بأداء المهام السياسية، كأن تعجز الحكومة عن تطبيق البرنامج العام أو تنحرف عن مقتضيات السياسة العامة بشكل يضر بالمصلحة العامة. و مبدأ المسؤولية السياسية لا ينصب على الحكومة فحسب، بل يمتد بصيغة أشمل إلى السلطة التنفيذية بقطبيها أي رئيس الدولة والحكومة.

ووضع حد لمهام الحكومة يكون بطريقتين، إما بمبادرة منها حينما تطلب ثقة البرلمان بها، أو بمبادرة برلمانية، وذلك حينما يتقدم البرلمان بملتمس رقابة ضد الحكومة، حيث تبقى النتيجة واحدة في كلتا الصورتين، وهي إسقاط الحكومة وإنهاء مهامها بإقصاء المسؤول عن السلطة من السلطة.

تقوم المسؤولية السياسية للسلطة التنفيذية على أساس اختلال توازني واضح على مستوى طرفيها، بخضوع الحكومة لمساءلة سياسية كاملة كلما قامت بكل ما من شأنه أن ينحرف عن السياسة العامة ولا يتفق ومصالح الدولة، والتي قد تسفر عن إقالة الحكومة برمتها بصفة جماعية وكهيئة متضامنة، أو قد تكتفي في أحسن الأحوال بإحراجها بكشف اختلالاتها وإضعافها.

ومن ناحية أخرى نجد رئيس الدولة يتمتع بحصانة كاملة تتيح له حرية التصرف والعمل بدون قيود ولا مضايقات المساءلة والمحاسبة ما عدا في بعض الحالات- استثناء جريمة الخيانة العظمى- التي تتعمد الدساتير في معظم الأحوال النص عليها بشكل فضفاض غير مدقق يساعد على الإفلات منها وتجميدها.

ولا تخفى قيمة المسؤولية السياسية كنظام ضابط ومحدد لنوعية العلاقة بين السلط خصوصا التنفيذية والتشريعية، التي تجد لها متنفسا لمراقبة ومتابعة العمل التنفيذي عبر آليات متنوعة تصب كلها في اتجاه خلق التوازن المفتقد.

ويشمل مجال بحث الأطروحة دول المغرب العربي- باستثناء ليبيا- لما يظهر على صعيد أنظمتها الدستورية من أوجه اشتراك وتشابه متعددة. أما بالنسبة لإسقاط الجماهيرية الليبية من الدراسة فذلك نظرا لخصوصية هذا البلد السياسية الدستورية، التي لا تعمل بالدساتير العصرية وأساليب الحكم السائدة، وبذلك تتعذر المقارنة مع وجود الفارق الواضح الذي يعيق الدراسة.

أما السؤال المحوري الذي يؤطر الدراسة، فهو متشعب إلى إشكالات وتساؤلات متعددة، ويتلخص في البحث عن الوجود الفعلي للمسؤولية السياسية للسلطة التنفيذية في بلدان المغرب العربي، أي إلى أي حد تعد الحكومات المغاربية مسؤولة أمام برلماناتها ورؤساء دولها، وهل يعد رؤساء هذه الدول مسؤولون سياسيا أمام الجهات المعنية أولا دستوريا وقانونيا؟ بمعنى البحث عن سبل وطرق تحريك هذا النوع من المسؤولية، وذلك بالتطرق إليها كما هي متعارف عليها عالميا، ثم محاولة إسقاطها على أنظمة هذه الدول، وقياس مدى قدرتها على احترام مقاييسها ودواعيها.

ثم البحث عن واقع المسؤولية السياسية داخل دول المغرب العربي، ومدى استطاعة هذه البلدان الانتقال من التنظير إلى التطبيق، أو بعبارة أخرى، هل يمكن للحياة أن تدب في عروق أساليب وآليات تحريك المسؤولية السياسية للسلطة التنفيذية في دول المغرب العربي؟ أم أن الأمر يظل حبيس تقنيات جامدة لا يطال منها المجال السياسي سوى الصورة والشكل؟

كما ينبغي النتساؤل عن إمكانية خروج المسؤولية السياسية داخل هذه الأقطار من الإطار البرلماني التقليدي، والبحث عنها في جهات أخرى، وذلك بعدم حصر المبدأ برمته بين البرلمان والحكومة فقط، خصوصا أن تيارات وسلط أخرى عديدة بدأت تطفو على سطح المجال السياسي، وغدت تتابع بدورها وتلاحق مجريات الأحداث السياسية، وتطالب بالشفافية والتصحيح، فهل بإمكان القوى السياسية والاجتماعية المختلفة في بلدان المغرب العربي أن تراقب وتفعل مراقبتها بتحريك المسؤولية السياسية؟ هي تساؤلات تتضمن في ثناياها إشكاليات جزئية عديدة ومتعددة نطرحها في صلب البحث من أجل الإجابة عليها.

تستلزم طبيعة الموضوع الاستناد إلى مناهج معينة في التحليل، مثل المنهج المقارن الذي يقوم على أساس مقارنة مجموعة من الدساتير أو الأنظمة أو المؤسسات، أي أن المقارنة تستدعي التعدد، كما أن وجود أربعة دول داخل دائرة البحث كمحاور رئيسية، تفضي إلى المقارنة فيما بينها من جهة، ومن جهة أخرى فيما بينها وبين دول أو أنظمة أخرى لإثراء البحث.

وبهذا الشكل يمكن الكشف إلى حد ما عن أوجه الالتقاء وأوجه الاختلاف، وكذا عن مدى التزام كل دولة من هذه الدول وسعيها إلى الأخذ بمبدأ المسؤولية السياسية بآلياته ووسائله المتنوعة، لتتضح معالم قدرة كل هذه الأنظمة على استيعاب وتحقيق التوازن المؤسساتي المنشود من وراء هذه المتابعة أو المساءلة.

من أجل استيفاء كل عناصر الموضوع، لا يمكن الاكتفاء أثناء التحليل بالمنهج المقارن بمفرده، لذلك اعتمدت الأطروحة المنهج المؤسسي القانوني الذي يعد من أقدم المناهج في دراسة المنتظمات السياسية، وكذا لارتباطه الوثيق بالقانون الدستوري حيث يستند إليه في الدراسات البنيوية للمؤسسات واختصاصاتها، وفي طبيعة العلاقات القانونية بين هذه المؤسسات، لأن طبيعة البحث تقود إلى التساؤل حول المؤسسات التي تتفاعل في إطار المسؤولية السياسية، وهي: رئيس الدولة والحكومة ثم البرلمان، عدا طبعا القوى الفاعلة الأخرى مثل الأحزاب السياسية والنقابات والجمعيات.

ولأن الدراسة تتطرق إلى التأثيرات المتبادلة بين هذه المؤسسات، فإن اعتماد هذا المنهج يعتبر ضرورة منطقية رغم الانتقادات الموجهة إليه، من قبيل تركيزه على الشكل القانوني المؤسسي، الأمر الذي يضفي عليه صبغة التجريد حيث التعامل مع المؤسسات فحسب، والابتعاد عن الواقع السياسي ومجريات الأحداث، لكن تبقى للدراسات القانونية المؤسساتية أهميتها البالغة من حيث التعرف على طبيعة هذه المؤسسات وتفاعلاتها.

ومن أجل استيفاء عناصر الموضوع المتشعب والإجابة عن التساؤلات العديدة طيلة مراحل البحث تم تقسيم الموضوع إلى قسمين رئيسيين، حيث يضم القسم الأول الإطار الدستوري للمسؤولية السياسية في الدول المغاربية، ويضم القسم الثاني واقع المسؤولية السياسية في هذه الدول.




"
الآليات غير المباشرة لتحريك المسؤولية السياسية، والتي لا تسفر عن إسقاط أو إقالة، وينحصر الجزاء المترتب عنها في إحراج الحكومة وكشف عيوبها، هي التي يفضل البرلمان التعامل بها، وإن كانت بدورها لا تعرف انتعاشا مهما

"
وخلصت الدراسة إلى النتائج التالية׃

إتضح أن المسؤولية السياسية ليست مفهوما غريبا عن الأنظمة الدستورية والسياسية لبلدان المغرب العربي، حيث يتردد المفهوم داخل مختلف دساتيرها والقوانين الداخلية لبرلماناتها بنفس الطرق والكيفيات تقريبا، مع بعض الاستثناءات المسطرية أحيانا، وكذا نسبة الإلمام بكل جوانبه أحيانا أخرى، بمعنى أننا وجدنا مثلا عند بعض النماذج اعترافا دستوريا قانونيا لجل الوسائل التي تستعمل من أجل إثارة المسؤولية السياسية خصوصا للحكومة، سواء كانت مباشرة أو غير مباشرة، بينما فضلت نماذج أخرى إسقاط بعض هذه الوسائل من منظومتها القانونية.

ودول المغرب العربي متشبعة مبادىء المسؤولية السياسية من الناحية الدستورية القانونية، التي استوردتها من الخارج، وتحديدا من الدستور الفرنسي لسنة 1958، حيث مكنت برلماناتها من متابعة ومحاسبة حكوماتها كلما انحرفت عن مسار المصلحة العامة، وكلما تبين لهذه البرلمانات الانزلاق والخطأ.

وبذلك غدت البرلمانات المغاربية تمتلك من الوسائل الكثير حتى تتمكن من القيام بمهامها الرقابية، بدءا من تلك التي تساعدها على جمع المعلومات اللازمة لها لمتابعة العمل الحكومي، وصولا إلى تلك المباشرة التي تخولها ليس فقط إمكانية إحراج الحكومة، وإنما كذلك إسقاطها وإقالتها، وبالتالي إعادة النظر في التوازن المؤسساتي برمته.







هذا على مستوى الحكومة- دستوريا دائما- أما فيما يتعلق برئيس الدولة- القطب الثاني للسلطة التنفيذية- داخل أقطار المغرب العربي، فلا يختلف اثنان عن كونه يشكل تلك المؤسسة المحورية التي تدور في فلكها باقي مؤسسات وأجهزة الدولة، حيث تبرز مكانته- سواء أكان النظام ملكيا أم جمهوريا- من خلال تواجده الدائم والمستمر داخل مختلف السلط، واضعا بصماته على كل المرافق والمراكز خصوصا الهامة والحساسة.

ويبدو أن مكانته هذه إنما يستمدها من كنف الشرعية التي يتمتع بها، والتي تبيح له الحكم والتحكيم، إنها شرعيات اكتسبها إما تاريخيا، أو نضاليا، حزبيا كان أم عسكريا، وإما دينيا، وأحيانا نجد بعضها يمتزج لتشكل بذلك الدفعة القوية لمركزة السلطة وترسيخها.

وفيما يتعلق بالمسؤولية السياسية لهذا الرئيس، نجدها تختلف على مستوى دول المغرب العربي، حيث يبرز اتجاهان: أحدهما يتولاه المغرب وتونس، حيث نجد رئيس الدولة يتمتع بحصانة مطلقة، فهو غير مسؤول سياسيا بصفة كاملة ونهائية بدون أية استثناءات، والاتجاه الثاني نجد فيه الجزائر وموريتانيا، حيث يعد رئيس الدولة عندهما بدوره غير مسؤول سياسيا، لكن ليس بصفة مطلقة، وإنما ترفع عنه الحصانة ويصبح مسئولا، في حالة واحدة: عندما يقترف جريمة الخيانة العظمى.

كل ما ذكرناه سواء بالنسبة للحكومة أو رئيس الدولة، خلصنا إليه من خلال البحث على المستوى الدستوري القانوني، أي النظري.

لم يكتف البحث بهذا المستوى، حيث سلك منحى آخر للعثور من خلاله على إجابات للتساؤلات السابقة في المقدمة، وبناء على ذلك تناولت الأطروحة مستوى الأداء والتفعيل، لتخلص إلى نتائج ليست متطابقة بشكل كلي مع الإطار النظري الدستوري.

حيث إن الآليات غير المباشرة لتحريك المسؤولية السياسية، والتي لا تسفر عن إسقاط أو إقالة، وينحصر الجزاء المترتب عنها في إحراج الحكومة وكشف عيوبها، هي التي يفضل البرلمان التعامل بها، وإن كانت بدورها لا تعرف انتعاشا مهما أو لنقل انتعاشا متفاوتا بين البلدان محط الدراسة، هده الآليات تتمثل في الأسئلة البرلمانية ولجان التحقيق.

وبالنسبة للآليات المباشرة التي تؤدي إلى إسقاط وإقالة الحكومة، محركة بذلك مسؤوليتها السياسية حين يستلزم الأمر ذلك، وترتكب من الأخطاء ما يبرر هذه الإثارة، فهي بدورها تعرف جمودا على مستوى دول المغرب العربي. وهذه الآليات تتمثل في مسألة الثقة، ثم ملتمس الرقابة.




"
رغم تشبع دول المغرب العربي بمبادئ المسؤولية السياسية من الناحية الدستورية والقانونية، إلا أن الفوارق واضحة بين النص والتطبيق من خلال التجربة الميدانية. وبالتالي لابد من تحرير مبدأ المسؤولية السياسية من القيود الكثيرة التي تجعل أمر تحريكه معقدا

"
بعد هذه الخلاصات، تم البحث عن معالم هذه المسؤولية السياسية في نواح أخرى، فاتجهنا نحو مجموعة من القوى الأخرى الفاعلة مثل الأحزاب السياسية. فإذا كان الاتجاه السائد اليوم في الديمقراطيات الغربية أن الحزب السياسي مؤهل لأن يقوم بمراقبة حقيقية للسلطة التنفيذية تصل إلى حد التحكم أحيانا في توازن المؤسسات، بل هناك من يذهب إلى أن المسؤولية السياسية قد تحولت إلى مسؤولية حزبية نظرا لقدرات الحزب، فإن الوضع في دول المغرب العربي لم يصل إلى هذه الدرجة من التطور والمسايرة، حيث الحزب لازال يتخبط في مشاكله الذاتية المتعلقة بالديمقراطية الداخلية وبنيته النخبوية وكذا تمويله المادي، ومتاهات الانشقاقات والتحالفات.

بالتالي لازال يبحث عن إبراز أدواره بقوة أكثر داخل المنتظمات السياسية لهذه الدول، حتى يتمكن بعد ذلك من الارتقاء بأدواره السياسية وتطويرها، لكن هذا لا يمنع من أن الحركة الحزبية في هذه الدول قد تخطت عقبات كثيرة، كما أن أدوارها واضحة في واجهات مختلفة تزيد من أهميتها.

أما باقي مكونات المجتمع المدني من نقابات وجمعيات، وإعلام ثم رأي عام، فكلها مؤسسات من شأنها أن تشكل ذلك الرقيب الدائم على أجهزة الدولة، وبالفعل فقد برزت أدوارها داخل دول المغرب العربي، خصوصا مع فترة التسعينات ولازالت في تطور مستمر، حيث سجلت في أحيان كثيرة ضغوطا قوية سواء على الحكومة من أجل تعديل قرارات أو حتى إلغائها في حالة تعارضها مع مصالحها والمصلحة العامة عموما، وكذلك على البرلمان كذلك حتى يدافع على مصالحها.

وإذا كانت هذه المؤسسات قد سجلت فعلا نجاحا على مستوى الضغط والمتابعة وكشف الحقائق في مناسبات عدة، إلا أنها لازالت لم تتخط بعد مرحلة إحراج الحكومة وإرغامها على تقديم بعض التنازلات، بمعنى أنها لم تصل إلى درجة إثارة مسؤولية الحكومة السياسية المباشرة وبالتالي الدفع إلى إقالتها.

يبدو أن هذه القوى مجتمعة يمكنها أن تحقق ما لم يتمكن منه البرلمان داخل هذه الدول، وفي ذلك إشارات لما أصبحت تكتسبه من شأن، وكذا للرغبة في تجاوز تلك الترسانة من القيود التي تحيط بأداء البرلمانات في هذا المجال، وتعويضها بالعمل انطلاقا من مجالات ومؤسسات أخرى وإن كان بخطى بطيئة، إلا أن الأهم أن تكون ثابتة.

وتبقى أهم خلاصة هي رغم تشبع دول المغرب العربي بمبادئ المسؤولية السياسية من الناحية الدستورية والقانونية، إلا أن الفوارق واضحة بين النص والتطبيق من خلال التجربة الميدانية. وبالتالي لابد من تحرير مبدأ المسؤولية السياسية من القيود الكثيرة التي تجعل أمر تحريكه معقدا و أمر الوصول إلى نتائجه مستحيلا، حيث الإجراءات المصاحبة لهدا المبدأ أبعد بكثير عن المنطق التطبيقي.

الفهرس