كيف يبدو المحصول العام للأمة؟

المشهد العام للأمة الإسلامية وخاصة قلبها العربي ملبّد بغيوم داكنة لا تسر الناظرين سوى الأعداء المتربصين فالصراع بين الشعوب والحكام بلغ حد التحارب الأهلي (اليمن، الصومال، الباكستان) والاحتلال المصحوب بتحارب محلي fفلسطين، العراق ، أفغانستان وأنظمة مستبدة بشعوبها واستبداد ونهب وتجزئة







الشيخ راشد الغنوشي


مع أن الزمن في بعده المادي مجرى متصل تتشابه أجزاؤه بل تتساوى إلا أنه في بعده الإنساني الثقافي والديني والعاطفي متمايز منفصل ومتفاضل. فمن الوجهة الحضارية هناك أزمنة تحضّر وأزمنة تخلف ومراحل تحرر ومراحل استبداد، ومن الوجهة الدينية هناك أوقات مخصصة لعبادات وأوقات مخصصة لأخرى، ومن الوجهة العاطفية ساعات الانتظار والحزن والألم أطول من ساعات الفرح والوصل. وتلك خصوصية من خصوصيات الإنسان في تعامله مع الزمن، يمفصله إلى وحدة ساعات وأيام وأسابيع وشهور وسنوات.. الخ، حتى يتيسر له قياس منجزاته والبرمجة لما يستقبل من الزمن. ونحن نقف في نهاية وحدة أساسية من وحدات الزمن ونستقبل أخرى، كيف يبدو المشهد العام للأمة؟ والى أين يتجه؟  


المشهد الليلي
هل من أمل في هذا الليل المظلم
الحرية والوحدة


أولا: المشهد الليلي





رغم الثروات الطائلة التي وهبها الله للعرب فهم يزدادون تخلفا وتبعية للمراكز الغربية، بما جعلهم يتحملون وطأة الأزمات الغربية، فيزدادون ضعفا وفقرا وأمية وبطالة واتساعا للهوة بين الفئة المتحكمة في السلطة والثروة وبين بقية الناس
1 - يبدو المشهد العام للأمة وبخاصة قلبها العربي ملبّدا بغيوم داكنة لا تسر الناظرين إلا أن يكونوا أعداء متربصين: صراعا بين الشعوب والحكام يبلغ حد التحارب الأهلي (اليمن، الصومال، الباكستان) واحتلالا مصحوبا بتحارب بين قوى محلية (فلسطين، العراق ، أفغانستان..) وأنظمة مستبدة بشعوبها مستظهرة عليها بالخارج، ناهبة لثرواتها، مقاطعة لجوارها (الجزائر/المغرب، سوريا/العراق)  إلى حد الحصار وبناء الجدران الفولاذية حول غزة، وتجزئة فرضها علينا الاحتلال غدونا أكثر تشبثا بها، حتى كادت الحرب تقوم بين أهم قطرين عربيين بسبب تافه (تنافس كروي)،  وقواعد أجنبية زاحفة على المنطقة وما هو موجود يتوسع واختراقات بلا حدّ لمقومات الأمن القومي، على كل صعيد ومجال.

2 - وخلافا لعموم الدول الإسلامية، حيث تقدمت الحداثة السياسية ممثلة في تداول السلطة عبر انتخابات حرة ونزيهة يشارك فيها الجميع، ظل المركز العربي في عمومه ثقبا أسود، خارج الموجة الديمقراطية التي طافت أرجاء العالم، محكوما بما يشبه العصابات الوكيلة للاحتلال، بل هي احتلال داخلي وريث له بل أسوأ منه، قمعا للأحرار وإشاعة للفساد على كل صعيد بما في ذلك إفساد اللغة التي أفرغتها من مدلولاتها، بما لا يبقي مجالا لحديث جاد عن دولة وفصل سلطات وشرعية ومشروعية وانتخابات وأحزاب، باستثناءات قليلة جدا.


3 - وبسبب ما تتمتع بهذه أنظمة الثقب العربي الأسود الوريثة والوكيلة للاحتلال من دعم لها موصول لخدمة مصالحه في حماية الكيان الصهيوني وضمان الإمدادات النفطية وتأبيد التجزئة، وفي غياب إجماع للنخبة المعارضة على مشروع مجتمعي بسبب انشطار الاجتماع الإسلامي بين نخبة علمانية وأخرى إسلامية بأثر مخلفات الاحتلال، ظلت جماعات المعارضة في تشرذم لا تلتقي على مشروع للتغيير أو لا تقدم على بذل وموالاة التضحيات من أجل فرضه، بدل الترافس على ما يلقي المستبد من فتات،حالمة بمشاركته في المغنم!


4 - أما الحالة الاقتصادية فرغم الثروات الطائلة التي وهبها الله للعرب فهم يزدادون تخلفا وتبعية للمراكز الغربية، بما جعلهم يتحملون وطأة الأزمات الغربية،  فيزدادون ضعفا وفقرا وأمية وبطالة واتساعا للهوة بين الفئة المتحكمة في السلطة والثروة وبين بقية الناس، بما نمّى مناخات الانفجارات الشعبية  والحروب الأهلية، فأحزمة الفقر والعشوائيات تحاصر المدن وتتحفز للانقضاض عليها، وقوارب الموت الحاملة للشباب الحالم بحياة كريمة في ارويا في ازدياد، ويبلغ فشل الدولة – فيما سوى الوظيفة القمعية- حد العجز عن جمع النفايات في مدن كبرى أو تنظيم المجاري التي طالما أغرقت مدنا عربية وهدد ت مقومات الحياة والبيئة.


5 - ومع ضخامة الموارد يتدهور مستوى التعليم والبحث العلمي  والصحة، ومخصصاتها، مقابل تضخم الإنفاق على جحافل أجهزة القمع.ومن ذلك فإنه من بين الخمسمائة جامعة أولى في العالم لا توجد بينها جامعة عربية واحدة مقابل أكثر من جامعة إسرائيلية.


6 - أدى نظام التجزئة والانفصال المتفاقم بين الحاكم والمحكوم بين الدولة والمجتمع إلى:



أ- التعويل أكثر فأكثر في استقرار الأوضاع لا على تعميق الشرعية الشعبية عبر ممارسة السياسة بمفهومها الحديث وبأدواتها: الحوار العام مع قوى المعارضة للتوصل إلى وفاقات والانتخابات بما يحقق التداول بين الحكم والمعارضة. فمفهوم المعارضة إما منفي لفظا ومعنى أو هو مجرد لفظ، وإنما عماد الشرعية الولاء للخارج والقمع في الداخل، فتضخمت تبعا لذلك أجهزة الأمن حتى فاقت ميزانياتها ميزانيات كثير من المجالات الحيوية الأخرى كالصحة والثقافة والتعليم والدفاع، وتغولت اختصاصاتها حتى امتدت لكل مناشط المجتمع الإعلامية والثقافية والاقتصادية والسياسية، وهو المعنى الحقيقي للدولة البوليسية الزاحفة على المنطقة (لا عجب أن كان مشروع قانون الأجهزة الأمنية في السودان مثلا مصدر نزاع أساسي بين الحكم والمعارضة، فهذه الأجهزة لا يمكن أن تعمل باعتبارها مصدر الشرعية الأساسي للدولة إلا وهي مطلقة الأيدي، ورغم أن القانون قد مر، إلا أنه يحسب  لدولة السودان وحدها أن قانون الأمن وميزانياته،يطرحان للنقاش!  وهو ما يرشحها للديمقراطية بسبب وجود معارضات جادة وإرادة دولية ربما).


ب - نظام التجزئة أفضى إلى اختراقات في الأمن القومي العربي واهتزاز في صورة العدو، فلم يعد الكيان الصهيوني وحلفاءه وداعميه، إنما هو غالبا الجار العربي أو المسلم، بما جعل الإنفاق الهائل على الأسلحة ليس مندرجا ضمن خطة لحماية الأمن القومي، المخترق عسكريا باستدعاء القواعد الأجنبية والصرف عليها، كما هو مخترق استخباراتيا بالتعاون الأمني مع أعداء الأمة، ومخترق اقتصاديا بترسيخ التبعية الغذائية للخارج، فضلا عن الاختراق الفكري.. بما أوهى إلى أقصى حد ما تبقى من مضمون للاستقلال، استقلال الإرادة والقرار، بما يجعل مشروعا الحديث عن الاستقلال هدفا والمقاومة منهجا (انظر الاستقلال الثاني للدكتور منصف المرزوقي)، وبما يشهد على فشل كامل لدولة التجزئة في مشروعية الانجاز، وليس فقط في المشروعية السياسية فحسب.


7 - وتمثل استقالة النظام العربي من قضية تحرير فلسطين واكتفائه بعرض مشاريع التسويات على عدو مغرور متغطرس، صورة تجسد حالة الضعف وفقدان الوزن الاستراتيجي للنظام العربي، فاشتد التهام الاستيطان للأرض وتهويد القدس، وكل فلسطين قدس، واقتربت ساعة الأقصى، ناهيك بالتفريط في واجب الدفاع عن الإسلام وأقلياته ومقدساته، في تركستان وفي أوروبا، وهو ما يمثل إعلانا عن احتضار النظام العربي  الذي كانت القضية الفلسطينية سبب وعنوان ولادته الأساسي، بما ترك فراغا أخذت تملؤه القوى الدولية والإقليمية، وهو ما أفضى إلى تمزق الصف الفلسطيني بين قوى مقاومة للاحتلال غدا منظورا إليها نظرة عدائية وتعامل بالكيد والمحاصرة والتحريض عليها والتعاون ضدها مع العدو، لدرجة أن قادة العدو خلال الحملة على غزة لم يكتموا فرحهم ودهشتهم بما اكتشفوا من أن "الحملة على غزة وجدت ارتياحا لدى القادة العرب" (هارتس 2/3/2009). حجة أركان النظام العربي" أننا لن نكون فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين"، وهي الذريعة التي سقطت برجحان كفة المقاومة في انتخابات حرة. لم يزدهم ذلك إلا خذلانا للمقاومة، تذيلا للموقف الأمريكي، لا سيما وهم في حرب مع الإسلاميين كل في بلده. بناء جدار فولاذي حول غزة أحكم من جدار إسرائيل  إعلان آخر لموت النظام العربي، وما بقي ينتظر غير الدفن.


ثانيا: فهل من أمل في هذا الليل المظلم





الغرب ليس إلها وأوضاعه ليست بخير ويعاني أزمات كبرى، بعضها من داخله وبعضها بما يواجهه من مقاومات باسلة، فجرتها صحوة الإسلام في وجه مشاريعه الإمبراطورية، فأودت بالمشروع الإمبراطوري السوفيتي وفي نفس المسار يتجه أخوه الأمريكي الذي تتوحّل أقدامه في أفغانستان وباكستان والعراق وإيران وفلسطين لا يعرف سبيلا للخروج بشيء من ماء الوجه
1 - هذه الأمة صنعها الإسلام، وبحسب فهمها له والتزامها به يتحدد وضعها في العالم ضعفا وقوة. وعلى هذا الصعيد رغم كل السلبيات ومنها ضروب التشدد والانغلاق وانعكاسات ثقافة العولمة على عالم الثقافة والقيم لشرائح من أمتنا، فإن حال الإسلام، إيمانا مستقيما بعقائده، وقياما بفرائضه ووعيا عاما بمشروعه، والتزاما شعبيا به، واندياحا في العالم، في تفاعل مع العصر، هو أفضل وأرقى مما كان عليه منذ مئات السنين حيث ساد الأغنوص والتصوف الخرافي وعقائد وحدة الوجود والاتحاد وما أثمرته من انسحاب من الدنيا إلى عوالم وهمية، فتعطل العقل المسلم وساد الجمود والتقليد وركدت الحياة حتى أسنت، بينما كانت الحياة موارة في الجهة الغربية المقابلة، بما أغراها بالسطو علينا لنهب خيراتنا واختراق  بناءاتنا الثقافية وتخليق صفوات على صورتهم منقطعة عن نسيجها الإسلامي وفي صدام معه، إلا  أن روحا من التجديد دبت في الأمة، فأخذت تنخلع من ربقة التقليد وتميط عن إسلامها غبار الانحطاط فتنهل مجددا من ينابيع الوحي،وتبدأ حوارها مع الحداثة حتى تنتهي باستيعاب كسبها لخدمة الإسلام وبشروطه، فتحركت فاعليات الجهاد والاجتهاد والمقاومة، بما فرض الرحيل على جيوش الاحتلال، وكتائب الجهاد تلاحق فلوله المتبقية في دار الإسلام، والأمة في طور معالجة آثاره في الثقافة والحكم، على طريق إعادة وإصلاح الاجتماع الإسلامي في دورة حضارية متجددة، تنقذ مركب الحضارة بقيادة حضارة بنيت على فرضية كارثية: إمكان الاستغناء عن الله سبحانه، سبيلا لتحصيل السعادة. قال تعالى: "ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا"/طه.

2 - إن الصراع بين الحكام وبين الشعوب وخصوصا في العالم العربي يمثل معلما أساسيا من معالم المشهد، وهو ما يجمّد حركة التاريخ في منطقتنا، واضح أن ميزان القوة الذي سرّع التحولات الديمقراطية في أوروبا الشرقية الديمقراطية وكفل إنتاج ما سماه وزير الدفاع الأمريكي السابق رامسفيلد أوربا جديدة موالية للرأسمالية الأمريكية، لا يزال مائلا لصالح الغرب، معيقا لعملية التحول الديمقراطي في هذه المنطقة، رعاية لمصالحه في استمرار التجزئة والحصول على النفط وحماية الكيان الصهيوني، وهو يعلم أن حكما ديمقراطيا في المنطقة سيلبي مطالب شعبه في السيطرة على ثرواته وفي الدفع إلى الوحدة وفي دعم المقاومة. وما حصل في فلسطين من فرض المقاطعة على حكومة حماس المنتخبة، وكذا دعم  الحكم المصري بعد نجاح الإخوان ودعم جنرالات الجزائر والنظام البوليسي في تونس وكذا دعم أنظمة متخلفة في الخليج شواهد على هذا العائق في وجه التغيير، إلا أن الغرب ليس إلها، فأوضاعه ليست بخير، ويعاني أزمات كبرى، بعضها من داخله وبعضها بما يواجهه من مقاومات باسلة، فجرتها صحوة الإسلام في وجه مشاريعه الإمبراطورية، فأودت بالمشروع الإمبراطوري السوفيتي وفي نفس المسار يتجه أخوه الأمريكي الذي تتوحّل أقدامه في أفغانستان وباكستان والعراق وإيران وفلسطين لا يعرف سبيلا للخروج بشيء من ماء الوجه، بما أخذ يفرض على عقلائه التفكير في الاعتراف بما تختاره الشعوب سبيلا لضمان مصالحه عبر حكومات منتخبة حتى ولو قادتها جماعات وطنية ديمقراطية مستقلة الإرادة، مهما كانت خلفياتها الأيديولوجية، بمن فيهم إسلاميون معتدلون، لا يحملون مشاريع للحرب ضد العالم، وإنما يسعون لإعادة بناء اجتماع إسلامي يحترم إرادة الشعوب ويقيم العدل، متعاونا مع كل من يتعاون معه مسالما لكل من يسالمه.


3 - غير أن حال الأمة حتى على المستوى الحكومي وخصوصا خارج القلب العربي يتطور في اتجاه اللقاء مع الأمة، مع الإسلام، وذلك الذي حدث في إيران مع الثورة الإسلامية التي نقلت إيران من شرطي غربي في المنطقة حليفا لإسرائيل إلى أهم قوة دعم للمقاومة، وذلك رغم بعض السياسات السلبية التي كان على إيران أن تتجنبها. وللأسف قوبل هذا التحول الاستراتيجي الهام جدا في إيران من الرسمية العربية بالتجهّم بل بحرب مدمرة، هي في المحصلة بالوكالة، ولا يزالون يثيرون الغبار على برنامجها النووي، وكان عليهم أن ينافسوه أو أن يبتهجوا بوجود قوة نووية ثانية في المنطقة، حتى لا يبقى عدو الجميع، إسرائيل، منفردا بامتلاك هذا السلاح الفتاك.


4 - ولقد تعزز وضع الأمة بالتحاق جناح قوي آخر من أجنحتها بها أعني تركيا التي ظلت زهاء قرن في التيه تحدث نفسها بالتأورب، وفعلت كل شيء من أجل ذلك، إلا أن "النادي المسيحي" ظل مصرا على صفق الباب في وجهها، فيممت وجهها شطر الأمة لتحتل مكانها القيادي المتميز، ومن وراء ذلك باكستان، رغم ما تتعرض له من مكايد غربية لتجريدها من قوتها النووية باعتبارها البلد الإسلامي النووي الوحيد، المستوجب للدعم من كل مسلم.


5 - في عالم العرب، تبقى مصر باعتبارها زعيمتهم ،الخلل الأعظم والضلع المكسور، مقابل الضلعين التركي والإيراني، إلا أن إرهاصات كثيرة دالة على أنها تعيش نهايات عهد، وتتحفز لاستعادة موقعها القيادي التاريخي، والانخراط مجددا بالعرب في التاريخ، لو أن الإخوان أساسا ، حزموا أمرهم ووضعوا أنفسهم في الموقع المناسب من مطلب الوقت:التغيير، بدل الانتظار والترميم والتنازع حول تفسير لوائح تنظيمية، مما يعبر عن أزمة حركة ومجتمع ونظام، بينما البلد ينهب ويورّث على غرار أخواته.


6 - ومن أهم الظواهر المشرقة في الأمة التي أثمرتها صحوة الإسلام  وتمثل أكبر عائق في طريق المخططات الدولية الهيمنية كما هي تهديد لأوضاع التجزئة والاستبداد، ظاهرة المقاومة المباركة التي تمكنت مع دول الممانعة- بفضل الله- من وقف الزحف الامبريالي  على الأمة والعالم وإفشال مخططاته الهيمنية، مثل الشرق الأوسطية، و"هيمنة أمريكية لقرن جديد.." فدحرت جيوشه  مجللة بالعار، في لبنان وفي غزة وفي العراق.. وتلاحقها في كل دار للإسلام، فكان لمقاومات أمتنا فضل على كل الأمم التائقة إلى استقلال الإرادة والثقافة والاقتصاد، بما أسقط وثنية القطب الواحد، وفرض الاتجاه إلى عالم متعدد، فليس من واحد أحد إلا الذي في السماء، سبحانه.


7 - إنه لرائع وعجيب ومدهش صمود سلطة المقاومة في غزة سواء في وجه "الجيش الذي لا يقهر" أو في مجابهة الحصار الدولي والإقليمي المتعاونين والمتنافسين في تشديد الخناق، عليها،  فكان الفولاذ المصري أشد وأمتن من جدار خرسانة الاحتلال. وتلك مسؤولية الحركات الشعبية وفي طليعتها الحركة الإسلامية أن تقوم بواجبها في دعم المقاومة من طريق عقد جبهات وطنية تحمل الأنظمة حملا على ترك هذا العبث والاحتقار لكرامة الشعب واقتراف الخيانة على الملأ. وكون تمضي ملحمة غزة بأسابيعها العصيبة دون أن تغلق الأوكار الصهيونية في قلب الوطن العربي أو يفتح المعبر، معناه أن هناك مشكلا لا في الحكام وحسب بل في المحكومين أساسا.نهضت المقاومة نيابة عن الأمة بما يفوق الطاقة، فهل كنا لها ظهيرا فشاركناها في البذل والفداء حتى نستحق مشاركتها في النصر ؟ أم أرحنا ضمائرنا أننا جمعّنا مواد إغاثية، عجزنا عن إيصالها حتى تعفنت وأحرقت؟إذا كانت معركة فلسطين معركة الأمة يقوم فيها أبطال فلسطين الأشاوس بفرض الكفاية سدا في وجه السيل الصهيوني المتحفز للتدفق على المنطقة، فلم لا نقدم على التضحيات الكفيلة بمشاركة جادة في معركة الأمة، تحمل الحكام على التعبير عن إرادتها وتسخير مواردها،  فتحا للمعابر وإغلاقا لمنافذ الاختراق الصهيوني للمنطقة.


8 - وكما سجلت غزة بفخار صمودا رائعا، إن على الصعيد العسكري أو على الصعيد السياسي فقد صمدت مؤسسة" الجزيرة "على الصعيد الإعلامي في مواجهة الإعلام العربي، إعلام التمجيد والنفاق والدعارة، وحجزت للعرب لأول مرة في التاريخ موقعا متميزا في الصف الأول على الصعيد الإعلامي كاسرة ومتحدية  الاحتكار الغربي للمجال، مبرهنة على ما يختزنه العربي من طاقات إبداعية إذا توفرت له فرصة من الحرية.


9 - لم تختم السنة إلا وقد تعزز جانب الحق الفلسطيني وبدأ دم شهداء غزة ينتقم ممن استباحوه، فبعد تقرير غولدستون جاء فرار الفأرة المذعورة من لندن رئيسة المعارضة الصهيونية،دلالة على بداية يقظة للضمير الإنساني وتراجع للنفوذ الصهيوني، مما هو إرهاص لعصر جديد.


الحرية والوحدة


أ - الأمة بخير تعمرها صحوة واسعة  -رغم بعض ظواهر التشدد والتحلل- ولا تحتاج لتبدع في سائر مجالات الفكر والسياسية والآداب والعلوم والفنون غير الحرية، وإنما الخلل في نظام التجزئة، في القيادة المستبدة بشعبها، متمردة عليه منكّلة به، مستظهرة عليه بالأجنبي، غير أن بعض الخلل أيضا في المعارضة المدمنة للتشرذم الفاغرة فاها لصدقات المستبد، لاهثة وراء سراب إصلاح أوضاع معظمها غير قابل للإصلاح، مترددة في دفع الثمن الذي دفعته كل الأمم التي انتزعت حقوقها في الحرية، بينما هي تدفعه بالتقسيط،مضيّعة للفرص التي  وضعها القدر بين أيديها مثل ملحمة :"غزة"، وقضية الأقصى، الكفيلة بتعبئة الشعب حولها والاجتماع على نصرتها،وقضية العدل، تصديا للنهب المنظم والمفضوح الذي تسارع فيه أنظمة حكم فاسدة ، وقضية الحرية،  فلو أنها حملت بجد هذه المشاريع التحريرية وجمعت الأمة حولها وحرضت على النزول  إلى الشارع ورابطت فيه بنيّات جهادية سلمية تطلب التغيير والشهادة ، رافضة كل مساومة، لفرضت تغيير موازين القوى لصالحها، فحصلت على الحرية والوحدة والعدل، ولدخلت الأمة مجددا مجرى التاريخ فاعلا فيه.  


 ب - لا يبدو بعيدا عن الصواب أن الوضع العربي عامة وقد تخلف- بسبب الدعم الدولي للدكتاتوريات- عن السير في موكب التحولات الديمقراطية ، أن أزمته تشتد وأوضاعه تتعفن وتبعيته للخارج تتعمق ونقمة شعوبه على حكامه تتراكم، فتتفجر حروبا أهلية كما يجري في اليمن والصومال والعراق..أو انتفاضات شعبية بدأت إرهاصاتها جهوية في مناطق من المغرب والجزائر وتونس ومصر والسودان..وقد تتجمع انفجارات عامة، لا ينجي منها غير الإقدام على إصلاحات حقيقية تبدأ بإطلاق سراح المساجين والتعويض لهم وعودة المهجرين وإطلاق حرية الصحافة بما يفسح المجال أمام حوار عام حول الخيارات الكبرى لا يقصي طرفا.. شيء من ذلك بدأ يحدث في ليبيا، إذا تواصل يمكن أن يمثل سابقة في الإصلاح الذاتي الذي يجنب البلاد الكوارث. فهل ستشهد السنة الجديدة في الوطن العربي قلب عالم الإسلام:إصلاحات جادة عبر الانفجار أو الإصلاح الذاتي؟


ج - واضح جدا أن منطقة القلب من الأمة  تشكو حالة فراغ قاتل ورغم ما يمكن للحكام أن ينجزوه في النهوض بالأمة في الزمن السريع لو صلحوا، "وقليل ما هم"، إلا أن التعويل عليهم أقرب إلى التمني منه إلى الواقع ،وكيف يعوّل عليهم وقد كاد سباق كروي أن يضع بلدين عظيمين على شفى الحرب؟ التعويل بعد عون الرحمن يجب أن يحمل على الأمة وقواها الرشيدة الفاعلة، أن تستيقن أن وحدة الصف واجب ديني وضرورة وجودية وحضارية لا يرجى لأقطارها تحقق فلاح في أي مجال في غيابها، وأن السبيل إليها هو تعبئة قوى الأمة من أجل وضع حد لهذه الأنظمة البائسة من التجزئة المتسلطة المنغلقة عن بعضها لحد التحارب، المنفتحة على العدو لحد التبعية، والدفع لإرساء أنظمة ديمقراطية بديلة تعبر عن إرادة الأمة وتحقق آمالها وعقائدها في الوحدة والتحرر والعدل.إن كلا من الفرس والترك قد حقق دولته القومية، خلافا للعرب الذين فرضت عليهم السياسة الدولة التجزئة والتشرذم، فركنوا إليها وطفقوا يعمقونها ويمجدونها ويصطنعون لها تاريخا وثقافة من عدم، ويعلون الأسوار الفاصلة بين أقطارهم ويجذرونها في الأرض من فولاذ.


وأسوأ ما في الأمر أمام فشل تجارب الوحدة شيوع اليأس منها ، وقبول حتى أصحاب المشاريع الوحدوية من القوميين العرب والإسلاميين بالقطرية المقيتة قدرا ومصيرا. في حين يتجه العالم من حولهم وخصوصا أوروبا التي صدرت لنا هذه القطريات وفرضتها علينا صوب تكتل عملاق، وهي تعلم يقينا أن هذه الكيانات القزمية لا تصلح إطارا لا للتنمية ولا لتحرير فلسطين ولا حتى للديمقراطية فقد فشلت في كل ذلك، هي لا تصلح إلا لتكريس التبعية والتذيل للقوى الولية والتقاتل فيما بينها وخنق شعوبها، بما لا يبقي مجالا حتى لإصلاحها، شيء واحد تصلح له وتستأهله التخلص منها في عالم الأذهان والنضال من أجل ذلك حتى يصبح ذلك ممكنا في عالم الأعيان. مطلوب من كل التيارات الوطنية والقومية والإسلامية أن تتخذ من مشروع الوحدة وتحرير فلسطين مشروعها الأعظم الذي تلتقي حوله . في المنطقة فراغ من أي مشروع ولذلك هي هامدة ميتة مضطربة خارجة من التاريخ. والوحدة على طريق تحرير فلسطين المشروع الوحيد الكفيل بملء هذا الفراغ وبث الروح في هذا الجسم العربي الخامل وتعبئة طاقاته حتى ينهض  ويستقيم ضلعه إلى جانب أخويه التركي والفارسي. الحركة الإسلامية رغم أنها تجاوزت نظريا محنة الخصومة العارضة مع العروبة إلا أنه مطلوب تفعيل هذا الخيار حتى يتحول المشروع الأساسي لها وللمنطقة على أساسه ترسم البرامج وتعقد التحالفات وتعبأ الصفوف. هذا قلب الأمة الإسلامية ما لم يتوحد وينهض بدوره سيظل الإسلام روحا بلا جسد. قال تعالى: "وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون".
_______________
كاتب ومفكر تونسي