إيران بعيون عربية: عدو أم صديق؟

إيران جار العرب التاريخي يشاركهم في قواسم كثيرة والخلاف معها يدار بهذه الروح حرصاً على المصالح المشتركة وعلى سياقات التاريخ ونواميس الجغرافيا







د. مصطفى اللباد



إيران.. "الخطر القريب"
سياقات التاريخ والجغرافيا
منطق المصالح


تدخل الثورة الإيرانية عامها الثلاثين وحضورها الإقليمي في المنطقة هو الأقوى في العصر الحديث، وبشكل يجعل إيران في بؤرة المشهدين الإقليمي والدولي. تحققت هذه النتيجة الكبيرة بفضل مجموعة من العوامل الذاتية الإيرانية يأتي في مقدمها ذلك الهامش الكبير من استقلالية القرار السياسي؛ كما بفضل مجموعة من العوامل الموضوعية ومن أهمها اختلال التوازن في البيئة الإقليمية المحيطة بإيران خصوصاً عقب احتلال العراق عام 2003. ويترافق الصعود الإيراني الكبير في المنطقة مع تراجع عربي واضح وملحوظ، بفعل افتقار النظام العربي الرسمي إلى الحد الأدنى من استقلالية القرار السياسي، فضلاً عن تفاقم المشاكل الداخلية في الكثير من الدول العربية. وبدلاً من التدبر في معاني الثورة الإيرانية باعتبارها حدثاً كبيراً وفريداً في منطقتها وتقييم انجازاتها وإخفاقاتها وصولاً إلى استخلاص العبر والدروس منها؛ فقد راحت بعض الدوائر الإعلامية في المنطقة تنفخ في نار الفتنة المذهبية حتى اختلط نابل المنطقة بحابل سياساتها. تأسيساً على ذلك يبدو المشهد الإعلامي اليوم في المنطقة وكأن عجلة التاريخ قد عادت ألف سنة إلى الوراء، فهاهي الشعوبية المقيتة التي شكلت المعين الفكري للتنافر بين العرب والإيرانيين، تطل برأسها من جديد.


إيران.. "الخطر القريب"





تستبطن المقولة "إيران الخطر القريب" المؤسفة زعم آخر رائج مفاده وجود "هلال شيعي"  يتآمر للتمدد في طول المنطقة وعرضها وتحركه أصابع إيرانية خفية ويضع الإيرانيين في سلة واحدة مع إسرائيل العدو التاريخي للعرب
يبدو أن هناك خلطاً كبيراُ ومتعمداً بين ما هو أساسي وما هو ثانوي في السياسة العربية، في هذه اللحظات المضطربة من تاريخ المنطقة؛ والدليل الأكبر على ذلك رواج مقولات مؤسفة من قبيل "إيران هي الخطر القريب وإسرائيل هي الخطر البعيد". تتغذى هذه المقولة الفاسدة من حقيقة وجود بعض المشاكل الحدودية بين العرب والإيرانيين، ويتم مفاقمتها بانتظام عبر التقاط حوادث تاريخية بعينها من السياق العام، وصولاً بالنهاية إلى التعمية على الخيط الطويل والمتصل للتاريخ المشترك بين العرب والإيرانيين.

وتستبطن هذه المقولة المؤسفة الخاصة بما تسميه "الخطر القريب" زعما آخر رائجا مفاده وجود "هلال شيعي"، يتآمر للتمدد في طول المنطقة وعرضها وتحركه أصابع إيرانية خفية. يعد وضع الإيرانيين في سلة واحدة مع العدو التاريخي للعرب شرطاً لمقارنة لا تجوز تاريخياً وموضوعياً ولا حتى استراتيجياً، في عصر يشهد اشتداد الضغوط على الدول العربية باعتبارها المسرح الأساس لمشروع الشرق الأوسط الجديد المراد بنائه وفق الأجندة الأمريكية الإسرائيلية. وينتج هذا الخلط مفاعيل ضارة بالمصالح العربية العليا، فضلاً عن أنه يحجب أولويات الدول العربية ويحرفها عن اتجاهها الصحيح لمصلحة سياسة تعادي فيها إيران، وهو ما يصب في نهاية المطاف لغير مصلحة الطرفين معاً.


لم تنشأ إيران بقرار دولي فرضته أجندة دولية بقوة السلاح على العرب رغماً عن إرادتهم، واستمرت تغذيه بالمال والسلاح والفيتو، وضمنت له تفوقاً عسكرياً كاسحاً على قدراتهم مجتمعين، بل كانت جاراً للعرب منذ آلاف السنين، وهي جارة لهم الآن وستظل كذلك في المستقبل. وإيران لا تستند على دعم خارجي في وجودها الضارب في عمق ثقافة وتراث المنطقة، ولم تقتلع الشعب الفلسطيني من أرضه أو تدعي "هبة إلهية" للسيادة على كامل المنطقة الممتدة من النيل إلى الفرات. وإيران ليست دولة هابطة بالمظلات على جغرافيا وتاريخ المنطقة، بل كياناً مؤسساً ورافداً أساسياً من روافد ثقافتها وحضارتها.


أما حقيقة وجود مشاكل حدودية بين العرب والإيرانيين فهو أمر طبيعي بين الجيران، والدليل على ذلك وجود مشاكل مماثلة بين العرب وتركيا (لواء الإسكندرون)، والعرب وإثيوبيا (منابع النيل والحدود مع السودان والصومال)، والعرب وأسبانيا (سبتة ومليلية وجبل طارق)، أي بوضوح بين العرب وكل جوارهم الجغرافي. ولا يعني ذلك التقليل مما نراه نحن حقاً كعرب، ولكن المشكلة في الارتقاء بمستوى هذا الخلاف إلى مصاف مساواة الجار التاريخي، أي إيران، بالعدو التاريخي، أي دولة الاحتلال الصهيوني، فهذه المقارنة تبدو خطيئة لا تغتفر بحق التاريخ والجغرافيا قبل أن تكون بحق إيران.


سياقات التاريخ والجغرافيا





لم يحدث هذا القدر الهائل من الاختلاط الحضاري بين فضاء حضاري وآخر مثلما حدث بين العرب وإيران حيث صاغت الحضارة العربية الإسلامية الأمتين في قالب حضاري مشترك مثلما رفدت الحضارة الفارسية بعنصر جديد
ينزع الجوار التاريخي بين العرب والإيرانيين -بمنطق التاريخ والحضارة المشتركة- عن إيران صفة "الوافد" على المنطقة، إذ هي كيان أصيل شارك وأثر وتأثر بالعرب وحضارتهم أكثر من أي أمة أخرى في التاريخ. وهكذا لم يصنع العلاقات العربية الإيرانية بنو البشر فقط، ولم تخلقها التطورات الإقليمية فحسب، بل أوجدتها الجغرافيا التي هي قدر الأمم، وصقلها التاريخ وصاغتها حضارة الإسلام. قدر العرب أن يكون جوارهم إيران، كما هو قدر إيران أن يكون العرب جوارها، والواضح هنا أنه لا توجد أمّتان في التاريخ على هذا القدر من الجوار والتآخي، كما هو الحال بين الأمتين العربية والإيرانية.

وربما لم يحدث هذا القدر الهائل من الاختلاط الحضاري بين فضاء حضاري وآخر مثلما حدث بين العرب وإيران، حيث صاغت الحضارة العربية الإسلامية الأمتين في قالب حضاري مشترك مثلما رفدت الحضارة الفارسية بعنصر جديد. وهو ما استنهض طاقاتها وفجر حيويتها من ناحية، ودعم حضارة العرب بأبعاد جديدة أضفت الطابع التعددي عليها وخرجت بالإسلام وتعاليمه السمحة ومنظومته القيمية التي أرساها إلى خارج الجزيرة العربية، وأغنت الإسلام بالمزيد من العلماء والمفكرين حتى اكتسبت حضارة الإسلام بعداً أممياً حضارياً وليس عرقياً فقط.


أزاح الإسلام من إيران الشتات الفكري الضارب في المجتمع الإيراني وقتذاك، بعد أن فض الاشتباك الناشب بين العقائد الدينية المنتشرة وقتها على طول إيران وعرضها. وثبّت الإسلام الوافد على إيران من جزيرة العرب -ربما لأول مرة في تاريخ إيران- مبدأ وحدة العقيدة بين الإيرانيين. لم يربط بين الإيرانيين قبل الإسلام من آريين وساميين وذوي لغات وعقائد مختلفة سوى القوة فقط التي كفلت للحكام السيطرة، حتى جاء الإسلام فربط بين الناس جميعاً في فلسفة واحدة وبناء فكري واحد. وإن لم يتم التمكين للإسلام بين عشية وضحاها، بل استمر الشد والجذب حوالي أربعة قرون بعد الفتح الإسلامى لإيران حتى صار الإسلام دين الغالبية العظمى من الإيرانيين.


ولكن هذه الفترة الممتدة أربعة قرون لا تنهض دليلاً سلبياً على اندماج الإيرانيين بالإسلام، حيث أتيحت نفس الفترة الزمنية للنظام الموبدي قبل ذلك، فكان أن فشل في إيجاد وحدة عقدية في إيران على أساس الزرادشتية (ديانة إيران القديمة). فتح الإسلام أبواب التواصل الحضاري مع ثقافات العالم أمام الإيرانيين، الذين لم ينفتحوا قبل الإسلام بقرون عديدة حتى على أنفسهم، نظراً لتشتت منظومة القيم والأفكار داخل بلادهم. استطاع الإيرانيون، بفضل الانفتاح الحضاري الذي أوجده الإسلام، أن يسهموا إسهاماً ملحوظاً في نشر الحضارة العربية الإسلامية. وكان من الطبيعي أن تنفتح إيران على العرب وحضارتهم، هؤلاء الذين أفسحوا للإيرانيين مكاناً متميزاً في حضارة الإسلام، حتى صار بعض علماء المسلمين من أصول إيرانية، وبفضل سماحة الحضارة العربية الإسلامية، مراجع دينية حتى للعرب أنفسهم. ومنذ القرون الأولى لانتصار الإسلام فقد أصبح الإيرانيون أكثر حضوراً في نسيج الحضارة العربية الإسلامية، وهكذا صار عبيدة معمر بن المثنى وواصل بن عطاء أئمة في علم الكلام والجدل والعقيدة، وسيبويه والكسائي أعلم علماء النحو والصرف العربي، إلى آخر القائمة دون تمييز عنصري، إلا في فترات جد قليلة ولأسباب سياسية وليست عقدية. قام الإسلام بتحييد الخرافات الثنوية التي تحكمت في إيران قديماً جراء ديانة ماني، التي سيطرت على أجزاء كبيرة من إيران، وجعلت التشاؤم ركناً عقديا لدى الإيرانيين من أتباعها. ولذلك فقد غير الإسلام من رؤية الإيرانيين للعالم وحضاراته وصار حافزاً من أجل انخراطهم في حضاراته الإنسانية وثقافاته المتنوعة. ومن ناحيتهم انفتح العرب على إيران ولم يجدوا أية غضاضة في اقتباس النظام الإداري للدولة العربية-الإسلامية من النظام الإداري الإيراني. ومنذ عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب تم تنظيم الدواوين على طريقة الدفاتر والدواوين الإيرانية القديمة، ثم نقل العرب العلوم والمعارف من اللغات المختلفة، فكان أول ما ترجم إلى العربية منقولاً من القبطية المصرية واليونانية، ثم نقل الديوان بكامله على زمن الحجاج من الفارسية إلى العربية.


صار علماء المسلمين من العرب والإيرانيين فوق الأعراق والأصول الجغرافية نظراً لتراكم المعارف والخبرات والتناغم الحضاري بين الدائرتين الحضاريتين العربية والفارسية. حتى اليوم لا يعرف الكثيرون، ممن يتبنون مقولة "إيران هي الخطر القريب" أن جميع أصحاب الصحاح الستة وكذلك مؤلفى الكتب الأربعة هم من أصول إيرانية!، مثل البخاري ومسلم والنيشابوري وأبو عبد الرحمن النسائي وأبو داود السجستاني والترمذي والبيهقي وابن ماجه القزويني. وتصل هذه الشراكة التاريخية العقائدية إلى ذروة كفايتها التفسيرية حين نعرف أن اثنين من الأئمة السنة الأربعة ينحدران من مقاطعة خراسان الإيرانية؛ وهما أبو حنيفة النعمان بن ثابت وأحمد بن حنبل المروي الخراساني. وحتى في ظل اشتداد "الشعوبية" التي ظهرت بين العرب والفرس في فترات زمنية قليلة على عهد الأمويين والعباسيين وتطل برأسها الآن مجدداً للأسف الشديد، والتي توغل في مشاعر العصبية القومية نجد العالم الإيراني الشهير الثعالبي النيسابوري يجعل مقدمة كتابه "سر الأرب في مجاري كلام العرب" بياناً قوياً لتعلق الإيرانيين بالإسلام والحضارة العربية-الإسلامية حين يبدأ الكتاب كالتالي: "من أحب الله تعالى أحب رسوله محمداً المصطفى صلى الله عليه وآله، ومن أحب الرسول أحب العرب، ومن أحب العرب أحب اللغة العربية التي نزل بها أفضل الكتب على أفضل العرب والعجم، ومن أحب اللغة العربية عني بها وثابر عليها. ومن هداه الله للإسلام وشرح صدره للإيمان وآتاه قوة بصيرة وحسن سريرة فيه اعتقد أن محمداً صلوات الله عليه خير الرسل، والإسلام خير الملل والعرب خير الأمم والعربية خير اللغات والألسنة"(1).


كتب العالم الإيراني الشهير أبو عبيدة بن معمر بن المثنى كتاباً بعنوان "مقاتل فرسان العرب" ليخلد ذكرى العرب والعروبة وفضل العرب على الإنسانية، في حين كتب العالم العربي المسعودي كتاب "مقاتل فرسان العجم"(2) ليرد على أبي عبيدة معمر بن المثنى، ويعيد الاعتبار للفرسان الإيرانيين وتاريخهم. وهكذا يتضح أن علاقات العرب وإيران قديمة قدم التاريخ والجغرافيا، حتى جاء الإسلام لينفخ في العرب والإيرانيين من روحه ويجعلهم أقرب أمتين إلى بعضهما البعض من حيث المنظومة الحضارية والعقائدية، وبالتالي فمقومات العلاقات العربية الإيرانية أمتن وأقوى وأشمل من أية علاقات تربط العرب بغيرهم من سائر الأمم أو تربط الإيرانيين بمن سواهم من أمم. ولا يعني الترابط التاريخي والجوار الحضاري بين الأمتين العظيمتين العربية والإيرانية تطابقاً دائماً في المصالح، ولكن عدم الاتفاق على قضايا بعينها –وهو أمر طبيعي كما رأينا- لا يعني بالضرورة استنفار العداوة أو استشعار الخطر ومساواة الجار بالعدو.


منطق المصالح





لأسف الشديد استمر بعض العرب في الترويج لمقولة "الهلال الشيعي" ويلاحظ كل ذي عينين أن "نجمة داود" هي التي تريد أن تهيمن في سماء المنطقة على حساب العرب والفرس والسيطرة على مقدراتهم وكيانهم، وليس "الهلال الشيعي" المزعوم
يؤدي ربط المصالح العربية بالمصالح النفطية الدولية فقط، إلى تغليب مصالح الأخيرة على ما سواها، فضلاً عن أنه يبحث عن "خطر قريب" لتبرير وجوده ومصالحه.

وحتى لا ننساق وراء "نظرية المؤامرة" التي تنتشر أيضاً في هذه الأيام الظلماء كرد فعل على التهميش المتواصل للعرب في السياسة الدولية، ينبغي ملاحظة أن المصالح الدولية في منطقتنا الغنية بثرواتها النفطية والغازية هي السبب في تأجيج الخصومة والعداء بين العرب والإيرانيين، وليس لأن المصالح النفطية الدولية تحب العرب أو حتى تعاديهم في مقابل إيران.


تعد مقولة "إيران هي الخطر القريب" النسخة المعدلة لمقولة خبيثة أخرى راجت خلال السنوات الماضية، وهي "الهلال الشيعي" المزعوم الذي يستهدف العرب عبر "مؤامرة إيرانية" عليهم. وكأن العرب الأقحاح من المسلمين الشيعة يريدون –أو حتى يستطيعون- خلع هويتهم القومية لمصلحة قومية أخرى، وهو أمر لا يحتاج إلى توضيح ضلاله. وللأسف الشديد استمر بعض العرب في الترويج لمقولة "الهلال الشيعي" حتى ذبلت من تلقاء نفسها، لأن كل ذي عينين يلاحظ أن "نجمة داود" هي التي تريد أن تهيمن في سماء المنطقة على حساب العرب والفرس وسائر أهل المنطقة والسيطرة على مقدراتهم وكيانهم، وليس "الهلال الشيعي" المزعوم.


وبالرغم من ذلك فما زالت الكثير من وسائل الإعلام في منطقتنا وخارجها تسلط الأضواء بكثافة على إبراز الاختلافات العقائدية بين الفرقتين الإسلاميتين الكبيرتين (السنة والشيعة) وإسقاطها على واقع سياسي قلق، خصوصا في العراق بعد احتلاله في عام 2003، للخروج بنتيجة العداوة الحتمية بين السنة والشيعة. وتأسيساً على هذه النتيجة السطحية والمفتقرة إلى الطابع العلمي يأخذ التسخين الإعلامي طابعاً طائفياً يهدد بنشوب أزمات وحروب كبرى جديدة في الشرق الأوسط عموماً، والعراق خصوصاً. كما يندر أن يمر يوم دون احتكاكات طائفية بين المسلمين السنة والمسلمين الشيعة في العراق ومنذ الاحتلال الأميركي، في صراع أودى بعشرات الألوف من الأرواح وما زال يحصد حتى هذه الساعة الآلاف من الضحايا الأبرياء.


أصبح الفرز السياسي في كثير من دول المنطقة ، ليس كما هو مفترض في بيئة سياسية طبيعية، بين قوى اليمين وقوى اليسار، بل بين أحزاب وتيارات سياسية تعتبر واجهة لطوائف متنافرة تتصارع فيما بينها على خلفية طائفية بامتياز. وحتى تصميم التحالفات الإقليمية في هذه المنطقة لم يعد فقط انعكاساً للسياسات الداخلية للدول ولا حتى ترجمة دقيقة لمصالحها الوطنية في الإقليم وحدود أدوارها التي تراها في منطقتها فقط، بل أصبح رسم التحالفات الشرق أوسطية يدار وينسق على أساس الاصطفاف المذهبي العابر للحدود الوطنية.


صار الفرز الطائفي أحد أكثر المعايير أهمية لتمييز التيارات والقوى السياسية داخل دول المنطقة، وأحد الدوافع الرئيسية لإقامة التحالفات الإقليمية بين هذه الدول وبعضها البعض في مواجهة تحالفات مدموغة بلون طائفي مخالف، وصولاً إلى اعتبار مراكز صنع القرار في النظام الدولي الراهن أن التنافس السني-الشيعي هو أحد أبرز ملامح الصراع في "الشرق الأوسط" قي القرن الحادي والعشرين. ومنذ عصر الاستقلال وظهور الدولة "القومية" في منطقتنا بشكلها الحالي لم تعرف ظاهرة نشوء الحروب على أساس طائفي سني-شيعي. ويبدو أن التناقض المفترض بين المسلمين السنة والمسلمين الشيعة يراد له أن يكون أساسا لظهور صراعات عابرة لحدود العراق إلى جواره الجغرافي، مما يهدد كامل المنطقة بعواقب خطيرة. وإذ لا يجادل أحد في أن المصالح العربية يجب أن تتقدم على ما سواها عند تحليل المعطيات الإقليمية ورسم السياسة الخارجية للدول العربية، إلا أنه مع ذلك ولأجل صون المصالح العربية العليا يجب تحديد الأولويات وليس وضع كل "الجيران" في خانة واحدة.


صحيح أن التخوف العربي من الدور الإيراني بلغ أوجه بعد احتلال العراق وتنامي الدور الإقليمي الإيراني في المنطقة، ولكن هل توقع عاقل من إيران أن تخوض حرباً ضد الولايات المتحدة الأميركية دفاعاً عن نظام خاض ضدها حرباً استمرت ثماني سنوات؟.


إيران ليست شيطاناً يتم الترويج لخطره المزعوم بغرض التعمية على عدو العرب الحقيقي أي دولة الاحتلال الصهيوني، كما أن إيران في الوقت نفسه ليست ملاكاً لا يأتيها الباطل من بين يديها أو من خلفها، فهذه التوصيفات ليست من طبائع الأمم ولا من أساسيات السياسة. إيران جار تاريخي كبير يشترك مع العرب في كثير من القواسم الحضارية والتاريخية، والاختلافات مع إيران هي اختلافات حاضرة وستظل حاضرة، وبمنطق الأمور، يجب أن تدار بهذه الروح وبذلك المنطق حرصاً على مصالح العرب ووجودهم وعلى انتظام سياقات التاريخ واستيعاب نواميس الجغرافيا.
_______________
مدير مركز الشرق للدراسات الإقليمية والإستراتيجية - القاهرة


إحالات
1 - الثعالبي النيسابوري، "سر الأرب في مجارى كلام العرب"، طهران 1272 هجرية.
2 - المسعودي، "التنبيه والإشراف"، بيروت 1388 هجرية.