هل تشكل الجزيرة الرأي العام العربي أم تنسجم معه؟

تميز الجزيرة كما يؤكد المقال يكمن في كونها فرقت بين الخبر والرأي والتزمت خطا وطنيا لا يعادي الرأي العام العربي ولكن ينسجم معه







بقلم: رياض الصيداوي


الرأي العام العربي والإعلام
طبيعة تأثير الجزيرة في الرأي العام العربي؟
مساهمة الجزيرة في الديمقراطية


تناول عالم الاجتماع الأمريكي من أصل نمساوي لازارسفالد (Paul Felix Lazarsfeld) (1901-1976) ظاهرة قادة الرأي، أي من يصنع الرأي العام. وبحث في دور وسائل الإعلام وتوصل إلى نتائج قيمة، فمع تأكيده المطلق لدور وسائل الإعلام في اختيارات الناخبين مثلا أثناء الاقتراع العام فقد أشار أيضا إلى وجود وسطاء وقادة رأي قد نجدهم على مستوى شديد المحلية مثل المقاهي، النوادي، أو حتى أماكن العبادة...



الرأي العام العربي والإعلام





تجربة التأثير الإعلامي في الرأي العام العربي عرفت أوجهها تاريخيا في فترة نهاية الخمسينات والستينات أثناء حكم الرئيس جمال عبد الناصر حين هيمنت إذاعة "صوت العرب" على المشهد الإعلامي السياسي العربي ونجحت نجاحا كبيرا في التأثير في الرأي العام
إننا سننطلق من فرضية أن الرأي العام العربي موجود أصلا ومن الصعب تغييره بل ربما من المستحيل فعل ذلك وأن وسيلة الإعلام العربية التي تنجح في التأثير فيه هي تلك التي تنسجم معه ولا تعارضه: ويمكننا تحليل خطاب حدثين مثالين وهما حرب إسرائيل ضد لبنان في يوليو/ تموز 2006، والعدوان الإسرائيلي على غزة في أواخر سنة 2008 وبداية هذه السنة. انقسمت القنوات التلفزيونية العربية وبدرجات متفاوتة حول هذين الحدثين، فبعضها لامت حزب الله في لبنان وحركة حماس في غزة واعتبرتهما السبب في مآسي الشعبين اللبناني والفلسطيني والبعض الآخر وقف مع اللبنانيين والفلسطينيين وأدان العدوان الإسرائيلي.

هذا الانقسام في سياسة تحرير القنوات التلفزيونية يقابله على مستوى الرأي العام العربي إجماع تام وصريح على ضرورة دعم المقاومة في لبنان وفي غزة، ولم تغير أصوات الإعلاميين المشككين من واقع الأمر شيئا. لأن الرأي العام العربي متشكل أصلا. وهو واع ومدرك للرهانات السياسية في المنطقة رغم عاطفته الشرقية التقليدية. وتغييره من خلال خطابات إعلامية مكثفة تعتمد على كثرة وسائل الإعلام أثبت تتالي الأحداث إلى حد اليوم أنها مسألة مستحيلة الوقوع. لأننا ببساطة أمام رأي عام متشكل منذ زمن بعيد. وأحد أسباب نجاح الجزيرة في استقطاب المشاهدين، إضافة إلى أسباب أخرى، هو انسجامها مع هذا الرأي العام بدل معارضته ومحاولة تغييره دون حجج منطقية مقنعة.



تجربة التأثير الإعلامي في الرأي العام العربي عرفت أوجهها تاريخيا في فترة نهاية الخمسينات والستينات أثناء حكم الرئيس جمال عبد الناصر. حيث هيمنت إذاعة "صوت العرب" على المشهد الإعلامي السياسي العربي ونجحت نجاحا كبيرا في التأثير في الرأي العام في المنطقة وأثرت بخاصة في نخب عسكرية كررت نموذج ثورة يوليو/ تموز 1952 في العراق في سنة 1958، وفي اليمن في سنة 1962 وفي ليبيا سنة 1969 وفي محاولات انقلاب عسكري فشلت في دول عربية أخرى(1). هذه التجربة تندرج أيضا في إطار أوسع هو الحرب الباردة التي اندلعت بين المعسكر الاشتراكي والمعسكر الغربي وانقسمت فيه الدول العربية تبعا لذلك. وتميزت هذه المرحلة أيضا بطغيان الإعلام الموجه الذي لقي قبولا لدى فئة كبيرة من الجماهير العربية لأنه كان مشاركا في حروب التحرر الوطني من الاستعمار وبخاصة في حرب تحرير الجزائر (1954-1962)، تحرير اليمن الجنوبي، الكفاح الفلسطيني. ووجد طرح فكرة الوحدة العربية تجاوبا كبيرا من المواطن العربي.


هذا المثال لا ينفي فكرة أن التأثير الإعلامي يبدأ مع رأي عام متشكل أصلا وكل ما يجب فعله هو الانسجام معه وتقويته.... لأن كل التجارب الإعلامية العربية التي حاولت أن تتناقض وتغيره بشكل مختلف تماما قد فشلت في الواقع فشلا ذريعا.



ما طبيعة تأثير قناة الجزيرة في الرأي العام العربي؟


على عكس إذاعة "صوت العرب"، لا تهدف قناة الجزيرة إلى نشر إيديولوجيا محددة. هي تسعى إلى نشر ثقافة سياسية جديدة في العالم العربي تعتمد على روح الخلاف والتعايش بين الأفكار رغم تناقضها وتصارعها. فالهدف أولا هو التحرر من عامل الخوف من الكلمة وسياسة الصمت المتبعة، وثانيا إنشاء ثقافة التعدد والاختلاف تحت سقف وطني يسمح باستخدام تعبير "الشهيد الفلسطيني" بدلا من اعتباره مجرد "قتيل".



هل يمكن تصنيف الجزيرة إيديولوجيا؟






هل يمكن لقناة تلفزيونية أن تحتوي على خليط من إعلاميين يبدون من نظرة أولى مختلفين إيديولوجيا ويعملون تحت سقف واحد وفي إطار سياسة تحرير واحدة؟ الإجابة نعم إذا ما طبقنا القاعدة الذهبية لنظرية الإعلام وهي: "إن الرأي حر أما الخبر فهو مقدس


 "

حينما نشاهد قناة الجزيرة مساء كل خميس حيث يقدم محمد حسنين هيكل برنامجه "مع هيكل" قد نعتقد أن هذه القناة ناصرية الاتجاه. ولكن حينما نشاهد برنامج الإعلامي أحمد منصور "شاهد على العصر" أو "بلا حدود" قد نعتقد عكس ذلك: قناة الجزيرة معادية للناصرية ومتعاطفة مع حركة "الإخوان المسلمين". وحينما نشاهد برنامج "أكثر من رأي" للإعلامي سامي حداد، قد نعتقد أن القناة متعاطفة مع الاتجاه الليبرالي ولكن حينما نشاهد برنامج "الاتجاه المعاكس" للإعلامي فيصل القاسم قد نعتقد أن القناة عروبية التوجه وتطغى عليها النزعة القومية العربية. وأيضا حينما نشاهد الشيخ يوسف القرضاوي في برنامج "الشريعة والحياة" قد يذهب الظن أن القناة تميل إلى الاتجاه السني المعتدل، ولكن حينما نشاهد غسان بن جدو وبرنامجه "حوار مفتوح" قد نعتقد أن القناة متعاطفة مع الشيعة بشكل عام وإيران بشكل خاص... وهكذا تفتح القناة الأبواب على مصراعيها لكل الاتجاهات بدون استثناء أو حصر.

فهل يمكن لقناة تلفزيونية أن تحتوي على خليط من إعلاميين يبدون من نظرة أولى مختلفين إيديولوجيا ويعملون تحت سقف واحد وفي إطار سياسة تحرير واحدة؟ الإجابة نعم إذا ما طبقنا القاعدة الذهبية لنظرية الإعلام وهي: "إن الرأي حر أما الخبر فهو مقدس، " (L’opinion est libre mais l’information est sacrée).


والخبر هو إجابة على أسئلة خمس هي "من، متى، ماذا، كيف، لماذا". هنا يتشكل الخبر. ونشره أو إذاعته بأمانة وصدق وبخاصة بعد تثبت وتأكد هي مسألة مقدسة في الإعلام. تقوم وسيلة الإعلام بواجبها المهني الإخباري الصرف، وتلام إن أخفت خبرا أو أعطت معلومات مغلوطة. ومشكلة أغلب القنوات العربية الرسمية أنها تخفي أخبارا كثيرة ولا تبثها مثل أخبار المعارضة وحقوق الإنسان والرشاوى والفساد... في هذا المستوى الإخباري البحت، ثمة معايير إعلامية متعارف عليها يمكن تطبيقها بدقة على نشرات الأخبار ومضمونها وكيفية انتقاء الأخبار باستخدام "نموذج الهرم المعكوس" (يعنى الخبر الأهم يأتي أولا يليه الخبر الأقل منه أهمية، فالأقل... الخ). حينما نطبق هذه المعايير على قناة الجزيرة، نجدها قد نجحت بشكل جيد في إقناع المشاهد العربي بحرفيتها، موضوعيتها وحيادها...



لكن ماذا عن الرأي؟


الرأي حر. والجزيرة اختارت شعار "الرأي والرأي الآخر" وهو ما يفسر وجود إعلاميين فيها مشهورين ببرامج حوارية جذابة ولها جمهور عربي واسع جدا يبدون لوهلة أولى غير متجانسين إيديولوجيا. هذا النموذج نجده أيضا في أغلب القنوات الإعلامية الغربية الجادة. ففي البي بي سي على سبيل المثال، من الممكن بسهولة أن نعثر فيها على صحافيين يساريين وآخرين يمينيين. وتفسير ذلك وتبريره هو أن عالم الآراء مختلف، متنازع، متعارض، متناقض، متنوع، متموج، متطور... لا يمكن فيه الحديث عن الحيادية أو الموضوعية، فيه جانب واسع من الذاتية: إن رؤية الإنسان للحياة مختلفة ونوعية برامجه السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، الثقافية، الروحية والدينية متعددة ومتنوعة وحتى متناقضة. والمطلوب بالنتيجة هو إتاحة الفرصة لهذا الكم والخليط الهائل من الآراء والمتناقضات ليعبر عن نفسه في نفس وسيلة الإعلام.



هذا ما نجحت الجزيرة فيه وما لم يفهمه البعض من المشاهدين العرب المتعودين لمدة عقود طويلة من الزمن على لون واحد من الرأي. وهو أيضا ما جعل الجزيرة تتعرض لتهم كثيرة تحصرها في لون إيديولوجي معين. وهي غالبا متهمة بنزعة إسلامية قومية عربية لكثرة الوجوه المدعوة ونجاحها في إيصال خطابها. لكن تفسير ذلك يعود بنا إلى حقيقة المجتمعات العربية نفسها التي تهيمن عليها حاليا التيارات الإسلامية مع تواجد للتيارات القومية العربية التي تعتمد أيضا على إرثها السياسي من المجد الذي شهدته في الخمسينات والستينات من القرن الماضي. هذه الخطابات تجد لها صدى لدى الرأي العام حاليا نظرا لظروف سياسية واقتصادية وثقافية متشابكة. وإن تمت إتاحة الفرصة دائما للتيارات الليبرالية أو الماركسية، فإنها لم تجد نجاحا كبيرا لأن الاتجاه الغالب للرأي العام العربي في الوقت الحاضر غير متحمس لها. والمشهد الأيديولوجي قد يتطور ويتغير في العقود القادمة.



مساهمة الجزيرة في الديمقراطية





نجحت الجزيرة في إحداث قطيعة إبستيمولوجية مع إعلام العصر الحجري فلم تعد أخبار استقبال المسؤول وتوديعه من الأخبار مهمة وتعالى سقف الحرية رغم تحول بعض أصوات الضيوف إلى صراخ وضجيج
أكبر أثر يمكن أن تحققه الجزيرة على مدى متوسط وبعيد هو انتشار الديمقراطية في العالم العربي بمفهومها الواسع وبخاصة على مستوى حرية التعبير، وهو الشرط الأول لانطلاق عملية الدمقرطة. نجحت الجزيرة في إحداث قطيعة إبستيمولوجية بالمعنى المعرفي للكلمة مع إعلام العصر الحجري. حيث لم تعد أخبار استقبال المسؤول العربي وتوديعه من الأخبار الهامة بل اختفت منها. وأصبح سقف الحرية عاليا جدا رغم تحول بعض أصوات الضيوف في بعض الأحيان إلى صراخ وضجيج...


وتواصل التأثير بشكل غير مباشر على بقية القنوات العربية الوطنية التي تحاول منذ انتشار الجزيرة إدخال نوع من الحوارات في برامجها والأهم أن تجربتها دفعت بالدول الغربية الكبرى إلى القيام باستثمارات كبيرة في المجال التلفزيوني لمحاولة جذب المشاهد العربي. بدأت الولايات المتحدة الأمريكية بمشروع قناة "الحرة" ونفذته، وتبعتها فرنسا بإنشاء قناة "فرانس 24" باللغة العربية (فقط إلى جانب القناتين الفرنسية والإنجليزية دون الاهتمام بأية لغات وثقافات أخرى)، وكذلك فعلت روسيا بإنشائها قناة "روسيا اليوم"، وأخيرا وليس آخرا أنشأت البي بي سي قناتها التلفزيونية باللغة العربية. وعلى المستوى العربي، حاولت أيضا بعض الدول أو رجال الأعمال تقليد مشروعها بإنشاء قنوات إخبارية. النتيجة ارتفاع سقف حرية التعبير واشتداد التنافس بين هذه القنوات. لكن الجزيرة ما زالت محافظة على تفوقها بشكل واضح. لأنها ميزت أولا بين الخبر والرأي وثانيا التزمت خطا وطنيا لا يعادي الرأي العام العربي ولكن ينسجم معه.
_______________
كاتب وباحث في العلوم السياسية/ جنيف/ سويسرا
إحالات:
1 - أنظر دراستي باللغة الإنجليزية:
- Riadh Sidaoui, « The Inner Weakness of Arab Media », (eds) Natascha Fioretti, Marcello Foa, Islam And The Western World: The Role of The Media, Universita Della Svizzera Italiana, European Journalism Observatory (EJO), Die Schweizer Journalistenschule, Lugano, Milano, 2008, p. 77.