العرب والأتراك وجها لوجه

ظل المواطن التركي ينظر دائما لإسرائيل كجسد غريب بالمنطقة وإلى الفلسطينيين كضحايا للصهيونية، وإلى الأتراك كجزء لا يتجزأ من قوى التحرير، وتركيا دولة تحترم مواطنيها والدولة التي تحترم مواطنيها هي الدولة الفاعلة دوليا، أما الدولة القهرية فلا اعتبار لها في دنيا التوازنات
36aef85ef57647cba276b2efdae45f9a_18.jpg
الفرنسية

إن التعاطي مع حدث "مافي مرمرة" من حيث التداعيات المحتملة على الواقع العربي يحيلنا على التحولات الدراماتيكية التي عرفها ذلك الواقع بعد الزلزال الكارثي لحرب الخليج الثانية، وتأثيره الحاسم على نسق العلاقات العربية بعد ذلك، وما يعرف بالنظام الإقليمي العربي، وقواه المؤثرة، وطالما أن حصار غزة كان وراء مبادرة قافلة الحرية لكسر الحصار، فإن تطورا ما يمكن أن يمس القضية الفلسطينية ومستقبل الصراع، كما يمكن أن تكون هناك تداعيات تشمل الصراعات الداخلية بين الحكام والشعوب، تلك الشعوب العربية المقهورة والتواقة إلى الحرية والتحرر.

مهدي عزوز

العجز الرسمي العربي
بين جنة الممانعة وسعير الموالاة
سفينة مرمرة والنظام الرسمي العربي
النظام المصري.. أي دور؟
سفينة مرمرة تكشف عجز الأنظمة العربية
هل تغير حادثة السفينة الخريطة السياسية العربية؟
الدولة الحقيقية هي التي تحترم نبض شارعها


العجز الرسمي العربي

مشى العرب إلى مؤتمر مدريد للسلام دون قدرة على التنسيق الملزم والحكيم، ودون الاستناد إلى مرجعية قادرة على ضمان الحقوق، أو حتى تحديد وجهة نظر عربية براغماتية لمفهوم السلام

لقد هيأت حرب الخليج الثانية 1990 للانهيار الشامل في العلاقات العربية العربية، والتي انهارت معها كل مقاربات الأمن القومي، وكل التعبيرات الدفاعية العسكرية وأنساق التعاون والتبادل والتشاور إلا قليلا. وتزعزعت أركان البيت العربي أي الجامعة العربية التي جرت تحت مظلتها رعاية ذلك الانقسام وتعميقه. لقد انقسم العرب على أنفسهم في زمن كانوا فيه عاجزين عن رأب الصدوع الناتجة عن حرب الخليج الأولى، والتي لم يتمكنوا من تضميد جراحاتها، فنالتهم شظاياها، حتى جاءت حرب الخليج الثانية، لتزيد من تعقيد الموقف العربي في الوقت القاتل.

وتم الاجتياح العراقي للكويت في ثاني أكبر خطأ استراتيجي يرتكبه العرب بعد نكسة 67 ، لتنهار بعد ذلك الأسس الهشة أصلا لتلك العلاقات البينية، وبدا أي حديث عن نظام إقليمي عربي من قبيل الضحك على الذقون. وأصبحت المنطقة برمتها مقدمة على جملة من الوقائع المرة ذات النسبة العالية من التهديد. لقد خسر العرب معظم أوراق اللعبة الدولية والإقليمية، وانهارت المبادرة العربية كليا. وبدا رسم الآفاق الإستراتيجية للمنطقة خاضعا للاختراق الصهيوني، ولرغبات القوى المتنفذة في العالم.

وأصبحت القضية الفلسطينية داخل تلك التناقضات العربية الحادة- والتي كانت القيادة الفلسطينية آنذاك جزءا منها- عبئا يثقل على حامليه. وحدهم الأمريكيون يعرفون ما يفعلون. فقد كان عليهم أن يقوموا بتنشيط القضية الفلسطينية على قاعدة الشرعية الدولية التي عوقب على أساس منها العراق. ولم يكن ذلك التمشي في الحقيقة إلا تبريدا للجبهة الشعبية الساخنة، والتي لم تدخر جهدا في الاحتجاج على التدخل الأجنبي، وضرب العراق. ومشى العرب إلى مؤتمر مدريد للسلام دون قدرة على التنسيق الملزم والحكيم، ودون الاستناد إلى مرجعية قادرة على ضمان الحقوق، أو حتى تحديد وجهة نظر عربية براغماتية لمفهوم السلام.

لقد دفعت الدبلوماسية الأمريكية باتجاه ذلك المؤتمر برؤية واضحة وأسباب أوضح. وأرغموا إسحاق شامير اليميني المتصلب على التجاوب مع المبادرة الأمريكية، وهو الإرغام الذي حرم جورج بوش الأب من الفوز برئاسة الولايات المتحدة بعد ذلك لدورة ثانية. ومن جملة تلك الأحداث المرعبة للتسعينات حتى حادثة مرمرة مايو/أيار 2010، كانت المنطقة العربية برمتها مسرحا للعديد من الأحداث والوقائع، بنفس القدر الذي كانت فيه، في دائرة التأثر بأحداث أخرى جرت خارج نطاقها الجغرافي وكان لها انعكاس مباشر عليها، ومن أهم تلك الأحداث نذكر الانتفاضة الثانية سنة 2000، أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، حرب العراق 2003 ، مشروع الشرق أوسطية (الشرق الأوسط الجديد/الشرق الأوسط الكبير)، حرب لبنان 2006 ، حرب غزة 2009...

لقد تواترت الأحداث والوقائع والتبدلات، ولم يبق إلا شيء واحد ملازم للثبات، لم يتغير على الرغم من التغيرات الكاسحة.. إنه إله العجز الرسمي العربي الذي صنعته نخب سياسية صنمية لم تر لنفسها دورا خارج الذيلية، والتبعية والارتهان. ولم تحدثها نفسها يوما ما بتجريب الحلول التي لم تجرب. إننا الدم المستباح على مذبح الافتداء السياسي لكرسي الزعيم العربي الذي لا يتزحزح، منتصبا فوق جماجمنا، راسخا كالقدر، تحرسه العناية الأمريكية الصهيونية المركزة. وتحتضنه الخيارات الأمنية التي لا تقهر.

إن صناع الإستراتجيات الأمنية القهرية، لن يكونوا قادرين أبدا على إبداع إستراتيجيات ذاتية في الدفاع القومي، أو انتزاع حقوق الأمة التاريخية التي أسقطت بالتقادم. والواقع أن الحاكم العربي قد تحول في العقود الأخيرة، من حالة التابع المغلوب على أمره، إلى حالة التابع الذي ترتقي تبعيته إلى ما يشبه الضرورة البيولوجية. لقد أصبح بمثابة حجر الزاوية في الإستراتيجيات العدوانية المستهدفة للأمة. بل إن بعض المخططات المعادية، ما كانت لتمر لولا التزكية الرسمية العربية.

بين جنة الممانعة وسعير الموالاة

في كل قطر عربي هناك ممانعة، وفي كل قطر عربي هناك موالاة، ولكل طرف موقفه من المعادلة، وإن التبس عليك الفرز فانظر إلى الموقع من فلسطين، فبفلسطين وحدها نفهم الخارطة.

حين اختارت النخبة العربية الحاكمة ذلك الموقع واطمأنت إليه، فقد أخذت شعوبها الموقع المقابل وافتتنت به، وعبر جملة من التراكمات وجملة من الشروط، تشكلت لتلك الشعوب بعض هيئات أركانها من الأحرار والشرفاء والحركات الإحيائية والمقاومة. وحين احتكرت الأنظمة العمالة واتكأت عليها، واستقوت بها. فقد احتكرت تلك الهيئات الرأسمال الرمزي للأمة واتكأت عليه، واستقوت به. وبدا التمترس هو اللغة السائدة للمرحلة. وبدا الصدع آخذا في التمدد، لتصبح الأمة فريقين.. فريق في الجنة وفريق في السعير.. جنة الممانعة وسعير الموالاة.

والحقيقة أن هذا الانقسام العربي بين موالاة وممانعة إنما جاء لتسمية موقفين متناقضين من القضية الفلسطينية. فهي البؤرة التي صنعت المفهوم وصنعت حامليه. وتلك هي فلسطين في أبهى تحدياتها. من لم يكن معي، ويقتضي انتماؤه الحضاري وموقفه الإنساني أن يكون معي فهو ضدي. وأن تكون ضدي فأنت الاحتياطي الإستراتيجي لذلك الآخر المغتصب، أو أنت الذات المفارقة لذاتها، وقد ورد في القرآن الكريم "وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ"(1).

وهكذا تجاوزت التسميات ارتباطها الموضعي بدول الطوق العربي، لتشق طريقها باتجاه المزيد من الفرز والمزيد من الاصطفاف، على امتداد الأمة كلها. ففي كل قطر عربي هناك ممانعة، وفي كل قطر عربي هناك موالاة. ولكل طرف موقفه من المعادلة، وإن التبس عليك الفرز فانظر إلى الموقع من فلسطين، فبفلسطين وحدها نفهم الخارطة.

سفينة مرمرة والنظام الرسمي العربي

الرئيس العربي لم يعد عربيا يوم جلس على كرسي الزعامة، فلا حركته المؤامرات ولا حركته الإغلاقات، ولا حركه الحصار، ولا حركته الحروب ولا المجازر والدمار والأشلاء.. فماذا يمكن أن يحركه إذن بعد كل ذلك؟

وضعت "مرمرة" النظام الرسمي العربي وجها لوجه أمام النظام الرسمي التركي. ألم يقولوا لنا إن الشعوب بغوغائيتها هي عديمة الإحساس بالمسؤولية، وأن الأنظمة وحدها تعرف كيف تقدر المواقف وكيف تدير الأمور، وأن الأنظمة أدرى بمصلحة الشعوب من الشعوب، فالشعوب انفعالية والحكومات حكيمة؟ ولكن ما عساهم يقولون أمام الحالة التركية؟ أليس هذا أيضا نظاما، تحده حدود وتضبطه علاقات دولية والتزامات؟ لماذا ترك لشعبه حرية المبادرة ولم يعرقل جهوده في أن يدفع لغزة من ماله ومن دمه؟ لماذا لم تمنعه الاتفاقيات التي أبرمها مع إسرائيل من أن يتزعم حملة دولية لرفع الحصار عن غزة، وأن يتحدى الصهاينة حيثما أتيحت له الفرصة؟ ولماذا لم تمنعه تحالفاته مع الإدارة الأمريكية من أن تكون له مواقفه المستقلة تجاه مجريات الأحداث، فلم يختبئ تحت سلطتها الأدبية ولم يرهب رد فعلها ولم يجبن؟

إن المثال التركي يعطينا الدليل على مدى تفسخ التبعية العربية ومدى انسحاقها، إنها تبعية ليست كالتبعيات، وهي تحالف ليس كالتحالفات، فكأن الرئيس العربي لم يعد عربيا يوم جلس على كرسي الزعامة. فلا حركته المؤامرات ولا حركته الإغلاقات، ولا حركه الحصار، ولا حركته الحروب ولا المجازر والدمار والأشلاء.. فماذا يمكن أن يحركه إذن بعد كل ذلك؟ إن التبعية العربية قبل أن تكون أزمة حكم أو أزمة إدارة بلد، إنما هي بالأساس أزمة نفسية تتجلى في تفاصيل شخصية الحاكم الزعيم بتعقيداتها ومركباتها.

لقد كان العرب- إذا استثنينا بعض الدول التي احترمت نفسها- جزءا رئيسيا من الحصار إما بالفعل أو بالمجاز، فالذين حاصروا غزة فعليا من العرب هي جمهورية مصر العربية بالأساس، تلك البوابة الحدودية الوحيدة على غزة والتي ظلت مغلقة دون غزة وأهلها، لقد خذلت مصر أغلب الفلسطينيين ولكنها لم تخيب ظن الصهاينة ولا ظن الأمريكيين. وأما الذين أمّنوا ذلك الفعل مجازا، فهم العرب الذين لاذوا بالصمت، وبصمتهم السلبي شاركوا في المحرقة. وقد بدت الشقة واسعة بين العرب والأتراك، وبدت المواقف جد متباينة منذ صعود حماس، والذي جاء بعد بضع سنوات من صعود "حزب العدالة والتنمية".

النظام المصري.. أي دور؟

ليست المراهنة المصرية على ذلك الدعم الأمريكي المشروط إلا دلالة جلية على عجز النظام المصري المستحكم عن التصدي للمشكلات العميقة للمواطن المصري

في الوقت الذي كانت فيه تركيا تعترف بحماس كمكون رئيسي لا يمكن استثناؤه داخل الساحة الفلسطينية، وتعترف بانتصارها السياسي، وتطالب الجميع باحترام نتائج صناديق الاقتراع، بل وتعتبر في موقف غير مسبوق أن حماس حركة تحرر وطني، ولا صلة لها بتهمة الإرهاب التي تروج لها الدوائر الأمريكية والصهيونية. كان النظام المصري يغلق حدود جمهورية مصر العربية البرية مع غزة في أول رد فعل لها بعد الإعلان عن فوز حماس في الانتخابات التشريعية الفلسطينية، بحجة أن إدارة معبر رفح لا يمكن أن تتم إلا ضمن ترتيبات الرباعية، تلك الحجة المتهافتة، التي أرادت مصر من خلالها أن تعقلن الإغلاق، وأن تضطلع دون إحساس بالذنب بالدور المنوط بعهدتها في إنهاك القوة الصاعدة. وفي الوقت الذي كانت تركيا تصعّد اللهجة ضد إسرائيل بداية الحرب على غزة، كان العرب يعجزون عن عقد قمة لهم حتى للتنديد والشجب الرخيص. وكانت مصر الرسمية تترجم انزعاجها من صعود حماس بتزكية المذبحة، بل وأعطت الضوء الأخضر للمجرمين. ونهاية الحرب جاءت القمة العربية قمتين، منشطرة كانشطار الموقف العربي بين منصف وجحود.

وربما كان الملك عبد الله ابن عبد العزيز عاهل المملكة العربية السعودية أجرأ من غيره من المسئولين العرب في الاعتراف بطبيعة المأزق العربي في تلك المرحلة، لقد قال خلال القمة الاقتصادية التي انعقدت في الكويت بعيد الحرب على غزة " إننا قادة الأمة العربية مسئولون جميعا عن الوهن الذي أصاب وحدة موقفنا، وعن الضعف الذي هدد تضامننا، أقول هذا ولا أستثني أحدا منا...". ولعل حضور رجب طيب أردوغان رئيس الوزراء التركي وعمرو موسى الأمين العام لجامعة الدول العربية مؤتمر دايفوس 29 يناير/كانون الثاني 2009 يقدم صورة واضحة عن الكبرياء التركي الذي تجلى في مغادرة أردوغان للمنصة محتجا على عدم إعطائه الوقت الكافي للرد على بيريز وهو يصيح في وجهه.."إن الجيش الإسرائيلي يقتل الأطفال في شواطئ غزة" بينما يثير موقف عمرو موسى الذي اختزل بسلبيته كل الضعف العربي، الكثير من الاستياء، والكثير من الألم.

وحين صيرت هيئات عديدة من مختلف أقطار العالم قوافل إنسانية للإغاثة أصبحت تعرف بالجبهة البحرية المضادة لإسرائيل، وأشهرها جهود النائب البريطاني المحترم جورج غالاواي، كانت مصر تضع شتى العراقيل أمام تلك المحاولات، وتستفز أولئك الناشطين بكل الطرق. أما تركيا فقد كانت إحدى الجبهات التي نشطت تلك المبادرات ووقفت وراءها وأمامها، ودفع شعبها من أرواح أبنائه ودمائهم ما استطاعوا انتصارا لغزة، ودفاعا عن حقها في الحياة.

لقد استهلك النظام في مصر كل رصيده وموقعه لقاء انخراطه في خدمة استراتيجيات العدو الصهيوني والإدارة الأمريكية لقاء بعض المعونات الرخيصة. وليست المراهنة المصرية على ذلك الدعم المشروط إلا دلالة جلية على عجز النظام المصري المستحكم عن التصدي للمشكلات العميقة للمواطن المصري. فجاءت "الرشوة" الأمريكية نزوعا نحو المجهود الأدنى في رفع التحديات، وتفكيك المشكلات القائمة. وكثيرا ما راهن الأمريكيون والإسرائيليون على الدور المصري في الالتفاف على قضايا المنطقة، وهم بقدر ما استنزفوا الدور المصري بقدر ما أحرقوا كل أوراقه، وأضعفوا مبادرته وقوضوا سلطته الأدبية على المنطقة. لم لا وقد تحولت مصر إلى شرطي يحرس الأمن الإسرائيلي بدون أي إحساس بالمهانة ؟

ورد في تقرير ندوة "معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى والتي كانت بعنوان "تداعيات مأساة أسطول الحرية"..أن " حليفة إسرائيل في دعم مقاطعة الأسلحة لحماس كانت مصر التي أبلت بلاء حسنا.. بمنع تهريب الأسلحة من خلال الأنفاق لغزة ".(2)

سفينة مرمرة تكشف عجز الأنظمة العربية

صعود تركيا الذي ازدراه الأمريكيون والصهاينة سيزدريه المصريون كذلك، الشيء الذي يرشحهم للعب دور ما في الحد من الاندفاعة التركية

إن ترهّل النظام المصري جسدا وروحا، يأتي رأسا من توريطه أمريكيا وصهيونيا في لعبة الولاء القذرة. ولكن التبعية والولاء لا يسعهما أن يكونا قدرا لولا أن صادفا هوى في نفس الحاكم المصري.. ويعترف المحلل الأمريكي روبرت ساتلوف بهذا المأزق المصري بالقول.."لقد تضررت مصر أكثر من أي دولة أخرى، حيث كانت شريكا هادئا مع إسرائيل في الحفاظ على الحصار المحكم على قطاع غزة الذي تسيطر عليه حركة حماس، وقد أدى قرار تركيا بأخذ دور البطولة في مناصرة قضية حماس إلى كشف هذا السر حول السياسة الخارجية المصرية الذي لم يحفظ بصورة جيدة".(3)

لقد جاءت حادثة المتوسط لتعكس التناقض التركي المصري في التعاطي مع القضية الفلسطينية. ففي الوقت الذي تنطلق تركيا من قرارها الوطني المستقل تبقى الدبلوماسية المصرية رهينة الإملاءات والضوابط الأمريكية الإسرائيلية. ولأنها خاضعة لقرارات الفاعل الدولي لم تستطع مصر أن تكون على نفس المسافة من موقعي فتح وحماس، وكان انحيازها واضحا لعباس وحاشيته، حتى لكأن فتح أصبحت تدير صراعها مع حماس بيد مصرية. وهو ما دفع حماس إلى الترحيب بالدور التركي واعتبار الحكومة التركية طرفا موثوقا به، مما قد يمهد لسحب ملف المصالحة الفلسطينية من يد المصريين ليضعه على الطاولة التركية.

وتلك إحدى الاستتباعات المحتملة لانعدام الحكمة السياسية لدى المصريين وضيق أفق دبلوماسيتهم في التعامل مع الراهنية الفلسطينية. وحتى إدارتها لصفقة التبادل في موضوع شاليط كانت مصر وسيطا سيئا، انحصر كل همها في تقليص عوائد الصفقة الراجعة لحماس في شكل انتصار سياسي، مما دفع حماس للترحيب بالوسيط الألماني، أملا في استنساخ التجربة التي جرت مع حزب الله سابقا.

ومن جهة أخرى نرجح أن صعود تركيا الذي ازدراه الأمريكيون والصهاينة سيزدريه المصريون كذلك، الشيء الذي يرشحهم للعب دور ما في الحد من الاندفاعة التركية، وهو الدور المصري الجديد الذي رشحتها له بعض الأوساط لتحمل أعباء خلاف مصري تركي إن حصل سيراهن المخططون له على تضخيم المخاوف والشكوك تجاه الدور التركي من جهة، ومن جهة أخرى سيعملون على امتصاص إغراءات النموذج السياسي التركي الذي يسهل التسويق له في المنطقة.. وذلك ما عبر عنه أبرز باحثي معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى روبرت ساتلوف حين قال.."باستطاعة حكومة مصرية أكثر قوة وأكثر نشاطا أن تقول للعرب بأنهم عليهم الحذر من الانتحار السياسي الجماعي الذي يعرضه أردوغان. وتأسف واشنطن لوجود حكومة من هذا القبيل".

ومن هنا قد تتكثف الضغوطات الأمريكية الصهيونية لدفع مصر إلى الاضطلاع بدور القوة الكابحة للاندفاعة التركية. وربما كانت الأوضاع السياسية المصرية الهشة مدخلا للأمريكيين لإذكاء هذا التوجه، فمن غير المستبعد أن تعيد الولايات المتحدة الأمريكية حساباتها في التعاطي مع الأوضاع المصرية، بتجاوز المساندة النقدية إلى المطالبة برأس النظام نفسه، أملا في تجديد الدماء المصرية التي أصبحت عاجزة عن الإيفاء بالتزاماتها تجاه حلفائها، كما أنها عاجزة عن مواكبة الأنساق الإقليمية الصاعدة، خاصة تلك المتمثلة في إيران وتركيا.

ولاشك أن الأمريكيين سيجدون أنفسهم أمام ملفات جد ساخنة قابلة للاستغلال والتوظيف، من نوع قوانين الطوارئ، أو خلافة مبارك والقبول بابنه جمال وريثا له... وهي الموضوعات التي قد تكوّن حزمة المساومات الجديدة، في مقابل القبول بالشروط والأدوار الجديدة.

هل تغير حادثة السفينة الخريطة السياسية العربية؟

حين خطب أردوغان في المؤتمر العربي التركي استحضر أبياتا قالها واضع النشيد الرسمي التركي وفيها يقول:"لا يعيش التركي من دون العربي، ولا يعيش العربي من دون التركي، والتركي للعربي عينه ويده اليمنى"

إذا أخذنا بعين الاعتبار الجمود الذي تمر به العلاقات السورية المصرية على خلفية التناقضات الحادة بين الطرفين في عديد المسائل قلنا أن تركيا التي افتتحت عهدا جديدا مع سوريا وأزالت المخاوف بين الطرفين وأزالت الشكوك، قد ارتقت بتلك العلاقة إلى الدرجة القصوى في التماهي بين البلدين، وذلك ما عبر عنه أردوغان بقوله "إن تركيا هي سوريا وسوريا هي تركيا".

وبذلك تكون تركيا قد أضافت لبنة جديدة للتحالف الإستراتيجي السوري الإيراني لتمهد لتوسيع جبهة الممانعة في الشمال، وهي الجبهة التي تبدو فيها سوريا الممثل العربي الوحيد إلى جانب حركات المقاومة، مما قد ينشط الكثير من المبادرات العربية والدولية لسحب هذا الانحياز السوري عبر الترغيب والترهيب، كمحاولة للاستفراد بإيران والتعجيل بضربها، والأكيد أن الاستراتيجيات التي قامت على فك الارتباط بين سوريا وإيران تجد اليوم صعوبة مضافة تتمثل في دخول الدبلوماسية التركية على الخط وهي الدبلوماسية التي ترفض ضرب إيران بقدر ما يقلقها امتلاك إيران للسلاح النووي، وإزاء هذه التعقيدات قد تختار تركيا دبلوماسية تبريد الجبهات في المرحلة الحالية..

- تبريد الجبهة العربية الإيرانية وهي الجبهة التي أصبحت العلاقة بين طرفيها بعد جملة من التراكمات السلبية مشوبة بانعدام الثقة، وأصبحت قائمة أساسا على المخاوف العربية من التسلح النووي الإيراني، وتتزعم المملكة العربية السعودية جبهة الرفض العربي لذلك التسلح، سيما وأن التسلح الإيراني إن تم سيعقد المقاربة الأمنية الخليجية، وقد يفرض على المنطقة برمتها أجندات اضطرارية تفاعلا مع التهديدات المحتملة ، مما سيضر ولا شك بأنساق التنمية. وهنا سيلتقي العرب والأتراك في الرؤية والهواجس.

- الجبهة العربية العربية وهي الدائرة التي قد تلعب فيها تركيا بعض الأدوار خاصة بين مصر وسوريا لأنه ليس من مصلحة تركيا الدخول على خط التناقضات العربية البينية، كما أن حكر التعاطي مع الشأن العربي على البوابة السورية فقط قد يفسر على أنه انحياز لسوريا، أو انتصار تركيًّا لخيارات غير مزكاة عربيا، إن تركيا ستكون أكثر فاعلية في المحيط العربي فيما لو توفرت لها فرصة التفاعل مع بيئة عربية متجانسة.

لقد بادر حزب العدالة والتنمية منذ اندلاع الأزمة التركية الإسرائيلية بمد يده إلى العرب، وقد كان انعقاد الملتقى التركي العربي الخامس بتاريخ 11 و12 يونيو/حزيران 2010 في تركيا والذي حضره 17 وزير خارجية عربي محاولة لتجسير الهوة القائمة بين الطرفين. وحين خطب أردوغان في المؤتمر استحضر أبياتا من الشعر التركي قالها واضع النشيد الرسمي التركي وفيها يقول.."لا يعيش التركي من دون العربي، ولا يعيش العربي من دون التركي، والتركي للعربي عينه ويده اليمنى". وقد سبق لأحمد داوود أوغلو أن قال في إحدى المناسبات " إن تركيا هي اليد اليمنى للعرب"، وأحسب أن النظام العربي اليوم فاقد للرؤية ويحتاج إلى العين التركية، وهو أيضا فاقد للإرادة ويحتاج اليد اليمنى التركية، والتقارب بينهما لحظة تاريخية فريدة، كفيلة بتعديل موازين القوى.

الدولة الحقيقية هي التي تحترم نبض شارعها

نجحت القوى الديمقراطية التركية في أن تجعل من توجهات الحكومة التركية انعكاسا لمطالب الجماهير العريضة، وبموجب تلك المصالحة أصبح النسق السياسي التركي نموذجا يغري بالتمثل والاستيعاب، مما قد يرشحه لأن يكون عنوانا لانتفاضات جماهيرية عربية قادمة

لقد جاء الاعتداء الإسرائيلي على أسطول الحرية لكسر الحصار عن غزة لتعميق حالة الفراغ في الساحة العربية، باعتبار عدم قدرة الأنظمة العربية على أخذ المبادرة، ولعل السبب يرجع من جهة إلى العجز العربي الذاتي، ومن جهة أخرى إلى السقف الأمريكي القصير الذي يسمح ضمنه للدبلوماسية العربية بالتحرك، مما قلص من فعاليتها وحول دورها نوعيا إلى حالة وظيفية تصب آليا في أرصدة صناع القرار. وهو الفراغ الذي ستضطلع بملئه القوى الإقليمية التي تمتلك مقارباتها الذاتية لدفاعها القومي، وتمتلك رؤى وطموحات، وقد تنوب عن العرب في التصدي لمشكلات العرب أنفسهم، إن أطال العرب من سباتهم. ولا شك أن تركيا اليوم هي أبرز تلك القوى.

والحقيقة أن الفعالية الرسمية التركية لم تكن في جزء كبير منها إلا استجابة لنبض الشارع التركي، ذلك الشارع الذي ظل ينظر دائما لإسرائيل كجسد غريب عن المنطقة، وإلى الفلسطينيين كضحايا للاستعمار والصهيونية، وإلى الأتراك كجزء لا يتجزأ من قوى التحرير. إن احترام المواطنة في الداخل يمهد لاحترام الدولة في الخارج، والداخل والخارج وجهان لعملة واحدة. فالدولة التي تحترم مواطنيها هي الدولة الفاعلية دوليا، أما الدولة القهرية فلا اعتبار لها في دنيا التوازنات. وتلك من أهم عناصر القوة في الديمقراطية التركية الصاعدة. والتي نجحت في أن تجعل من توجهات الحكومة التركية انعكاسا لمطالب الجماهير العريضة، وبموجب تلك المصالحة أصبح النسق السياسي التركي نموذجا يغري بالتمثل والاستيعاب، مما قد يرشحه لأن يكون عنوانا لانتفاضات جماهيرية عربية قادمة. ومن هنا لم يكن الصعود التركي مؤثرا على الحكومات فقط، ولكن أيضا ملهما للشعوب. فخطاب الندية الذي بدت عليه النخبة التركية والذي يعبق بالعزة والكرامة والكبرياء الوطني، أصبح يدغدغ نفوس التائقين إلى التحرر من ربقة الاستعمار ومن إذلال الصهيونية. ومن هنا فقد أصبح للموقف التركي سنده الشعبي والجماهيري. فالشعوب العربية قد بدأت تعي مشكلتها في عدم قدرة حكوماتها على الدفاع عن قيم الاستقلال وقيم العدالة والحرية، فهي حكومات تابعة، أتى أغلبها بتزكية غربية وبرضا غربي، إنها ابنة التعاقد غير الشرعي بين الحكومات العربية والقوى الغربية المتنفذة، والقائم أساسا على مبادلة الكرسي بالمصلحة. إنه التعاقد الذي ضيع الاستقلال الوطني، وأعدم فرص التنمية المستقلة، كما غيب القرار المستقل.

كما أن "حزب العدالة والتنمية" والذي جاء إلى السلطة بعملية ديمقراطية سيجعل الشعوب المغلوبة على أمرها ترفع مطالب الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والحقوق الأساسية للأفراد إلى سلم أولوياتها وهي تخوض صراعاتها الداخلية مع القهرية العربية، دون أن ننسى أن التسمية نفسها (العدالة والتنمية) إذا نظرنا إليها من زاوية غياب العدالة وغياب التنمية عن الواقع العربي، حيث لا عدالة مع الاستبداد وتنفذ المال السياسي، كما لا تنمية في ظل الحيف الاجتماعي والتخلف الاقتصادي، قلنا أنها التسمية التي قد تغري بالتبني، مما قد يدفع إلى العلن ببعض المبادرات الحزبية التي قد تنسخ نفس التسمية وتسير على نفس النهج كما هو حال حزب العدالة والتنمية في المغرب الأقصى. إن التجربة التركية قد تمثل في قادم الأيام الأجندة الرئيسية للكثير من القوى الاجتماعية والسياسية في المنطقة، وهي إن تمت ستمهد الطريق ولاشك لتوحيد الهموم وتوحيد الجبهات، وكذلك توحيد الطرائق للتعاطي مع مختلف القضايا والوقائع، الشيء الذي سيوفر قاعدة أيديولوجية لتقارب عربي تركي من الحجم الثقيل.
_______________
كاتب تونسي
[1] - سورة التوبة (19)، الآية 56.
[2] - من إعداد: ماثيو ليفيت، ديفيد ماكوفسكي، جيفري وايت
[3] - روبرت ساتلوف: مداخلة له بعنوان "حادثة أسطول غزة.. التأثير على ثلاث جهات عربية..." ضمن ندوة مركز واشنطن لدراسات الشرق الأدنى بتاريخ 18/06/2010 ونشرت بتاريخ 22/06/2010