تركيا غير قابلة للاحتواء.. وهي تعي دورها الجغرافي والسياسي

مدير مرصد تركيا ومحيطها الجغرافي-السياسي بفرنسا، ورئيس تحرير النشرة الدولية والإستراتيجية السيد ديديه بيون أجاب في حوار مع مركز الجزيرة للدراسات بكثير الدقة والتميز عن أسئلة حول تركيا وما يطرحه هذا البلد من إشكالات ذات طابع إستراتيجي
8b7608353b1c47659e31206be7dbb1d6_18.jpg
تركيا غير قابلة للاحتواء.. وهي تعي دورها الجغرافي والسياسي (الجزيرة)

حوار: هادي يحمد

يدير السيد ديديه بيون مرصد تركيا ومحيطها الجغرافي-السياسي بفرنسا، كما يرأس تحرير "النشرة الدولية والإستراتيجية" وهو عضو "معهد العلاقات الدولية والاستراتيجي بباريس"، كما يدرس مادة "الجغرافيا السياسية لتركيا" في المعهد الوطني للغات والحضارات الشرقية بباريس. ويعتبر من أبرز المختصين الفرنسيين في الشأن التركي، كما أنه وهو لا يخفي مناصرته لانضمام تركيا للاتحاد الأوربي.

كتب "ديديه بيون" العديد من المؤلفات حول تركيا مثل "التحدي التركي" 2006، و"تركيا وموعد مصيري مع الاتحاد الأوربي" 2004، و"الوجه الجديد لأوربا الموسعة" 2003، و"تركيا والاتحاد الأوربي بعد قمة هنسلكي" 2001، و"السياسة الخارجية لتركيا" 1997، "الدور الجغرافي-السياسي لتركيا" 1995، وغيرها من المؤلفات وعشرات من الدراسات الأخرى.

 حول الطموحات الخارجية الجديدة لتركيا بقيادة "حزب العدالة والتنمية" الحاكم وحول التغييرات التي شهدتها السياسة التركية بشكل عام في محيطها الجغرافي والسياسي وحول إشكالية انضمامها إلى الاتحاد الأوربي وموقفها من الصراع العربي – الإسرائيلي وحول موقف الأتراك من الملف الإيراني أجرى مركز الجزيرة للدراسات الحوار التالي:

 

تقول في كتابك "التحدي التركي" إن تركيا تحتل مكانة فريدة في محيطها الإقليمي، فهي ذات تأثير معتبر بإطلالها في الآن ذاته على القوقاز وآسيا الوسطى وعلى الشرق الأوسط ومنطقة البلقان وأوربا"؛ ولكن السؤال المطروح هو أي هوية سياسية لتركيا اليوم؟ وهل هناك انتماء غالب على غيره في الوضع الجغرافي السياسي لهذا البلد؟

 

اليوم أصبحت السياسة التركية أكثر من أي وقت مضى واعية بدورها المحوري الجغرافي السياسي فهي لم تغير نمط سياستها بالكامل كحليف لأمريكا ولكنها باتت تلعب على محاور أخرى مختلفة طبقا لمصالحها سواء في منطقة القوقاز وأسيا الوسطى والشرق الأوسط وأيضا منطقة البلقان ومع الاتحاد الأوربي

ديديه بيون: في اعتقادي، في هذا الأمر بالذات، أي تعددية المجالات الجغرافية السياسية التي تنخرط فيها تركيا، أن هذا العامل يعقد الفهم الجيد للحيوية التي تعرفها السياسة الخارجية التركية في الوقت الحالي. فانا أرى وهناك العديد من الخبراء من الذين يتبنون نفس وجهة نظري، أن تركيا تتمحور في تقاطع مناطق صراع ونفوذ عديدة جغرافية وسياسية وهو أمر تفطنت إليه الدبلوماسية التركية في السنوات الأخيرة وأصبح مدار استثمار في المصالح التركية بصورة لم يسبق لها مثيل في الماضي.

يجب أن نعلم أن هذا الدور التركي في التأثير على محيطها الجغرافي شهد تقلصا ابتداء من سنة 1923 مع إعلان ولادة الجمهورية التركية الحديثة مع مؤسسها "مصطفي كمال أتاتورك" الذي أحدث قطيعة مع نظام الإمبراطورية العثمانية لا في مستوى السياسة الداخلية فحسب بتأسيسه لشكل علماني للدولة وبالتالي القطع مع التاريخ الإسلامي للبلاد ولكن هذه القطيعة أحدثها أتاتورك أيضا في المستوى السياسية الخارجية أي أن الجمهورية التركية الحديثة تخلت على سياسة التأثير في محيطها الجغرافي الخارجي واتجهت إلى إقامة نظام جمهورية مستقلة منكفئة على ذاتها تلتزم بالسلام مع جيرانها دون محاولة إقامة تحالفات أي القطع مع السياسة العثمانية السابقة في التأثير والذي وصل إلى حد السيطرة والهيمنة في أحيان كثيرة.

غير أنه ولأسباب إستراتيجية مرتبطة بخريطة العالم بعد الحرب العالمية الثانية وجدت تركيا نفسها في لعبة تحالفات مفروضة نتيجة لانقسام العالم الغربي إلى معسكرين فاتجهت إلى ربط تحالف مع الولايات المتحدة الأمريكية باسم مقاومة العدو المشترك آنذاك وهو الاتحاد السوفيتي لتدخل تركيا بالتالي إلى حلف شمال الأطلسي – الناتو – منذ سنة 1952 ولتختار بذلك معسكرها في تعارض تام مع ما كان يريده مصطفي كمال أتاتورك الذي كان يفضل سياسية الحياد التام.

وبداية من هذا التحالف الذي أقامته تركيا أصبح ينظر لها على كونها في الخط الأول للدفاع عن المصالح الأمريكية والغربية عامة في منطقة القوقاز وبالمشرق العربي حيث لم تخفي تركيا في ذلك الوقت معارضتها للاتجاهات القومية التي انتشرت في العالم العربي في فترة الخمسينات وأوائل الستينات وعملت في هذا الاتجاه خادمة لمصالح حلفائها وخاصة الولايات المتحدة وبريطانيا وحتى لفرنسا ضد المد القومي العربي غير أنه في أواسط الستينات بالذات تفطنت تركيا إلى عزلتها عن المشرق العربي في تعارض مع مصالحها في المنطقة.

فمنذ نهاية الستينات –وأريد أن أركز على هذا التاريخ لأسباب سأذكرها لاحقا– بدأت تركيا في استعادة وجودها في المنطقة العربية لا فحسب مع الدول العربية المشرقية التي كانت في فلك الولايات المتحدة الأمريكية فحسب بل في اتجاه الدول العربية التي تعتبر حليفة للاتحاد السوفيتي في تلك الفترة.

هل أعطى هذا النسق نتائجه في ذلك الحين؟ لا اعتقد ذلك، ولكن كان هناك قناعة بضرورة تنويع سياسات تركيا الخارجية. واليوم عندما تتردد بين مسامعنا مقولة أن تركيا بدأت في تنويع سياساتها الخارجية - وهو أمر لا شك في صحته - ولكنه في رؤيتي ليس بتاتا بالأمر الجديد، فالجديد هو عملية التسريع في فتح مسارات السياسة الخارجية التركية على اتجاهات عدة في ذات الوقت ابتداء من سنتي 2003 و2004 حيث تعددت المبادرات التركية في السنوات الأخيرة بوتيرة ربما لم نشهدها في سنوات ماضية.

و للإجابة على سؤالك أقول إن السياسة التركية اليوم أصبحت أكثر من أي وقت مضى واعية بدورها المحوري الجغرافي السياسي. فهي لم تغير نمط سياستها بالكامل كحليف للولايات المتحدة الأمريكية ولكنها باتت تلعب على محاور أخرى مختلفة طبقا لمصالحها سواء في منطقة القوقاز وأسيا الوسطى والشرق الأوسط وأيضا منطقة البلقان ومع الاتحاد الأوربي على الرغم من علاقتها المعقدة بهذا الاتحاد في الوقت الراهن.

فتركيا اليوم لها إمكانيات معتبرة من اجل سن سياسة خارجية مؤثرة في محيطها الجغرافي بناءا على موقعها في خريطة التجاذبات والتحالفات في المنطقة واعتمادا على ما تزخر به من إمكانيات سياسية وتجارية واقتصادية وحتى عسكرية.. وكل هذا يفرض تركيا كبلد غير قابل للاحتواء في المعادلة الإقليمية الحالية.

 

 من الانتماءات الجغرافية-السياسية المتعددة لتركيا التي أتيت عليها في تحليلك ما هو مستقبل الطموحات التركية للانضمام للاتحاد الأوربي؟

 

- لم تتوقف تركيا إلى اليوم في إبداء رغبتها في الانضمام إلى الاتحاد الأوربي فرئيس الحكومة "رجب طيب أردغان" ورئيس الدولة عبد الله غول وكل المسئولين الأتراك لم يتوقفوا على المطالبة في حقهم دخول الاتحاد الأوربي ويشددون على مقولة " مطالبتهم بالعضوية الكاملة " أي عضويتهم غير المشروطة والمبنية على الحقوق والواجبات التي تفرض على كل الأعضاء الآخرين سواء الذين انظموا سابقا أو الذين يطمحون إلى الانضمام فالأتراك لا يريدون اعتبارهم عضوا من درجة ثانية في الاتحاد الأوربي.

في الوقت الراهن لا نشهد تقدما ملحوظا في هذه المفاوضات التي بدأت في أكتوبر 2005 والتي لم تشهد تحولا ملحوظ فهي مفاوضات في مرحلة " الحبو " ويمكن اعتبارها " مجمدة " بشكل شبه كامل فمن بين 35 فصلا هي محور مفاوضات الانضمام إلى الاتحاد الأوربي هناك منذ خمسة سنوات 13 فصلا فقط مفتوحة للنقاش وهناك 8 فصول مجمدة بسبب المشكلة القبرصية. كل هذا جعل من الأتراك يشعرون بالمرارة وفي بعض الأحيان بالإحباط بسبب طول هذه المسار ولكنهم بالرغم من كل هذا كله يواصلون توجيه سياساتهم من اجل الانضمام التركي للأوربي.

لماذا هذا الإصرار التركي؟ لا يتعلق الأمر في رأيي برغبة غير محدودة للانضمام إلى الاتحاد الأوربي مهما كانت النتائج، بل إن الأمر في أبعاده يعود إلى أسباب اقتصادية غير خافية أهميتها في عالم الأقطاب الاقتصادية الحالي كما تعود هذه الرغبة أيضا إلى جذور تاريخية ضاربة في تاريخ الشعوب التركمانية ذاتها. فهذه القبائل البدوية القادمة من أسيا الوسطى كانت تتجه دائما نحو الغرب في ترحالها، فالرغبة في الانضمام إلى الاتحاد الأوربي هي في بعد من أبعادها تعبير ونتيجة لمسار تاريخي طويل وهو مسار ازدادت وتيرته مع الإعلان عن الجمهورية التركية فمصطفي كمال أتاتورك لم يتوقف عن القول في خطاباته بأنه كان يريد " تغريب تركيا " وبين سنوات 1920 – 1930 لم يتوقف أتاتورك على الإعلان عن " أوربة تركيا ".

فالاتجاه العام لمسار تركيا التاريخي يتجه إلى الغرب ولكن هذا الأمر ترافق في السنوات الأخيرة مع وعي تركي حاد بقدرتها الجغرافية والسكانية والاقتصادية على استثمار مسارات أخرى والقادة الأتراك اعتبروا انه في مقابل مواصلتهم إبداء رغبتهم في الانضمام غالى الاتحاد الأوربي فأنهم سيواصلون تحركهم على مسارات أخرى.

فالانضمام للأوربي في نظرهم ليس هو المسار الوحيد الذي يريدون توجيه سياساتهم نحوه أي أن الأتراك اليوم يديرون سياساتهم وكما يقول وزير الخارجية التركي احمد داود أغلو في دائرة الـ180 درجة أي في جميع الاتجاهات. ففي ذات الوقت الذي يتجهون فيه إلى الاتحاد الأوربي فإنهم يتجهون إلى منطقة القوقاز ودائرة دول الشرق الأوسط.

و في اعتقادي أن دولة كبرى مثل تركيا ليست مجبرة على النظر في اتجاه واحد في علاقاتها وطموحاتها السياسية والأتراك أصبحوا واعين أكثر من أي وقت مضى بهذا الأمر فانضمامهم إلى الاتحاد الأوربي في المستقبل لن يمنعهم من مواصلة مبادراتهم في اتجاهات أخرى بصفة ديالكتية ومعقدة في ذات الوقت.

 

بعض المحللين يعتقدون أن هذا التعطيل والجمود في المفاوضات بين الاتحاد الأوربي وتركيا هو الذي دفع بهذه الأخيرة إلى الانفتاح على المشرق العربي في سياسية جديدة تهدف إلى لعب دور أكثر فاعلية ولما لا إقامة تحالفات وأقطاب اقتصادية " إسلامية " تعوضها عن فشلها في الاندماج غربا.

 

- هذا تحليل مبسط ولكنه ليس مغلوط تماما، فهناك مثال فرنسي يقول "كثرة أكل الأفاعي المهداة من الحلفاء تدفعنا إلى اليأس منهم" وهذا يصح في علاقة الاتحاد الأوربي بتركيا الذي ذهب في بعض الأحيان إلى حد إهانتها وتركيا كبلد كبير لا يقبل الإهانة.

فالصعوبات التي عاشتها تركيا في علاقة بالاتحاد الأوربي سرع من وتيرة تطوير تركيا لعلاقاتها مع جيرانها أي في اتجاه منطقة الشرق الأوسط كما هو الأمر مع روسيا ومنطقة بلدان القوقاز ولكن من المهم القول انه حتى لو افترضنا انه إذا سارت علاقات تركيا مع الاتحاد الأوربي على أحسن حال فلا اعتقد أن تركيا كانت ستتجاهل علاقاتها بجيرانها سواء في منطقة الشرق الأوسط أو مع بلدان القوقاز.

صحيح أن علاقات تركيا المتعثرة والمجمدة مع الاتحاد الأوربي هو عامل مسرع لإعادة تركيا ترتيب علاقاتها بمنطقة الشرق الأوسط ولكن هذا لا يعني أن تركيا أدارت ظهرها لتطلعاتها الأوربية. فالأتراك واعين بقدرتهم على اعتماد أكثر من مسار في وقت واحد ولاعتبارات تتعلق بمصالح اقتصادية في اتجاه العرب وفي اتجاه إيران وروسيا وأسيا الوسطى ومنطقة القوقاز فهي في هذا السياق تطبق مبدأ المصالح المتبادلة بين الدول.

 

ولكن ألا تعتقد أن العامل الديني كان حاضرا في سياسات تركيا الجديدة في علاقة ببلدان الشرق الأوسط؟

 

- اعتقد أن مثل هذا التحليل خاطئ. لأنه عندما تعمق تركيا علاقاتها بروسيا التي هي ذات هوية دينية مسيحية أرثوديكسية نتجنب الحديث عن العامل الديني بينما نتحدث عن هوية تركيا الإسلامية عندما تربط وتوثق علاقاتها مع إيران وسوريا.. اعتقد أن مثل هذا التحليل يسقط في ترضية بعض الرغبات الغربية في التحذير من الخطر الإسلامي وفي نظري يجب التصدي لهذا الاتجاه في التحليل لأنه يدعم فرضية صراع الحضارات التي نظر لها الكاتب الأمريكي صموئيل هينينقتون.

أنا شخصيا أحلل العلاقات بين الدول من الناحية السياسية وسياسيا لا تريد تركيا أن تقطع مسارات تعاملها مع الولايات المتحدة وأوربا ولكنها تريد في ذات الوقت تدعيم علاقاتها بالبلدان الإسلامية ولكن ليس اعتمادا على الروابط الدينية. صحيح أن العامل الديني عامل مهم في العلاقات بين الدول ولكنه ليس محدد بينها وهو عامل إضافي يجب أخذه بعين الاعتبار. فأنا مقتنع انه في الإرادة التركية تطوير علاقاتها ببلدان المشرق الإسلامي ليس هناك دوافع دينية ولكنها إرادة مبنية على شبكة من المصالح المشتركة فإذا كان الإيرانيون والعراقيون والسعوديون واللبنانيون والسوريون والمصريون وغيرهم مهتمين بعقد اتفاقيات مع تركيا فهذا ليس لان تركيا هي بلد ذات ديانة مسلمة ولكن لأنهم بحاجة إلى هذه الاتفاقيات.

 

طيب, وما رأيك في المحللين الذين يستعملون اليوم مصطلح " العثمانيون الجدد " في إشارة إلى سياسية حكومة حزب العدالة والتنمية ذا الجذور الإسلامية الذي يقود تركيا؟

 

أنا من دعاة انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوربي لأن رفضها يعتبر رسالة سلبية لكل دول الجوار الأوربي الطامحة لشراكة مع أوربا وخاصة للدول العربية-الإسلامية فالرسالة السلبية في منع تركيا من دخول الأوربي هي أن الإسلام غير مطابق للهوية الأوربية. والاتحاد الأوربي ليس نادي مسيحي بل مشروع سياسي اقتصادي مبني على مبادئ سياسية وليس على الانتماء الديني

- أنا من المعارضين لاستعمال مصطلح "العثمانيين الجدد" وفي اعتقادي هناك خطأ منهجي في استعمال هذا المصطلح فعندما نمارس السياسة أو نحلل الفعل السياسي فانه من واجبنا أن نستعمل المنهجية الملائمة.

في موضوع الحال كيف يمكننا أن نقارن سياسية إمبراطورية سابقة في التاريخ كانت بلا شك مؤثرة لقرون عديدة وكانت لها هيمنتها على كامل منطقة البحر الأبيض المتوسط تقريبا وعلى منطقة مهمة من الشرق الأوسط والمغرب العربي وعلى مساحات واسعة من منطقة البلقان ووصولا إلى أسيا الوسطى – كيف يمكننا أن نقارن سياسية إمبراطورية مع سياسية جمهورية أسست منذ حوالي تسعين عاما والتي ليس لها أية إرادة هيمنة.

فمنهجيا لا يمكن أن نطابق في المقارنة بين سياقات تاريخية مختلفة بهذا الشكل. فهل يمكننا أن نقارن السياسة الفرنسية الحالية مع الرئيس نيكولا ساركوزي مع السياسة التي طبقها الملك لويس الخامس عشر مثلا؟! لا شك أننا هنا أمام عدمية في التحليل السياسي.

ليس لدى الحكومة التركية الحالية أية رغبة في الهيمنة مثلما كان الأمر عليه أثناء الإمبراطورية العثمانية. ولكن لماذا يستعمل البعض هذا المصطلح؟ اعتقد أن الذين يستعملون مصطلح "العثمانيين الجدد" يلمحون ويعتبرون أن هناك إسلاميون يديرون السلطة في أنقرة وهذا ما يؤجج فكرة البعض بأن هناك تهديدا إسلاميا وأن تركيا تتجه نحو الدول الإسلامية ويذهب البعض إلى الكتابة قائلين "بأننا بصدد خسارة تركيا باتجاهها شرقا" واستعمال مصطلح "نحن" هنا من بعض الغربيين في غاية الخطورة لأن فيه حطا من قيمة تركيا وإهانة لها باعتبارها مجرد تابع بينما التعامل الأمثل معها يجب أن يكون بندية مطلقة وبدون وصاية.

أنا لا اعتقد أن توثيق تركيا لعلاقاتها المشرقية خسارة لنا كأوربيين ولا أعتقد في ذات الوقت أن الحكومة التي تقود تركيا اليوم هي حكومة إسلامية وحتى مصطلح "الإسلاميين المعتدلين" في هذا الإطار والذي تستعمله بعض الصحف للإشارة للحكومة التركية في اعتقادي لا معنى له. ما اعتقده فعلا أن حكومة العدالة والتنمية التي تحكم في تركيا لها جذور إسلامية ولكنها قطعت إلى حد ما مع مقولة "الإسلامية" بالمعنى الضيق وأصبحت تمثل ما يعرف "بيمين الوسط" فنحن نعلم أن الحزبين الرئيسين الذين كانا يمثلا "يمين الوسط" في تركيا لم يعودا موجودين واحتل "حزب العدالة والتنمية" مكانهما وهو حزب أصبح اليوم يضم جميع أطياف المجتمع التركي. فالعدالة والتنمية يتبنى الطرح الديمقراطي ويقبل باللعبة الانتخابية ويدافع عن قوانين الجمهورية التركية ومن الجدير التذكير هنا أن أول انتخابات فاز بها العدالة والتنمية سنة 2002 تحصل فيها على 37 بالمائة من الأصوات وفي انتخابات سنة 2007 تحصل على 48 بالمائة من الأصوات. وفي اعتقادي فإن العديد من الأحزاب في العالم يتمنون الحصول على هذه النسبة من الاقتراع الشعبي العام.

وفي سبتمبر/ أيلول اقترح العدالة والتنمية استفتاءا من أجل تعديل حزمة قوانين في الدستور التركي حصلت على 58 بالمائة من الأصوات في المصوتين بنعم.. هذا يعني نحن أمام حزب يحظى بشعبية كبيرة في تركيا وله مشروع وبدائل للمجتمع التركي وعلى المستوى الاقتصادي يتبنى الطرح الليبرالي ومعظم كوادره هم من خريجي أفضل الجامعات الأمريكية.

ما من شك أن حزب العدالة والتنمية يتبنى طرحا اجتماعيا محافظا في ما يتعلق بالحياة العائلية وتربية الإفراد ولكن هل هذا الأمر هو صفة الأحزاب الإسلامية؟ لا اعتقد ذلك.

في اعتقادي يجب كسر الصورة النمطية حول حزب العدالة والتنمية والذين يستعملون مصطلح "العثمانيين الجدد" في إشارة إلى هذا الحزب مقتنعون أن هذا الحزب الذي يحكم تركيا منذ ثمانية سنوات هو حزب إسلامي وفي رأيي فإن تبني هذا المصطلح هو تقوية لفرضية صراع الحضارات لأنه يبرز العدالة والتنمية كأحد وجوه هذا الخطر الإسلامي المحدق.

ولهذا السبب أنا شخصيا من دعاة انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوربي لأنه إذا رفضنا دخول تركيا فسيعتبر ذلك رسالة سلبية لكل دول الجوار الأوربي والطامحة لشراكة مع أوربا وخاصة للدول العربية – الإسلامية فالرسالة السلبية في منع تركيا من دخول الأوربي هي أن الإسلام غير مطابق للهوية الأوربية. فالاتحاد الأوربي ليس نادي مسيحي كما قال البعض وهو مشروع سياسي اقتصادي مبني على مبادئ سياسية وليس على الانتماء الديني.

 

في علاقة تركيا ببلدان الشرق الأوسط بالذات تبدو علاقة تركيا بإسرائيل مثيرة للجدل وخاصة في السنوات الأخيرة، فهي من جهة لا تريد القطيعة مع إسرائيل بالنظر إلى العلاقات التاريخية بين البلدين ولكنها في ذات الوقت تشجع مبدأ الحوار مع حماس باعتبارها شريك مهم في أية مفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين؟

- العلاقات التركية الإسرائيلية أمر واقع ولكن لا يجب أن نغفل انه منذ بضعة سنوات - وليس فقط من شهر مايو/أيار الفارط عقب أحداث أسطول الحرية - فان العلاقات بين البلدين شهدت تدهورا ملحوظا.

في شان العلاقات التركية الإسرائيلية لا اعتقد انه بالرغم من كل شيء هناك قطيعة بين البلدين ولا اعتقد في حدوث قطيعة في المستقبل لأنه من مصلحة الأتراك كما من مصلحة الإسرائيليين مواصلة علاقتهما.

و لكن هل العلاقات بين البلدين متناقضة مع رغبة الأتراك دمج حركة حماس في اللعبة السياسية الإقليمية؟ أنا شخصيا لا اعتقد ذلك لان حماس شئنا أم أبينا هي جزء من اللعبة السياسية وهي جزء من الحل في الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، فحماس موجودة وتسيطر على جزء مهم من الأراضي الفلسطينية وبالتالي فانه يجب كذلك التفاوض معها إضافة إلى الفصائل الفلسطينية الأخرى.

فالأتراك لهم مصلحة في التعامل مع حماس كما أن لهم علاقاتهم بالسلطة الفلسطينية وليس في ذلك لعبة مزدوجة منهم بل هم في هذا الملف يطمحون إلى القيام بدور الوسيط واعتقد أنهم في هذا الملف قادرون على لعب دور مهم فحادثة أسطول الحرية على سبيل المثال بينت أنهم تمكنوا من تحريك الملف الفلسطيني بشكل لم تتمكن من تحريكه أشهر عديدة من المفاوضات على الرغم من أن الوضع العام لم يتغير كثيرا وبالرغم من أن سكان قطاع غزة لا يزالون إلى اليوم يعيشون معاناتهم.

فالأتراك بعد حادثة أسطول الحرية ساهموا في مزيد تشويه صورة إسرائيل مقابل ذلك تمكنوا من ترويج صورة أفضل لتركيا وشعبية اكبر لرئيس الحكومة طيب اردغان و في العالم العربي والإسلامي.

 

في هذا الدور الجديد الذي أصبحت تتطلع إليه تركيا في نزاعات وصراعات الشرق الأوسط كيف ترون تعامل تركيا مع الملف النووي الإيراني؟

 

- في هذا الملف أيضا واضح أن الأتراك أصبحوا واعين بقدرتهم على التدخل والوساطة, فتركيا البلد النامي لم تعد مقتنعة بدورها التقليدي الذي ساد في أوساط النخب السياسية من قبل ولكنها أصبحت تطمح إلى لعب دور أفضل في الملفات الكبرى ويمكن أن نعتبر أن ملف النووي الإيراني هو احد هذه الملفات التي من خلالها تتطلع تركيا إلى لعب دور ايجابي في المنطقة.

و لكن هل يمكن لتركيا أن تكون وسيطا حقيقيا بين مجموعة الخمسة زائد واحد ( الأعضاء الخمسة لمجلس الأمن مع ألمانيا ) وإيران في خصوص برنامجها النووي؟ نعم يمكنها أن تساهم في حل هذا الإشكال ولكن يجب أن نكون واقعيين لنقر بأنها لا يمكن أن تقوم بهذا الدور لوحدها.

و في خصوص الدور التركي بالذات سواء في ما تعلق بالملف الإيراني أو غيره من الملفات ما نلاحظه في علاقة بالولايات المتحدة الأمريكية ومواقف الرئيس اوباما بالذات حدثت بعض فترات الفتور والتشنج ولكن الرئيس الأمريكي يدرك انه لا يستطيع التخلي عن الدور التركي في المنطقة وخاصة في حل مشكل النووي الإيراني.

وأمام الطموحات الإيرانية النووية لا اعتقد أن الأتراك مرتاحين مما يجري على حدودهم الشرقية بل إنهم قلقون جدا من فرضية حصول الإيرانيين على القنبلة النووية لأنه في حالة تمكن إيران من انجاز هذا الأمر فان غالبية دول المنطقة مثل السعودية ومصر وسوريا وهم أنفسهم سيسعون إلى امتلاك الردع النووي غير انه وفي ذات الوقت فان الأتراك لا يرغبون في حصول هجوم عسكري ضد إيران وهم يقومون بكل الوسائل الممكنة من اجل تجنب هذا الأمر ويستعملون عدة طرق من اجل منع الوصول إلى هذا الخيار.
_______________
صحفي وباحث تونسي