على الرغم من أن الولايات المتحدة الأميركية، قامت ببناء نموذج تعاون اقتصادي واستراتيجي قوي مع المملكة العربية السعودية، إلا أن البعد الإسلامي للسياسة السعودية كان يشكل محلا لاهتمام صانعي القرار الأمريكيين، وهو ما تم التعامل معه عبر عدة مستويات، فمن ناحية اعتمدت الولايات المتحدة علي هذا البعد في تحريك المملكة ضد النظم السياسية الثورية العربية (البعثية والقومية) في الستينيات من القرن العشرين، وضد الثورة الإسلامية الإيرانية (بشعاراتها المضادة للمصالح الأمريكية) في نهاية السبعينيات، وفي دعم المجاهدين ضد الغزو السوفيتي لأفغانستان في الثمانينيات، ثم في التصدي لهؤلاء المجاهدين بعد عودتهم إلي دولهم وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي خلال مرحلة التسعينيات.
العنوان: البعد الديني في السياسة الأميركية تجاه السعودية |
ومن ناحية أخرى كانت هناك سياسة احترازية تبنتها الولايات المتحدة قامت على قياس مستوى التراكم الكمي للبعد الإسلامي في السياسة السعودية مستقبلا، ومدى قدرتها على تشكيل تأثير على مكانة الولايات المتحدة، في الإطارين العربي والإسلامي، ومن هنا بدأت بوضع أسس لمصادر توتر قابلة للتحريك سواء داخل المملكة نفسها، أو داخل إقليمها الجغرافي، يمكن للولايات المتحدة أن تستخدمها عند الضرورة.
ومع اهتزاز التحالف التقليدي بين الولايات المتحدة والمملكة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، بسبب تزايد مؤشرات التدخل الأمريكي في الشؤون الداخلية السعودية وخاصة ما يتعلق منها بالعلاقة بين الدين والدولة، وذلك تحت تأثير رؤية الإدارة الأمريكية للحرب علي الإرهاب، وانعكاس هذه الرؤية علي توجهات وقضايا وأدوات السياسة الأمريكية تجاه المملكة، تحقيقا للمصالح الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة، وكذلك على طبيعة العلاقة بين البعد الديني والبعد المصلحي في السياسة الأميركية بصفة عامة، وتجاه العالم الإسلامي والمملكة بصفة خاصة.
وتنبع أهمية هذه الأطروحة من تعدد دوافع القيام بها، وكذلك تعدد الأهداف التي سعت إلي تحقيقها، ففي إطار "الدوافع" تبرز عدة اعتبارات، من بينها:
-
تجدد الاهتمام العلمي في أدبيات العلاقات الدولية بصفة عامة، والسياسة الخارجية بصفة خاصة، وخاصة في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، بعلاقة الأبعاد الدينية (وما يرتبط بها من أبعاد ثقافية وحضارية وقيمية وأيديولجية) بدراسة وتحليل السياسة الخارجية.
-
ما تثيره العلاقة بين الدين والسياسة الخارجية الأمريكية، من قضايا وأبعاد، ترتبط في جانب كبير منها برؤية اليمين الديني الأمريكي للعالم، وتوجهاته تجاه الوحدات التي يتكون منها، والمحددات التي تحكم هذه التوجهات، وما تثيره هذه التوجهات وتلك المحددات من قضايا.
-
تصاعد الدور الذي قام به اليمين الديني في السياسة الأمريكية، وفي صياغة توجهاتها وتحديد أهدافها، مع بروز نوع من التوحد فى المصالح بين اليمين السياسي واليمين الديني، وصياغتهما لرؤية واحدة لأمريكا وللعالم، تقوم على النظر إليها علي أنها "وطن استثنائي تاريخي"، لابد من أن يسود ويهيمن، وأن يكون لها دورها في تطهير الثقافة السائدة، وشن الحرب المقدسة ضد الشيطان القابع فى قلب الوطن أو الذى قد يظهر فى أية بقعة من بقاع العالم معوقًا امتداد "أمريكا الرسالة"، التى تعبر عن "الإرادة الإلهية".
-
التداعيات التي أفرزتها أحداث الحادي عشر من سبتمبر والتي حملت في طياتها من وجهة نظر البعض، رسالة مزدوجة المحتوى إلي صانع السياسة الخارجية الأمريكية، ففي الوقت الذي أثبتت فيه أن الإرهاب أصبح ظاهرة ذات طابع عالمي، جاءت لتشير إلي أن هذه الظاهرة، من وجهة نظر الكثيرين، هي في الغالب إسلامية، وهو ما أفرز العديد من الانعكاسات على صياغة السياسة الأمريكية تجاه العالم الإسلامي.
-
ترسخ تأثير البعد الديني كواحد من الأطر المرجعية للسياسة الخارجية الأمريكية، وزيادة الدعم المالي والسياسي للمنظمات الدينية الأمريكية، وإطلاق المبادرات الإصلاحية التي تنطوي علي جوانب قيمية وحضارية وثقافية.
-
الأهمية المحورية لموقع المملكة في التوازنات العربية والإسلامية، في ظل التحولات التي تشهدها العديد من الدول العربية والإسلامية، من ناحية، ومدلول التطورات الداخلية التي تشهدها المملكة وموقعها من مشروعات الإصلاحات المطروحة داخليا وإقليميا وعالميا من ناحية أخري، وخاصة ما يتعلق منها بتأثير التوجهات الأمريكية في المنطقة على مستقبل النظم والسياسات ذات المرجعية "الإسلامية" بأنماطها المختلفة.
وسعت الأطروحة إلى تحقيق أهداف من أهمها المساهمة في بناء إطار نظري حول تأثير البعد الديني في دراسة وتحليل العلاقات الدولية بصفة عامة، والسياسة الخارجية بصفة خاصة، والذي يعاني التجاهل والتغييب ـ بدرجة معينة ـ في الأدبيات العربية ذات الصلة، أملا في أن يكون هذا الإطار مقدمة لرؤية مقارنة في صياغة وتشكيل السياسات الخارجية للدول العربية والإسلامية تأخذ في اعتبارها وزن ودور البعد الديني.
وتحقيق مزيد من الفهم للسياسات الخارجية للدول الفاعلة في العالم المعاصر، وخاصة ذات التأثير المتصاعد في إدارة القضايا والتفاعلات العربية والإسلامية، والسعي في الوقت نفسه إلي إثارة الانتباه بين الباحثين والمهتمين حول الأبعاد المختلفة للظاهرة محل الدراسة، وما يثيره البعد الديني في دراسة وتحليل العلاقات الدولية من قضايا وإشكاليات، لتكون محلا لدراسات مستقبلية، من شأنها توفير تراكم علمي عربي في هذا الإطار.
بالإضافة إلى محاولة تقديم رؤية علمية عربية تدعم صانعي السياسات الخارجية للدول العربية، وخاصة ما يتعلق منها بالمكون الديني ـ كأداة أو كمرجعية ـ في صياغة توجهات وقضايا وأدوات هذه السياسات، وأهمية هذا المكون في إرساء مزيد من الشرعية والاستقرار للنظم السياسية العربية، في ظل الأهمية المحورية للدين الإسلامي في النسيج الحضاري والثقافي العربي، وفي كونه أحد أهم مظاهر خصوصيتها ومُشكِّل هويتها، خاصة في ظل الضغوط والقيود الدولية والإقليمية والداخلية التي ما فتأت تلعب دورها في التأثير على توجهات وسياسات وأدوات الدول الإسلامية.
![]() |
وقد تم التركيز في إطار الظاهرة محل الدراسة علي بيان طبيعة وموقع البعد الديني في السياسة الأمريكية تجاه المملكة العربية السعودية، والمحددات التي تحكم تأثيره في صنع هذه السياسة وتوجهاتها وقضاياها، والأدوات التي اعتمدت عليها لتحقيق أهدافها.
وجاء اختيار المملكة نابعا من عدة اعتبارات، من بينها:
1- موقع الدين في المملكة، حيث يمثل أهم مصادر الشرعية السياسية للدولة، كما يمارس دورا بارزا في صياغة وتشكيل العديد من السياسات الداخلية والخارجية فى المملكة.
2- المكانة الدينية للمملكة بين المسلمين، والتي استمدتها من العديد من الاعتبارات، أبرزها أن منشأ الرسالة الإسلامية، وحاضنة أهم المقدسات التي يتوجه إليها المسلمون في أداء فروضهم.
3- المكانة السياسية للمملكة كقوة إقليمية مؤثرة ترتبط بالعديد من التنظيمات الفرعية المؤثرة خليجيا، وعربيا، وإسلاميا، وعالميا.
4- المكانة الاقتصادية للمملكة باعتبارها أهم منتج للنفط في العالم، وتملك أكبر احتياطياته المعلنة.
5- المكانة التي تتمتع بها المملكة في الاستراتيجية الأمريكية بمستوياتها المختلفة، العالمية (المرتبطة برؤيتها الكونية) والإقليمية (المرتبطة برؤيتها للعالم الإسلامي وموقع السعودية فيه) والفرعية (المرتبطة برؤيتها لمنطقة الخليج، وفي القلب منه السعودية).
6- أحداث سبتمبر عام 2001، حيث تم توجيه الاتهام فيها لتنظيم القاعدة، الذي يقوده أسامة بن لادن (السعودي الجنسية) والادعاء بأن خمسة عشر شخصا من بين التسعة عشرة الذي قاموا بها كانوا من السعودية، وهو ما كان له العديد من الانعكاسات علي السياسة الخارجية الأمريكية تجاه السعودية، فكرا وممارسةً، توجها وأهدافا، قضايا وممارسات.
وخلصت الدراسة إلى عدد من النتائج الأساسية، من بينها:
" غلبة التوجهات السلبية ضد المملكة، بعد أحداث سبتمبر 2001، تجد سندها الأكبر فى وجود شبكة من التيارات الفكرية والمراكز البحثية والمؤسسات الحقوقية، المضادة للمملكة في المجتمع الأميركي، والتي فشلت حملة العلاقات العامة التي تبنتها المملكة في أعقاب أحداث سبتمبر، داخل المجتمع الأميركي في احتوائها وتعديل توجهاتها " |
أن طبيعة الثقافة السياسية فى المجتمع الأميركى وموقع الدين فيها، وكذلك تأثير التيارات الدينية والفكرية، والأفكار والمعتقدات الدينية للقيادة السياسية، شكلت أهم المحددات الداخلية لتأثير البعد الدينى فى السياسة الخارجية الأميركية، وقد عبرت المؤثرات الدينية والأخلاقية عن نفسها في السياسة الأميركية، فى العديد من المظاهر والممارسات، عبر مراحل تطورها التاريخية.
وخلالها اختلفت التوجهات وتعددت السياسات التى تصب فى المحصلة النهائية في اتجاه التأكيد على هذا البعد، بطرق مباشرة أو غير مباشرة، سواء تم استخدام الدين بلفظه واصطلاحه، أو تم استخدامه فى ثنايا مصطلحات ومفاهيم أخرى كـ "القيم الأميركية و"الأخلاق الأميركية"، و"الأيديولوجية الرأسمالية"، أو "الثقافة الأميركية"، أو غيرها من مفاهيم تتداخل مع المفهوم، وتعطى نفس مضامينه.
إن تأثير الدين في السياسة الخارجية الأميركية، ليس وليد المرحلة الراهنة، ولكنه ممتد الجذور عبر المراحل المختلفة التي مر بها تاريخ الولايات المتحدة، ولكن الجديد هو حجم هذا التأثير الذي شهد تصاعدا كبيرا مقارنة بكل المراحل السابقة، وجاء هذا التصاعد مرتبطا في شقه الداخلي الخاص بالولايات المتحدة، بطبيعة الظرف التاريخي الذي شهدته ممثلا في أحداث سبتمبر، مع تنامي تأثير التيارات الدينية واليمينية في المجتمع الأميركي، مع وجود قيادة سياسية مهيأة للاستجابة لهذا التأثير، وتملك مقومات القدرة على نقل القناعات الذاتية إلى ممارسات فعلية.
وهو الأمر الذى كشف عن تقاليد إستراتيجية أميركية راسخة نحو التوسع والهيمنة فى رداء جديد، وتحت دوافع دينية تترابط بقوة مع الدوافع الإستراتيجية والمصلحية.
ولكن مع التأكيد فى هذا السياق على أن الدين في ذاته، ليس مصدرا دافعاً للصراع والرغبة في السيطرة والهيمنة والتفرد واستئصال الآخر، ولكن ذلك يتوقف على كيفية تطبيق هذا الدين وتفسير الأطراف الفاعلة في السياسة الخارجية لمقولاته ومنطلقاته وغاياته، وكذلك طبيعة الجذور والخبرات التاريخية.
ومن هنا فإن الاحتجاج بالنموذج الديني اليميني الذى مثلته إدارة الرئيس جورج دبليو بوش وقواه اليمينية (2000 ـ 2008)، للقول بتهميش البعد الديني فى السياسة الخارجية، ليس أمرا منطقيا، من الناحية المعرفية والفكرية والسياسية، فالمهم هو بيان الفارق بين نموذج بوش، والتيارات التي تدعمه، والمداخل الفكرية التى يرتكز عليها، وبين نماذج أخرى ذات مرجعية دينية مختلفة، تتعارض مع طبيعة النموذج الذى قامت عليه إدارة بوش، مع أهمية إبراز الفارق بين "الدين"، في كل نموذج، وليس فقط "الديني" فيها.
إن السياسة الأميركية ليست صنيعة الإدارات والمؤسسات والهيئات الرسمية فقط، ولكن يشارك فى صنعها شبكة واسعة من الجهات والهيئات غير الرسمية، وكذلك فريق واسع من المفكرين، الذين يقدمون السلاح الفكرى الضروري، للدفاع عن القيم الأمريكية، مؤكدين أنه عندما تختار الولايات المتحدة البقاء خارج النزاع، فإن عدالة قضيتها، وحقها فى التدخل فى بعض النزاعات المستقبلية يظل محفوظا لها، من وجهة نظر هؤلاء المفكرين، الذين تكشف سيرهم الذاتية، أن عوالم الثقافة والعلوم، والحكومة والشركات الكبرى، مرتبطة ببعضها البعض بباب دوار.
وإذا كانت الوظائف الأكاديمية فى العلاقات الدولية، أو الدراسات الاستراتيجية مرتبطة بالوظائف داخل الحكومة الأمريكية، فمن الصعب أن يغامر هؤلاء بدورهم فى صنع السياسة الخارجية، وبالتالى تبدو العلاقة بين عالم الثقافة والفكر من ناحية، وصنع السياسة من ناحية أخرى، طبيعية وصحيحة بالنسبة للمسئولين بالحكومة.
وفي إطار هذا التأثير نجد أن غلبة التوجهات السلبية ضد المملكة، بعد أحداث سبتمبر 2001، تجد سندها الأكبر فى وجود شبكة من التيارات الفكرية والمراكز البحثية والمؤسسات الحقوقية، المضادة للمملكة في المجتمع الأميركي، والتي فشلت حملة العلاقات العامة التي تبنتها المملكة في أعقاب أحداث سبتمبر، داخل المجتمع الأميركي في احتوائها وتعديل توجهاتها، بينما اقتصرت المواقف الإيجابية على عدد من التصريحات المقتضبة، ذات طابع دبلوماسي، يحافظ على الحد الأدنى اللازم لاستقرار العلاقة بين الدولتين.
وهو ما يشير إلى أن التحالف الإستراتيجي بين الولايات المتحدة والمملكة، لم يكن كافيا لتشكيل صورة إيجابية للمملكة في المجتمع الأميركي، وخاصة بين الفعاليات غير الرسمية المؤثرة في صنع وتوجيه السياسة الأميركية، والتي تحكمها بالأساس توجهاتها الفكرية ومنطلقاتها الثقافية والدينية المضادة للمملكة. الأمر الذي يعكس تأثير الأبعاد القيمية والدينية في تشكيل توجهات السياسة الأميركية تجاه المملكة، وتصاعد تأثير الداخل الأميركي في هذه السياسة، والتي امتدت إلى الداخل السعودي، بما يعني "تأثير الداخل الأميركي"، في "الداخل السعودي"، عبر السياسة الأميركية، التي تشكل حلقة الوصل بين الداخلين.
" التحالف الإستراتيجي بين الولايات المتحدة والمملكة، لم يكن كافيا لتشكيل صورة إيجابية للمملكة في المجتمع الأميركي، وخاصة بين الفعاليات غير الرسمية المؤثرة في صنع وتوجيه السياسة الأميركية، والتي تحكمها بالأساس توجهاتها الفكرية ومنطلقاتها الثقافية والدينية المضادة للمملكة. الأمر الذي يعكس تأثير الأبعاد القيمية والدينية في تشكيل توجهات السياسة الأميركية تجاه المملكة، وتصاعد تأثير الداخل الأميركي في هذه السياسة " |
شكلت حرب الأفكار، الإطار العام للتوجهات الأميركية نحو القضايا الداخلية فى المملكة، وانطلقت هذه الحرب من أن المملكة لا بد أن تشهد تغييرا جذرياً في مختلف المجالات، من شأنه إحداث تحولات عميقة في بيئتها الفكرية والثقافية وكذلك فى خصوصيتها الحضارية، وأن هذا لن يتحقق إلا من خلال خلق حالة من الجدل العام حول هذه البيئة وتلك الخصوصية وما تقوم عليه من معتقدات ومرجعيات.
وكان التعليم والحرية الدينية والإصلاح السياسي والمجتمعي، أهم القنوات التى تمحورت حولها السياسات الأميركية خلال هذه المرحلة. إلا أنه رغم المواقف الأميركية الخاصة بالحرية الدينية التى تؤكد على وجود انتهاكات لهذه الحرية في المملكة، فإن الإدارة الأميركية لم تتخذ أية إجراءات لمواجهة هذه الانتهاكات، بل في المقابل اتجهت إلى تأجيل العقوبات التي يمكن أن توقع على المملكة بوصفها "دولة ذات وضع مثير للقلق الخاص"، حسب قانون الحرية الدينية، وجاء هذا التأجيل ليتفق وطبيعة السياسة الأميركية، وأولوياتها فى كل مرحلة، حيث وجدت الإدارة الأميركية أن توقيع مثل هذه العقوبات من شأنه أن ينال من تحالفها الإستراتيجي مع السعودية، ويسبب حرجا لهذه الدولة، قد يدفعها لتبني بعض الإجراءات التى لا تتفق والمصالح والتوجهات الأميركية، التى يعتبر شريكا أساسيا فيها، كالحرب على الإرهاب، والتوازنات الإقليمية فى المنطقة، وكذلك فى مواجهة تداعيات الأزمة المالية العالمية، التى كانت الولايات المتحدة أكثر المتضررين منها، فى ولاية بوش الثانية، ووجدت أن المملكة يمكن أن تساهم بفاعلية في الحد من هذه التداعيات.
كما أن الإدارة الأميركية رغم ضغطها على العديد من الدول العربية، وطرحها العديد من المبادرات ذات الصلة بالإصلاح السياسي، إلا أن هذه الضغوط وتلك المبادرات، لم تكن ذات جدوى فيما يتعلق بالمملكة وغيرها، حيث اقتصر الأمر على بعض التصريحات الإعلامية.
وفي المقابل كانت المواقف الأميركية غير الرسمية، أكثر حدة في نقدها للمملكة ونموذجها الحضارى ونظامها السياسي، ووصل الأمر ببعضها لإثارة قضايا تقسيم المملكة إلى عدة دول، حتى تسهل السيطرة عليها. وهو ما يؤكد وجود تيار داخلي قوى ومؤثر في المجتمع الأميركي، يتعامل مع المملكة بإمكاناتها الاقتصادية، ومرجعيتها الدينية ونموذجها الحضاري على أنها تحد كبير لأمن واستقرار الولايات المتحدة، ويضع الخطط ويقدم الأطروحات التي يمكن من خلالها التعامل مع هذا التحدي، حاليا ومستقبلا، لتكون هذه الخطط جاهزة للتنفيذ حال توفر الظرف الدولي المناسب وحال وجود الإرادة السياسية الأميركية لذلك، كما حدث فى أطروحات المحافظين الجدد التى وضعت فى الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين، وتم وضعها موضع التنفيذ فى السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين.
شكلت الحرب على الإرهاب، الإطار العام الحاكم للسياسة الأميركية، تجاه القضايا الإقليمية والدولية ذات الصلة بالمملكة، خلال الفترة محل الدراسة، وأمام هذه المحورية للحرب على الإرهاب، فقد ارتبطت بالعديد من القضايا الأخرى، التي كانت محلا لاهتمام السياسة الأميركية، مثل قضية العمل الخيري وتمويل الإرهاب، والقضية العراقية، بجانب القضايا التقليدية التى تمحورت حولها السياسة الأميركية فى المنطقة، كالصراع العربي ـ الإسرائيلي، وأمن الخليج والتوازن الإقليمي فى منطقة الشرق الأوسط.
وقد شكلت هذه القضايا الجديدة والتقليدية، محورا للتفاعل بين الولايات المتحدة والمملكة، وتشابكت فيها العديد من الأبعاد السياسية والاقتصادية والأمنية والثقافية والحضارية، وبين هذه الأبعاد برز تأثير البعد الديني في السياسة الأميركية تجاه المملكة، سواء على مستوى التوجهات أو السياسات التي قامت عليها هذه السياسة، فتم الربط بين "القضاء على الإرهاب" و"القضاء على الإسلام"، والربط بين "ضبط العمل الخيري" و"القضاء على فريضة الزكاة وتحجيم الصدقات"، كما تم الربط بين "غزو العراق"، و"تحقيق نبؤات الكتاب المقدس".
ومن واقع تحليل هذه القضايا يمكن القول أنها تمتعت بالأولوية فى السياسة الأميركية تجاه المملكة مقارنة بالقضايا الداخلية فى المملكة، فالولايات المتحدة فى إثارتها للقضايا الداخلية، كانت تستهدف الضغط على المملكة للتوافق مع التوجهات الأميركية، فيما يتعلق بالقضايا الخارجية، وبما يتفق والأهداف التى تسعى إلى تحقيقها، فالولايات المتحدة لم تكن تسعى لإصلاح فعلى داخل المملكة، أو تغيير فى مناهجها التعليمية، لأنها تعلم أن التدخل فى هذه القضايا من شأنه أن يثير عليها العديد من التوترات، أمام الطابع المحافظ للمجتمع السعودي، ولكنها أرادت توجيه رسالة للسعودية، أن قضاياها الداخلية ليست بعيدة عن الاهتمام، وأنها من الممكن أن تشكل سبيلا للتدخل في أوضاع المملكة ليس فقط من خلال السياسة الأميركية الرسمية، ولكن كذلك من خلال السياسة غير الرسمية، وأدواتها وقنواتها متعددة المسارات.
" إستهدفت أميركا من خلال إثارة قضايا داخلية في السعودية الضغط على المملكة للتوافق مع التوجهات الأميركية، فيما يتعلق بالقضايا الخارجية، وبما يتفق والأهداف التى تسعى إلى تحقيقها، فالولايات المتحدة لم تكن تسعى لإصلاح فعلي داخل المملكة، أو تغيير في مناهجها التعليمية، لأنها تعلم أن التدخل فى هذه القضايا من شأنه أن يثير عليها العديد من التوترات، أمام الطابع المحافظ للمجتمع السعودي، ولكنها أرادت توجيه رسالة للسعودية، أن قضاياها الداخلية ليست بعيدة عن الاهتمام " |
وقد أثمر الضغط الداخلي عن العديد من التوافقات بين السياسة السعودية والسياسة الأميركية، تجاه القضايا الدولية والإقليمية محل الاهتمام المشترك، وكانت نتيجة هذا الضغط أكثر بروزا فى قضية العمل الخيري، حيث تم تشكيل لجان وفرق عمل مشتركة أميركية ـ سعودية، للتدقيق ومراقبة وإعادة هيكلة العمل الخيري السعودي ليس فقط خارج المملكة، ولكن داخلها.
كما صارت المملكة تلعب دورا في موازنة الدور الإيراني فى العراق وفى لبنان، وفي فلسطين، ولتسوية الأوضاع فى العراق، و تسوية الخلافات بين الفصائل الفلسطينية، خشية احتوائها من جانب إيران، و في الصراعات المذهبية التى حاولت الولايات المتحدة إثارتها فى المنطقة، فى إطار سياسة التفتيت الديني والمذهبي التى تبنتها خلال الفترة محل الدراسة، سواء بين دول المنطقة وبعضها البعض كالصراع المذهبي بين إيران من جانب والدول العربية من جانب آخر، أو بين السنة والشيعة داخل العديد من الدول العربية، كالعراق ولبنان، بل والمملكة ذاتها، كخطوة مرحلية وأداة مؤجلة قابلة للاستخدام عندما ترغب الولايات المتحدة في إثارتها وتحريكها.
وكانت القضية المذهبية، أهم الأدوات التى اعتمدت عليها السياسة الأميركية، فى إدارتها للقضايا التقليدية ذات الصلة بالمملكة كأمن الخليج والتوازن الإقليمي، وأيضا قضية الصراع العربي ـ الإسرائيلي، التى اعتمدت فى إدارتها كذلك على المملكة من خلال العديد من القنوات، كطرح المبادرات للتسوية بين العرب وإسرائيل (مبادرة 2002)، والتسوية بين الفصائل العراقية (اتفاق مكة، أكتوبر 2006)، والتسوية بين الفصائل الفلسطينية (اتفاق مكة، فبراير 2007) والتطبيع غير الرسمي مع إسرائيل (مبادرة حوار الأديان). وجميعها أدوار جديدة على السياسة السعودية، لم تشهدها فى مراحل سابقة من تطورها، إلا نادرا.
![]() |