
شولاميت ألوني من مواليد سنة 1928 وهي إحدى الشخصيات السياسية والفكرية البارزة في المشهد الإسرائيلي العام.
انتخبت نائبة في الكنيست الإسرائيلي لفترة طويلة، وعينت وزيرة في حكومة رئيس الوزراء السابق إسحاق رابين. كما تزعمت حزب ميرتس اليساري الإسرائيلي. عرفت بنقدها اللاذع لسياسات إسرائيل الداخلية والخارجية، وتعتبر من دعاة السلام مع الفلسطينيين من خلال تأييدها لإقامة دولة فلسطينية. ولها عدة مؤلفات وكتاب الديمقراطية المكبلة هذا هو آخرها.
إسرائيل الدولة الدينية
الميل نحو الإثنوقراطية
إسرائيل تجيد لعب دور الضحية
صورة إسرائيل والتراجع المستمر
" التجنيد للخدمة العسكرية في الجيش الإسرائيلي يقود المجندين وذويهم إلى تبني طقوس القوة والجندية بدلاً من فهم دور الجيش في تربية حب الوطن والتمسك بقيم المجتمع وأخلاقياته وهذا يعني تراجعا خطيرا في أخلاقيات الجيش وضياع بوصلة تأسيسه، كما ورد في وثيقة الاستقلال " |
تستعرض ألوني في هذا الكتاب سياسات إسرائيل وإستراتيجياتها فيما يتعلق بالنظام الديمقراطي الذي تتبجح به، وتعرضه إسرائيل كأفضل نظام في الشرق الأوسط. وتكشف ألوني من خلال غوصها في عمق بنية وسلوك هذا النظام عن مجموعة أخلال فيه.
يبدأ انتقادها للديمقراطية الإسرائيلية من غلاف الكتاب نفسه، حيث أدرجت وثيقة استقلال إسرائيل وقد تم شطب عبارات تعبر عن الديمقراطية فيها، من خلال الإبقاء على محتوى العبارات كظلال. بحيث لم يبق من محتوى هذه الوثيقة سوى ما له صلة رئيسية بالنظم الدينية. وهذا يقود ألوني إلى تقديم عرض تفصيلي وفق مسار كرنولوجي (زمني) لما تطلق عليه انتقال إسرائيل من الديمقراطية إلى الإثنوقراطية.
كل ما تريده ألوني هو أن يعرف المواطن الإسرائيلي أسس النظام والقانون منذ إقامة إسرائيل إلى يومنا هذا. كما تريد أن يعرف هذا المواطن معنى وثيقة استقلال إسرائيل بوصفها نصا تأسيسيا لإقامة الكيان الصهيوني، ونصا مقبولا بالعموم من طرف المجتمع اليهودي الذي شارك في إقامة هذا الكيان. إلا أنها ترى أن النظام التعليمي في إسرائيل يحول دون إدراج الديمقراطية في النظام التربوي لكونه نظاما مؤسسا على العسكرة. وتخلص إلى الاستنتاج أن سياسات إسرائيل الداخلية القائمة على عقد ائتلافات حكومية مع أحزاب دينية يهودية متطرفة (أو بعض منها على الأقل)، وابتزازها السياسي والمالي للحزب الحاكم، الذي يُكلَف بتشكيل الحكومة في إسرائيل بعد كل انتخابات كنيست، تؤدي دوما إلى تقليص مساحات النشاط الديمقراطي. وأكثر من ذلك خلصت المؤلفة إلى أن التجنيد للخدمة العسكرية في الجيش الإسرائيلي يقود المجندين وذويهم إلى تبني طقوس القوة والجندية بدلاً من فهم دور الجيش في تربية حب الوطن والتمسك بقيم المجتمع وأخلاقياته. وهذا يعني تراجعا خطيرا في أخلاقيات الجيش وضياع بوصلة تأسيسه، كما ورد في وثيقة الاستقلال.
وباتت سياسات إسرائيل التربوية والتعليمية وفق ما تراه ألوني تسير في بوتقة بناء جندي المستقبل، وهذا يفرض اختراق القيادات العسكرية لفصول التعليم في المدارس في إسرائيل لنقل رسالة الجيش. وهذا في حد ذاته بعد أساسي من أبعاد عسكرة المجتمع والتربية تدريجيا. وترى أن المجتمع الإسرائيلي منذ تأسيس إسرائيل قد خضع لسياسات وإستراتيجيات داخلية متأثرة برؤى قيادات فكرية وسياسية مؤسسة على العسكرة لا على المدنية.
وتؤكد أنه منذ أن عُين أول وزير متدين في حكومة دافيد بن غوريون مرورًا بحكومة غولدا مائير وصولاً إلى عام 1992 يمكن رؤية إستراتيجية تحويل إسرائيل إلى دولة يهودية وديمقراطية. وهذان المصطلحان لا يتفقان بالمرة وفق ما تراه ألوني. لأن اليهودية بالمفهوم الذي يحاول وزراء متدينون فرضه مفهوم ديني محض، بينما مفهوم الديمقراطية لا يمكن أن يتفق أو يسير جنبًا إلى جنب مع اليهودية كمفهوم ديني. والسؤال الذي تناقشه في كتابها هذا: هل هذه الدولة هي "دولة إسرائيل" أو "دولة يهودية"؟ فإذا كانت دولة يهودية فهذا يعني أنها تسير نحو قرار كونها دولة إثنوقراطية صرفة (أي دولة إثنية بغلاف ديمقراطي). حيث أن كل الادعاء بأنها دولة يهودية وديمقراطية هو كلام هراء وسخيف ولا جدوى من ورائه، وهذه فقط خدعة بصرية، على حد قولها. أما كونها إثنوقراطية فقد أشار العالم الجغرافي الإسرائيلي أورن يفتحئيل إلى أنها -أي إسرائيل- محكومة بأيدي مجموعة إثنية (إثنوس من اليونانية) وليست محكومة بأيدي الشعب (ديموس). وعلى الرغم من هذا التوجه الآخذ بالانتشار داخل مؤسسات الحكم الإسرائيلي وفي سياسات إسرائيل الخارجية، فإن هناك من يدعي وفق ألوني أنها ديمقراطية إثنية. أي أنها ديمقراطية من نوع خاص ومميز ونادر في العالم، وأن هذه الديمقراطية الإثنية مليئة بالخلل إلا أنها تبقى ديمقراطية في أساسها وتوجهاتها.
" ساهمت وسائل الإعلام والاتصال والمؤسسات الدينية الإسرائيلية في تفعيل آلة غسل الكلمات لتبييض صفحة قيادات إسرائيل محليًا وعالميًا من الأخطاء والجرائم التي ترتكبها إزاء مواطنيها العرب وإزاء الفلسطينيين الذين وضعتهم رهائن يوميًا في التحكم بهم بوصفها دولة احتلال " |
وبحسب رأيها فإن هذا الكتاب هو سيرة ذاتية لدولة إسرائيل. بحيث تعكس هذه السيرة إضاعة السياسيين في إسرائيل لأسس دولتهم، وميلهم إلى بناء منظومة كيانية إثنية. وترى أن هذه السيرة تأخذ إسرائيل مجددًا إلى واقع "الجيتو"، أي إلى اليهودية الأرثوذكسية، أي اليهودية التقليدية والمحافظة، بل والمتشددة في فهمها للنصوص الكتابية، وتعاطيها مع الشأن الحياتي اليومي لمجتمع معاصر وحديث. وترى أن مشاركة سياسيين من الأحزاب المتدينة هي في حد ذاتها متناقضة مع توجهاتهم ومبادئ أحزابهم التي ترى ضرورة إقامة كيان سياسي وفق الشريعة بحيث يأتي المسيح المنتظر على رأس جيش إلهي فيدخل أورشليم ويعلن الخلاص. إلا أن الأحزاب الدينية اليهودية عرفت كيف تستفيد من وجودها لتدخل في تشكيلات حكومات إسرائيل المتعاقبة، بحيث إنه لم تخل حكومة واحدة من وجود مشاركة ائتلافية لحزب متدين. وتخضع هذه الأحزاب المتدينة لقيادات دينية عُليا هي عبارة عن حكماء التوراة الذين هم في توجههم أصوليون بامتياز. وترى خطورة ميل إسرائيل السريع نحو الإثنوقراطية وغياب القوة العلمانية المستقلة عن اتخاذ القرار وترك مسائل حياتيه مركزية ومهمة تحت رحمة، بل قرار الأحزاب المتدينة الشريكة في الحكم، خاصة سياسات داخلية ذات صلة بالتنظيم العمراني والتخطيط الحياتي من رفاه مجتمع وقضايا علاجية مجتمعية وتعليم وغير ذلك. ومن خلال عرضها لسيرة إسرائيل الذاتية، كما أسمتها، فإن إسرائيل المزدهرة والنامية والحرة والمستنيرة والمعتزة ببحوثها العلمية والتكنولوجية (كما تعتقد ألوني) تنحني بسرعة أمام مجموعة من رجال الدين اليهود، وأمام مستوطنين ينسبون كل شيء إلى ملكيتهم باسم الدين. وتستند ألوني إلى قواعد وأدلة قاطعة، حيث تقول عن سياسات تشريع القوانين في إسرائيل إنها كانت تتم في عقر الديمقراطية -أي الكنيست الإسرائيلي- إلا أن التشريع يخضع بسرعة وبسهولة إلى المؤسسة الدينية، خاصة في قضايا الأحوال الشخصية كالزواج والطلاق وما شابه ذلك. وهذا التدخل السافر، وفق ما تدعيه المؤلفة، يصيب بعمق الحقوق الطبيعية والأساسية التي يعرفها كل ذي حجا في العالم، تلك الحقوق التي يقوم عليها أي نظام ديمقراطي في العالم "المستنير". ففي إسرائيل الديمقراطية لا مكان لعقد زواج مدني، لذا يضطر الزوج إلى السفر خارج إسرائيل إلى دولة يجري فيها مثل هذا النوع من الزواج، ويعود إلى إسرائيل متزوجًا، وعندها فقط يتم الاعتراف بهذا الزواج في وزارة الداخلية لأغراض التسجيل فقط. بينما تقضي وثيقة الاستقلال بأن أهم ما تقوم عليه إسرائيل في توجيه إستراتيجياتها الحياتية هي "حرية الإنسان" في حياته وقراراته. وهذا الوضع يجعل إسرائيل أكثر تقوقعًا في قضايا دينية لا هي مدنية ولا هي ديمقراطية أبدًا.
وتعود ألوني من خلال استعراض دور الأحزاب الدينية وتغلغلها العميق في حياة المجتمع وبصورة غير مباشرة إلى وقوع الديمقراطية أسيرة هذه الأحزاب وأسيرة الشريعة اليهودية/التوراتية. وما لجوء ألوني إلى استعمال مصطلح إثنوقراطية إلا بناء على توفر أدلة عملية تؤكد ذلك. وما يؤكد ذلك أيضًا تحول إسرائيل إلى دولة "أبارتهايد" (أي تمييز ديني وعرقي) غير معلن عنها رسميًا، مع العلم أن التوجهات السياسية وتصريحات سياسيي إسرائيل بصورة مستمرة تؤكد أنها باتت في هذا المربع. وتشير ألوني إلى أنه وبالرغم من عدم وجود سياسات مُعلنة رسميا عن أبارتهايد فإن منظومة العمل ومحرّك إسرائيل يعملان بصورة غريزية ودون حاجة إلى توجيه وتعليمات أو أوامر. فكافة موظفي إسرائيل اليهود يعرفون جيدًا كيف يتعاملون مع غير اليهود، وفي هذه الحالة مع المواطنين العرب في إسرائيل. وتشير إلى مدى مساهمة وسائل الإعلام والاتصال والمؤسسات الدينية في تفعيل آلة غسل الكلمات لتبييض صفحة قيادات إسرائيل محليًا وعالميًا من الأخطاء والجرائم التي ترتكبها إزاء مواطنيها العرب وإزاء الفلسطينيين الذين وضعتهم رهائن التحكم بهم يوميًا بوصفها دولة احتلال. فمشاركة الأحزاب الدينية تركت بصماتها عميقًا، وذلك بجعل إسرائيل دولة أبارتهايد والتشديد على كونها يهودية، وبأنها ليست دولة جميع مواطنيها، أو دولة لجميع المواطنين فيها، كما نصّت على ذلك وثيقة استقلال إسرائيل منذ العام 1948.
تؤكد ألوني سير إسرائيل نحو الإثنوقراطية والأبارتهايد من خلال تتبع سيرة إسرائيل وتأسيسها وما سبق ذلك وما لحق به بعد تأسيسها. ففي حين أصبحت إسرائيل خامس قوة عسكرية في العالم وتمتلك جيشًا قويًا وترسانة عسكرية مكتنزة بالسلاح بكافة أنواعه، فإن الشعور بالضحية ، وكون الضحية ملاحقة على الدوام لم ينته ألبتة. وتعتقد أن القوة العسكرية الإسرائيلية تحول دون تخلص إسرائيل من الخوف من "الآخر"، وهذا يندرج وفق ما تراه، ضمن تقليد تاريخي وتوراتي أساسه الخوف من الآخر، وكراهية الآخر واعتباره منبوذًا وأقل قيمة. وهي بهذا التوجه ترى أن إسرائيل لم ترق بعد إلى أن تصبح دولة طبيعية أسوة ببقية الدول. وإسرائيل جرّاء انغلاقها وتكبيلها بيد الأحزاب الدينية التي ترسم سياساتها الداخلية والخارجية، وهي ليست مؤهلة بعد لخوض مسيرة صنع سلام مع الفلسطينيين ولا التوصل إلى سلام معهم. وتُشدد في طرحها قضية الفشل في صنع سلام مع الفلسطينيين على غياب إستراتيجية سياسية واضحة داخل المؤسسة الحاكمة في إسرائيل، وكونها –أي هذه المؤسسة- مكبلة بيد الأحزاب الدينية واليمينية المتطرفة التي تعانقت مع بعضها البعض في سبيل تعجيل مسيرة إسرائيل نحو الإثنوقراطية. فبدل أن تبني الديمقراطية في إسرائيل ذاتها مستقلة وتسير نحو حرية مواطنيها، فإنها قيدت نفسها بقيود تلبية احتياجات قيادات دينية متزمتة ومتطرفة سياسيًا وفكريًا وواقعيًا، وأكثر من ذلك فإنها تنفذ سياسات تقييد نشاط الفلسطينيين وسلبهم حريتهم ونهب أراضيهم وممتلكاتهم والحيلولة دون تحركهم بحرية، فضلا عن تنغيص حياتهم يوميًا بعدد كبير من العوائق والحواجز والقيود. فكيف يمكن لإسرائيل أن تكون ديمقراطية وهي خالية من أسس الديمقراطية أصلا، وهي إلى جانب ذلك مُقَيّدة ومكبلة بتوجهات الأحزاب الدينية، تلك التوجهات السياسية التي تميز بين مواطني الدولة، ويكفي مثال على ذلك أنها -أي إسرائيل- تعترف بالعرب فيها كمواطنين، وتنفذ تجاههم في نفس الوقت سياسات تمييزية واضحة وفاضحة في كافة قطاعات الحياة. وتؤكد ألوني أن المساواة وعدم التمييز بين المواطنين هما شرطان تأسيسيان ومركزيان في بناء دولة سليمة، وقد وصلت إلى نتيجة مفادها أن إسرائيل قد قررت بفعل قيام حكوماتها على تحالفات مع أحزاب متدينة ومتطرفة دينيا وأحزاب يمينية متطرفة سياسيًا وعقائديًا، أن تنأى عن أسس الديمقراطية، وتجعلها مكبلة بقيود توراتية وبتوجهات إثنية يهودية. وتستشهد بقول لحاييم وايزمن وهو أحد قياديي الحركة الصهيونية وأول رئيس لدولة إسرائيل: "سهل جدًا إخراج اليهود من الشتات، ولكن من الصعب إخراج الشتات من اليهود".
" الحكومات الإسرائليلة القائمة على مبدأ الإثنوقراطية لا يمكنها أن تتعايش مع الآخر المغاير وفق الشريعة اليهودية، فهو مختلف وأدنى درجة وعلى مستوى النجاسة وبالتالي فحتمي على غير اليهود ألا يعيش أو يقيم في حدود دولة يهودية " |
من بين القضايا الأخرى التي تطرحها ألوني في كتابها هذا أمور لها علاقة بكشف سياسات إسرائيل تجاه مواطنيها العرب الفلسطينيين. فقد تطرقت إلى هذه القضية عدة مرّات في الكتاب، إلا أن معالجتها لها لم تكن بمستوى الزخم الذي عالجت به قضية سياسات الأحزاب المتدينة وعلاقتها بالدولة، وعلاقة الأحزاب العلمانية مع الأحزاب المتدينة بالمقابل. ومع كل هذا فإنها خصصت حيّزًا هاما لمناقشة القضية من منطلق فهمها عمق التمييز بين الإسرائيليين وبين العرب في إسرائيل. ومجددًا تكشف النقاب عن أن أساس السياسات مرتبط بكون إسرائيل هي الضحية، وأن العرب يُشكلون تهديدًا على وجود إسرائيل. وتقتبس عبارة وردت على لسان غولدا مائير رئيسة حكومة إسرائيل السابقة نحو العرب وهي: "لن أُسامح العرب مُطلقًا لكونهم يجبروننا على قتلهم". ترفض ألوني هذه العبارة بكل مركباتها وتوجهاتها وتعتبرها أسلوب الضحية الذي يعلن أن من حقه الدفاع عن نفسه، بينما إسرائيل -كما ترى- هي التي تسببت في مأساة العرب بفلسطين. المسألة تكمن في تشريع قوانين الهدف منها هو تجريد المواطنين العرب من أراضيهم ونهب ممتلكاتهم، أو لنقل ما تبقى منها بصورة مشرعنة، فعلى سبيل المثال تم سن قانون مواجهة التحريض على العنصرية، أو قوانين الأراضي واستعمالاتها وغيرها. الخطة الإستراتيجية في إسرائيل هي البحث عن مختلف الطرق وشرعنتها في سبيل التخلص من العرب الفلسطينيين، الذين بقوا على أراضيهم في العام 1948 دون أن يكون هذا البقاء مصدر مَسَرّة للإسرائيليين. ولهذا، فإن ألوني، ترى تحولات خطيرة في تشريع قوانين لخدمة أغراض سياسية آنية دون وجود إستراتيجية مستقبلية للتعامل مع العرب في إسرائيل على أساس اعتبارهم مواطنين متساوين مع بقية مواطني إسرائيل من اليهود.
لهذا، ترى ابتعادًا كبيرًا لدى سياسيي إسرائيل عن أسس وثيقة الاستقلال التي نادت بالمساواة بين كافة مواطني دولة إسرائيل دون تفرقة بين الدين والعرق والجنس. وتؤكد أن هذا الابتعاد لم يكن مصدره سوى تراجع مكانة مفهوم الديمقراطية وتقبل الآخر في إسرائيل، والسعي إلى فرض واقع الإثنوقراطية، أو كما أسمتها نظام الطائفة أو "نظام الملّة" العثماني، بكون اليهود المتدينين مسيطرين على مقاليد السلطة ويديرون شؤون إسرائيل وفق أسس الشريعة اليهودية، وإن كان ذلك غير معلن في كافة مناحي الحياة في إسرائيل وفق جدول حياتها اليومي.
ومن هنا فإن الإثنوقراطية لا يمكنها أن تتعايش مع الآخر المغاير وفق الشريعة اليهودية، فهو مختلف وأدنى درجة وعلى مستوى النجاسة. وبناء عليه، حتمي على غير اليهود ألا يعيشوا أو يقيموا في حدود دولة يهودية. وترى هذا مُطبّقًا في تعبيد شوارع وطرقات التفافية ليس فقط على المستوطنات إنما على المستعمرات (من قرى وكيبوتسات) في إسرائيل. فقلما نجد شارعًا أو طريقًا يمر من قرية عربية فلسطينية في إسرائيل ويوصل إلى قرية أو مستعمرة إسرائيلية. طرقات خاصة بالكيبوتسات والقرى التعاونية الإسرائيلية لوحدها، بعيدًا عن الطرقات المؤدية إلى القرى العربية الفلسطينية في إسرائيل. وعندها يحدث تراجع في اعتبار أن إسرائيل توفر حرية التنقل والحركة وفق قوانينها. وتخلص إلى القول إن حالة العرب في إسرائيل حاليًا أفضل مما هي عليه أيام الحكم العسكري الذي أمتد بين 1948 و 1966.
" السياسة الإسرائيلية القائمة على أسس صهيونية يجسدها ما تفعله حكومة نتنياهو الحالية في القدس الشرقية من تجريد المواطنين المقدسيين من هوياتهم وحرمانهم من حق الإقامة في القدس وبالتالي فقدانهم حقوقهم في التملك، وضياع أملاكهم. فضلا عن وضع عراقيل هائلة أمامهم مما سيدفعهم إلى الترحيل " |
قضية مركزية أخرى تطرحها ألوني في كتابها هذا تتعلق بالتغيرات السياسية الجذرية التي حدثت وتحدث في الحياة العامة في إسرائيل. فمنذ أن انتقلت مقاليد السلطة من حزب العمل إلى حزب الليكود حصل تراجع في توجهات إسرائيل السياسية الداخلية والخارجية. وتبرز هذا التغيير بقولها: "إن إسرائيل الثمانينيات لم تعد إسرائيل جيل المؤسسين وجيل محاربي الاستقلال وحرب الغفران. الأسطورة البارزة للمستوطنين والحركات الكيبوتسية والاستيطانية على مختلف أشكالها، منظمة العمال العامة/الهستدروت، وحركات الشبيبة والشباب اليهودي المولود في إسرائيل بعد 1948 لم يبقَ على ما هو عليه، الكل انقلب وتبدل". وتعزو ذلك إلى التغيرات التي طرأت في السياسات الحكومية منذ أن تولى حزب الليكود مقاليد السلطة في العام 1977. الاعتقاد السائد لدى سياسيي إسرائيل التقليديين، والذين لا يمكنهم رؤية الحركية في السياسة، هي أن حزب العمل والأحزاب العمالية اليسارية أو القريبة منها قد أضحت في عداد الماضي السحيق. هذا ما لم تستطع ألوني رؤيته، أو قبوله. لديها قوة داخلية رافضة لمثل هذه التغيرات في السلطة وفي الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وغيرها. ومع كل هذا ترى واقعًا مفاده أن حزب العمل الذي كان بإمكانه أن يكون الأفضل بين الأحزاب قد فقد بوصلته وقبل مقترحات قوانين وتشريعات بعيدة عن الديمقراطية قريبة من الإثنوقراطية.
الخلاصة التي توصلت إليها ألوني أن ما أسمته بالثورة الصهيونية أرادت تاريخيًا أن تتحرر من مركبها الشتاتي المرتكز على قاعدة "طائفة دينية"، وأن تسعى إلى إقامة دولة علمانية قد فشلت. أي أن يكون الشعب اليهودي مثل بقية شعوب العالم بقيادة ذاته، في دولة تابعة له سياديًّا. وترى أنه بالرغم من الزيادة الآخذة بالارتفاع في تدخل رجال الدين اليهود في شؤون إسرائيل الحياتية والسياسية فإن مؤسسي الدولة لم يكونوا رجال دين، بل كانوا أعضاء مجلس الشعب وممثلي الييشوف العبري (أي الاستيطان العبري في أرض إسرائيل) والحركة الصهيونية. وهنا تريد أن تبين بأنّ رجال الدين اليهود من التيار الديني المتزمت لم يكونوا في مشهد تأسيس إسرائيل ورسم سياساتها في بداية الطريق، إنما اخترقوا المشهد عندما بدأت تلوح لهم قدرة الدولة الفتية على النهوض بالمجتمع الإسرائيلي بعيدًا عن الأسس الدينية، فيه بعض الشيء من تراثه وتقاليده الاجتماعية التي اكتسبها عبر العصور. تغلغل رجال الدين اليهود (الحاخامات) جاء لتلبية احتياجات الأحزاب الدينية والتيارات الدينية في كسب حصّة من ميزانيات الحكومة الإسرائيلية لتفعيل مؤسساتهم وهيئاتهم، ومع مرور الزمن لبسط سيطرتهم أكثر وأكثر على سياسات إسرائيل وإستراتيجياتها تجاه مواطنيها الإسرائيليين وتقييدهم وفق أسس الشريعة اليهودية، وأيضًا تقليص الوجود العربي الفلسطيني، وحصره في قرى ومدن محاصرة ومطوقة بمستوطنات إسرائيلية، وخنق هذه القرى والمدن اقتصاديًا بعدم تطوير مرافقها، والتضييق على الشباب العربي في إسرائيل عبر منعهم من نيل تعيينات في وظائف مهمة ورئيسية في إسرائيل. وهذا ما يتنافى مع مضمون وثيقة الاستقلال على حد زعمها.
توجد في إسرائيل ديمقراطية رسمية، ولكن لا تتوفر في إسرائيل ديمقراطية جوهرية. وما يؤكد غياب أو انحسار الديمقراطية في إسرائيل وجود أحزاب تحمل في بياناتها وبرامجها السياسية توجهات عنصرية خطيرة على إسرائيل في علاقاتها السياسية الخارجية مع الدول الأوروبية التي تحارب التوجهات العنصرية والعرقية فيها، والأنكى من كل هذا أن هذه الأحزاب العنصرية في إسرائيل تشكل قوة ائتلافية، أي أنها شريكة في إدارة إسرائيل والتحكم بأسس الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية. بينما في دول كسويسرا والنمسا وفرنسا وإيطاليا فإن أحزابًا عنصرية تشارك في الحياة السياسية لكنها لا تدخل في شراكة الحكم وإدارة البلاد، إنما تبقى في صفوف المعارضة.
هذه الصورة القاتمة التي تقدمها ألوني عن إسرائيل التي تتراجع فيها أسس الديمقراطية وفي سياساتها الداخلية وبالتالي انعكاس ذلك على سياساتها الخارجية، وهي إلى جانب ذلك ترى تدهورًا خطيرًا في واقع إسرائيل الحالي وفي توجهاتها المستقبلية. القضية الشائكة هنا في هذا الكتاب أن صورة إسرائيل منذ نشأتها إلى اليوم، وفق ألوني، هي في تراجع مستمر نحو فقدان الديمقراطية بكل مركباتها ومكوناتها، وهي تميل إلى تعميق الإثنوقراطية والتعامل مع المجتمع في إسرائيل على قاعدة تسلط الأحزاب الدينية والمؤسسات الدينية التابعة للأحزاب. وهذا الابتعاد عن أسس الديمقراطية يجعل عملية التحكم بالأقلية أسهل وأيسر لقدرة الأغلبية الحاكمة على تشريع قوانين لسلب أملاك ومقتنيات الأقلية وتجريدها مما تمتلكه، وبالتالي يصبح من لسهل تطبيق ترانسفير، أي ترحيل على مناطق أخرى.
ونضيف على ما هو وارد في كتابها بهذا الخصوص، ما تفعله حكومة نتنياهو الحالية (2010) في القدس الشرقية من تجريد المواطنين المقدسيين من هوياتهم وحرمانهم من حق الإقامة في القدس وبالتالي فقدانهم حقوقهم في التملك، وضياع أملاكهم. أضف إلى ذلك، وضع عراقيل هائلة أمام منح الفلسطينيين في القدس تراخيص لبناء منازل لهم، وبالتالي كل أشكال العراقيل والصعوبات تدفع إلى الخنق والترحيل.
الكتاب برأينا ليس سهلا في تعاطيه مع الشأن الإسرائيلي لكونه يدمج بين الخبرة الشخصية وبين المسار التاريخي لإسرائيل. فمن جهة تعتبر نفسها جزءًا من عملية تشكيل وبناء إسرائيل قبل العام 1948 وخلاله وبعده، ومن جهة أخرى ترى أن سياسات حكومات إسرائيل المتعاقبة منذ بن غوريون عملت على إضعاف المركب الديمقراطي لإسرائيل اعتمادا على ما أوردته وثيقة استقلال إسرائيل. وكذلك، فإن نظرتها في كتابها هذا إلى التآكل في ديمقراطية إسرائيل لتحل محلها الإثنوقراطية التي تقضم أسس وقواعد إسرائيل.
الكتاب يعكس ظاهرة التخبط القائمة داخل إسرائيل منذ عقدين من الزمن تقريبا فيما له علاقة بسياسات الحكومات الإسرائيلية تجاه مواطنيها من اليهود المتدينين والعلمانيين وغير اليهود -أي العرب الفلسطينيين في إسرائيل- وتجاه السياسات الخارجية التي تحكمها طغمة من الحاخامات الذين يشكلون مجالس إرشادية وتوجيهية ملزمة لمندوبيهم في الكنيست الإسرائيلي، أي أن الكنيست يسير نحو تحكم حاخامات عن بُعد دون أن يكون الكنيست وجه إسرائيل الديمقراطي.
_______________
باحث ومؤرخ فلسطيني