ليس ثمة رؤية رسمية موحدة في الخليج حيال الثورة المصرية وسبل مقاربة العلاقة معها، بل إن سياسات دول المنطقة بهذا الخصوص بدت على نحو من التضارب، إن لم نقل التناقض. والحسابات هنا كثيرة ومعقدة، تتداخل فيها اعتبارات الداخل، وهواجس التوازنات الإقليمية، ومستقبل الزعامة في النظام العربي. بل والأكثر من ذلك، مستقبل تفاعلات العرب بالنظام الدولي. أو لنقل: مستوى تركز واتجاه هذه التفاعلات، ومن سيكون الأوفر حظا فيها.
أولا: دعم المطالب الديمقراطية في الساحة العربية
هذا المقال، يطرح وجهة نظر خليجية لدور مصر المنتظر، أو المؤمل، في الخليج، كما في السياق الإقليمي العربي العام. وهو عبارة عن توليفة من الرؤى والتصوّرات، السائدة لدى كل من الشارع الخليجي، والنخبة الأهلية الخليجية، والنخب الرسمية. وسوف يتجاوز المقال معضلة التقسيمات الثلاثة سابقة الذكر، ويستخدم مصطلح "الرؤية الخليجية عند الحديث عن رؤية الخليجيين للدور المصري في المنطقة. هذا مع ضرورة الإشارة إلى أن هذه الرؤية هي بالدرجة الأولى رؤية المواطن الخليجي، بمواقعه الفكرية والمنهجية المختلفة، ودوره المتباين في الحياة العامة.
كذلك، يجب التشديد على أن البعد الرسمي، أو شبه الرسمي، في وجهة النظر المطروحة هنا هو بُعد محدود، وربما ضمني، وغير منطوق به في بعض الأحيان. تشير الرؤية الخليجية للدور المصري في المنطقة إلى أن مصر الجديدة معنية بالنهوض بأربع مهام رئيسية، هي: دعم المطالب الديمقراطية في الساحة العربية، وإعادة العراق إلى محيطه العربي، وممارسة دور أمني ودفاعي في الخليج، وإعادة الدور العربي للأزهر الشريف. وبالطبع، فهذا التصوّر لم ينبع من فراغ، ولا يُمثل أطروحة فكرية مجردة، بل هو تعبير عن المناخ السياسي والنفسي السائد في الخليج، أو لنقل هو خلاصة هموم هذه المنطقة.
لقد عُرفت ثورة 25 يناير/كانون الثاني، أو الثورة المصرية الثانية، باعتبارها ثورة ذات مضمون ديمقراطي. وهذا سر قوتها، وحصولها على هذا القدر الكبير من الدعم العالمي، والتعاطف الشعبي العربي. وهذان أمران قلما اجتمعا، لكنهما تحققا، على أية حال، في الثورة المصرية، ومن قبلها ثورة تونس. ولأن الثورة تحولت إلى دولة ذات شرعية ثورية، ديمقراطية المضمون، ولأن كل ثورة لها رسالتها، فإن التتابع المنطقي للأمور يقتضي القول بأن نشر الديمقراطية هو رسالة مصر ما بعد الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني. أو لنقل بُعد محوري في هذه الرسالة.
على صعيد المقاربة الخليجية، يُمكن القول: إن أول ما يتطلع إليه الخليجيون تجاه مصر هو اتخاذها موقفًا واضحًا وصريحًا، بدعم المطالب الديمقراطية في عموم البلاد العربية، دون استثناء. وما لم يكن هناك وضوح في دعم مطالبها، فإن الجماهير العربية سوف تشعر بالخذلان تجاه الثورة التي ناصرتها، وتعلقت بها فكرًا ووجدانًا. وبطيعة الحال، فإن الموقف الصريح القاضي بدعم المطالب الديمقراطية في الوطن العربي لا يُمثل كل رسالة مصر على هذا الصعيد؛ فالمطلوب هو العمل على نشر الديمقراطية، وليس الاكتفاء بدعم خياراتها.
والحديث عن الديمقراطية، لا يعني الحديث عن أنظمة الحكم حصرًا، بل يشير كذلك إلى حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، بالمفهوم الواسع، الذي يتجاوز بالضرورة مهام الدولة واختصاصاتها.
في العقد الأول من عمرها، فإن مصر الثورة يُمكنها اعتماد مسارين لنشر الديمقراطية: الأول: ما يُمكن أن نصطلح عليه "بالمسار الثقافي". والثاني: هو "المسار المؤسسي"، ويقصد به المسار المتجه نحو مؤسسات العمل العربي المشترك. إن المسار الثقافي يعني بذل الدولة، ومؤسسات المجتمع المدني، جهودًا فكرية وإعلامية لإيصال مفاهيم الديمقراطية وسبل تطبيقها إلى أوسع دائرة ممكنة في الوطن العربي. وجهد منسق في هذا الاتجاه، تقوم به دولة بحجم مصر وثقلها، لابد أن يعطي من النتائج والثمار على الواقع العربي، ما يتجاوز ذلك الذي قد يُعطيه العمل الأهلي، غير المنسق في المجمل.
على صعيد "المسار المؤسسي" لنشر المفاهيم الديمقراطية، والذي يُعنى به مسار مؤسسات العمل العربي المشترك، يمكن لمصر أن تقدم جهدًا قانونيًا متقدمًا، على طريق الدفع باتجاه إصلاح المؤسسات الوطنية والقومية، على المستوى العربي، وإعطائها مضمونًا ديمقراطيًا. وفي لحظتنا الراهنة، فإن الموقف المصري، الواضح والصريح، بدعم المطالب الديمقراطية في سائر البلاد العربية، دون استثناء، ربما يكون كافيًا لبعث رسالة اطمئنان بشأن ما ستكون عليه مصر في القادم من الأيام.
ولعل البُعد ذا المغزى الأكثر وضوحًا في هذا الأمر، هو أن موقف مصر الثورة، من المطالب الديمقراطية في الساحة العربية، يُمثل اختبارًا مبكرًا لدورها القيادي في هذه الساحة، وما إذا كانت ستعود قائدة للعرب، وحاملة لآمالهم وتطلعاتهم، أم ستنكفىء على ذاتها؟ وبالطبع، فإن الخيار الأول هو ما تتمناه الجماهير العربية.
ثانيًا: إعادة العراق إلى محيطه العربي
ثاني تطلعات الخليجيين إلى مصر الثورة يتمثل في رؤية دور مصري يُعيد العراق إلى محيطه العربي. ذلك لأنهم (الخليجيين) أكثر المتضررين من عزل العراق، وتعطيل دوره الإقليمي والعربي. إن العراق يعيش ظرفًا انتقاليًا بالمعايير كافة. وكأية دولة تعيش مرحلة انتقالية في تاريخها السياسي، فإن هذا البلد يتأثر بمن يبادر بالحضور فيه. وقد أوضحت تجربة السنوات الماضية أن كل من ذهب إلى العراق قد أضحى مؤثرًا فيه، بل وفي بيئته الإقليمية عامة. وهذا ينطبق على دول مثل كوريا الجنوبية، التي باتت لها استثمارات كبيرة في المناطق العراقية المختلفة، وهذا فضلاً عن اليابان وروسيا وأوربا، وقوى دولية عديدة. وعلى الصعيد الإقليمي، فإن الحضور التركي في العراق تفوق اليوم على الحضور الإيراني فيه، على مستوى العديد من القطاعات. بل إن تركيا هي اليوم صاحبة أكبر ورشة مقاولات في العراق.
على الرغم من ذلك، تجدر الإشارة إلى أن القطاع الخاص المصري هو صاحب أكبر حضور عربي في العراق. والمطلوب اليوم هو تعزيز هذا الحضور، والارتقاء به كمًّا ونوعًا، ورفده بدور رسمي سياسي وثقافي، بل وحتى أمني ودفاعي، ينسجم مع قدرات مصر الكبيرة، وخبراتها الواسعة. والحقيقة، أنه ليس الخليج، وتحديدًا أمنه واستقراره، هو فقط من سيربح من دور مصري فاعل ومؤثر في العراق، بل إن مصر ذاتها ستعزز عبر البوابة العراقية من أرصدتها على الصعيدين الإقليمي والدولي. وترفد، في الوقت ذاته، مقومات دورها الريادي في الساحة العربية.
وبالنسبة لأهل الخليج، فإن حضورا مصريا متقدما في العراق، يعني أخذه إلى عمقه العربي، وتعزيز فرص تعايشه الأهلي، وتحقيق وحدته الوطنية، واستتباعًا استقراره السياسي والأمني، الذي من دونه لا يتحقق استقرار الخليج، ولا تستقيم فرص التعايش الأهلي فيه. إن الخليجيين يتطلعون إلى مصر لتحقق لهم في العراق ما كانوا يصبون إليه منذ سنوات ثمان.
ثالثًا: النهوض بدور أمني ودفاعي في الخليج
في السياق ذاته، يتجسد أحد تطلعات الخليجيين إلى مصر الجديدة في نهوض القاهرة بأدوار أمنية ودفاعية في الخليج وبحر العرب. فإن مضايق هرمز وباب المندب والسويس ترتبط فيما بينها على المستوى الإستراتيجي. وإن مقاربة الأمن في أي منها لا يمكن تصوّره بمعزل عن الأخرى. والمطلوب هو أن تكون مصر جزءًا من الإستراتيجيات الأمنية الإقليمية. وليس المطلوب أن تدعم مصر الخيارات القائمة بل يجب أن تصبح جزءًا منها. وبهذا المعنى، فإن مصر تمثل ضمانة أمنية للخليج. وبطبيعة الحال، لا توجد في المنطقة رؤية رسمية واضحة بهذا الصدد. وهذا أمر يؤسف له.
وإضافة إلى دول الداخل الخليجي (أي أقطار مجلس التعاون لدول الخليج العربية)، فإن مصر معنية كذلك ببلورة تعاون أمني ودفاعي مع العراق، في الجزء الأعلى من الخليج العربي. فمصر معنية بدعم جهود العراق لتحقيق أمنه وتطوير قدراته الدفاعية المختلفة. وهذا يشمل أمورا عدة، من بينها دعم برامج تدريب الجيش، والتعليم العسكري، وبرامج التسليح، وتبادل الخبرات الأمنية والدفاعية، بما فيها تلك المرتبطة بأمن الحدود والأمن البحري.
إن مصر هي أكثر الدول العربية قدرة على دعم برامج إعادة البناء الأمني والدفاعي في العراق. وهي صاحبة خبرة في التعامل مع الأسلحة الشرقية والغربية على حد سواء. بل لا توجد في المنطقة دولة يمكنها القيام بهذا الدور على النحو الذي يمكن لمصر النهوض به. وهذا عامل قوة لمصر، وفرصة لا ينبغي تفويتها. فيما يرتبط بإيران، حيث الضفة الشرقية للخليج، فإن دول الداخل الخليجي لا يضيرها وجود علاقة احترام متبادل بين القاهرة وطهران. وهي لم تكسب شيئًا من التوتر الذي شاب هذه العلاقة لعقود من الزمن، بل إن الخليج قد دفع ثمن هذا التوتر، بالمعنى النفسي والسياسي على الأقل.
وما يمكن قوله خلاصة، على صعيد التصورات الخاصة بدور مصر الأمني في المنطقة، هو: إن مصر ليس مطلوبًا منها القيام بدور الوكيل أو الوسيط، بل دور الشريك الكامل. وقد آن الأوان للانتقال إلى هذه المرحلة. وعلى دول الخليج أن تبدأ ببلورة الآليات الكفيلة بالوصول إلى هذا الأمر. وثمة سؤال قد يطرحه البعض، ومفاده: هل ستسمح الولايات المتحدة بدور مصري أمني في الخليج؟
الحقيقة، أن مصر بعد ثورة 25 يناير/كانون الثاني أضحت أكثر أهمية في حسابات الولايات المتحدة، فهي دولة ديمقراطية، تحظى بدعم شعبي عربي من المحيط إلى الخليج، وكسبها يعني، بين أمور أخرى، كسب الرأي العام العربي. إن مصر قد ازداد، بهذا المعنى، وزنها الجيوبوليتيكي العام، ودورها في المنطقة يمثل عامل دعم لأية مقاربة دولية للأمن الإقليمي، فهي لا تشكل عبئا بل إضافة مطلوبة.
رابعًا: إحياء الدور العربي للأزهر الشريف
البُعد الرابع للتطلّع الخليجي نحو مصر الجديدة، هو بُعد ديني ثقافي، يرتبط بالأزهر الشريف، ودوره الوحدوي الجامع للأمة. والحقيقة، قد يكون الناس في دول الخليج، بما فيها العراق، هم الأكثر تلمسًا للدور الوحدوي الذي لعبه الأزهر الشريف، ونجح من خلاله في وأد الفتنة المذهبية بين السنة والشيعة. فقبل عقود مضت، كان للأزهر الشريف علاقاته النشطة مع المؤسسات الدينية في عموم إقليم الخليج، بما فيها تلك القائمة في إيران والعراق والبحرين. تلك العلاقات، التي لازال قسم منها مستمرًا، نجحت في ضبط إيقاع التباينات المذهبية، وحصرها في إطارها الفقهي.
ونجحت أطروحات الأزهر الشريف في نشر الثقافة الوحدوية الجامعة بين السنة والشيعة، وجعل تعايشهم وتعاونهم حقيقة قائمة؛ حيث نظر إلى ذلك باعتباره ضرورة دينية، فضلاً عن كونه ضرورة تتصل بمقتضيات الوحدة الوطنية والسلم الأهلي في الدول المعنية. في مقابل هذه الثقافة المتنورة، التي عمل الأزهر الشريف على نشرها، برزت ثقافة إقصائية تكفيرية، دفعت باتجاه نسف مرتكزات الوحدة الوطنية في دول المنطقة، وهددت السلم الأهلي فيها. بل إن الخليج كاد أن ينزلق، في منتصف العقد الماضي، إلى اقتتال مذهبي يطول كل ركن من أركانه.
وبطبيعة الحال، فإن موجة الغلو المذهبي قد خفت وتيرتها عما كانت عليه قبل سنوات خمس، إلا ان هذه الموجة لا تزال ترمي ببصماتها على الحياة الوطنية في عموم الخليج. وهي تتأثر، ضمن أمور أخرى، بالعنف المذهبي الذي تمارسه بعض الجماعات التكفيرية في باكستان. كما أن هذه الموجة يتم دعمها في بعض دول المنطقة لتحقيق مآرب معينة. لقد كان دور الأزهر الشريف يُمثل أحد تجليات نجاح مصر في المنطقة. والمطلوب اليوم إعادة هذا الدور إلى سابق ازدهاره وتوهجه.
إن الخليجيين ينظرون إلى دور الأزهر الشريف، الوحدوي الجامع، باعتباره إحدى ضرورات أمنهم القومي، فهذا الأمن لا يستقيم دون استقامة وحدتهم الوطنية، وهذه الوحدة لا تتحقق إلا بوضع التباينات المذهبية في إطارها الفقهي الحصري، ونبذ التوجهات التكفيرية والإقصائية، والتمسك بالثوابت والقيم الجامعة. وهذا تحديدًا ما ينشده الخليجيون من مصر الأزهرية. وما يُمكن قوله خلاصة، هو: إن رؤية متفائلة تسود قطاعا واسعا من الخليجيين تجاه مصر الجديدة، ومستقبل دورها في هذه المنطقة الحساسة من العالم. ويحدو الجميعَ الأملُ بأن تكون رهانات العرب على مصر في مكانها.
_______________
باحث وخبير إستراتيجي متخصص في شؤون النظام الإقليمي الخليجي