الحادي عشر من سبتمبر وتحديات الهيمنة الأمريكية

مهما كان 11 سبتمبر حدثا محوريا بالنسبة لأمريكا أقوى دولة في العالم فإن الظروف باتت تتيح مجالا واسعا للحرية بالنسبة للقوى الإقليمية والدولية، والعالم العربي بموقعه الإستراتيجي وثروته وحضارته جدير بالتموقع في هذا العالم المتشابك ولعل الثورات العربية تعطينا بعضا من الأمل.
2011102693551960734_2.jpg

لا شك أن الحادي عشر من سبتمبر /أيلول كان حدثا مأساويا بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية ولكثير من شعوب العالم، وهو حدث ستبقى آثاره مرتسمة في الوعي والضمير الجمعيين الأمريكيين لسنوات وربما لعقود قادمة، مثلما بقيت حادثة بيرل هاربر في 1941 حاضرة بقوة في ذاكرة الأمريكيين منذ ذلك الحين. هذه الحادثة التي تعرضت فيها القاعدة الأمريكية إلى هجوم من طرف سلاح الجو الياباني و أدت إلى مقتل 2009 جنديا أمريكيا، وكانت مسوغا لشن حرب موسعة ضد اليابان. وفعلا ليس من اليسير على الأمريكيين، ومن موقع شعورهم المفرط بالكبرياء والعظمة أن تتم مهاجمتهم وقتل مواطنيهم في عقر دارهم من طرف مجموعات عنفية صغيرة لا أحد كان يسمع عنها شيئا يذكر قبل ذلك. كما أن عصرنا الراهن المحكوم بنقل الصورة المباشرة والحية التي تهيمن عليها الولايات المتحدة الأمريكية إلى حد كبير قد ساهم في جعل حادثة الحادي عشر من سبتمبر /أيلول حاضرة بين جمهور الأمريكيين ومختلف شعوب العالم.

الحادي عشر من سبتمبر بين المحلي والعالمي

مهما كان مستوى فظاعة الحادي عشر من سبتمبر /أيلول، وعدم مشروعيته الأخلاقية والإنسانية إلا أنه يجب ألا يحجب عنا الحقائق التالية:

أولا: إن ما جرى في أمريكا، ومهما صاحبه من ضجيج إعلامي ومراسم حزن سنوية يشارك فيها كبار القادة السياسيين والعسكريين وتُجيش فيها المشاعر القومية، يظل حدثا محليا ولا يرتقي أن يكون حدثا كونيا بأية حال من الأحوال. لا يتعلق الأمر هنا بالتقليل من خطورة هذا العمل الإرهابي وأثره المحلي والعالمي، بقدر ما يتعلق بوضع الأمور في نصابها الصحيح وعدم السقوط في حبال التضخيم والتضليل، لمجرد أن الولايات المتحدة الأمريكية قد قررت أن تجعل من هذا الحادث "مركز" التاريخ الكوني، الذي يقسم بموجبه العالم: إلى "ما قبل" و"ما بعد"، أو بمجرد أن القاعدة قررت أن تسمي حادثة الحادي عشر من سبتمبر /أيلول بغزوتي نيويورك ومانهاتن.

ما جرى قبل سنوات هو حدث فظيع وخطير، فضلا عن كونه لا يبرر من ناحية القيم الأخلاقية والإنسانية، ولكن هذا لا يعني أنه حدث استثنائي وغير مسبوق في تاريخ البشرية، أو لم تتله أو لن تتلوه أحداث أكثر خطورة وأعظم أثرا في العالم وعلى مصائر الشعوب والأمم.

الحقيقة أن حجم الأعمال الإرهابية التي ترتكب في مناطق كثيرة من العالم وعدد ضحاياها يمثل عشرات أضعاف عدد القتلى الذين سقطوا في الولايات المتحدة الأمريكية نتيجة حادثة الحادي عشر من سبتمبر /أيلول، هذا دون أن نتحدث عن الكوارث الطبيعية والجوائح والمجاعات التي تعصف بشعوب كثيرة من العالم وتخلف وراءها آلاف القتلى دون أن يلقى لها بال أصلا. فالصومال وبعض دول القرن الأفريقي التي تكابد اليوم شبح المجاعات والأوبئة ويسقط فيها يوميا مئات الضحايا، قل وندر أن تحضر أخبارها في شاشات التلفاز وعدسات الكاميرا الأمريكية والغربية. بل إن عدد الضحايا الذين سقطوا في الولايات المتحدة الأمريكية نفسها خلال العشرية الأخيرة نتيجة فيضان كاترينا مثلا وغيره لا يقارن بعدد القتلى الذين سقطوا في أحداث الحادي عشر من سبتمبر /أيلول، ومع ذلك لم تحظ بذات القدر من طقوس الحزن والمراسم وإشعال الشموع . صحيح أن الولايات المتحدة الأمريكية وبسب سطوتها الإعلامية الهائلة وسيطرتها على العدد الأكبر من الفضائيات العالمية ووكالات الأنباء والمجلات والصحف العابرة للحدود والقارات تريد أن تجعل من هذا الحدث مركزَ التاريخ وموضعَ اهتمام كل العالم، ولك أن تقول: تحوله إلى مأتم عالمي، مطلوب أن تشارك فيه جموع البشرية بقاراتها الخمس، ولكن ثمة فرق بين ما تريده أمريكا وما ترغب فيه، وبين التقدير الموضوعي لحجم الأحداث والأفعال في ميزان التاريخ.

ثانيا: إن العالم الإسلامي قد ناله نصيب من الأذى أكبر مما نال الولايات المتحدة الأمريكية نفسها بعد الحادي عشر من سبتمبر /أيلول، كما أن عدد ضحاياه فاق بكثير عدد ضحايا الولايات المتحدة الأمريكية. فالذين سقطوا في الولايات المتحدة الأمريكية نتيجة أعمال القاعدة في الحادي عشر من سبتمبر /أيلول يعد نزرا مقارنة بما سقط في بالي والدار البيضاء والجزائر والمدن الباكستانية والأفغانية وغيرها.

ثالثا: إن الولايات المتحدة الأمريكية التي وضعت نفسها في موضع الضحية البريئة قد انتقلت بسرعة إلى موقع المعتدي، فهي قد أشفت غليلها باحتلال بلدين مسلمين في مدة لا تزيد عن ثلاث سنوات من أحداث الحادي عشر من سبتمبر /أيلول وجعلت شعوب المنطقة برمتها تدفع ثمنا باهظا من دمائها واستقرارها وثرواتها بما يفوق بكثير ما دفعته الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها الغربيون. فقد وصل عدد قتلى أفغانستان الذي خضع للاحتلال الأمريكي بعد بضعة أيام من الحادي عشر من سبتمبر /أيلول إلى الآلاف، ما يزيد عن عشرين ألفا، منهم لقوا حتفهم في غضون سنة من الغزو بحسب دراسة أجرتها صحيفة الغاردين البريطانية. وفي العراق قدرت مجلة اللانست (Lancet) عدد القتلى في يوليو 2006، أي بعد 3 سنوات من اجتياحه، بنحو 645,965 قتيلا، هذا دون أن نتحدث هنا عما جلبه الاحتلال الأمريكي لهذين البلدين المسلمين من دمار على مستوى النسيج الاجتماعي والسياسي والوضع التنموي. فالعراق الذي كان إلى وقت قريب يعد من أكثر دول المنطقة رخاء وثراء، قد أدخله الأمريكان حقبة الحروب الطائفية المدمرة ونزلوا به إلى قاع الفقر والأمية والتخلف، بعدما كان يشغل موقعا متقدما بين دول المنطقة على صعيد التعليم والصحة والبنية الأساسية وغيرها.

ما أردت قوله هنا أن التداعيات الكبرى لأحداث الحادي عشر من سبتمبر /أيلول كانت تجري على الأرض العربية والإسلامية أكثر مما كانت تجري على الأرض الأمريكية، وكان ضحاياها عربا ومسلمين تحت نير الحروب والتدخلات العسكرية الأمريكية. هذا دون أن نتحدث عن موجة الكراهية وشيطنة الإسلام والمسلمين التي أطلقت من عقالها سواء في العواصم الغربية أو في مختلف بلدان العالم.

الحادي عشر من سبتمبر ومشروع الهيمنة

عمل المحافظون الجدد الذين تسلموا مقاليد الأمور في البيت الأبيض قبل بضعة أسابيع فقط من الحادي عشر سبتمبر/ أيلول 2001 على تحويل هذا الحدث المأساوي، مبررا لفرض عقيدتهم الأمنية والسياسية الجديدة القائمة على فرض الهيمنة العالمية والحروب الاستباقية بذريعة مواجهة الإرهاب في مواطنه قبل أن يقوى عوده، ومن ثم مراجعة بنية العلاقات الدولية على النحو الذي استقرت عليه منذ الحرب العالمية الثانية والتي كانت تقوم على احترام سيادة الدول وعدم استخدام القوة إلا من موقع الردع والدفاع عن النفس. لقد رأى فريق المحافظين الجدد في الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول فرصة ذهبية لوضع مشروعهم في صنع قرن أمريكي جديد موضع تنفيذ على نحو ما كانوا يبشرون به منذ تسعينات القرن الماضي، وتحديدا بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، وضمن هذا السياق جاء احتلال أفغانستان ومن بعده العراق، ثم اغتيال عرفات وإطلاق يد الحليف الإسرائيلي لفرض الاستيطان واغتصاب الأرض والتنصل من كل الاتفاقيات التي تم توقيعها برعاية أمريكية، وكل ذلك كان يجري تحت عنوان كبير اسمه مقاومة الإرهاب. بيد أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول بقدر ما مثلت فرصة تاريخية للمحافظين الجدد لوضع نظريتهم السياسية في فرض الانفرادية والهيمنة موضع التطبيق على الأرض في العراق وأفغانستان وفلسطين وعموم المنطقة، بقدر ما كانت مصيدة للقوة الأمريكية نفسها، ولعل هذا يدخل ضمن ما اسماه الفيلسوف الألماني هيجل بمكر التاريخ. فقد تحول احتلال أفغانستان ومن بعدها العراق إلى كارثة على أرواح الجنود الأمريكيين وعبء ثقيل على الاقتصاد الأمريكي نفسه بدل أن يكون مصدر ضخ مالي وبترولي هائل وبدل أن يكون مصدر تعزيز لوضع الريادة الأمريكية في العالم. ذهب ظن وزير الدفاع الأمريكي رامسفيلد ومجموعة المحافظين الجدد من حوله، إلى أن احتلال هذين البلدين سيكون لقمة سهلة وسائغة، وسيتقبل الجنود الأمريكيين في بغداد بالورود والزهور ولكن العراقيين خيبوا ظنه، إذ انطلقت المقاومة العراقية في اليوم الأول من سقوط بغداد.

إذا تجاوزنا الاعتبارات الأخلاقية والإنسانية التي تتعلق بمبدأ الاحتلال، فإن اندفاع الجيوش الأمريكية نحو المنطقة المسماة بالشرق الأوسط مثل خطأ استراتيجيا قاتلا بالنسبة للقوة الأمريكية، لأنه صرف اهتمام الأمريكان عن مواطن التهديد العسكري الفعلي لصالح التركيز المبالغ فيه على دول صغيرة أو متوسطة الحجم في أحسن الحالات، ولا تمثل أي تهديد عسكري جدي للولايات المتحدة الأمريكية. لا أحد يستطيع أن يقول مثلا إن أفغانستان التي ينهشها الفقر والبؤس والحروب الداخلية، أو العراق الذي كان يعاني من مخلفات حرب الخليج الثانية المدمرة، والخاضع أصلا للحصار الاقتصادي والحظر الجوي على امتداد سنوات طويلة كان بمقدورهما أن يشكلا خطرا حقيقيا على القوة العسكرية الأمريكية الضاربة. بيد أن غريزة الهيمنة قد أعمت الأمريكان عن النظر بجدية للتوازنات الدولية وجعلتهم يتورطون في سلسلة من الحروب المكلفة، تحولت بعامل الوقت إلى فخ كبير، وأداة استنزاف لقدراتهم العسكرية والاقتصادية ولموقعهم في المعادلة الدولية، فضلا عن سمعتهم في الخارج بسبب ما ارتكبوه من انتهاكات فاضحة بحق المساجين وشعوب المنطقة.

وفي حين غاص الأمريكان في مستنقعي أفغانستان والعراق تمكن الصينيون من تعزيز وضعهم الاستراتيجي على الصعيدين العسكري والاقتصادي، كما تمكن الروس من استعادة الكثير من مواقعهم التي افتقدوها بعد تفكك الاتحاد السوفييتي وخصوصا في فنائهم الخلفي في منطقة القوقاز وآسيا الوسطى، بل لم يتردد الروس في تأديب شاكسفيليفي جورجيا على مغامراته العسكرية، من غير أن يقدر حلفاؤه الأمريكان الغارقين في سلسلة حروبهم الفاشلة على إغاثته أو حمايته.

باختصار شديد إذا وضعنا جردا تفصيليا لحصيلة ما كسبه الأمريكان من حروبهم الاستباقية وتدخلاتهم العسكرية التي تلت الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول، فلن نجد غير سلسلة من الخيبات والفشل، مضاف إلى ذلك الأزمة الاقتصادية العاصفة التي ضربت الاقتصاد الأمريكي في العمق سنة 2008 و لم تتخلص من مضاعفاتها وآثارها إلى يومنا هذا، بل هي تصارع اليوم شبح عاصفة اقتصادية ثانية قد تكون أشد أثرا ووطأة. أما إذا نظرنا إلى الساحة العالمية، فإن الحقيقة التي لا تخطئها العين هو أن الهيمنة الأمريكية على العالم تبدو في حالة تراجع مستمر وأن النظام الدولي قد غدا أكثر تعددية قطبية من أي وقت مضى. الصين تسجل اليوم نجاحات اقتصادية وعسكرية متزايدة، وهي باتت تحتل اليوم المرتبة الاقتصادية الثانية بعد الولايات المتحدة الأمريكية بعدما تمكنت من التقدم على حساب فرنسا وألمانيا وأخيرا اليابان، بل ليس من قبيل المبالغة القول إن الثروة تتجه اليوم تدريجيا من منطقة الأطلس الأمريكي إلى جنوب شرق آسيا، كما أنه في ظل تراجع الهيمنة الأمريكية على العالم تمكنت قوى أخرى من خارج الفضاء الغربي من ممارسة دور نشيط وحضور متزايد على الصعيد العالمي مثل الهند والبرازيل وتركيا وإيران وغيرها. صحيح أن الولايات المتحدة الأمريكية ستظل قوة عظمى ومؤثرة سواء كان ذلك بالمقاييس الديمغرافية أو الاقتصادية أو العسكرية، ولكن ما هو مؤكد هنا أن عصر الهيمنة الانفرادية الأمريكية قد ولى إلى غير رجعة، وأننا نسير حتما باتجاه عالم أكثر تعددية قطبية، عالم يتيح مجالا للحركة والمبادرة بما في ذلك أمام دول إقليمية متوسطة الحجم مثل تركيا وإيران، والفضل في كل ذلك يعود إلى قصر النظر الأمريكي والأخطاء الاستراتيجية التي كلفت الولايات المتحدة غاليا. ولعل الدرس المستخلص من كل ذلك، والذي يعنينا نحن العرب هو أن الظروف الدولية الراهنة باتت تتيح مجالا واسعا للحرية والنشاط أمام مختلف القوى الإقليمية والدولية، والعالم العربي بما يمتلكه من موقع حساس وثروة هائلة وميراث حضاري عميق جدير بأن يفتك له موقعا متقدما في هذا العالم المتشابك والمعقد، ولعل موجة الثورات العربية، تعطينا بعضا من الأمل في استعادة الوعي التاريخي المطلوب.
ـــــــــــــــ
سمية الغنوشي-باحثة في شؤون الشرق الأوسط و شمال إفريقيا بجامعة لندن 

نبذة عن الكاتب