شرطة مكافحة الشغب تواجه متظاهرين يحتجون ضد منتدى دافوس الاقتصادي العالمي بسويسرا في يناير/ كانون الثاني الماضي (الأوروبية-أرشيف) |
يعيش ناخبو الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي حالة من الغضب مع استمرار الأزمة الاقتصادية واتباع سياسة التقشف التي تفرضها أزمة الديون المتضخمة. ولعل نتيجة الانتخابات الرئاسية الأخيرة في فرنسا والتي جاءت بفرانسوا هولاند من الحزب الاشتراكي وأطاحت بمنافسه الرئيس السابق نيكولا ساركوزي من حزب الاتحاد من أجل حركة شعبية تعتبر نموذجا لحالة الغضب التي نتحدث عنها، كما تعتبر نتائج الانتخابات العامة في اليونان شاهدا على ذلك أيضا، إذ عصفت تلك الانتخابات بأكبر حزبين سياسيين سادا البلاد منذ عام 1974. وكذلك لا يمكن إغفال نتائج الانتخابات التي جرت من قبل في أسبانيا والتي ألحقت الهزيمة باليساريين وحزبهم (الحزب الاشتراكي) لصالح المحافظين (الحزب الشعبي). وكذلك في البرتغال وإيطاليا، ناهيك عن الانتخابات المحلية التي جرت مؤخرا في ولاية نورث راين فيستفاليا بألمانيا حيث تكبد الحزب المسيحي الديمقراطي الحاكم هزيمة كبيرة قبل 18 شهرا من الانتخابات العامة.
التصويت الاحتجاجي
ولم تستطع النخبة السياسية الحاكمة في أوروبا أن تغير من سياساتها بما يرضي هذا الجمهور الغاضب، فعلى سبيل المثال، وعد الرئيس الفرنسي السابق ساركوزي الناخبين بأنه سيتبع نهجا سياسيا مختلفا في ولايته الثانية في حال إعادة انتخابه لكن الناخبين لم يقتنعوا ولم يصدقوا هذا الوعد. والحال نفسه لم يختلف كثيرا في اليونان التي قلَّت فيها أسهم الأحزاب التقليدية وانخفضت شعبيتها. ويأتي هذا التخبط بالتزامن مع ظهور أحزاب جديدة وتعزيز مواقف أحزاب قديمة... ففي فرنسا عادت للنشاط جبهة اليسار التي يرأسها جون لوك ميلونشون، كما عاد للظهور بقوة حزب الجبهة الوطنية اليميني المتشدد الذي تتزعمه مارين لوبان واللذان أحرزا نتائج متقدمة في الانتخابات الرئاسية الأخيرة. ولعل أكثر الأمور المثيرة للاهتمام في الانتخابات التي شهدتها بعض البلدان الأوروبية مؤخرا صعود الأحزاب التي تنتمي إلى أقصى اليمين أو أقصى اليسار، بعد أن أصبح الناخبون- الذين يشعرون بأنهم محرومون بشكل دائم من حقوقهم -على استعداد للتصويت "احتجاجيا" للحزب الذي يغلب على ظنهم أنه سيمنحهم تلك الحقوق المسلوبة. وهؤلاء الناخبون ينحون باللائمة في تردي أوضاعهم المعيشية على السياسات التي أدت إلى تراجع النمو الاقتصادي والزيادة الكبيرة في معدلات البطالة.
ففي الوقت الذي يتهم أقصى اليسار الرأسمالية المتوحشة ويوصي بالثورة فإن أقصى اليمين يلقي بالمسؤولية على المهاجرين ويدعو إلى طردهم، بالرغم من أن النظام الشيوعي المناهض للرأسمالية والذي انتمت له نصف بلدان أوروبا- والتي حملت اسم "الكتلة الاشتراكية"ـ لعدة عقود في القرن الماضي أثبت فشله، وكذلك لم يؤد طرد المهاجرين من أوروبا في القرن الماضي إلى تحسن في الظروف المعيشية في ظل أوضاع اقتصادية متباطئة، ونظم رفاهية فاشلة.
وتساهم الانتخابات التشريعية والرئاسية التي يتم تنظيمها في أوروبا في تغير تدريجي للخريطة السياسية في تلك القارة، حيث يعمد الناخبون -ولا سيما الشباب والفئات الاجتماعية المتضررة من الأزمة الاقتصادية والمهمشة- إلى البحث عن قيادات جديدة قادرة على تقديم رؤى وأفكار جديدة تكفل لهم الخروج من هذه الأزمة الاقتصادية الطاحنة، بالرغم من أن نتائج الانتخابات يمكن أن تسفر عن صعود متشددين سياسيين مثلما كان الوضع مع اليونان، حيث تدعي الأحزاب السياسية الجديدة إمكانية تجميد إجراءات التقشف التي وافقت عليها حكومة التكنوقراط الحالية مع الاستمرار في الحصول على الدعم المالي الذي تقدمه لها دول مجموعة اليورو بدعم من صندوق النقد الدولي. كما تمخضت الأزمة الاقتصادية التي تعصف بأوروبا منذ نهاية عام 2008 والأوضاع الاجتماعية المتردية نتيجة لزيادة معدلات البطالة عن ظهور حركة "الغاضبون" التي دعت الشعوب من أميركا وأوروبا إلى آسيا وإفريقيا إلى الانتفاض للمطالبة بحقوقها في ديمقراطية حقيقية في مواجهة نظم حاكمة تعمل لمصلحة أقلية متجاهلة إرادة الأغلبية. وبالرغم من أن هذه الحركة لا زالت تفتقد القيادة إلا أنه تم الاتفاق في 15 أكتوبر/ تشرين الأول 2011 على التوجه إلى بروكسل عاصمة الاتحاد الأوروبي في إطار مظاهرة "متحدون من أجل تغيير عالمي"، وشارك فيها نشطاء الحركة، وانضم إليهم آلاف الأوروبيين القادمين من عدة دول من بينها فرنسا وهولندا وأسبانيا للاحتجاج على إجراءات التقشف، وللمطالبة بالتغيير وتفعيل ديمقراطية حقيقية، وبناء اقتصاد يراعي البعد الاجتماعي والبيئي والتنمية المستدامة، على أساس العدالة الاجتماعية، وطرح حلول فعالة لمكافحة البطالة. ويتسم الناشطون والمشاركون في حركة "الغاضبون" السلمية بصغر أعمارهم وارتفاع مستوى تعليمهم مع تزايد شعورهم بالرفض لمجتمع يرون أنه أصبح نخبويا وفاسدا، ولكنهم استطاعوا بث الرهبة والقلق لدى حكومات العالم الغربي بالرغم من أنهم يفتقدون -حتى الآن- الشكل السياسي، حيث يلمس العديد من المحللين الاجتماعيين وجود تشابه كبير بين هذه الحركة وثورات الربيع العربي من حيث الاعتماد على التواصل عبر الشبكات الاجتماعية على الإنترنت واتخاذ القرار بشكل جماعي وليس فردي.
معالجة الأزمة
وقد فشل الزعماء الأوروبيون في تفادي انتقال الأزمة المالية من دولة إلى أخرى حيث تفشت من اليونان إلى أيرلندا والبرتغال والمجر قبل أن تضرب إيطاليا وأسبانيا بالرغم من كثرة القمم العادية والاستثنائية التي تم تنظيمها على مدى السنوات الثلاثة الماضية بخلاف الاجتماعات التي أجريت على الصعيدين :الثنائي، خاصة بين ساركوزي وميركل، ومتعدد الأطراف دون أن ينجحوا في إعادة الهدوء إلى الأسواق لغياب الحلول السريعة والحاسمة، في الوقت الذي تستمر المفوضية الأوروبية التي تعتبر الجهاز التنفيذي للاتحاد الأوروبي في خفض توقعاتها للنمو الاقتصادي في الاتحاد الأوروبي لعام 2012.
متظاهرون يتمركزون بخيمهم حول شعار اليورو في ألمانيا في نوفمبر 2011 احتجاجا على احتمال انهيار اليورو (الأوروبية - أرشيف) |
وربما يعتبر اجتماع رؤساء دول وحكومات الاتحاد الأوروبي في بروكسل في 23 مايو/أيار 2012 علامة فارقة بالرغم من أنه لم يسفر عن قرارات لقيامهم لأول مرة بطرح السبل الكفيلة بتجاوز هذه الأزمة ومن بينها مسألة إصدار" سندات مجموعة اليورو" التي تعتبر حجر العثرة أمام الاتفاق بين ألمانيا وفرنسا باعتبارهما الدولتين اللتين شكلتا دوما القاطرة التي تدفع دائما الاتحاد الأوروبي إلى الأمام، وهي فكرة تهدف إلى المشاركة في تحمل أعباء الديون التي تتجاوز نسبة الستين في المائة من الناتج المحلي الإجمالي داخل منطقة اليورو، وتساندها أغلب دول المنطقة وعلى رأسها فرنسا وإيطاليا وأسبانيا وبلجيكا التي تعتقد في فشل اتحاد نقدي يفتقد وحدة القرار السياسي والتحمل المشترك للأعباء، في الوقت الذي تعارضها ألمانيا وهولندا وفنلندا والسويد الذين يرون أن سندات اليورو المقترحة لا تشكل حافزا للدول ذات الوضع الاقتصادي الهش على ضبط ميزانياتهم.
وفي المقابل تعتزم ألمانيا طرح خطة من ست نقاط ترتكز على تعزيز الإصلاحات الاقتصادية الهيكلية في أوروبا من خلال بيع شركات القطاع العام، والتخلص من جميع الإجراءات الحمائية والقواعد المقيدة للشركات، وإقامة مناطق اقتصادية خاصة مما يمكن تلخيصه في تطبيق النموذج الاقتصادي الألماني في جميع أنحاء أوروبا.
وتتجه جميع الأنظار في الوقت الحالي إلى المستشارة الألمانية التي تدعو لمزيد من التقشف والرئيس الفرنسي الجديد الذي يطالب بسندات اليورو ومزيد من إقدام الدول المديونة على الاقتراض المباشر من البنك المركزي الأوروبي للوصول سريعا إلى حل وسط يسمح بإنقاذ العملة الموحدة لمجموعة اليورو التي تتجه إلى الهاوية، بالرغم من أن المؤشرات تتجه إلى اعتزام ميركل مقاومة هذا التوجه والموافقة فقط على ضخ مزيد من الأموال من الشمال باتجاه الجنوب أسوة بالنمط الذي فعلته ألمانيا الغربية عند اتحادها مع ألمانيا الشرقية في عام 1990. والأمر لا يعني في الواقع تشدد من قبل ألمانيا ولكنه بالأحرى عبارة عن فلسفتين اقتصاديتين مختلفتين بين دول جنوب أوروبا من جانب ودول شمال أوروبا من جانب آخر، الأولى ترتكز على تدخل مستمر وقوي للدولة، والثانية تعتمد على الإصلاحات الهيكلية والتخلص من القيود التي تعيق الشركات.
من جانب آخر، يشكل الموقف الذي ستتبناه اليونان بشأن بقائها داخل مجموعة اليورو تحديا آخر، وذلك في حالة مواصلتها تنفيذ إجراءات الإصلاح الاقتصادي والمالي الذي تراقبه المفوضية الأوروبية والبنك المركزي الأوروبي بالاشتراك مع صندوق النقد الدولي، خاصة مع التسهيلات الجديدة التي اتفق عليها زعماء أوروبا مؤخرا بزيادة المهلة الزمنية اللازمة لتسديد القروض، ولكن هذا الأمر يتطلب إرادة سياسية كبيرة من الناخبين بعدم الوقوع في الفخ الذي تنصبه الأحزاب المتشددة بعد انهيار الحزبين التقليديين الاشتراكي والمحافظ وظهور أحزاب سياسية جديدة قادرة على استعادة المصداقية ومعاقبة الفاسدين وإعطاء الأمل للمواطنين في قدرة الاقتصاد اليوناني على استعادة قوته والمنافسة.
وتأتي هذه التداعيات في الوقت الذي يشهد الجهاز التنفيذي للاتحاد الأوروبي (المفوضية برئاسة البرتغالي جوزيه مانويل باروسو في تفويضه الثاني ) حالة من الضعف والتشرذم والانقسامات لم تعرفها المؤسسات الأوروبية من قبل حيث فقدت حق المبادرة الذي كان يمكنها من استباق الأزمات وتلافيها، وكذلك لم تعد قادرة على القيام بدور الوسيط لضعف موقف باروسو داخل مجلس المفوضية نتيجة للاختلافات في الرأي بين أعضائه، وفي المقابل نجد أن رئيس المجلس الأوروبي هرمان فان رومبوي يسعى لمد صلاحياته وإرضاء جميع الأطراف ولكنه سيحتاج في نهاية الأمر للدعم الفرنسي الألماني لإنجاح مسعاه.
السيناريوهات المطروحة في الوقت الحالي في منطقة اليورو لا تخرج عن مسارين: الأول يرنو إلى التوصل لاتفاق "قوي" يجمع بين الموقفين الألماني والفرنسي، والثاني يهدف إلى التوصل لاتفاق "ضعيف" لا يعيد الثقة في الأسواق الأوروبية، وإنما يطيل أمد المحنة التي قد تفضي إلى انهيار مجموعة اليورو، وهو ما سيكون له نتائج سلبية على الجميع بما في ذلك ألمانيا.
___________________________
طارق محمود - باحث متخصص في الشؤون الأوروبية، المدير السباق لمكتب وكالة أنباء الشرق الأوسط لدى الاتحاد الأوروبي ومنظمة حلف شمال الأطلسي.