كان الانقلاب العسكري الأول عام 1908 هو الانقلاب الذي أعلن الدستور العثماني عام 1908، وخلع السلطان "عبد الحميد الثاني" وأجلس ضباط جمعية الاتحاد والترقي في سدة الحكم، إلى أن زجوا بالدولة العثمانية في أتون الحرب العالمية الأولى، وخرجت منها منهزمة ممزقة الأشلاء.
كان في عقيدة الضابط العثماني أن الجيش هو الأب الشرعي للدستور، وورث الضابط الجمهوري عقيدة الضابط العثماني؛ إذ إن العسكر هم من أسسوا تركيا الحديثة ونظامها الجمهوري، وهم كذلك من وضعوا دساتيرها إلى الآن بداية من دستور 1924، ثم دستور 1961، وانتهاءً بالدستور الحالي 1982.
مدخل: حزب العدالة والتنمية.. تفكيك القبضة الحديدية
ثمة عدّة عوامل أدت متضافرة إلى نجاح حزب العدالة والتنمية في أول انتخابات برلمانية خاضها عام 2002. ومن هذه العوامل ما يخص الشأن الداخلي، والأخرى تتعلق بالمتغيرات العالمية، لاسيما حاجة المجتمع الدولي ممثلاً في الولايات المتحدة وأوروبا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول إلى تبلور وانتشار تيار إسلامي وسطي مَرِن، قادر على ضبط معادلة القوى السياسية في منطقة الشرق الأوسط في إطار "مشروع الشرق الأوسط الكبير".
وكما خدمت المتغيرات الدولية والمحلية حزب العدالة والتنمية في فوزه بالانتخابات فإن وقوف تركيا على عتبة بدء مفاوضات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي كان أيضًا "حصان طروادة" الأردوغاني الذي حقق به برنامجه الإصلاحي في تركيا.
فقد امتطى رئيس الحكومة التركية ورئيس حزب العدالة والتنمية رجب طيب أردوغان ذلك الجواد نحو الوفاء بمعايير كوبنهاجن من أجل الموافقة على بدء المفاوضات مع تركيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وهو يعلم أنه بهذا الشكل بات مدعومًا دعمًا قويًّا؛ إذ إن الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي "مطلب قومي أتاتوركي" في الأساس ثم هو مطلب النُخب العلمانية بمختلف أطيافها، وأخيرًا هو أيضًا مطلب شعبي من أجل حياة اقتصادية أكثر رفاهية.
وعلى الجانب الآخر فإن المؤسسة العسكرية كانت تدرك تمامًا أن انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي يُعَد سحبًا لكافة سلطاتها السياسية ولقوتها الاقتصادية الخاصة، ويعني أيضًا إعادة تنظيم وضعيتها الدستورية وفق المعايير الأوروبية. غير أنها لم يكن باستطاعتها البوح بذلك، والجهر بمعارضتها لمطلب قومي أتاتوركي، وبالتالي فهي لن تقف حائلاً أمام الإصلاحات التي سيقوم بها حزب العدالة والتنمية وفق متطلبات برنامج الإصلاح الأوروبي.
ومن ثم أخذ أردوغان خطوات جادة واضحة محددة نحو إعادة هيكلة مؤسسات تركيا وتشريعاتها الدستورية والقانونية للتواؤم مع معايير كوبنهاجن نحو ترسيخ قيم الديمقراطية وتعزيز دولة القانون. وعليه قام رجال القانون الأتراك بصوغ عدد من القوانين الجديدة التي يتم بمقتضاها إجراء تعديلات دستورية أو قانونية، وأُطلق عليها "حزم قانونية للتواؤم مع الاتحاد الأوروبي"، بلغ مجموعها سبع حزم قانونية.
أولاً: الجيش والسياسة.. خطوات في المسار الديمقراطي
كان الاتحاد الأوروبي يتابع عن كثب الأوضاع السياسية والاجتماعية والقانونية في تركيا. وما أن شرعت تركيا في اتخاذ خطوات جادة للوفاء بمعايير كوبنهاجن شرع الاتحاد الأوروبي أيضًا في إعداد "تقارير متابعة" لأداء تركيا. ويمكن القول: إن مضامين هذه الوثائق والتقارير قد تركزت حول أوجه القصور في العملية الديمقراطية التركية، ولاسيما "نفوذ المؤسسة العسكرية في الحياة السياسية في تركيا".
وكانت تقارير الأداء التي أعدها الاتحاد الأوروبي منذ عام 1998 حتى عام 2001 قد ركزت على توجيه النقد للدور البالغ الذي يلعبه الجيش في الحياة السياسية من خلال مجلس الأمن الوطني. أما المذكرة الأوروبية لعام 2002 فقد طالبت بوجوب إعادة تنظيم "مجلس الأمن الوطني" دستوريًّا وفق المعايير الأوروبية وتحويله إلى مؤسسة استشارية في خدمة الحكومة، كما وعدت بأن تبدأ مفاوضات بانضمام تركيا للاتحاد الأوروبي فور انتهاء تركيا من إنجاز طلبات الاتحاد الأوروبي.
وعليه فقد جرت تعديلات دستورية في 30 أكتوبر/تشرين الأول 2001 شملت (37) مادة دستورية كان من ضمنها المادة (118) الخاصة بمجلس الأمن الوطني؛ فوسعت التعديلات من عدد أعضاء مجلس الأمن الوطني؛ حيث تم إدراج عضوية وزير العدل ونائبي رئيس الوزراء، وهي إضافة رجحت كفة المقاعد المدنية داخل المجلس من الناحية العددية. كما شملت التعديلات طبيعة قرارات مجلس الأمن الوطني؛ فتم إلغاء نص "يراعي مجلس الوزراء قرارات المجلس بعين الاعتبار الأولى"، وتحول إلى "يقوم مجلس الوزراء بتقييم قرارات مجلس الأمن الوطني".
ولا ريب أن تلك التعديلات التي جرت على مجلس الأمن الوطني تُعد "طفرة عكسية" في العلاقة بين العسكريين والمدنيين؛ إذ إن مجلس الأمن الوطني منذ أن تشكل في دستور 1960 كانت السمة الغالبة على التعديلات التي جرت عليه في دستور 1960 وتعديلات 1971، ودستور 1982 هي تعزيز النفوذ العسكري داخل المجلس من حيث بنية المجلس الداخلية، وطبيعة قراراته.
ومع وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة قامت حكومة أردوغان في بدايات عام 2003 باستصدار حزم قانونية جديدة بهدف إعادة هيكلة المؤسسات، واستصدار تشريعات متوافقة مع معايير كوبنهاجن، غير أن الحزمة القانونية السابعة التي صادق عليها البرلمان التركي في 30 يوليو/تموز 2003م كانت نقطة التحول الأقوى في العلاقة بين العسكريين والمدنيين داخل مجلس الأمن الوطني وأمانته العامة؛ حيث استهدفت الحد من دور المؤسسة العسكرية في الحياة السياسية من خلال تقليص وضعيته الدستورية والقانونية.
ولقد تناولت التعديلات الخاصة بمجلس الأمن الوطني وأمانته العامة محورين يفضي كلاهما إلى تقليص وضعية المؤسسة العسكرية داخل الحياة السياسية التركية؛ وهما إلغاء هيمنة المؤسسة العسكرية على بنية مجلس الأمن الوطني، وتقليص سلطات المجلس التنفيذية.
فقد تم تعديل المادة (15) من قانون مجلس الأمن الوطني وأمانته العامة؛ حيث تم إلغاء البند الخاص بوجوب تعيين الأمين العام لمجلس الأمن الوطني من بين أعضاء القوات المسلحة برتبة فريق أول أو فريق أول بحري لتنص بعد تعديلها على إمكانية تولي شخصية مدنية لمنصب الأمين العام للمجلس.
وبالفعل، فمع انتهاء فترة ولاية الأمين العام للمجلس تم تعيين "محمد البوغان" في 17 غسطس/آب 2004، ليكون بذلك أول شخصية مدنية تتولى منصب الأمين العام لمجلس الأمن الوطني.
وبتعديل المادة الخامسة أيضًا أصبح انعقاد المجلس الدوري مرة كل شهرين بدلاً من مرة كل شهر. كما أن التعديل الذي جرى على المادتين (4) و(13)، وكذلك إلغاء المواد أرقام 9 و14 و19 من القانون ذاته قد قلَّص بشكل واضح من سلطات المجلس وأمينه العام.
وقد تم تعديل المادة الرابعة التي كانت تُكلف المجلس وأمانته العامة بمهام المتابعة والتقييم الدائم لعناصر القوى الوطنية، وكذلك متابعة أوضاع الدولة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتقنية انطلاقًا من أن المجلس هو الحامي للنظام الدستوري، والقائم على توجيه القيم الوطنية نحو المبادئ الأتاتوركية؛ فاقتصرت المادة الرابعة بعد تعديلها على أن مهمة المجلس هي رسم وتطبيق سياسة الأمن الوطني، وأن يقوم مجلس الأمن الوطني بإخبار مجلس الوزراء بآرائه ثم ينتظر ما يسند إليه من مهام ليقوم بتنفيذها ومتابعتها.
وبهذه الكيفية يكون مجلس الأمن الوطني وأمانته العامة قد تحولا إلى جهاز استشاري وفقدا إلى حدٍّ كبير وضعيتهما التنفيذية.
كما أن المادة رقم (13) التي تحدد مهام الأمانة العامة لمجلس الأمن الوطني قد تم تعديلها أيضًا على نحو جعلها تفقد دورها الرقابي ومبادرتها في إعداد قرارات مجلس الأمن الوطني ووضع الخطط والمشروعات للوزارات والهيئات والمؤسسات؛ لتصبح مهمة الأمانة العامة لمجلس الأمن الوطني قاصرة فقط على "تنفيذ ما يكلفها به المجلس من مهام".
أما إلغاء المواد أرقام 9 ، 14، 19 فقد سحب من الأمانة العامة لمجلس الأمن الوطني حقها في الحصول على المعلومات والوثائق السرية بكل درجاتها عند طلبها من الوزارات والمؤسسات العامة والهيئات ورجال القانون.
كما تم إجراء تعديل على المادة رقم (30) من قانون الجهاز المحاسبي التي كانت تعفي الكوادر العسكرية من الخضوع للرقابة المالية؛ لتصبح المؤسسة العسكرية وكوادرها خاضعين لإشراف ومراقبة الجهاز المركزي للمحاسبات.
كما تم إجراء تعديل دستوري بتاريخ 7 مايو/أيار 2004 على المادة 131 الخاصة بالمجلس الأعلى للتعليم حيث تم إلغاء عضوية الجنرال العسكري من داخل مجلس إدارة المجلس الأعلى للتعليم.
وبتعديل دستوري آخر في أغسطس/آب 2004 تم إلغاء الفقرة الخاصة بعضوية الجنرال العسكري داخل اتحاد الإذاعة والتليفزيون. وبهذا أصبح، ولأول مرة، المجلس الأعلى للتعليم، واتحاد الإذاعة والتليفزيون مؤسستين مدنيتين بالمعنى التام، دون وجود أي رقيب عسكري.
وشملت التعديلات الدستورية والقانونية أيضًا السماح برفع الدعاوى القضائية لاستجواب ومقاضاة الجنرالات القدامى بشأن قضايا الفساد، والسماح للعسكريين بالإدلاء بالتصريحات الإعلامية فقط في المجالات التي تتناول الشأن العسكري والأمني، وتحت إشراف السلطة المدنية أيضًا، وكذلك تم إلغاء إمكانية محاكمة المدنيين داخل المحاكم العسكرية.
غير أن قرار حزب العدالة والتنمية بترشيح وزير الخارجية عبد الله غول لمنصب رئيس الجمهورية قد أثار مخاوف رئاسة الأركان، ودفعها لنشر بيان على موقعها الإلكتروني في 27 إبريل/نيسان 2007 أبدت فيه تخوفها على مصير الجمهورية العلمانية. فما كان من أردوغان إلا أن أطلق تصريحًا دعا فيه الجيـش إلى الالتزام بمهامـه العسـكريـة، وعدم التعرض للشـأن السـياسـي مطلقًا؛ فرفعت رئاسـة هيئـة الأركان صباح اليوم التالي إنذارها من الموقع. ثم اسـتصدرت الحكومـة قرارًا بمنع العسـكريين من الإدلاء بتصريحاتٍ شـفهيـة أو مكتوبـة تتعلق بالشـأن السـياسـي. ويمكن القول: إن هذا "الإنذار الإلكتروني" كان آخر مناوشات المؤسسة العسكرية لاستعادة ممارسة دورها السياسي.
وإزاء كل هذه التعديلات التي جرت على الوضعية القانونية للجيش ومن ثم دوره في الحياة السياسية، توارى الجيش في ثكناته واستسلم لوضعيته الجديدة واكتفى بدوره العسكري.
ويمكن القول: إن "الإدارة السياسية الناجحة" لحزب العدالة والتنمية خلال السنوات العشر الماضية في شؤون السياسة الداخلية والخارجية وبناء اقتصاد قوي، كان لها تأثيرها الإيجابي في تعزيز الديمقراطية وحماية الحريات وحقوق الإنسان، ما جعل المواطن التركي يثق في الإدارة السياسية ويدعم تقليص دور العسكر في الحياة السياسية، كما أن المؤسسة العسكرية ذاتها لم تعد تشعر بذات القلق من الإدارة السياسية القائمة تجاه مبادئ الجمهورية ونظامها العلماني.
ثانيًا: العسكر خلف القضبان
كانت التعديلات الدسـتوريـة التي وافق عليها الشـعب التركي في اسـتفتاء 12سـبتمبر/أيلول 2010 بمثابـة نهايـة لنظام الوصايـة العسـكريـة في تركيا؛ حيث شـلّت قدرتـه على التدخل في الحياة السـياسـيـة، وجرّدتـه من الحصانـة القضائيـة؛ فأصبح بالإمكان محاكمة العسكريين الذين لا يزالون في الخدمة أمام محاكم مدنية، كما فتحت الطريق أمام مقاضاة قادة الانقلاب العسكري الذي جرى عام 1980 على ما اقترفوه من "جرائم بحق الوطن والمواطنين".
ولا ريب أن قرارات المحكمة التي صدرت الشهر الماضي سبتمبر/أيلول 2012 ضد 365 جنرالاً وضابطًا في قضية "المطرقة" بالسجن مددًا تتراوح بين 16-20 عامًا، تمثل نقطة تحول كبرى في طبيعة العلاقة بين العسكريين والحياة السياسية، ورادعًا لأية محاولة عسكرية لقلب نظام الحكم المدني المنتخب.
كما هذه الأحكام سيكون لها تأثيرها القوي على مسار الدعاوى القضائية الأخرى مثل "أرغنكون" و"القفص"، وهي قضايا استهدفت التخطيط لانقلاب عسكري على السلطة المدنية، والإخلال بالنظام العام، والتحريض على إثارة الشغب والفتنة العِرقية والطائفية داخل المجتمع التركي، وكذلك التخطيط لإلصاق هذه العمليات الإرهابية بجماعة "فتح الله غولن الإسلامية" و"حزب العدالة والتنمية".
وإن تكن رئاسة الأركان حرصت منذ بداية توجيه الاتهامات للعسكريين عام 2009 على نفي صلتها كمؤسسة بهذه التهم، محاولة الحفاظ على هيبة المؤسسة العسكرية بين أبناء الوطن التركي وأمام المجتمع الدولي، والظهور بمظهر ديمقراطي لا يتدخل في الشؤون السياسية، إلا أن ثمة عدَّة من مواقف رئاسة الأركان وقادتها تُبرهن على تورطها في هذه التنظيمات الإرهابية، وضلوعها بشكل مباشر في التخطيط لها.
ومن هذه المواقف، واقعة تقديم كبار قادة المؤسسة العسكرية استقالات جماعية في شهر أغسطس/آب 2011 للضغط على أردوغان من أجل ترقية بعض الجنرالات المتهمين بالضلوع في هذه القضايا الإرهابية، وكذلك خطاب رئيس الأركان السابق "إيشيق قوشانر" الذي عزا فيه استقالته إلى عجزه عن الدفاع عن الجنرالات المعتقلين.
أضف إلى هذا قرار المدعي العام مؤخرًا باعتقال 22 عسكريًَّا من بينهم 7 جنرالات في قضية "مواقع الإنترنت" التي اشترتها رئاسة الأركان في فترة رئاسة الجنرال "إيلكر باشبوغ"، وبثت من خلالها أخبارًا غير صحيحة لتشويه صورة "حزب العدالة والتنمية" وحكومته بغية تأليب الرأي العام ضده، وتحريض الشعب بعضه على بعض لتهيئة الأوضاع لتدخل العسكر بانقلاب عسكري، ما دفع المحكمة إلى إصدار قرار بضم قضية "مواقع الإنترنت" إلى قضية "التخطيط للقضاء على حزب العدالة والتنمية وحركة فتح الله غولن الإسلامية".
كل هذا يُبرز إلى أي مدى لم يعد الجيـش التركي قادرًا على اسـتغلال نفوذه والقيام بانقلاب عسـكري على السـلطـة المدنيـة بأيـة صورة من الصور، وإلى أية درجـة بات عاجزًا عن التصدي لعجلـة العمليـة الديمقراطية التي تمضي بكل سـرعـة وقوة، وتدهـس في طريقها كل من يُحاول إيقافها.
ثالثًا: إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية.. دستور بلا عسكر
ربما لم يتفق المجتمع التركي الحديث على مدار عصر الجمهورية التركية على مطلب أكثر من اتفاقه على مطلب "ابتعاد الجيـش عن ممارسـة أي دور سـياسـي". ومن ثم تولدت لدى معظم قطاعات المجتمع التركي خلال العامين الأخيرين قناعة مشتركة بأن تركيا لا يمكنها مواصلة مسيرتها التنموية بدستور 1982 المعمول به حاليًا، وأنها بحاجة ملحة إلى صوغ دستور جديد تتوافق عليه كافة أطياف المجتمع السياسية والفكرية.
ولعل المرحلة التاريخية التي تمر بها الجمهورية التركية حاليًا تمثل منعطفًا وعلامة فارقة في تاريخها؛ إذ إنه، وللمرة الأولى، منذ قيام الجمهورية التركية عام 1923 تتفق الإرادتان السياسية والمجتمعية على وجوب سنّ دستور جديد للبلاد بإرادة مدنية حرة بعيدة عن وصاية حكم العسكر.
فدساتير الجمهورية التركية: دستور 1924، و1961، و1982 كلها دساتير صيغت تحت "وصاية عسكرية" في أعقاب انقلابات عسكرية؛ ومن ثم كانت هذه الدساتير على مدار تاريخ الجمهورية تعزز من نفوذ المؤسسة العسكرية في الحياة السياسية والاجتماعية. وكان دستور 1982 المعمول به حاليًا هو أكثر هذه الدساتير عسكرة للمجتمع، وإخضاعًا له ولكافة مؤسسات الدولة تحت الرقابة العسكرية ووصايتها.
وقد تضافرت جهود "حزب العدالة والتنمية" مع المراكز البحثية المستقلة، ومؤسسات المجتمع المدني، ورجال العلم والنخب المثقفة من أجل المُضي قُدمًا بخطوات أسرع في المرحلة القادمة نحو "إنهاء دور الجيش في الحياة السياسية بشكل تام"، وأفرزت هذه الجهود خلال العامين الأخيرين خططًا ومقترحات يأخذها الآن "حزب العدالة والتنمية" والأحزاب الأخرى أعضاء "لجنة الوفاق الدستوري" بعين الاعتبار والدراسة لتطبيقها في المرحلة القادمة، ويمكن إيجاز هذه التوجهات في النقاط التالية:
• المجلس العسكري الأعلى.. هيئة استشارية
يتكون المجلس العسكري الأعلى حاليًا من 14 عضوًا، هم: رئيس الوزراء (مدني)، ووزير الدفاع (مدني)، واثنا عشر جنرالاً برتبة "فريق" من بينهم رئيس الأركان وقادة أفرع القوات المسلحة الأربعة (البرية والبحرية والجوية والأمن الداخلي)، ويتم اتخاذ القرار فيه بأغلبية الأصوات. والجيش ليس مسؤولا مسؤولية سياسية عن القرارات الصادرة من المجلس، بينما تُعتبر الحكومة ممثلة في عضويها مسؤولة عن تنفيذ هذه القرارات؛ ومن ثم يقتصر دور الحكومة وأداؤها داخل هذا المجلس على تحمل مسؤولية تنفيذ هذه القرارات، دون أن يكون لهما أي تأثير في عملية استصدار القرارات.
وتتلخص مهام المجلس العسكري الأعلى في مناقشة الموضوعات المتعلقة بالشأن العسكري، والتصديق على قرارات ترقية العسكريين، واتخاذ القرار بشأن المزمع طردهم من الجيش لتُهم أخلاقية أو لانتماءات فكرية. وتُعد قرارات هذا المجلس قطعية غير قابلة للطعن ما عدا القرارات الخاصة بالترقيات، وهو حق ديمقراطي تم اكتسابه بموجب التعديلات الدستورية عام 2010.
وتنظر حكومة "العدالة والتنمية" حاليًا إجراء تعديلات على بنية هذا المجلس بحيث يزداد فيه الأعضاء المدنيون من وزراء وخبراء واستشاريين، إلى حد تتحقق فيه المساواة بين المدنيين والعسكريين داخل المجلس، كما جرى في مجلس الأمن الوطني. بالإضافة إلى تحويل تبعية المجلس من رئاسة الوزراء إلى وزارة الدفاع، وتحويل قيادات أفرع القوات المسلحة إلى وحدات داخل وزارة الدفاع. ومن المنتظر أن يشمل التعديل طبيعة قرارات المجلس فيتحول إلى مجلس استشاري. أما بخصوص حركة الترقيات والتعيينات فمن المستهدف أن تتم وفقًا لمعايير الكفاءة والتميّز بدلاً من الاستناد إلى نظام الأقدمية.
• قيادة الأمن العام.. مؤسسة مدنية
وتستهدف التعديلات أيضًا نقل تبعية "قيادة الأمن العام" من رئاسة الأركان حاليًا إلى وزارة الداخلية؛ لتتحول تدريجيًا إلى مؤسسة مدنية لا علاقة لها بالجيش تقوم بحفظ الأمن والنظام العام تحت مظلة وزارة الداخلية.
وينبغي التأكيد هنا على أن قيادة الأمن الداخلي التابعة لرئاسة الأركان تقوم حاليًا بمهمة الحفاظ على الأمن والاستقرار في المناطق البعيدة التي لا تخضع للسلطات المدنية في المحافظات، والتي تُمثل 90% من مساحة الأراضي التركية. وهو ما يُبرز مدى الانتشار العسكري في الأراضي التركية المدنية، ومدى تمتعه بسلطات لا محدودة في التعامل مع المواطنين وإدارتهم، وإخضاعهم للأحكام العسكرية.
• إلغاء المادة 35 من قانون الخدمة العسكرية
وتتفق معظم مشروعات الدساتير المقدمة من قبل المجتمع المدني والأحزاب السياسية على ضرورة إلغاء المادة (35) من قانون الخدمة العسكرية التي تنص على أن "وظيفـة القوات المسـلحـة هي حمايـة الوطن ومبادئ الجمهوريـة التركيـة"، لتصبح مهمة القوات المسلحة فقط هي حماية الوطن وحدوده. وجدير بالذكر أن المادة (35) هي المادة القانونية التي يعتمد عليها دائمًا قادة الجيـش التركي في إضفاء المشـروعيـة على انقلاباتـهم العسـكريـة؛ حيث تُخولهم الحق دسـتوريًّا للقيام بتدخل عسـكري ضد أيـة حكومـة أو جهـة تُحاول المسـاس بمبادئ الجمهوريـة التركيـة.
• تعديلات على وضعية المؤسسة العسكرية
ويعتزم الدستور التركي الجديد إجراء كثير من التعديلات على الوضعية الدستورية والقانونية للمؤسسة العسكرية التي تمنحها حق التدخل في العملية السياسية، وتسمح لها ببناء نفوذ عسكري داخل مؤسسات الدولة المختلفة. ومن هذه التعديلات: إلغاء المحاكم العسكرية الإدارية العليا، واقتصار مهام القضاء العسكري على النظر في قضايا الإخلال بالنظام العسكري فقط، وإغلاق المدارس الثانوية العسكرية تمامًا. وإخضاع ميزانية القوات المسلحة وكافة نفقاتها خضوعًا تامًّا لإشراف الجهاز المركزي للمحاسبات.
وينبغي القول هنا: إن إنهاء دور الجيش في الحياة السياسية، وتعديل وضعيته الدستورية عبر تعديلات قانونية أو دستورية أمر قد لا يُمثل -وحده- ضمانة أكيدة لمرابطة الجيش في ثُكناته؛ فتغيير وضعية الجيش له آليتان ينبغي التأثير فيهما معًا، وبشكل متزامن؛ ومن ثم تتطلب عملية التغيير، إلى جانب التعديلات التشريعية، تغييرًا في الذهنية العسكرية لأجيال مختلفة في صفوف الجيش، من حيث تغيير ثقافة الفوقية العسكرية وثقافة الانقلاب العسكري المترسخة منذ عقود طويلة.
فعلى سبيل المثال ينبغي إخراج المجتمع العسكري من عزلته عن المجتمع المدني، من خلال تفكيك بنيته الفكرية ونمطياته الذهنية التليدة. فمن المفيد في هذا الصدد إعادة فرز المقررات الدراسية داخل المدارس الحربية والأكاديميات العسكرية، وتصفيتها من المضامين الأيديولوجية الأتاتوركية؛ تلك التي تصبغ على الجيش صفة "الحارس لمبادئ الجمهورية".
وثمـة حاجـة مُلحـة، على الجانب الآخر، لأن تتضافر جهود الأكاديميين ومؤسسات المجتمع المدني من أجل إعادة تهيئـة الذهنيـة العسـكريـة الموجودة حاليًا نحو الإيمان بقيم الديمقراطية الحقيقيـة، وحق المواطنين في فرض إرادتهم السياسية.
غير أن ذلك كلـه لا يدفعنا إلى القول بأن عهد تدخل الجيـش في السـياسـة قد ولَّى؛ فإن ما يُمكننا الجزم بـه فقط، هو أن عهد الانقلابات العسـكريـة في تركيا قد بات في ذمـة التاريخ، أما حق تدخل الجيـش في الحياة السـياسـيـة فلا يزال مكفولاً في دسـتور 1982م الحالي لحمايـة مبادئ الجمهوريـة. وما لم ينجح "حزب العدالـة والتنميـة" في سـنِّ دسـتورٍ مدني جديد، فإن الديمقراطيـة التركيـة ومكتسـباتها سـتظل في خطر.
__________________________________
د. طارق عبد الجليل - أكاديمي متخصص في الشؤون التركية-جامعة عين شمس