صناعة القرار في الصين.. مراكزها وتطورها

تتميز التجربة الصينية في عملية صناعة القرار بأنها جاءت استجابة لتطورات موضوعية فرضتها الظروف وليست نتيجة خطط علمية مدروسة؛ حيث وجدت بكين نفسها بحاجة إلى جهاز أكبر لفهم وإدارة التطورات السياسية والاقتصادية ما أدى إلى تعدد الجهات المعنية بصناعة القرار.
2013111371744642734_20.jpg

 

المصدر [الجزيرة]

 

ملخص
تتميز التجربة الصينية في عملية صناعة القرار بأنها جاءت استجابة لتطورات موضوعية فرضتها الظروف المستجدة وليست ناتجة عن خطط علمية مدروسة؛ حيث وجدت الصين نفسها بحاجة إلى جهاز أكبر وفهم أوسع للتطورات السياسية والاقتصادية ما أدى إلى اتساع رقعة عمل الجهات المعنية بصناعة القرار وتشعبها. وهو الأمر الذي قاد إلى تطور عملية صناعة القرار وابتعادها التدريجي عن المركزية المطلقة واقترابها التدريجي والبطيء من صيغة أكثر مؤسساتية، إلا أن عملية التحول هذه لم تستكمل كل فصولها؛ فعلى الصعيد الفردي لا يزال رئيس الجمهورية إذا أمسك بالمناصب الثلاث معًا يكون هو الأقوى، أي رئاسة الحزب واللجنة العسكرية المركزية إضافة إلى رئاسة الدولة. ولا تزال بالمقابل القيادة الجماعية هي الأكثر نجاعة ونجاحًا في الصين، والذي أكثر ما تتمثل فيه اللجنة الدائمة للمكتب السياسي للحزب الشيوعي الصيني، وهي تضم السبعة الكبار الأكثر نفوذًا على الإطلاق. كما برزت جهات أخرى إلى جانب هذه القوى التقليدية الممسكة بزمام القرار الصيني كوزارة الأمن التي تجاوزت الزيادة في ميزانيتها المالية ميزانية الجيش، بسبب المخاوف من وصول عدوى الربيع العربي إلى المدن الصينية، في حين أن الجيش لا يزال يحظى بنسبة تقارب 20% في اللجنة المركزية للحزب، ونسبة 10% في البرلمان وهي نسب جيدة. ويحظى أيضًا بنفوذ قوي خارجيًا بسبب أنشطته الخارجية كمبيعات الأسلحة أو التعاون مع الجيوش الأخرى.

تُعرف عملية صنع القرار بأنها عملية اختيار بين مجموعة بدائل للتعامل مع قضية ما أو إيجاد حلول لها، تقوم بها مجموعة من الأشخاص أو الهيئات أو المؤسسات، وتتسع دائرة صنع القرار وفق النظام السياسي للدولة.

إن اختلاف النظم السياسية بين بلد وآخر سيؤدي بالطبع إلى تباينات واختلافات في آلية صناعة القرار، كما أن هذه العملية في النهاية ما هي إلا سلوك إنساني؛ وبالتالي فإن من يقومون بها هم أبناء بيئتهم الجغرافية والتاريخية والسياسية والثقافية. وما من شك بأن هذه العوامل ستظل تشكل مؤثرات مهمة على صنّاع القرار وعلى آلية صناعته برمتها.

ومع تنامي قوة الصين ودورها على المسرح الدولي يصبح من الضروري معرفة طبيعة وآلية صناعة القرار فيها والقوى التي تقف وراءه وتؤثر فيه. ونظرًا لأهمية الموضوع وعدم طرق مراكز الأبحاث والدراسات العربية لهذا الباب من قبل ستكتفي الورقة بمعالجة عامة لتطور مراحل عملية صناعة القرار في الصين منذ تأسيسها عام 1949، في محاولة لكشف بعض مما يحيط بهذه العملية من تعقيد وكتمان وسرية وانعدام للشفافية ولارتباط ذلك بطبيعة السلوك والتفكير الصيني المختلف عن نظيره في دول أخرى، نظرًا لاختلاف عناصر موضوعية كالتاريخ والثقافة والجغرافية والعلاقات الاجتماعية والسلوك(1) وطبيعة التنافس بين مراكز القوى صانعة القرار.

القوى "التقليدية" الرئيسة "صانعة القرار"

منذ عهود لا تذكرها الذاكرة نما في الصين وترعرع العديد من المدنيات المختلفة، ومن أهم ما ميزها أنها كانت دائمًا دولة منفردة وذات خصوصية يصعب عليها أن تهضم أية ثقافات واردة عليها إلا بعد "تصيينها" وطبعها بثقافتها. وكان القرار دائمًا بيد فرد (الإمبراطور) أو مجموعة صغيرة من الأفراد، يُتخذ خلف أبواب موصدة ومن وراء أسوار عالية (المدينة المحرمة). بعد تأسيس جمهورية الصين الشعبية عام 1949 حافظت الصين على هذا "الموروث الثقافي" في صناعة واتخاذ القرار.

دور الفرد (الزعيم)

كانت "السلطة تنبع من فوهة البندقية" وفق التعبير المشهور لزعيم الصين ومؤسسها ماو تسي تونغ، لكن ذلك كان في مرحلة الثورة أما بعد بناء الدولة فقد عاد وأقرّ بأن "الحزب هو من يقود الجيش ولا يمكن للجيش أن يقود الحزب"، ومنذ ذلك الحين لا يزال الحزب الشيوعي الصيني هو الحاكم الفعلي الوحيد في البلاد بهيمنته على الحكومة والجيش والمجتمع معًا وعلى كل مفاصل الحياة في الدولة. وظلت عملية صناعة واتخاذ القرار مرتبطة بشخصية الزعيم الفرد صاحب القول الفصل في كل صغيرة وكبيرة طوال حكم الزعيم الراحل ماو تسي تونغ، ولم يكن لمعارضة أو فرد نقض قرارات الزعيم في أي موقع كان حتى ولو كان في أعلى الهيئات القيادية للحزب بما فيها الدائرة الضيقة المعنية بطبخ القرار وصناعته، وكان أقصى ما يمكن أن يفعله رافض القرار أو غير الموافق عليه هو الاكتفاء بالصمت. كما حدث عندما اتخذ "ماو" قراره بالانخراط في الحرب الكورية ضد الولايات المتحدة عام 1950 بموافقة أقلية بسيطة من أعضاء المكتب السياسي واكتفاء الآخرين بالصمت.

وبرحيل "ماو" عام 1976 وبعد أن مرت الصين بفترة عصيبة من الاضطرابات السياسية والاجتماعية والاقتصادية وبسلسلة من الانتكاسات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية -كان أبرزها السنوات العشر لما عُرف باسم "الثورة البروليتارية الثقافية العظمى (1965-1975)، وحكم ما عُرف باسم "عصابة الأربعة" بقيادة جيانغ تشينغ زوجة ماو، وكذلك "القفزة الكبرى إلى الأمام"- طرأت تطورات هامة وجذرية على هيكلية الحزب؛ فقد تبنى المؤتمر العام الثاني عشر عام 1978 ما عُرف بسياسة الإصلاح والانفتاح ورفع شعار "الاشتراكية ذات الخصائص الصينية". لكن ذلك لم يؤثر على طبيعة اتخاذ القرار التي ظلت تتسم بالفردية وتخضع لقبضة رجل الصين القوي في ذلك الحين "دينغ شياو بينغ" الذي أُعيد له الاعتبار بعد أن كان قد جُرّد من كافة مناصبه القيادية الحزبية والحكومية ثلاث مرات نتيجة بوحه بنظريته المعروفة "لون القط لا يهم، سواء أكان أبيض أم أسود، القط الجيد هو القادر على الإمساك بالفأر". ولعل قراره الفردي الكبير بتطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة عام 1978 بالرغم من الجدل القائم آنذاك في أوساط قادة الحزب والجيش خير مثال على ذلك.

وهنا لابد من التذكير بأن النفوذ الواسع الذي كان يتمتع به "دينغ شياو بينغ" لم يتأتّ له من منصبه الحكومي فقد كان أعلى منصب قيادي شغله هو نائب رئيس الوزراء، لكن نفوذه الحقيقي استمده من كاريزمته الشخصية ومن تاريخه النضالي ومن ترؤسه للجنة العسكرية المركزية -صاحبة النفوذ القوي حتى الآن- وهذا ما يفسر استمراره في التمسك برئاستها لعدة سنوات بعد انسحابه من المشهد السياسي.

لم ينسحب "دينغ شياو بينغ" من المشهد القيادي في البلاد عام 1993 إلا بعد أن حدد اتجاه الحزب والدولة لعدة سنوات قادمة؛ فعلى صعيد القضايا الدولية مثلاً لخص السلوك الصيني بثمان وعشرين كلمة صينية فقط لا تزال حتى الآن تعتبر الأساس والفكر الهادي لأي تحرك أو سلوك صيني تجاه القضايا الدولية، وهي: "الترقب الهادئ، التمترس بثبات، المعالجة المتزنة، التربص للفرص، البراعة في البلادة والاختباء، تجنب القيادة أو التحالفات، وإنجاز ما يمكن إنجازه وترحيل الخلافات".

كما نجح "دينغ" بإزاحة جيل الحرس القديم من كبار السن في الحزب، والأهم من ذلك أنه استطاع بنفوذه وسلطته توجيه الجيش نحو المهنية والتحديث وإبعاد جنرالاته عن الحياة السياسية والاقتصادية بعد أن توغلوا فيهما واستفحل أمرهم إلى درجة باتت تقلق الحزب والدولة على حد سواء، ليقوم بعدها باختيار القيادة الجديدة للحزب والدولة لفترتين قادمتين؛ حيث اختار "جيانغ زيمين" ليكون أمينًا عامًا للحزب ورئيسًا للدولة كما اختار له "خوجين تاو" ليخلفه بعد ذلك، وكلاهما لا يتمتعان بخلفية عسكرية ولا بدراية كافية في الشؤون الدولية. كان ذلك في فترة عاصفة مرت بها البلاد في أعقاب الحركة الاحتجاجية للطلاب في ميدان تيان آنمين عام 1989، وما أعقبها واعتُبر أول سابقة في تاريخ الأحزاب الشيوعية عندما قرر الحزب الإطاحة بأمينه العام "جاو زيانغ" ووضعه تحت الإقامة الجبرية حتى وفاته عام 2005 عقابًا له على زيارته للطلاب في الميدان وذرفه بعض الدموع تضامنًا معهم.

قيادة جماعية "اللجنة الدائمة للمكتب السياسي"

على الرغم من أن "جيانغ زيمين" عاد ليمسك بزمام قيادة أعلى ثلاثة مناصب قيادية لأول مرة منذ رحيل ماو تسي تونغ؛ وهي رئاسة الحزب والدولة واللجنة العسكرية المركزية إلا أن عملية صناعة القرار شهدت تحولاً واضحًا بانتقالها من قبضة الفرد إلى يد قيادة جماعية ممثلة بأعضاء اللجنة الدائمة للمكتب السياسي للحزب وعددها 9 أعضاء (تم تقليصها إلى سبعة أعضاء خلال المؤتمر العام الثامن عشر في نوفمبر/تشرين الثاني 2012). ولكن ظلت عملية صناعة القرار تتسم بالمركزية والذكورية حيث لم تستطع أية امرأة دخول الحلقة الضيقة للجنة الدائمة للمكتب السياسي منذ تأسيسها.

بعد عقود على تبني نظرية "القيادة الجماعية" عادت حالة من الجدل لتطل من جديد قي المجتمع الصيني وطالت بعض النخب الاجتماعية والأكاديمية في البلاد بضرورة توفر قيادة كاريزمية صينية تنتزع لنفسها صلاحيات أوسع، ولكن ليس على غرار القيادات الصينية السابقة بل على غرار فلاديمير بوتين في روسيا ورجب طيب أردوغان في تركيا. إلا أنه عندما توفرت صفات الكاريزما القيادية والنفوذ والطموح والالتفاف الجماهيري في شخصية عضو المكتب السياسي السابق بو شي لاي أُطيح به في فضيحة فساد وحُكم عليه بالمؤبد؛ ما يشير إلى أن الظروف لم تنضج بعد أو أن المزاج القيادي الصيني لا يزال غير راغب في تطبيق مثل هذه التجارب ولا يزال يفضل خيار "القيادة الجماعية".

جاء المؤتمر العام الخامس عشر للحزب عام 1997 ليقر سلسلة تغييرات جذرية جديدة على الصعيدين الاقتصادي والسياسي تمثلت بتنازل جزئي عن ملكية الدولة لوسائل الإنتاج إلى ملكية المجتمع لتلك الوسائل، وتخلي الدولة عن نظام التأمين الاجتماعي وفتح المجال أمام الملكية الخاصة للمواطنين. بالإضافة إلى تغيير سياسي ينفتح فيه الحزب على الأحزاب الحاكمة في الدول الأخرى بغض النظر عن عقيدتها بعد أن كان ذلك مقتصرًا على التعامل مع الأحزاب الشيوعية فقط. وشكّل ذلك أثرًا على طبيعة عملية صناعة القرار داخل الحزب نفسه لكن دون أن يؤثر على مركزية دور الحزب في اتخاذ القرار. فمهما اتسعت دائرة الجهات المؤثرة أو المشاركة في طبخ وصياغة القرار فإن الكلمة الفصل في النهاية وإن كانت قد خرجت من قبضة الفرد إلى يد قيادة جماعية إلا أنها لا تزال بيد الحزب وبالتحديد بيد هيئته القيادية العليا المكونة من سبعة أشخاص وهي اللجنة الدائمة للمكتب السياسي، أو من يُعرفون باسم "السبعة الكبار"، ويخضع اختيارهم لمساومات معقدة بين مراكز القوى ومجموعات المصالح المختلفة داخل الحزب، الذين يتقاسمون المناصب العليا في الدولة(2)، كما لا يزال أمين الحزب في الأقاليم والمقاطعات والوزارات والمؤسسات والشركات هو السلطة الأعلى في اتخاذ القرار. هذا النمط من السلطة أدى إلى تنامي الفجوة بين صانع القرار وقاعدته الجماهيرية.

أما ما يتعلق بالسياسة الاستراتيجية العامة للبلاد فإن المؤتمر العام للحزب الذي يُعقد مرة كل خمسة أعوام هو الجهة المعنية بتحديدها وتعتبر توجيهات عامة تسير عليها الحكومة بمختلف هيئاتها وأجهزتها التنفيذية وحتى التشريعية والقضائية، فيما يجتمع المكتب السياسي للحزب -وعدد أعضائه 21 عضوًا- مرة في الشهر. كما تعقد اللجنة المركزية للحزب -وعدد أعضائها 376 عضوًا- اجتماعًا موسعًا مرة واحدة أو أكثر كل عام لمتابعة عمل الدوائر المعنية أو لاتخاذ قرارات جديدة وفق التطورات والمستجدات. وبالنسبة للسياسة التكتيكية اليومية سواء الخاصة بالوضع الداخلي أو بالتطورات على الساحة الدولية وعلاقات الصين الخارجية فإنها موكلة إلى الجهات التنفيذية المعنية كل بما يخصه.

دور الرئيس

 إن تعزيز سلطة رأس الدولة يعتبر خطوة ضرورية للقوى الكبرى التي تطمح بأن يكون لها نفوذ على الصعيد الدولي؛ وفي هذا الإطار فإن سلطة رأس الدولة في الصين لا تزال بعيدة جدًا عن مقارنتها بنظيراتها من رؤساء القوى الكبرى كالولايات المتحدة وفرنسا وروسيا وبريطانيا.

ولابد أن رأس الدولة في الصين يستشعر ويعاني من محدودية صلاحياته؛ حيث سعى الرئيس السابق خوجين تاو على سبيل المثال ونجح عام 2004 بإجراء تعديل على المادة 81 في الدستور لتتضمن جملة "رئيس الجمهورية يدير شؤون البلاد" إضافة إلى النص السابق للمادة التي تقول: "رئيس الجمهورية يستقبل ضيوف الدولة"؛ ما يكشف بوضوح شعور الرئيس بأن سلطاته محدودة ومقيدة في ظل احتفاظ سلفه جيانغ زيمين برئاسة اللجنة المركزية العسكرية والتدخل من خلالها في صلاحيات الرئيس بإدارة شؤون البلاد. وهذا ما يفسر أيضًا نجاح الرئيس الحالي شي جينبينغ في عدم تكرار خطأ سلفه بإصراره على استلام مناصبه الثلاثة دفعة واحدة: "رئاسة الحزب والجمهورية واللجنة العسكرية" دون السماح لخوجين تاو بالاحتفاظ بأي منها.

وسعى الرئيس الأسبق جيانغ زيمين كما سعى خلفه لاحقًا خوجين تاو إلى توسيع رقعة نفوذهما في صناعة القرار عبر اقتراح تشكيل "مجلس الأمن القومي" يرأسه الرئيس لكن جهود كليهما باءت بالفشل، ويكمن السبب وراء ذلك، في خشية مراكز القوى من جمع كل القرارات في قبضة رجل واحد.

القوى" المستجدة "المؤثرة في صناعة القرار

وهي الجهات التي فرضتها المستجدات والتطورات الداخلية والخارجية، ويمكن التطرق لأبرزها:

مجموعات العمل القيادية المصغرة:

استُعيض عن "مجلس الأمن القومي" بما يُسمى "لجان العمل القيادية المصغرة" التي يختلف أعضاؤها وتختلف رئاستها بتنوع مهامها، وباتت تلعب دورًا مهمًا في عملية صناعة وصياغة القرار. ومن هذه اللجان القيادية المصغرة نذكر على سبيل المثال لا الحصر:

• المجموعة القيادية المصغرة للشؤون الخارجية: وكان يرأسها سابقًا رأس الدولة، وتراجع دورها لاحقًا وأصبح ثانويًا، وأُنيطت رئاستها برئيس الوزراء.

• المجموعة القيادية المصغرة لشؤون الأمن القومي: برزت الحاجة إليها في ظل الفشل بتأسيس مجلس الأمن القومي، وبعد أزمة الصواريخ مع تايوان عام 1996، وقصف الناتو للسفارة الصينية في بلغراد عام 1999. والجدير بالذكر أن أسماء أعضاء هذه المجموعة غير معلنة.

• المجموعة القيادية المصغرة لإدارة الأزمات المفاجئة: استدعت الحاجة تشكيلها في أعقاب حادث تصادم الطائرتين الصينية والأميركية في بحر الصين الجنوبي عام 2001.
وهناك أيضًا المجموعة القيادية المصغرة لشؤون تايوان، بالإضافة إلى عدة مجموعات قيادية ومجالس أخرى فرضتها الظروف الموضوعية والتطورات مثل اللجنة القيادية المصغرة للمال والاقتصاد، واللجنة القيادية المصغرة للطاقة، واللجنة القيادية المصغرة للبيئة والتغيرات المناخية، والمجلس الوطني الأعلى للتنمية والإصلاح..... وغيرها. والجدير بالذكر أن دور هذه المجموعات القيادية لا يصنع القرار بل يشارك ويساهم في صناعته كما توكل إليها مهمة إدارة الأزمات.

دور الوزارات والأمن والدفاع

شهدت الصين كما هو العالم الذي توجد فيه تطورات وتغيرات متسارعة تصاعد معها دورها على الصعيد الدولي؛ حيث برزت قضايا وتحديات جديدة كالعولمة والبيئة ونزع التسلح؛ فدخلت عملية صناعة القرار في تعقيدات وتشابكات جديدة أدت معها إلى تنامي دور جهات في الدولة لاسيما مثل وزارة التجارة التي لعبت دورًا أكبر في عملية صناعة القرار على صعيد السياسة الخارجية بشكل تجاوز بكثير دور وزارة الخارجية(3) وبالتحديد منذ عام 1993 بعدما أصبحت سياسة الصين الخارجية في كثير من الأحيان اقتصادية بحتة؛ فوزارة التجارة هي التي تولت مهمة التفاوض لانضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية وهي التي ترسم سياسة الصين الخارجية تجاه بعض المناطق التي توليها الصين أهمية في مجال تقديم المساعدات أو الاستثمارات مثل إفريقيا.

وهناك وزارات جديدة أصبحت من اللاعبين الجدد على حلبة صناعة القرار لاسيما وزارة الأمن التي تعاظم دورها منذ الاستعداد لاستضافة دورة بكين للألعاب الأولمبية عام 2008؛ حيث برزت الهواجس الأمنية لضمان نجاحها فتم اللجوء إلى قوى الأمن للاضطلاع بهذه المهمة، كما عزز من شأن هذه الوزارة اندلاع أحداث العنف في إقليمي التبت وشينجيانغ (تركستان الشرقية) وصولاً إلى الربيع العربي وخشية القيادة الصينية من انتقال عدواه إلى شوارع وميادين المدن الصينية. كل تلك الأحداث أدى إلى اعتماد الحكومة والحزب على دور قوى الأمن للحفاظ على الاستقرار الاجتماعي؛ الأمر الذي أدى إلى تضخم هذه الأجهزة وزيادة نفوذها وحصولها على امتيازات ومصالح مكتسبة ورفع ميزانياتها المالية لتتجاوز بكثير ميزانيات الجيش.(4) وبات من الطبيعي لأجهزة الأمن أن تسعى للحفاظ على مصالحها وامتيازاتها المكتسبة بالدفع نحو دخول الحلقة الضيقة لصناعة القرار.

وهذا لا يمنع أن الجيش لا يزال يحظى بنسبة تمثيلية جيدة في الهيئات القيادية للحزب والدولة وهي تعبّر عن مدى النفوذ الذي لا يزال يتمتع به؛ حيث تصل نسبة تمثيله في اللجنة المركزية للحزب إلى ما يقارب 20%، كما يحوز نسبة 10% في المجلس الوطني لنواب الشعب (البرلمان). ويحظى الجيش أيضًا بنفوذ قوي خارجيًا؛ حيث نجح في إقامة شبكة علاقات خارجية واسعة مع جيوش دول أخرى سواء من خلال مبيعات وصفقات السلاح التي يجريها أو من خلال انخراط الصين السريع والمتزايد في قوات حفظ السلام الدولية، وكذلك من خلال المشاركة بالمناورات العسكرية المشتركة التي يجريها مع جيوش دول أخرى.

خاتمة

تشهد الصين تحولات عميقة على الصعيد الداخلي وتزداد رقعة نفوذها ومصالحها عبر القارات، في عالم تعصف به متغيرات متسارعة وبرزت قضايا جديدة لم تكن في صلب اهتمام صانع القرار الصيني كالبيئة والتغيرات المناخية وأمن الطاقة ونزع التسلح وحفظ السلام.... إلخ. وباتت الصين باعتبارها دولة كبرى وقوة صاعدة مطالبة باتخاذ القرارات وتفعيل دورها في هذه القضايا، فوجدت نفسها بحاجة إلى جهاز أكبر وفهم أوسع للتطورات السياسية والاقتصادية على المسرح الدولي؛ ما أدى إلى اتساع رقعة الهيئات والمنظمات المعنية بصناعة القرار وتشعبها. وهو الأمر الذي قاد إلى تطور عملية صناعة القرار وابتعادها التدريجي عن المركزية المطلقة واقترابها التدريجي والبطيء من صيغة أكثر مؤسساتية لكنها لا تزال غير واضحة وخاضعة للتغيير ولم يتم صقلها وبلورتها وصياغتها بعد، باعتبار أن عملية التحول في الصين لم تستكمل كل فصولها.

وعلى الرغم من كل التطورات التي طرأت على عملية صناعة القرار في الصين وخروجها من قبضة الفرد إلى قيادة جماعية ودخول لاعبين جدد عليها، إلا أنها لا تزال تعاني الكثير من العقبات والتحديات نتيجة لغياب الشفافية والرقابة البرلمانية وعدم وجود إعلام حر وتفشّي الفساد والمحسوبية والتملق، كما أن دور الحزب لا يزال متداخلاً بل مهيمنًا على دور الدولة. كما يعتبر التناقض بين الدوائر المختلفة نتيجة تضارب المصالح وغياب التنسيق بينها من أهم العقبات والتحديات التي تواجه عملية صناعة القرار في الصين. ولقد تنبهت القيادة لهذه الثغرة وحاولت سدها من خلال تكليف مستشار مجلس الدولة داي بينغ غو بمهة التنسيق بين مختلف الجهات. لكن ذلك ظل منحصرًا في قضايا بعينها ولم يصبح بعد آلية متكاملة، ولعل من أبرز التناقضات القائمة التناقض بين السياسي والتجاري أو بين العسكري والسياسي والتجاري والعسكري.(5) كما تتميز التجربة الصينية في عملية صناعة القرار بأنها استجابة لتطورات موضوعية فرضتها الظروف المستجدة وليست ناتجة عن خطط علمية مدروسة. لكن رغم هذا فإن الصين -التي اعتادت على الحركة البطيئة- مرشحة في المستقبل لصياغة آلية مناسبة وبالتأكيد لن تكون تقليدًا لتجارب دول أخرى بل مزيجًا من تجارب عدة يجري "تصيينها" ووضعها في قالب صيني كما هو دأب الصين دائمًا. وإذا جرت الأمور بخلاف ذلك فإن نبوءة فوكوياما قد تصبح أمرًا واقعًا؛ فقد كان منظّر فكرة "نهاية التاريخ" قد توقع انهيار النظام السياسي الصيني بسبب فقدان قنوات الاتصال بين قمة هرمه السياسي وقاعدته الجماهيرية وبسبب غياب آليات المحاسبة والشفافية.
______________________________________________________
*عزت شحرور، مختص بشؤون الصين والكوريتين، مدير مكتب الجزيرة في بكين.

المصادر والهوامش:

1-كالاهتمام الذي توليه الصين للآخر وكيف ينظر إليها؛ وهذا ما يفسر البطء والانتظار وتتبع مواقف الدول والقوى الأخرى قبل صياغة موقف صيني يجمع ويوازن بين كل تلك المواقف، أو كالغرق في التفاصيل النظرية واللغوية على حساب السلوك العملي، وتلك مؤثرات لا تؤخذ عادة بعين الاعتبار في نماذج الدول الأخرى.
2-يتولى الأمين العام للحزب أيضًا منصبي رئاسة الجمهورية ورئاسة اللجنة العسكرية المركزية (صاحبة النفوذ القوي جدًا)، ويليه في الأهمية رئيس البرلمان ثم رئيس الوزراء ثم رئيس المجلس الاستشاري ثم رئيس جهاز الدعاية والانضباط ومكافحة الفساد ثم نائب رئيس الجمهورية ثم رئيس لجنة الشؤون السياسية والقانونية للحزب.
3-يمكن الاطلاع على الزيادات التي حظيت بها ميزانية وزارة الأمن عام 2011 وعام 2013 في التالي: يورو نيوز، ميزانية قياسية في الصين من أجل الأمن.
http://arabic.euronews.com/2011/03/05/china-to-step-up-domestic-surveillance/
اليوم السابع، الصين ترفع ميزانية الدفاع وتنفق أكثر على الأمن.
http://www.youm7.com/News.asp?NewsID=968224
4-شهدت الدبلوماسية الصينية عند تأسيس الجمهورية نشاطًا كبيرًا، بسبب الشخصية الكاريزمية والاستثنائية لوزير خارجيتها آنذاك "شو أن لاي" باعتباره أحد أقطاب الدائرة الضيقة في صناعة القرار، أما دور الوزارة خلال العقود الأخيرة فقد بقي دورًا ثانويًا وتنفيذيًا في صناعة القرار على صعيد السياسة الخارجية لأن وزراء الخارجية لم يتمتعوا بصفات تؤهلهم لأدوار مماثلة.
5- من الأمثلة على تلك التناقضات قرار الجيش بمنع حاملة الطائرات الأميركية كيتي هوك من الرسو في ميناء هونغ كونغ قبيل أعياد الميلاد عام 2007 احتجاجًا على مبيعات الأسلحة الأميركية لتايوان، وبعد جدل محرج بين الدبلوماسي والعسكري سُمح أخيرًا لحاملة الطائرات بالرسو. ومثال آخر هو سعي الحكومة والدبلوماسيين الصينيين إلى زيادة عدد القوات الصينية المشاركة في قوات حفظ السلام الدولية وأحيانًا يتم ذلك دون التنسيق أو استشارة العسكريين كما حدث عندما وافقت الصين عام 2006 على إيفاد ألف جندي إلى لبنان لكن الجيش لم يرسل سوى 350 جنديًا ما سبّب إحراجًا للدبلوماسية الصينية. ناهيك عن صفقات ومبيعات السلاح التي يجريها الجيش أو الشركات التابعة له إلى بعض مناطق النزاع أو الحروب الأهلية دون معرفة الجهات الدبلوماسية.

نبذة عن الكاتب