عاد النقاش الدستوري في سياق الثورات العربية حول النهضة والحداثة، الإسلام والديمقراطية، وعلاقة الدين بالدولة. ويبقى التحدي هو حسم التدافع الأيديولوجي التأويلي للدساتير (الجزيرة) |
ملخص ويبقى التحدي الأساس، هو سبل حسم التدافع الأيديولوجي التأويلي للمدونة الدستورية علمنة وأسلمة، وهو موقف لا شك لن يُحسم حتى من جانب الدولة التونسية الحديثة نفسها، والتي ستظل تغذي شرعيتها من هذا التناقض، إسلامية ومحافظة أحيانًا وحداثية وتقدمية أحيانًا أخرى، وكل ذلك وفق السياقات التاريخية التي تجد فيها نخبة الحكم نفسها. وتجدر الإشارة إلى فكرة أساسية، وهي أن هذه المعركة على المدونة القانونية، وضعا وتأويلا، تخفي وراءها معركة أكبر، معركة على الدولة ومن أجلها. هذه الدولة التي تحولت في التجربة العربية المعاصرة إلى إطار وموضوع للصراع، تدور حولها ومن أجلها كل المعارك، ويُنظر إليها باعتبارها الأداة التي من خلالها وبها يمكن أن يتحول المجتمع إلى عجين يسهل صياغته، بالأسلمة أو العلمنة أو اللبرلة، متوسلين بأدوات هذه الدولة "القهرية" التي تحمل الناس على هذا الاتجاه أو ذاك رغبًا أو رهبًا. |
استعادت النخبة التونسية، كغيرها من النخب العربية التي شهدت تحولات كبرى في سياق ما يُعرف بـ"الربيع العربي" النقاش والجدل بشأن قضايا: النهضة والحداثة، الإسلام والديمقراطية، علاقة الدين بالدولة، طبيعة الدولة، وغيرها من القضايا. ومثّل الصراع على المدونة التشريعية أبرز هذه المعارك التي تبدو في رأي الكثير المعركة المصيرية التي بها، ليس فقط تُسَنّ القوانين والتشريعات، وإنما تصاغ فيها طبيعة الدولة، ويُشكَّل النمط المجتمعي المأمول. وهي في الحقيقة رؤية تحديثية محددة، لا ترى في الدولة إطارًا فقط، وإنما الآلية التي بها يُصنع ويصاغ المجتمع، والوسيلة التي بها تتحقق الوعود، على خلفية هذه الأيديولوجيا أو تلك.
لقد مثّل قرار مؤسس تركيا الحديثة مصطفى كمال أتاتورك بإلغاء السلطنة ثم الخلافة في العقد الثاني من القرن العشرين، وتحديدًا في عامي 1922 ثم 1924، حدثًا تاريخيًا مفصليًا، أثار ردود أفعال هائلة على امتداد جغرافية العالم الإسلامي، لما حمله من مدلول وضع نهاية لتجربة تاريخية امتدت من إقامة دولة المدينة، وأضفى على أنظمة الحكم في التجربة الإسلامية التاريخية الشرعية الدينية المطلوبة، على تنوع أنماط هذه الأنظمة من الخلافة الراشدة إلى الحكم العضوض، إلى الممالك والطوائف، فالإمبراطوريات، ما دامت تتحرك في إطار الفكرة العامة، على اعتبار أنها دولة الإسلام، و"حامية بيضته".
ولئن تباينت ردود الأفعال من مسألة إلغاء الخلافة، وعبّرت عن نفسها بأشكال مختلفة، إلا أنها انصبت كلها على محاولة استعادة الإسلام مرجعية لنظام الحكم، وبالتالي إعادة وصل ما انفصل ما بين الدين والدولة، وما بين الشريعة ونظام الحكم، ومن ثمة إعادة تثبيت الإسلام في قلب الحكم، هوية ومرجعية وأساسًا للشرعية.
ولم تمض على حدث إلغاء الخلافة سنوات قليلة لا تزيد عن أربعة أعوام حتى جرى إطلاق جماعة الإخوان المسلمين في العام 1928، التي كان هدفها منذ مرحلة التأسيس هو إعادة الإسلام مرجعية لنظام الحكم، بل لعلنا لن نبالغ إن قلنا: إن ذلك هو ما يبرر ويفسر سبب انبعاث الجماعة المذكورة على يد مؤسسها الشيخ حسن البنا (1906-1948). ولم يكن مستغربًا أن يعتبر الكثير من المهتمين والدارسين للحركات الإسلامية أن واحدًا من الأسباب الرئيسة -إن لم يكن السبب الوحيد- وراء انبعاث الحركة الإسلامية الحديثة هو الانفصال الذي حصل بين نظام الحكم من جهة والشريعة الإسلامية، كمرجعية لهذا النظام، من جهة أخرى، عقب الإعلان عن إلغاء الخلافة في العام 1924.
بيد أن قرار إلغاء الخلافة عام 1924 لم يكن يعني بالضرورة، كما فهم البعض أو تخوف آخرون، الكف عن اعتماد الإسلام مرجعية لجل الدول العربية عقب إعلان استقلالها والخروج من حقبة الاستعمار؛ فقد حرصت أغلبية الأنظمة التي تشكلت في الدول العربية بل وحتى الإسلامية -باستثناء تركيا طبعًا- عقب استقلالها على التنصيص على أن الإسلام دين الدولة، وأن الشريعة الإسلامية أو الفقه الإسلامي هو المصدر الرئيس أو المصدر الأساس للقوانين. إلى جانب طبعًا تثبيت أن "الإسلام دين الدولة" أو أن "دين الدولة الإسلام" في ديباجات كل الدساتير العربية التي وضعت بُعيد الاستقلال.
ولعل كل الأعمال التحضيرية التي جرت تمهيدًا لإعداد الدساتير في العالم العربي بُعيد الاستقلال، تثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن المشرّع كان بصدد الحرص على التأكيد على المرجعية الإسلامية للدولة، وعلى الشريعة كمصدر أساسي من مصادر التشريع. وحتى تركيا نفسها، كان الاعتراض فيها شديدًا على التوجه العلماني الذي حرص مصطفى كمال أتاتورك على أن يفرضه، وعُلّقت جلسات أعمال مجلس الشعب ليمارس أتاتورك ضغوطات على النواب للقبول بما كان يريد تمريره في الدستور. ولم يحصل التنصيص على العلمانية إلا بعد 13 عامًا على إعلان الجمهورية؛ إذ أُجري تعديل على المادة الثانية من الدستور عام 1937 لتنص على أن العلمانية مقوم من مقومات الجمهورية.
وضمن هذا السياق ذكر القانوني التونسي عياض بن عاشور معلّقًا على حضور الإسلام في الدستور التونسي أنه على "المستوى الديني فقد نص الدستور على أن الإسلام دين الدولة. وهكذا يبدو من الوهلة الأولى أن الأشياء لم تتغير وأن تونس تهتدي بالمنوال العتيق في تاريخ الإسلام، المنوال الخلافي الذي نظّر له الماوردي والغزالي وابن تيمية وابن قيم الجوزية وغيرهم. وجوهر هذا المنوال هو الآتي "الشريعة الإسلامية السنية وأحكامها التشريعية هي التي تنظم السلوك الاجتماعي، والسياسة سياسة شرعية، والدولة في خدمة الإسلام، فهي حينئذ دولة الإسلام بأتم معنى الكلمة".
ويعبّر عن هذا الوضع -الذي يبدو انقساميًا في المعركة حول التشريع والمنظومة القانونية عمومًا- فقيه القانون المصري عبد الرزاق السنهوري عندما كتب في العام 1934 "علينا أولاً أن نمصّر الفقه (يتحدث هنا عن الفقه القانوني)، فنجعله فقهًا مصريًا خالصًا، نرى فيه طابع قوميتنا، ونحس أثر عقليتنا. فقهنا حتى اليوم لا يزال هو أيضًا، يحتله الأجنبي.. ولا يزال الفقه المصري يتلمس في الفقه الفرنسي الهادي المرشد، لا يكاد يتزحزح عن أفقه أو ينحرف عن مسراه، فهو ظله اللاصق وتابعه الأمين" (انتهى). بيد أن السنهوري لم يركن إلى التمسك الصوري بالمرجعية الإسلامية، وإنما دعا إلى الاجتهاد والتطوير لهذه المنظومة التشريعية التي يرى فيها "شريعة الشرق ووحي إلهامه وعصارة أذهان مفكريه، نبتت في صحرائه وترعرعت في سهوله ووديانه.. لو وُطّئت أكنافُها وعُبّدت سبلها لكان لنا من هذا التراث الجليل ما ينفخ روح الاستقلال في فقهنا وقضائنا وفي تشريعنا..".(1)
ولم يكن غريبًا أن يتكرس هذا التنازع في التأويل والتشريع بين قوى "حداثية تغريبية" وقوى وطنية متمسكة بتراثها المتجدد، بسبب أسلوب الإصلاح الذي أفضى إلى نوع من الازدواجية في المنظومة القانونية بدل تطوير الموجود؛ فقد اتخذت برامج النهوض سواء على أيدي سليم الثالث ثم محمود الثاني في تركيا، أو على يدي محمد علي في القاهرة، أو أحمد باي ثم الصادق باي في تونس، طابعًا ازدواجيًا، تأتّى من إبقاء القديم على ركوده، وإنشاء الحديث بجانبه وعلى غير انبثاق منه ولا تفاعل معه.
وظهر ذلك جليًا في المؤسسات التعليمية والعسكرية والقضائية ونظم الإدارة والقانون والاقتصاد، وقد خلق هذا ثقافتين متواجهتين، ونخبتين متقابلتين ومتوازيتين، تعبّر كل منهما عن نفسها اجتماعيًا. وأدى هذا إلى تصدع البيئة الاجتماعية والفكرية إلى شطرين متميزين، لا تزال آثار تصدعهما العميقة مستمرة إلى اليوم. ولقد كان للتردد في التجديد أو إجهاضه أثر واضح في تعزيز هذا الانقسام وهذه الثنائية.
ولم تكن القوى التحديثية، لاسيما التي أمسكت بزمام دولة ما بعد الاستقلال، لتنجح رغم مساعيها وسياساتها في محاولة توحيد المنظومة القانونية والاطار التشريعي، مستفيدة من إمكانيات الدولة، ولم تكن لتنجح في ذلك تمامًا بسبب عمق وتجذر هذا الانقسام، ولامتناع المنظومة التي يُنظر إليها على أنها "تقليدية" و"متخلفة" عن الاختفاء. فقد سعت دولة الاستقلال إلى توحيد القضاء والمرجعية التشريعية، وأن تكون الدولة هي المشرع الوحيد الذي يحتكر سلطة التشريع إلا أن الكثير من الممارسات والسلوكيات ظلت تهتدي بالمدونة الفقهية، بوعي وبدون وعي، أكثر من اهتدائها بالقوانين الحديثة.
معركة التأويل والانقسام
وصل الكثير من التحديثيين والنخب الحداثية إلى قناعة بأن هذا الإصلاح والتحديث القائم على المؤسسات الموازية الحديثة والقوانين الحديثة، وإن حقق الكثير من أهدافه، إلا أن هذا النهج التحديثي ظل قاصرًا عن الوصول لكل القوى الاجتماعية، وتفاوت استيعابه بحسب الفئات الاجتماعية والمناطقية أيضًا. هذه الخلاصة في مسار التحديث دفعت الكثير إلى تبني مقاربة جديدة تقوم على الدفع بعملية التحديث من داخل المنظومة الفقهية والتشريعية الأصلية، ومحاولة التجديد والقراءة الاجتهادية الجديدة لهذه المنظومة. وتبرز هذه المقاربة التأويلية واضحة في خطابات وكتابات جزء من النخبة التونسية، على غرار عياض بن عاشور والصادق بلعيد ومحمد الشرفي وعلي المزغني والعديد من فقهاء القانون والفكر في تونس. وصدرت كتب تقدم قراءات تأويلية جديدة للمنظومة الفقهية، على غرار كتاب "الضمير والتشريع" لابن عاشور و"القرآن والتشريع" للصادق بلعيد و"الإسلام والحرية" لمحمد الشرفي، و"الإسلام والحداثة" لعبد المجيد الشرفي، ومحاولات أخرى كثيرة جرت خلال العقدين الماضيين.
يقدم عياض بن عاشور قراءته التأويلية أو التفسيرية للمنظومة القانونية التونسية، فيقول: "ولكن لست أبالغ إذا قلت: إن أكبر ثورة حققتها تونس وعملت من أجلها باستمرار من منتصف القرن التاسع عشر، تتمثل في قلب الوضع الذي ذكرناه سالفًا. فبفضل التوحيد القضائي والإصلاحات في قانون العائلة والسياسة التربوية وتونسة التاريخ، وتجديد العلاقة المعنوية بين التراب والأشخاص والدولة، وفوق كل شيء باحتكار المنظومة القانونية، فقد تحوّل التركيب الدستوري من منوال دولة الإسلام إلى منوال إسلام الدولة، وشتان ما بينهما"، على حد قوله، ليضيف: "هذا المنوال في حقيقته" لا دين فوق الدولة، بينما يعني الأول: "لا دولة فوق الدين".(2)
وتتضح جليًا حالة الاستقطاب والتجاذب في التجربة التحديثية للدولة في تونس، لاسيما لجهة العلاقة الملتبسة والمثيرة للجدل بين الفقه الإسلامي خصوصًا، والإسلام عمومًا من جهة والدولة الحديثة نفسها، وفي أكثر تعبيراتها، أي: المنظومة القانونية.
ويمكن هنا الإشارة إلى محاولات أستاذ القانون محمد الشرفي في الكثير من الجامعات التونسية؛ حيث دأب على التأكيد في مؤلفه المعروف «مدخل لدراسة القانون» على أن القوانين التونسية علمانية، وأنها سُنّت في قطيعة مع الشريعة الإسلامية، منوّهًا بهذا التمشي، بل وداعيًا الدولة -كأهم عامل للتحديث- إلى مزيد من فرض القوانين التي تتماشى مع روح العصر. وقد حاول الشرفي لاحقًا أن يطرح رؤية كاملة في سياق التحديث العلماني والقطع مع الفقه الإسلامي من خلال طرحه كتابًا آخر تحت عنوان «الإسلام والحرية، سوء التفاهم التاريخي»؛ حرص من خلاله على محاولة إثبات تاريخية الأحكام الواردة في الفقه الإسلامي بما في ذلك أحكام الحدود، داعيًا بجرأة إلى تجاوزها وعدم العمل بها. وقد اعتبر الشرفي أن لا خيار أمام التمدد الأصولي وعدم استجابة المجتمع لنداء التحديث وقيمه، إلا بأن تتحول الدولة كلها محركًا أساسيًا في عملية التحديث على كل الصعد، لاسيما عملية إصلاح التعليم وتنقيته من كل ما من شأنه أن يشوش على مسيرة التحديث وبث قيم العقلانية والعلمانية.
بيد أن هذا النزوع «التحديثي» الإحلالي التوجه، والذي لا ينظر إلى القانون التونسي إلا بقطيعة مع الفقه الإسلامي، لئن كان يجد له القليل من البراهين والحجج عند التأمل في المدونة القانونية التونسية في مختلف مجالاتها، إلا أن هذه الرؤية لا تصمد أمام الدارس الفاحص لقوانين المدونة، والتي جاءت في روحها العامة منسجمة، بل ومستلهمة من الفقه الإسلامي والمدونة الفقهية، سواء تعلق الأمر بتلك القوانين التي سنّت في مرحلة ما قبل انتصاب الحماية الفرنسية، أو تلك التي سنّت خلال الحماية أو حتى تلك التي صدرت بُعيْد الاستقلال وهي الأكثر.
ولم يكن ذلك غريبًا وقد كان معظم القائمين على عملية التقنين في مرحلة ما قبل الاستقلال هم أبرز علماء الديار التونسية، على مختلف مذاهبهم، من مالكية وحنفية وشافعية. وقد حاول أستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة الزيتونية محمد بوزغيبة، في كتاب صدر له قبل أعوام تحت عنوان «تقنين الفقه الإسلامي»، رصد عملية الاستلهام هذه التي قام بها المشرّع التونسي للقوانين من الفقه الإسلامي، رافضًا فكرة الانفصال الكامل للقوانين عن أصولها الفقهية.
فبعد حال من الجمود والتخلف استمرت لبضعة قرون، بدأت مع نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر حالة من الحراك في صفوف العلماء، بعد أن أدركوا التحديات التي يواجهها العالم الإسلامي، مستجيبين بذلك لصيحات المصلحين. وقد كانت لكثير من رواد الإصلاح في تونس مواقف إزاء القوانين، مظهرين حرصًا على أن تكون مستلهمة من الفقه الإسلامي ومتماشية معه. ويعتبر خير الدين باشا أحد رواد الحركة الإصلاحية، وهو صاحب كتاب «أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك» والذي دعا فيه حكام تونس إلى الأخذ بما سنّته تركيا بوضعها كتاب «التنظيمات الخيرية»، إلى جانب وضع نصوص محددة واضحة، وسنّ مدونة فقهية شاملة يعرف بها الناس ما لهم من حقوق، وما عليهم من التزامات.
وقد شكّلت الدولة العثمانية عام 1868 لجنة مكونة من سبعة علماء فقه برئاسة أحمد باشا جودت ناظر ديوان الأحكام العدلية، واستمر عمل اللجنة سبع سنوات لتنتهي بوضع مجلة «الأحكام العدلية». وكانت المجلة التي تم تعميم العمل بها في كل البلاد الخاضعة للإمبراطورية، تمثل فتحًا جديدًا في تاريخ تدوين الفقه الإسلامي؛ فقد كانت المجلة محاولة ناجحة وعملاً رائدًا في تقنين أحكام الشريعة بكل ما يحمله التقنين من عناصر وخصائص.
أما في تونس، فإن مما لا شك فيه أنه عندما يجري الحديث عن القوانين، لاسيما خلال تجربة الإصلاح، فإن أول ما يتبادر إلى الأذهان هو «عهد الأمان» الذي صدر عام 1857، وهو قانون يحتفي به رجالات القانون كثيرًا في تونس، ويعتبرونه القانون الذي جعل من تونس رائدة وسبّاقة في عملية وضع القوانين في العالم العربي. بيد أن الدارس للحيثيات والملابسات التي حفت بإصدار «عهد الأمان» سيُبدي قدرا كبيرًا من التحفظ على القانون المذكور، الذي تشير غالبية الدراسات التاريخية إلى أنه صدر في ظل ضغوط خارجية واضحة، بل لم يقطع التردد لمصادقة الباي عليه إلا رُسوّ الأسطول الفرنسي في المياه التونسية، إلى جانب تدخل بريطاني مماثل، لاسيما بعد إعدام يهودي بأمر من الباي بعد أن كان قد سبّ الدين الإسلامي علانية.
بيد أنه رغم هذه الحيثيات فإن «عهد الأمان» كان قد وُضِع بإسهام من العلماء والفقهاء الكبار الممثلين لمختلف المذاهب الفقهية في البلاد، بينهم شيخ الإسلام محمد بيرم الرابع، ومحمد بن الخوجة ومحمد البنا، إلى جانب طبعًا أحمد بن أبي الضياف، محرر القانون. علمًا بأن جُلّ الفقهاء الذين كانوا يساهمون في تفسير القانون المذكور، قاطعوا فجأة وفي شكل جماعي جلسات تفسير «العهد» من دون أن تتضح على وجه الدقة الأسباب أو الدوافع التي دفعتهم إلى ذلك الموقف الرافض.
أما بعد انتصاب الحماية الفرنسية على تونس عام 1881، فإن المستعمر الفرنسي ولئن بسط سيطرته على البلاد، إلا أنه في العلاقة بوضع القوانين المنظمة لمعاملات الناس، قد تجنب -بحسب بوزغيبة- أي صدام مع سكان البلاد، وقد صدرت مجلة «القانون المدني» والتي تُعرف باسم «مجلة الالتزامات والعقود» عام 1906 بمضامين اعتبرها جُلّ الدارسين مستوحاة فعلاً من المدونة الفقهية، استفادة من المجلة المصرية والسورية في هذا الصدد. وتأكيدًا لذلك، فقد اقتبس كل من المغرب عام 1913 ثم موريتانيا عام 1973 قوانين مجلة «الالتزامات والعقود» بعدما أدركتا أنها مجلة تنسجم تمامًا، بل هي تقنين بديع للفقه الإسلامي. كما لم يكن ممكنًا لموريتانيا اقتباس قانون يتعارض مع الفقه الإسلامي، وهي التي أعلنت نفسها عقب الاستقلال جمهورية إسلامية، ونص دستورها على أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيس للقوانين.
ويعتقد بعض الدارسين أن المجلة المدنية الفرنسية نفسها مستوحاة من فقه المعاملات في المدونة الفقهية، وقد حصلت عملية الاستفادة الفرنسية من المدونة خلال حملة نابليون بونابرت على مصر في العام 1798.
بقي أن أصحاب الرؤية العلمانية في قراءة القوانين التونسية يجدون في مجلة وحيدة بعض ما يسند دعاواهم؛ إذ على رغم تنصيص المشرع على أن مجلة «الأحوال الشخصية» مستلهمة من الفقه الإسلامي، وهو موقف أكده حتى العلاّمة البارز الشيخ محمد الفاضل بن عاشور الذي قال مشيرًا إلى المجلة: إنها «إسلامية وهي مبنية على الاستمداد من أحكام الحكم الشرعي المنطبقة على الأحوال الوضعية الجارية على هذه الأحكام تطبيقًا للأحكام الإسلامية»، فإن الكثير من الفقهاء وفي مقدمهم العلاّمة البارز الشيخ محمد العزيز جعيط سجل تحفظات على مجموعة من المواد الواردة في مجلة الأحوال الشخصية، مؤكدًا أن بقية المواد مأخوذة من الفقه الإسلامي. وهو موقف قد لا يتفق مع رأي أعضاء المحكمة الشرعية آنذاك، والذي عبّر عن نفسه في فتوى جماعية وقّعها 13 مفتيًا وعالم دين.
إن الدارس للمدونة القانونية التونسية يجدها في العموم متفقة مع روح الشريعة والفقه الإسلامي، ووجود بعض المواد المثيرة للجدل، على ما تثيره من رفض في صفوف المدافعين عن الإسلام مرجعية للدولة ولقوانينها، فإنها تبقى مواد محل اجتهاد تأويلي من جهة، وهامشية من جهة أخرى بالنظر إلى الروح العامة للمدونة القانونية. كما أن إسهامات العلماء والفقهاء بل وقيادتهم لعملية التقنين تجعل دعاوى انفصال عملية التقنين عن الفقه الإسلامي والشريعة دعاوى لا أساس لها؛ فمن تجربة الحركة الإصلاحية قبيل الاستعمار ثم خلال انتصاب الحماية، وحتى بعده كان حضور العلماء بارزًا وواضحًا؛ ما يجعل القوانين في مجملها منضبطة بروح الشريعة الإسلامية، لاسيما أن ذلك من صميم احترام الدستور الذي ينص فصله الأول على أن «تونس دولة حرة، مستقلة، ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربية لغتها، والجمهورية نظامها». كما يشترط الفصل 38 من الدستور التونسي في الرئيس أن يكون مسلمًا؛ إذ ورد فيه «رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة ودينه الإسلام».
يبقى التحدي الأساس هو سبل حسم التدافع الأيديولوجي التأويلي لهذه المدونة علمنة وأسلمة، وهو موقف لا شك لن يُحسم حتى من جانب الدولة التونسية الحديثة نفسها، والتي ستظل تغذي شرعيتها من هذا التناقض، إسلامية ومحافظة أحيانًا وحداثية وتقدمية أحيانًا أخرى، وكل ذلك وفق السياقات التاريخية التي تجد فيها نخبة الحكم نفسها.
كما لا يفوتنا أن نشير إلى أن عملية التقنين نفسها كآلية لضبط قواعد يخضع لها الأفراد في تنظيم أحوالهم الشخصية، انسجامًا مع منطق الدولة الحديثة بتنظيم كل المجالات وإخضاعها للمشرع، تظل لا تخلو من مآخذ وتحفظات، لاسيما أنها تضع الأفراد تحت رحمة تشريع تحتكره الدولة، التي لن تكون دومًا معبّرة بالضرورة عن إرادة الأفراد، وهي عمومًا دولة قهرية في العالم العربي، كما أنها تضيّق مجال المعالجات في نوازل وقضايا، كان يمكن فيها سعة في النظر؛ إذ إن عملية التقنين كثيرًا ما تتجه إلى التنميط والجمود والتمثل البليد والتبسيطي لفلسفات قانونية أخرى، دون فحص السياقات الاجتماعية والتاريخية والثقافية المختلفة.
ويزداد هذا الأمر تعقيدًا، لاسيما في مجال هو أصلاً يتعلق بالأحوال الشخصية، يبحث فيه المتقاضي عن الأيسر من الحلول. بيد أن الدولة الحديثة "التدخلية" لا تترك شاردة ولا واردة إلا وأخضعتها للتقنين، مختزلة بذلك وفي شكل متعسف مدونة فقهية (تضم أكثر من خمسة مذاهب فقهية) يُحتفى فيها بالتنوع والتعدد وتغير مناط الأحكام بتغير الأفراد وأوضاعهم. وهو وضع يؤكد أن الدولة الحديثة قد تكون في بعض وجوهها أكثر قهرية وتسلطًا من الدولة التقليدية، لما يطبعها من نزوع نحو احتكار كل شيء، واقتحام كل شيء، لاسيما الضغط المسلح، والأخطر منه احتكار التشريع في الشأن العام والخاص على حد سواء.
خاتمة
تجدر الإشارة في النهاية إلى فكرة أساسية، وهي أن هذه المعركة على المدونة القانونية، وضعًا وتأويلاً، تُخفي وراءها معركة أكبر، معركة على الدولة ومن أجلها. هذه الدولة التي تحولت في التجربة العربية المعاصرة إلى إطار وموضوع للصراع، تدور حولها ومن أجلها كل المعارك، ويُنظر إليها باعتبارها الأداة التي من خلالها وبها يمكن أن يتحول المجتمع إلى عجين يسهل صياغته، بالأسلمة أو العلمنة أو اللبرلة، متوسلين بأدوات هذه الدولة "القهرية" التي تحمل الناس على هذا الاتجاه أو ذاك رغبًا أو رهبًا.
وتحيل هذه الإشكالية إلى مسألة شائكة تحتاج إلى كثير من الاهتمام، لدى الفاعلين السياسيين والباحثين على حد سواء، وهذه المسألة تتعلق بالدولة التي نريد؛ ما هي طبيعتها وخصائصها وحدودها؟ ما موقعها في المشروع النهضوي؟ وهل تصمد تجربة التغيير اليوم في إطار "الدولة القُطرية الحديثة التي نشأت بعد الاستقلال" -والتي نحن بصدد إعادة ترسيخها اليوم- أمام الضغوطات والتحديات الخارجية والداخلية أم أنها ستحمل بذور فشلها؟ ألا يبدو أن ثوراتنا القلقة والمرتبكة اليوم هي أساسًا بسبب هذه "الدولة الوطنية الحديثة" التي تبدو في كثير من الأحيان في مواجهة مع الإرادة العامة الوطنية والعربية في التحول، تروضها وتتحكم فيها. فتبدو بامتياز "الدولة ضد الأمة"؟
____________________________________
جلال الورغي - كاتب وباحث تونسي
المصادر
1- المستشار طارق البشري: الوضع القانوني المعاصر بين الشريعة الاسلامية والقانون الوضعي، دار الشروق 1996.
2- عياض بن عاشور، الضمير والتشريع، المركز الثقافي العربي 1998.