قراءة في مبادرات المجتمع المدني العُماني بعد حراك عام 2011

نشطت المبادرات المدنية في سلطنة عُمان بعد الحركة الاحتجاجية الواسعة التي شهدتها البلاد في مطلع العام 2011، وبالتحديد المبادرات الجمعية والفردية خارج الإطار الرسمي، لكنها واجهت تحديات عديدة نظامية وهيكلية وأخرى أمنية. هددت، ولا تزال تهدد، استمرارها بل ووجودها أيضًا.
20143595553596734_20.jpg

[الجزيرة]

 

ملخص

تحاول هذه القراءة تتبع بعض المبادرات البارزة في المجتمع العُماني، من حيث توجهاتها ومطالباتها، علاقتها بمؤسسات الدولة، الوسائل التي اتبعتها للتعبير عن أهدافها، ونظرة السلطة المركزية إلى تحركات تلك المبادرات ومطالبها، وكيف تعاملت معها، وكيف أثرت هذه المبادرات في الوضع السياسي والاجتماعي العُماني، وكيف تأثرت به.
حيث بدا وكأنَّ السلطة المركزية كانت حريصة على عدم المواجهة المباشرة مع الحراك الاجتماعي في أوساط المجتمع العُماني منذ اليوم الأول، رغم حرارة الشرارة الأولى، حيث استعاضت عن ذلك بأسلوب النَفَس الطويل، واحتواء توسع نشاط المبادرات بتصرفات وممارسات غير ظاهرة للعيان.
وتخلص إلى أنه بالرغم من التحديات الكبيرة التي تجابه مبادرات ومؤسسات المجتمع المدني العُماني، إلا أن أملاً يبقى يلوح في الأفق، فالمجتمعات بطبيعتها تتطور، وتصطحب خبراتها المتراكمة لتبني عليها نموذجها المناسب في البناء والتعمير المادي وغير المادي. كما يرى الباحث أنَّ محصلة الحراك المدني في سلطنة عُمان ليست بقدر الطموح المُرتجى، لكنها تستحق الاحترام والتقدير لأنها مدفوعة بوعي متقدم لأعضائها وبحرص وطني واضح على تعزيز حقوق وواجبات المواطن السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية في حدها الأدنى على الأقل. والذي يستشرف السبيل نحو النضج السياسي والمدني الهادف في المؤدَّى الأخير إلى تنمية إنسانية حقيقية.


مقدمة

نشطت المبادرات المدنية في سلطنة عُمان بعد الحركة الاحتجاجية الواسعة التي شهدتها البلاد في مطلع العام 2011، وبالتحديد المبادرات الجمعية والفردية خارج الإطار الرسمي (قانون الجمعيات الأهلية)، لكنها واجهت تحديات عديدة نظامية وهيكلية وأخرى أمنية. هددت، ولا تزال تهدد، استمرارها بل ووجودها أيضًا.

 ستحاول هذه القراءة تتبع بعض المبادرات البارزة، من حيث توجهاتها ومطالباتها، علاقتها بمؤسسات الدولة، الوسائل التي اتبعتها للتعبير عن أهدافها، ونظرة السلطة المركزية إلى تحركات تلك المبادرات ومطالبها، وكيف تعاملت معها، وكيف أثرت هذه المبادرات في الوضع السياسي والاجتماعي العُماني، وكيف تأثرت به.

السنوات الثلاث التي تلت أحداث ما سُمي بـ"الربيع العُماني" كانت اختبارًا عمليًا لحيوية الإنسان في عُمان وجديته تجاه إصلاح نظامه السياسي، ونقد نظامه الاجتماعي، وعدم تفويته للفرصة التاريخية التي عاشتها شعوب المنطقة العربية في عام 2011، والتي أحدثت "قطيعة مع السيطرة الأمنية الشاملة التي فرضتها السلطة على المجتمع طوال العقود الأربعة الماضية، وأعلنت عن بدء مرحلة جديدة تتدافع فيها القوى الاجتماعية الصاعدة بمطالبها واحتجاجاتها في صراع جدلي مع السلطة السياسية التي تحاول استيعاب الحالة الجديدة الناشئة، وهو ما أوجد حراكًا متناميًا، وجدلاً سياسيًا تتدافع فيه الإرادة الشعبية في صراع مع إرادة السلطة، وأنتج باستمرار تغيراته وتطوراته المتجددة." (1)

حتى السّلطة، في المقابل، لم تقف -على الأقل في البداية- موقف الرافض والمواجه والمُحاصر لنشاط مبادرات المجتمع المدني، بل على العكس، سمحت لهذه المبادرات بممارسة عملها ومراقبتها، وحضور نشاطاتها، رغم أنها غير مرخصة، أو منضوية لسلطة قانون الجمعيات الأهلية، ووزارة التنمية الاجتماعية المشرفة على تنفيذه؛ ربما لإدراك هذه السلطة، ووعيها الباكر، من خلال تجربتها في سبعينيات القرن الماضي، بأن هذا العصر ليس عصر المواجهات تجاه إرادة التغيير ومتطلباته؛ "فرفضها لمتطلبات أي حراك اجتماعي، وعدم تنازلها عن سلطاتها (كليًا أو جزئيًا) يعتبر شهادة معتمدة بتفجر الأوضاع، وتجذير العنف كخيار أوحد لبلوغ عملية التغيير، والذي ليس بالضرورة إلى الأحسن والأصلح. أما قبولها وتفاعلها وحوارها مع هذا الحراك فما هو إلا حزام أمان يجنب الدولة والمجتمع النهايات المفتوحة للثورات". (2)

بدا وكأن السلطة المركزية كانت حريصة على عدم المواجهة المباشرة مع الحراك الاجتماعي منذ اليوم الأول، رغم حرارة الشرارة الأولى، حيث استعاضت عن ذلك بأسلوب النَفَس الطويل، واحتواء توسع نشاط المبادرات بتصرفات وممارسات غير ظاهرة للعيان سنأتي عليها لاحقًا.

في المدخل النظري

لعلَّ من نافلة القول ذكر أهمية مؤسسات المجتمع المدني؛ "فأي ثورة، أو حركة احتجاجية لا تستطيع أن تبقى في درجة عالية من الغضب والثورية لمدة طويلة إذا لم تجد مؤسسات تنضوي تحتها وذلك من أجل بلورة مطالبها بصورة مستمرة، ومن أجل قيادة نضالها لتحقيق تلك المطالب المتجددة عبر الزمن". (3) والتاريخ يعلمنا درسًا بليغًا في هذا المقام، هو أن الثورات التي لا تنتهي بأن تصبح مشروعًا سياسيًا اقتصاديًا اجتماعيًا ثقافيًا متكاملاً؛ تذبل مع الزمن ومن ثم تعود الأوضاع إلى ما كانت عليه، وربما أسوأ.
هذا ما حدث بشكل جلي في عُمان؛ إذ غابت مؤسسات المجتمع المدني العُماني "المرخصة" في فترة الاعتصامات التي شهدتها السلطنة في الشهور الثلاثة الأولى من العام 2011؛ مما دلّل على الاعتلال البنيوي والوظيفي الذي تعانيه هذه المؤسسات، والإطار الرسمي الذي تعمل من خلاله.

 

مفارقة النظر والعمل

يُظهر تعريف مصطلح "المجتمع المدني" الوارد في تقرير التنمية البشرية العُماني الأول، مفارقة جدلية واضحة بين تنظير السلطة وممارساتها العملية. وتتجسد هذه المفارقة في عنصرين: أولهما: أن الإدارة الجيدة لشؤون المجتمع والدولة هي "محدد مهم لنجاح التنمية البشرية، وهي حصيلة لنشاط ثلاث قوى فاعلة في الدولة، هي: القطاع العام الإنتاجي، والقطاع الخاص، والمجتمع المدني". (4) وهو اعتراف ذو دلالة بأهمية المجتمع المدني ومؤسساته كشريك فاعل في التنمية نظرًا للتحولات الكبيرة التي طرأت على وظيفة الدولة، والتأكيد على دور المشاركة الديمقراطية والنزاهة والشفافية في دعم جهود التنمية الشاملة. 

أما العنصر الثاني، فهو مصطلح المجتمع المدني؛ حيث يتشكّل وفق التقرير المذكور "من نطاق واسع من التنظيمات المختلفة في أغراضها وأحجامها وهياكلها التنظيمية وأساليبها في جميع الموارد اللازمة لمباشرة نشاطاتها. وينتظم في هذه المنظمات أفراد مستقلون يعملون طوعًا بشكل جماعي لتحقيق هدف مشترك في بيئة أو محيط عام، للتعبير عن مصالحهم وأفكارهم ومبادئهم. والأصل في هذه المؤسسات أن تكون مستقلة عن الدولة، وأن تعمل خارج إطار تدخلها، سواء كشريك على قدم المساواة مع الدولة أو كمعارض للدولة وما تضعه من سياسات". (5)

ورغم أن النظام الأساسي للدولة، والذي يعتبر بمثابة دستور البلاد، الصادر في نوفمبر/تشرين الثاني 1996، قد أكد في المادة (33) منه بشكل واضح على أن "حرية تكوين الجمعيات على أسس وطنية ولأهداف مشروعة وبوسائل سلمية مكفولة وفقًا للشروط والأوضاع التي يبينها القانون، ويُحظر إنشاء جمعيات يكون نشاطها معاديًا لنظام المجتمع أو سريًا أو ذا طابع عسكري، ولا يجوز إجبار أحد على الانضمام إلى أية جمعية". والمادة (32) من النظام الأساسي قد كفلت حق الاجتماع ضمن حدود القانون إلا أن الممارسات الرسمية، بالإضافة إلى الأنظمة واللوائح التي صدرت عن السلطة المركزية بعد صدور هذا النظام، بيّنت أن الطريق لا يزال طويلاً وشاقًا، ويحتاج إلى نضال فكري، وتوعوي، وتنظيمي، يطمئن جميع الأطراف على أن مؤسسات المجتمع المدني خير مُعين لنهضة الدولة وتماسك المجتمع وحيويته.

دليل ذلك قانون الجمعيات الأهلية (آنف الذكر) الصادر بالمرسوم السلطاني رقم 14/2000. الذي أعطى وزارة التنمية الاجتماعية حق إشهار الجمعيات والأنشطة المدنية في البلاد والإشراف عليها (فيما عدا النقابات العمالية)، إضافة إلى صلاحيات واسعة أخرى. ومن واقع الممارسات التي عايشها المشتغلون في هذه الجمعيات، فإن هذا القانون أصبح العائق الأكبر لنمو المجتمع المدني، وهو إضافة لكونه لا يعبّر عن طبيعة المرحلة وروح العصر، ضّيق الخناق على العمل المدني، وكرس الشكوك تجاه أية فكرة يتقدم بها أفراد المجتمع لممارسة حقهم في التجمع السلمي من خلال العمل التطوعي والمهني والاجتماعي والفكري، مع استبعاد السياسي وتجريمه قانونيًا. (6) وظلت طلبات الإشهار تتأخر بالسنوات، ووُضع أمامها الكثير من المتطلبات الأمنية والإدارية، وأُثقل على المتقدمين بالشروط والتراخيص البيروقراطية، إضافة إلى تحدي التمويل المالي الضامن لاستمرارية هذا النوع من الأعمال؛ ما أضاف بُعدًا جديدًا لمسلسل الفرص "المفوتة" الذي تعاني منه التنمية الإنسانية في عُمان من خلال هدر طاقات المجتمع، والتشكيك في قدرات أفراده، وعدم الاطمئنان لنشاطاتهم العلنية، والدفع بهم إلى دهاليز البيروقراطية المُنهكة، حتى يستسلموا للزمن، أو يقبلوا بالحد الأدنى الذي تفرضه شروط السلطة، لتنفيذ فكرتهم في التجمع وممارسة العمل المدني.

 

في جدلية الديمومة والإحجام

تناسل الحراك المدني العُماني بعد عام 2011 على شكل مبادرات عدّة، تنوعت اهتماماتها وموضوعاتها ووسائلها، بتنوع انشغال واشتغال مؤسسيها والقائمين عليها. وأصبح واضحًا للمجتمع والسلطة معًا حرص الشباب العُماني على استثمار هذه اليقظة وتوظيفها لإحداث نهضة أكثر عمقًا في التفكير والحوار والنقد لكل ما يحيط بالإنسان من تحديات طبيعية تصاحب أي نمو سليم للمجتمعات البشرية. بل وتجاوزت هذه المبادرات، بحيويتها وحضورها نشاط كثير من الجمعيات والمؤسسات المرخصة رسميًا، وإن تعاون بعضها مع تلك الجمعيات وحفّزها لبذل مزيد من العمل المدني، وإبداع وسائل أكثر قربًا لقلوب وعقول الأجيال الشابة؛ فمن مبادرات تُعنى بحالات الطقس والتغير المناخي إلى مبادرات تربوية تعزز حب المعرفة والاطلاع وتشجيع القراءة، إلى مبادرات تنظم صالونات حوارية مفتوحة في المقاهي العامة والحدائق والمتنزهات، تناقش موضوعات كانت من "التابو السياسي" المحرم مناقشته حتى في المؤسسات والمنتديات المرخصة رسميًا من السلطة. كل ذلك النشاط، كان مشفوعًا ومدعومًا بحضور مكثف في وسائل التواصل الاجتماعي كـ"فيسبوك" وبشكل أوسع في "تويتر"، و"واتس آب"، و"إنستجرام" و"يوتيوب" وغيرها.

ونذكر تاليًا بعضًا من هذه المبادرات التي حركت الساكن الاجتماعي، وساهمت في اختبار حيوية المجتمع والإنسان في عُمان.

رؤية الشباب

    في مجال "تنوير الفكر الشبابي والعمل على غرس أسس التفكير المتزن الحر" برز اسم مؤسسة "رؤية الشباب"، (7) التي استضافت شخصيات رسمية معروفة كالوزير المسؤول عن الشؤون الخارجية وأمين عام وزارة الخارجية وغيرهما من صنّاع القرار والمتخصصين في مجالات الإدارة والقيادة والتخطيط في جلسات مفتوحة في بعض المقاهي العامة، مع رفد هذه الاستضافات بتغطيتها على فضاء "تويتر". (8)

نجاة

في مجال التوعية بحالات الطقس والوقاية من مخاطر التقلبات المناخية، كان "فريق نجاة" مثالاً للعمل المدني المدفوع بنشاط وحيوية لافتة، حيث اكتسب مصداقية عالية تجاوزت مؤسسات رسمية متخصصة في هذا المجال، بل وتعلمت منه التوظيف الذكي لوسائل التواصل الاجتماعي عند هطول الأمطار وهبوب العواصف. هذا المجال أصبح يستقطب اهتمامًا واسعًا بعد الخسارات الفادحة التي تعرض لها المواطنون في الإعصارين الأخيرين اللذين تأثرت بهما عُمان (إعصار جونو في عام 2007 وإعصار فيت في عام 2010)، وكلّفا البلاد خسائر مادية فادحة، لم تكن الطبيعة السبب الرئيس بحدوثها بقدر ما كان سوء التخطيط والفساد في تنفيذ المشاريع الحيوية من طرق ومؤسسات إيوائية وخدمية سببًا حقيقيًا لوقوعها.

أكثر من حياة  

في مجال المبادرات القرائية نشطت مبادرة "أكثر من حياة"؛ حيث اهتمت بشكل مكثف بتنظيم فعاليات قرائية من أجل "تأصيل أعمق للقراءة في المجتمع العُماني"، بل وتوسعت في تحقيق أهدافها في إطلاق مجلة إلكترونية متخصصة في عرض قراءات موسعة لـ"تشجيع المشهد النقدي العُماني عبر الالتفات إلى الإصدارات العُمانية المتزايدة -وغيرها من النتاج المعرفي الإنساني- مما يوفر اكتشاف أقلام نقدية جديدة والترويج لمنتج ثقافي عُماني"، (9) إضافة إلى تنظيمها لملتقيات جماهيرية في حُب القراءة والمعرفة وتبادل الأفكار في الفضاء المفتوح، يكون مسرحها الحدائق والمتنزهات والفضاء الإلكتروني الرحب. (10)

نور وبصيرة 

قدمت مبادرة "القراءة نور وبصيرة " (11) مثالاً عمليًا على التنوع والحيوية في مجالات الفكر والسياسة والاقتصاد والقانون والاجتماع والآداب والفنون، من خلال تنظيمها لأكثر من 70 صالونًا حواريًا، طافت مدن وولايات البلاد. هذه المبادرة المُستهدِفة ثقافة الحوار الحُرِّ، والتواصل بين الأفكار واحترام اختلافها، وخلق جسر من التلاقح الحضاري بين التجارب الإنسانية المتنوعة، من خلال رؤيتها "نحو حوار متمدنٍ، واعٍ، حرٍّ ومسؤول" ناقشت موضوعات جدلية منوعة؛ كتطوير الأداء الحكومي، والكفاءة والمساواة في الزواج، والإضراب عن الطعام، وحقوق السجين، والميزانية العامة للدولة، وثورة ظفار والمسكوت عنه في اللاوعي العُماني، والإعلام وأثره على الوعي، والفنون وأثرها في الحياة والتفكير، وموضوعات مختلفة في حقوق الإنسان. واستضافت شخصيات عُمانية وعربية وأجنبية مرموقة متنوعة الأفكار والتوجهات من أكاديميين وقانونيين وقضاة وحقوقيين وأعضاء مجلس شورى ووزراء ووكلاء في المؤسسة التنفيذية ومثقفين وكتّاب وفنانين عالميين وشخصيات بارزة أخرى في مجالات عدة. وغطت قافلتها القرائية "كتابي صديقي" أكثر من 10 ولايات عُمانية لتحفيز الأطفال على القراءة وحب المعرفة. كما وظفت تويتر وفيسبوك ويوتيوب والمدونات لتوثيق أعمالها و"للدعوة إلى فعالياتها ولتغطيتها وسرد ما دار فيها من نقاشات ومداخلات وهي تتنقل بقافلتها بين مدن السلطنة كقافلة فكرية أصبح لها جمهورها ومحبوها." (12)

الهمم تتواصل

وفي سياق متصل، نشطت صالونات ثقافية خارج العاصمة مسقط، في تطور غير مسبوق للحراك الاجتماعي العُماني، عبّر عن وعي ومسؤولية الشباب تجاه الشأن العام. من هذه المبادرات مؤسسة "إكسير" في مدينة صحار، والتي نظمت جلسات نقاشية حول قضايا فكرية واجتماعية وقانونية وتقنية وتعاونت مع اللجنة الوطنية للشباب "الرسمية" في تنظيم مسابقات في الإبداع السينمائي والكتابي والتصوير الضوئي وغيرها. "شبكة المصنعة الثقافية" كان لها دور بارز في تفعيل الحوار وتبادل الأفكار في مجالات الفلسفة والاجتماع والأدب في محافظة جنوب الباطنة."صالون سمائل الثقافي" ساهم عند تأسيسه في تحريك الساكن الفكري والثقافي في محافظة الداخلية بتركيزه على موضوعات مهمة كنقد الخطاب الديني والإعلامي، والاحتفاء بالشخصيات المجددة في الفكر ومناهج البحث.

كما قدّم "منتدى ظفار للثقافة والحوار" بدوره في جنوب البلاد، نموذجًا لاستمرار النشاط الفكري والسياسي والاجتماعي باستضافة أسماء معروفة في الأدب والفن والإدارة.

صالون "فاطمة العلياني الأدبي" في ولاية البريمي هو الآخر برز بشكل مختلف، وعبّر عن روح المبادرة التي تتمتع بها المرأة في عُمان. وهناك صالون "سميراميس الثقافي" بمسقط الذي عمل على تنظيم فعاليات حوارية في الأدب والتربية والثقافة وقضايا المرأة، و"صالون صور الثقافي" في محافظة جنوب الشرقية، الذي قام بتسليط الضوء على كثير من التجارب الإنسانية الناجحة في التنمية وبناء القدرات.

كذلك برزت مبادرة "كلمتين رأس"، وهي مبادرة شبابية نشطة تعمل على شيوع "مفاهيم الحب والسلام والتسامح والعطاء وحب المعرفة"، من خلال مواد بصرية تُبث على موقع "يوتيوب"، كما تبنت المبادرة فكرة رائدة، وهي تأسيس مكتبات صغيرة في المقاهي والأماكن العامة ليشغل الناس أوقات انتظارهم وفراغهم فيها بالقراءة والاطلاع.

وهناك مبادرة "حقي"، وهي مبادرة مَعنيةٌ بشكل متخصص بالتوعية القانونية وتقديم مواد فيلمية قصيرة للتعريف بحقوق وواجبات المواطنة الصالحة والفاعلة. ومبادرة "طرف ثالث" وهي مبادرة تُركز على إبراز الكفاءات العُمانية والحوار معها والتعريف بها وبأفكارها وتخصصاتها وإبداعاتها وكيفية توظيفها لخدمة التنمية والإنسان في البلاد.

مبادرات ومؤسسات أخرى واعدة لها جهود بارزة وإنجازات ميدانية واضحة وفعاليات تتعلق بالعمل التطوعي والإغاثي ونشر ثقافة السلامة المرورية والثقافة القانونية كـ "فريق الرحمة الخيري"، و"فريق نداء الخير" في ولاية بوشر، و"فريق همم"، و"مؤسسة تكاتف" لتشجيع العمل التطوعي، و"فريق السوادي" للتوعية الاجتماعية، و"فريق البريمي التطوعي"، و"شموع لا تنطفئ"، ومبادرة "التطوع التربوي"، وفريق "صدى الشباب".

في جدلية المراقبة والتصرف

راقبت السلطة هذا الحراك النشط وغير المعتاد دون أن تستخدم الأساليب التقليدية لمحاصرته وإيقافه؛ فأغلب هذه المبادرات لم تنتظر الترخيص الرسمي من المؤسسات الموكل لها هذه المهمة، بل جاء نشاطها تمردًا على البطء والمماطلة والإهمال لهذه الأفكار والأنشطة فمارست نشاطها في العلن، وتواصلت وتفاعلت مع الشخصيات العامة وضيوفها بشكل مباشر، واختارت موضوعات نقاشها ومحاور اهتماماتها بدون سلطة الرقيب التقليدية، وحصلت على دعم مالي من الأفراد والمؤسسات الخاصة لتمويل فعالياتها، وأعلنت عن نشاطاتها ودعت لها بشكل مهني واضح، وتفاعلت مع النقد الذي يستهدف تقويمها وتجويد أدائها؛ الأمر الذي أكسبها مصداقية متنامية في أوساط المجتمع ومن شرائح مختلفة، ومارست تأثيرًا كبيرًا على توجيه الرأي العام وتوعيته.

بيد أن السلطة المركزية التي لم ترغب في الظهور على أنها قامعة للحريات العامة، وحرصها على إظهار صورتها بشكل حضاري، هي ذاتها التي عملت على إعادة الوضع الساكن إلى ما قبل حراك عام 2011، داعمةً تحركها المضاد، وحصارها الممنهج بنتائج "الثورات المضادة" في بلدان الربيع العربي كمصر وليبيا وتونس واليمن مذكّرةً المجتمع وأفراده في خطابها الرسمي الإعلامي والديني والثقافي بالعواقب الوخيمة التي تعانيها هذه المجتمعات من جرّاء السكوت أو التهاون مع أفكار وممارسات الحراك الثوري التي اجتاحتها. لذلك لجأت السلطة إلى أساليب "مبتكرة" للحد من توسع نشاط بعض هذه المبادرات، خاصة تلك المعنية بالشأن الفكري والسياسي، ومن هذه الممارسات:

• الاستدعاءات والتحقيقات الأمنية المباشرة مع أصحاب هذه المبادرات والفاعلين فيها، وتهديدهم بأنهم يمارسون نشاطًا غير مرخص سيؤدي بهم للمحاكمات والسجون.
• جلسات ودية يقوم بها ضباط أمن متخصصون، بحللهم المدنية، مع أعضاء هذه المبادرات يلفتون انتباههم لعواقب مُضيهم في هذا الشأن.
• توجيه الصحف ووسائل الإعلام التقليدية بعدم نشر أنشطة هذه المبادرات وتجاهلها رغم أهميتها.
• الضغط على أماكن احتضان الفعاليات كالمقاهي والمسارح والمدارس لكيلا تتعاون مع بعض هذه المبادرات إلا بعد الحصول على ترخيص من الجهات "المختصة".
• تضييق دائرة الدعم المالي بعدم السماح للشركات بتقديم دعمها.
• تخصيص عدد من الموظفين "المتوارين وراء الشاشات والأجهزة اللوحية"، مهمتهم كتابة كل ما من شأنه التقليل من أهمية جهود هذه المبادرات، والنيل من شخوص وذوات العاملين فيها، تحت مسميات ومعرِّفات وهمية.
   كل ما سبق يصب في قالب الرهان على عاملي الزمن وخفوت روح العمل والمبادرة، اللذين ما يلبثان أن ينفدا بمجرد تكالب المعوقات الذاتية والنفسية الداخلية، مع القانونية والاجتماعية الخارجية. "ليركن أصحاب المبادرات للسائد الاجتماعي، الذي يؤثِر السلامة والهدوء وعدم الاكتراث بالشأن العام، وتركه للأجهزة الرسمية "المُرخصة" فهي دائمًا أفهم وأكثر قدرة على معالجة مستجدات واحتياجات الناس والمجتمع". (13)

في الغد الذي يستحق

لأجل إصلاح الراهن المدني وتطويره، فإن مؤسسات ومبادرات المجتمع المدني في عُمان عليها واجب العمل والمثابرة بهمة وإخلاص لكسب تأييد وإقناع مجلس عُمان "البرلمان" -لاسيما غرفته المنتخبة- لصياغة منظومة تشريعات مرتكزة على استراتيجية متكاملة لدعم وتشجيع ثقافة عمل مدني راسخ ومستدام، يكفل لها ديمومة البقاء بشكل مقنع، خاصة من قبل جيل الشباب المتطلع للمساهمة بإيجابية فاعلة في تنمية وطنه.

 ولأنه لا يمكن التعويل على المؤسسة التنفيذية لدعم الحراك السياسي والمدني، فعلى مجلس عُمان أن يجدّ ويسارع في تشريع قوانين تكفل وتحمي حق المواطنين في ممارسة حقوقهم المدنية، واستبدال القوانين السابقة بقوانين متوافقة مع روح الإنسان المعاصر وأحلام المواطن الواعي. ويستتبع هذا تفعيل المؤسسة القضائية -لاسيما الدائرة الدستورية منها-؛ حتى يتسنى للمجتمع المدني النمو بشكل طبيعي.

الخلاصة

بالرغم من التحديات الكبيرة والعميقة التي تجابه مبادرات ومؤسسات المجتمع المدني العُماني اجتماعيًا وسياسيًا وقانونيًا واقتصاديًا، إلا أن أملاً يظل يلوح في الأفق، فالمجتمعات بطبيعتها تتطور، وتصطحب خبراتها المتراكمة لتبني عليها نموذجها المناسب في البناء والتعمير المادي وغير المادي. وفي الوقت الراهن فإن هذه المبادرات هي حراك طبيعي يحاول أن يشغل الفراغ الكبير الحاصل بين العائلة، باعتبارها الوحدة الأساسية التي ينهض عليها البنيان الاجتماعي والنظام القيمي في المجتمع من ناحية، والدولة ومؤسساتها وأجهزتها من ناحية أخرى.
إن محصلة الحراك المدني العُماني ليست بقدر الطموح المُرتجى، لكنها تستحق الاحترام والتقدير لأنها مدفوعة بوعي متقدم لأعضائها وبحرص وطني واضح على تعزيز حقوق وواجبات المواطن السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية في حدها الأدنى على الأقل. والذي يستشرف السبيل نحو النضج السياسي والمدني الهادف في المؤدَّى الأخير إلى تنمية إنسانية حقيقية.
_____________________________________________
*سعيد سلطان الهاشمي، باحث عُماني.

الهوامش
1. ناصر صالح: تحريك الساكن وجدل المتغير، الربيع العماني: قراءة في الدلالات والسياقات، تحرير وإعداد: سعيد سلطان الهاشمي، بيروت: دار الفارابي،2013، ص63.
2. فواز طرابلسي: ظفار: شهادة من زمن الثورة، بيروت: رياض الريس للكتب والنشر، 2004، ص33.
3. علي فخرو: "اندراج طاقة الثورات في مؤسسات"، صحيفة الرؤية، العدد 441، الأحد 19 يونيو/حزيران 2011.
4. تقرير التنمية البشرية، وزارة الاقتصاد الوطني، سلطنة عمان. 2003، ص169.
5. في الهامش رقم (5) من الصفحة رقم 177، يفصّل التقرير كيف يمكن أن تكون معارضة وبشكل إيجابي حيث يشرح أن مؤسسات المجتمع المدني تقوم بدور بنيوي أو مؤسسي عندما تمارس النقد الاجتماعي، وتدافع عن الحقوق والحريات السياسية والمدنية للناس، وتساهم في حشد وتعبئة الجهود من أجل التغيير الاجتماعي والتطوير السياسي والانفتاح الاقتصادي.
6. اشتغلت السلطة المركزية على تجريم العمل الحزبي ومحاربة أي وعي حزبي مشروع وتطويره في إطار مساره التاريخي الطبيعي، رغم توافر بذور التيارات والأحزاب منذ سبعينيات القرن الماضي، بل عملت أجهزتها جاهدةً على تشويه وجود نشاط سياسي كهذا، وتصويره على أنه عائق أمام جهود التنمية، بل والتخويف من فكرة الأحزاب وتجريم تشكيلها، عند وضع التشريعات الجديدة في مرحلة ما بعد 1970، وحتى اللحظة؛ إذ تنص المادة 134 من قانون الجزاء العماني، على أنه: "يُحظَر تأليف الأحزاب والمنظمات ذات الأهداف المناهضة للنظم الأساسية السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية في السلطنة". كما نصت المادة 5 من قانون الجمعيات الأهلية: "يُحظَر على الجمعية الاشتغال بالسياسة أو تكوين الأحزاب ...".
7. http://www.youth-vision.net-
8. للمزيد من الإيضاح حول نشاط هذه المبادرات في الفضاء الإلكتروني، انظر: موسى البلوشي، تويتر عمان 2013م: "المبادرات بين الانطلاقة وتعزيز الحضور" على: http://albaladoman.com/?p=15773
9. http://main.omandaily.om/?p=69510  
10. http://hayaah.net /
11. انظر لمزيد من التفصيل: حصاد نور وبصيرة لنشاطاتها في تقريرها المنشور على    http://light-foresight.blogspot.com
12. موسى البلوشي: المصدر السابق.
13. مقابلة شخصية مع رئيسة إحدى المبادرات النشيطة، مسقط 10 فبراير/شباط 2014.

نبذة عن الكاتب