عضوية تركيا في حلف الناتو ومطالبات الإقصاء

تناقش هذه الورقة الآراء الغربية التي برزت مؤخرا وتتساءل عن مصير تركيا في حلف شمال الأطلسي "الناتو"، ومدى أهمية بقائها فيه؛ إثر الغموض الذي شاب موقفها من المشاركة في عملية التحالف الدولي ضد تنظيم "داعش" وعدم سماحها باستخدام قواعدها الجوية.
90988324081b4898a22c14fa8f3cb650_18.jpg
(الجزيرة)

 

ملخص
في وقت الأزمة، ومع اختلاف مواقف الحلفاء ومصالحهم تجاهها، تظهر أحيانًا مشاعر سلبية مكنونة تصل حدّ المطالبة بإقصاء الشركاء؛ فقد برزت مؤخرًا آراء غربية تتساءل عن مصير تركيا في حلف شمال الأطلسي "الناتو"، ومدى أهمية بقائها فيه؛ إثر الغموض الذي شاب موقفها من المشاركة في عملية التحالف الدولي ضد تنظيم "داعش" وعدم سماحها باستخدام قواعدها الجوية. وكردّ فعل على ذلك برزت آراء تركية تتساءل عما جنته أنقره من تعاونها مع الناتو سوى التكاليف الباهظة، والدور الوظيفي السلبي، والحدّ من دورها المستقل في الساحة الدولية. وما يزيد من غرابة هذه التساؤلات والاتهامات المتبادلة أنها تأتي في ظل عمليةٍ ليست من عمليات الناتو أصلًا، وفي السياق نفسه تظهر محاولات دبلوماسية تسعى للتأكيد على ضرورات التحالف وأهمية استمراره، وبعيدًا عن المشاعر وعن الدبلوماسية تفرض أجواء الشك والأزمة والنظرة الواقعية ضرورة دراسة الوضع الحالي لتركيا في الناتو، ورؤيتها الخاصة لطبيعة دورها وتحولاته، ومدى مصلحتها ورغبتها في استمرار عضويتها فيه، كما تفرض أيضًا دراسة المصالح الغربية في عضوية أنقره في الحلف، ومدى الرغبة في استمرارها؛ وذلك في ضوء التحديات الأمنية الإقليمية والدولية الجديدة.

آراء تركيا في وقت الأزمة

تزايدت الانتقادات في الولايات المتحدة وأوروبا ضد تركيا بسبب ما بدا أنه تراخٍ منها، وظهورها مترددةً وشريكًا يصعب الاعتماد عليه في الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش"، وتساءل العديد من الكتَّاب الغربيين عن مصيرها في الناتو، وعما إن كان يمكنها أن تظل عضوًا فيه، وكان من أبرز هؤلاء الناقدين الفيلسوف والكاتب الفرنسي برنارد هنري ليفي -الذي اشتهر بترويج عملية الناتو في ليبيا- فقال: "يبدو أنَّ أردوغان اختار (داعش) على الأكراد؛ ولكن يجب أن نقول لأردوغان: إنَّ المعركة ضد داعش تعدّ لحظة الحقيقة، لقد قاومت تركيا المشاركة في حرب العراق عام 2003، وإذا فعلت ذلك مجددًا، فإنّ مستقبلها في الناتو سيكون موضع تساؤل وشك"(1). وذهب جوناثان تشانجر -نائب مدير البحوث في مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات في واشنطن- إلى أنَّ "الفوضى في سوريا تؤكد حقيقة مزعجة: أنَّ الأتراك لم يعودوا حلفاء يمكن الاعتماد عليهم؛ إذ أظهرت الأزمة السورية أنَّ تركيا في ظل حزب العدالة والتنمية تعد قضية خاسرة؛ ولذلك فهي ببساطة ليست شريكًا للناتو"(2). أما المؤرخ كونراد بلاك في مجلة ناشيونال ريفيو فيجادل بأنَّ "الوقت قد حان للنظر في ما إذا كان ينبغي بقاء تركيا عضوًا في الناتو؛ فبسبب معارضتها للأسد تغاضت تركيا عن وصول الإمدادات إلى داعش، وتمنعُ الولاياتَ المتحدة من استخدام القواعد التركية، فإذا كان طرد تركيا أو تعليق عضويتها في الناتو أو دعم معارضيها الأكراد يمكن أن يعيد أردوغان إلى رشده، فيجب أن تؤخذ هذه الخطوات"(3). ويرى آلان ديرشويتز في صحيفة جيروسالم بوست أنَّ "تركيا تثبت مرة أخرى أنها حليف يصعب الاعتماد عليه بالنسبة إلى الولايات المتحدة والناتو؛ فهل يُعَدُّ حليفًا مَنْ يرفض المساعدة أثناء الأزمات؟"(4).

ومقابل هذه الآراء -التي أحدثت أثرًا إعلاميًّا ونفسيًّا في الغرب وفي تركيا أيضًا- انبرى بعض الأتراك للردّ على ما يرونه إجحافًا بحق تركيا؛ وذلك مع أنها قدمت خدمات للحلف على مدى أكثر من ستين سنة؛ إذ يرون أنَّ عضوية الناتو أصبحت عنصرًا مقيِّدًا لتركيا ومعرقلًا لطموحها في أن تصبح لاعبًا دوليًّا؛ ولذلك فعليها التخلص منها. ويتساءل تامر كوركماز في صحيفة يني شفق المقربة من الحكومة: "يجب أن يتساءل المرء ماذا أعطى الناتو لتركيا منذ عام 1952؛ بالنسبة إلى تركيا يعني الناتو: الانقلابات العسكرية، وتحذيرات الجيش للحكومات، والأزمات الاقتصادية، والاستقطاب الاجتماعي، والصراع الداخلي، والاستفزازات وعدم الاستقرار، والاستغلال والقهر والقتل خارج نطاق القانون والإرهاب المنظم"(5). ولعله يسعى من خلال ذلك إلى التذكير بما مرت به البلاد خلال سنوات عضويتها في الناتو من دون أن يسهم الحلف في تعزيز قيم الحريات والديمقراطية وحكم القانون داخل تركيا، مع أنَّ هذه القيم هي الأساس التي يقول الحلف: إنه تأسَّس للدفاع عنها.

ويعتقد بعض الأتراك -أيضًا- أنَّ الأولوية في الناتو أعطيت غالبًا للقضايا الأمنية الغربية مع تجاهل تلك المتعلقة بتركيا؛ فالفجوة تتسع بين تصورات تركيا للتهديدات التي تتعرض لها وبين تفضيل مصالح الغرب التي تشكل جوهر حلف الناتو. وفيما يتعلق بموضوع داعش تحديدًا يرى هؤلاء أيضًا أنَّ من أحدث الشرخ الطائفي في المنطقة هما سوريا والعراق، بالإضافة إلى داعش؛ ومن ثَمَّ تتوقَّع أنقره من أعضاء الناتو كبح جماح تلكما الحكومتين، ومحاربة داعش، ودعم الجماعات المعتدلة في الوقت نفسه(6).

وعلى الرغم من هذه الآراء المتباينة والحادة التي تُظهر استياءً ضمنيًّا يضمره الطرفان، ويتم التعبير عنه إعلاميًّا وبصراحة في أوقات الأزمات، فإنّها تبقى تعبِّر عن مشاعر يصعب أن تتحول إلى واقع؛ بسبب المصالح الاستراتيجية والضرورات التي لا تزال تجمع تركيا بحلفائها الغربيين؛ لذلك يرى دبلوماسيون غربيون في أنقره أنَّ "كلَّ حديث عن طرد تركيا من الناتو يعكس العواطف أكثر من الحقائق؛ فهذا يُظهر أنَّ هناك إحباطًا عامًّا تجاه موقفها؛ ولكن لا أحد يخاطر بإبعاد تركيا في مثل هذا الوقت؛ لأنها تقع في مركز كلّ الأزمات، والغرب قلق لأنه قريب منها"(7).

ومن جهة أخرى، تؤكد حقيقةُ أنَّ حلف الناتو ليس لديه عملية رسمية أو مهمة أصلاً في سوريا أو المنطقة المجاورة حاليًّا، أنَّ تلك الحملة "إعلامية" أساسًا، ولا تستند إلى معلومات أو تحليلات تتصل بميثاق الحلف نفسه ولا بالمبررات الاستراتيجية التي حتمت التحالف مع تركيا، ولا تزال تؤكد ضرورة استمراره. في الواقع إنَّ التحالف الدولي الحالي القائم لمحاربة تنظيم "داعش" ليس من عمليات الناتو، بل هو "تحالف الراغبين" من دولٍ غربية وعربية، بالإضافة إلى تركيا، وتقتصر مهمته على القضاء على التنظيم. وقد يقوم حلف الناتو في أي وقت بمساندة ودعم هذا التحالف إذا تعرَّض أحد أعضاء الناتو لتهديد أو هجوم مسلح؛ وهذا ما يستدعي تدخُّل جميع الأعضاء.

وبهذا الصدد يقول أونال أونسال، السفير التركي السابق لدى الناتو: إنَّ "الحديث عن طرد تركيا من الناتو لا يستند إلى قواعد؛ فحسب ميثاق الحلف يحقُّ للدول الأعضاء ترك الحلف إن أرادت؛ بينما لا توجد قواعد تتعلق بطرد الأعضاء"(8). ويقر تشانجر نفسه الذي يدعو لطرد تركيا، بأنه من الناحية العملية لو كانت هناك مهمة للناتو، فإنه "بحسب المادة الخامسة من ميثاق الحلف، لا تستطيع أي دولة تقييد نشاطاته في حال كانت العملية موافقًا عليها من دول الحلف"(9)؛ لأنَّ أي عملية يقوم بها الناتو يشترط موافقة أعضائه جميعهم عليها، ما يعني أنهم سيكونون حينها ملزمين بدعمه. وعلى الرغم من معرفة أولئك الكتَّاب أنفسهم بمثل هذه الحقائق، فإنَّهم يستمرون في التحشيد الإعلامي. ويفسِّر جيمس غولدجير -عميد كلية الدراسات الدولية في الجامعة الأميركية في واشنطن- هذا السلوك بأنه يستهدف التأسيس لحالة مستقبلية؛ فهو يرى أنَّ الانتقادات الحادة سيكون لها بلا شك أثر ما في المستقبل، وإنَّ التركيز على الموقف -الذي بدت فيه تركيا متردِّدة في دعم عمليات التحالف ضد "داعش"- يبرر ذهنيًّا أو يجعل من غير المحتمل أن يسارع الحلفاء في الناتو إلى الدفاع عنها في المستقبل إذا استدعت الظروف ذلك(10).

ومع ذلك فإنَّ الدول الغربية عمومًا تستند إلى منهجٍ واقعي في التعامل مع القضايا والدول؛ فغالبًا ما تُقَيَّم كل حالة بحسب حقائق الواقع الراهن وحساب التكلفة-المنفعة، وليس التأثر بحملات إعلامية؛ ففي أوج تلك الحملات قام الأمين العام الجديد لحلف الناتو جنز ستولتنبيرغ بزيارة إلى تركيا في أكتوبر/تشرين الأول 2014، أكد فيها تضامن الحلف مع تركيا في حال تعرضت لهجوم، كما قام بزيارة مواقع بطاريات صواريخ باترويت التي نشرها الحلف في تركيا سابقًا، التي قال عنها: إنها "تسهم في جعل الحلف قويًّا وتركيا آمنة"(11). وبشأن وضع تركيا في الناتو قال: "أقدِّر دور تركيا في أفغانستان وكوسوفا، ودورها المستقبلي في تدريب ومساعدة وتقديم المشورة للقوات الأفغانية، وأتطلع لاستمرار تعاونها من أجل بقاء الناتو بوصفه الركن الأساسي في حفظ أمننا"(12). أما الموقف التركي الرسمي، فما زال يؤكد أهمية تحالف تركيا مع الناتو، والتزامها ببعثاته وعملياته الحالية والمستقبلية، وأنّها ستواصل تقديم الدعم لهذه العمليات(13).

وعلى الرغم من تأكيد الأمين العام للناتو على التزام الحلف بالدفاع عن تركيا بموجب عضويتها، يرى باحثون أنَّ الحلف سيكون مترددًا في القيام بأي شيء أكثر من الضرورة القصوى للدفاع عن حدود تركيا؛ فبعد حروب طويلة وصعبة ومكلفة في العراق وأفغانستان لا تريد دول الحلف أن تنجر إلى حرب مسلحة أخرى في سوريا أو العراق؛ حتى إن كانت لمصلحة تركيا العضو في الحلف(14). كما أنَّ منع تركيا التحالف الدولي من استخدام أراضيها في حرب العراق عام 2003، ثم اقتصار دورها في أفغانستان على الإمداد والتدريب ورفضها المشاركة في العمليات القتالية، وتحديد مسؤولياتها في كوسوفو والبلقان بالتدريب والمراقبة والدعم فقط،(15) سيجعل الدعم الأطلسي لتركيا محدودًا.

تحولات الدور التركي في الناتو والحاجة الاستراتيجية المتبادلة

غالبًا ما اعتُبرت تركيا من قبل حلف الناتو بوصفها "حليفًا وظيفيًّا"؛ إذ تحتل موقعًا جغرافيًّا متميزًا، وتمتلك جيشًا قويًّا وكبيرًا؛ ومع ذلك لم تكن ممن يُحَدِّدون الاستراتيجية الغربية الكبرى؛ فإثر ظهور التحدي السوفيتي اعتُبرت تركيا حاجزًا طبيعيًّا مهمًّا للدفاع عن أوروبا الغربية، فتمَّ تشجيعها على الانضمام للحلف عام 1952، وبعد الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 تحولت تركيا إلى ثقلٍ مهمٍّ في الشرق الأوسط لموازنة الضغط الإيراني، وعلى الرغم من تزايد أهميتها في عمليات الناتو ومهماته في البوسنة والهرسك وكوسوفا في التسعينات من القرن العشرين، وفي أفغانستان (2001-2014)، فقد استمرت بأداء المهمة الوظيفية، ولم تكن مخططًا أو محددًا لاستراتيجية الحلف(16).

وقد حاولت تركيا الخروج عن هذا الدور الوظيفي وتحويله إلى مشاركة فاعلة بحسب منهج السياسة النشطة الذي اتبعه حزب العدالة والتنمية الحاكم، فكانت هنالك ثلاث محطات بارزة بهذا الشأن: الأولى في عام 2007، عندما قرَّرت إعادة تقييم الشراكة الاستراتيجية مع حلفائها الغربيين؛ بسبب تأجيل الولايات المتحدة طلبها للحصول على دعم الحلفاء في التعامل مع هجمات حزب العمال الكردستاني التي تنطلق من شمال العراق، التي وصلت أوجها حينذاك؛ لذلك أصدر البرلمان التركي قرارًا يجيز التوغل العسكري في شمال العراق من دون انتظار الدعم الغربي. والثانية في عملية ليبيا عام 2011، عندما شككت تركيا في الأهداف الغربية والأطلسية للتدخل في ليبيا، وحاولت أن تكيِّف هذه الأهداف لتتقارب مع أهدافها، ثمّ وافقت لاحقًا على الانضمام للعملية. والثالثة في 2011-2012، عندما أبدت ملاحظاتها الخاصة قبل أن تبرم اتفاقًا مع الناتو لاستضافة منشأة للإنذار المبكر المضاد للصواريخ على أراضيها؛ إذ قاومت أن يفرض عليها دورها الوظيفي القديم مرة أخرى؛ لذلك تفاوضت مع الولايات المتحدة والحلف، وأصرَّت على أن تكون هذه المنظومة موجهة ضد "تهديدات عامة"؛ لتتجنب تسمية دول محددة مثل روسيا أو إيران بشكلٍ صريح. كما اشترطت التغطية الكاملة للأرض التركية، وتقاسم الأعباء، واعتبار أن أي انحراف عما اتفق عليه يبرر إعادة تقييم موقفها من المنظومة(17). وقد شعرت تركيا بأنها حققت إنجازًا حينما استجاب "الناتو" لطلبها.

قد لا يُعَدُّ هذا التحول إلى الدور "المفاوض" أو "المشارك" كافيًا بالنسبة إلى تركيا؛ إذ إنَّ دورها الوظيفي لا يزال قائمًا على الرغم من أخذ بعض شروطها في الحسبان، وقد أظهرت الأزمة السورية وعدم استجابة الناتو لطلب أنقره(18) بإنشاء منطقة آمنة ومنطقة حظر الطيران في شمال سوريا، استمرار ضعف ثقل تركيا في تحديد أجندة الحلف؛ لذلك فإنها ستبقى تصرّ على تغيير تصور حلفائها الغربيين عنها بوصفها دولة وظيفية في ظل تنامي قدراتها الاقتصادية؛ التي تستهدف الوصول إلى المرتبة العاشرة عالميًّا، والعسكرية كثاني أكبر جيوش الناتو، والسياسية لدورها الإقليمي المركزي المتصوَّر.

ولا شك في أنَّ التحولات في الدور والرؤية التركية، بالإضافة إلى الأسئلة "الإعلامية" المثارة عن مصيرها في الحلف، تفرض فحص مدى استمرار الحاجة الاستراتيجية المتبادلة بين تركيا والناتو؛ فهل ثمة توافق بالفعل على هذه الحاجة حاليًّا؟ وهل لها ضرورة في المستقبل؟ أم أنَّ كلاًّ منهما له تصوراته الخاصة ويرى في التحالف مصلحةً مؤقتة؟ ولعل التحليل التالي يوضح بعض التحديات الأمنية الجديدة، والمصالح الاستراتيجية التي قد تفرض استمرار التحالف بين الطرفين وتعزيز حاجاتهما المتبادلة فيه؛ منها:

  1. اعتُبِرت تركيا طوال الحرب الباردة حاجزًا بين الغرب وروسيا، ويبدو أنَّ الحاجة إلى هذا الحاجز قد تجدّدت بالنسبة إلى الغرب إثر احتلال روسيا شبه جزيرة القرم في مارس/آذار 2014 واستمرار الصراع على ولاء أوكرانيا. إنَّ سيطرة روسيا مرة أخرى على القرم، ودعم انفصال أجزاء من أوكرانيا، وقبلها من جورجيا؛ سبّب قلقًا تركيًّا وغربيًّا في آنٍ معًا من احتمال عودة الاستقطاب والتوتر الدولي والإقليمي؛ لذلك من المحتمل أن يتزايد التعاون العسكري والأمني الغربي مع تركيا بوصفها خطَّ دفاعٍ جغرافي طبيعي عن أحد المداخل المهمة لأوروبا. وفي المقابل جدَّدت هذه الأزمة أيضًا حاجة تركيا إلى تحالفاتها الغربية؛ فقد أظهرت الأزمة سلوكًا روسيًّا يعتمد "سياسة القوة" القائمة على التوسع والضم؛ ما يعني تهديدًا مباشرًا لتركيا؛ التي تتشارك حوض البحر الأسود مع كلٍّ من روسيا وأوكرانيا.
  2. تتزايد الحاجة الأطلسية إلى تركيا بوصفها العضو المسلم الوحيد في الحلف؛ ويعزز هذه الأهمية أمران؛ الأول: أنَّ بيئة الصراعات الناشئة الجديدة تتركز في العالمين الإسلامي والعربي؛ مثل: أفغانستان وسوريا والعراق؛ ومن ثَمَّ فإنَّ وجود تركيا في العمليات القائمة أو المحتملة يضفي مصداقية على مقولات الحلف من أنه لا يستهدف الدول بسبب هويتها القومية أو الدينية. والثاني: أنَّ وجود حزبٍ ذي جذور إسلامية في الحكم في تركيا يعطي مزيدًا من المصداقية لخطط الحلف وعملياته في العالم العربي والإسلامي؛ ويقوم هذا الافتراض على ثقة أحزاب إسلامية في المنطقة في توجهات حزب العدالة والتنمية الحاكم؛ الذي قد لا يسمح لعمليات الحلف أن تستهدف مصالح دولهم وهوياتهم، بوصف تلك العمليات تتطلب موافقة جميع الأعضاء ومنهم تركيا؛ وفي هذا السياق قد تُستخدم طريقة تعامل تركيا مع الحالة الليبية كدليلٍ على هذا الافتراض. 
  3. تعتبر تركيا ذراع الناتو الممتدة داخل منطقة الشرق الأوسط، وبهذا الصدد يؤكد رئيس الوزراء أحمد داود أوغلو هذا الدور بقوله: "نظرًا إلى قربها الجغرافي والعلاقات الثقافية والتاريخية مع البلقان والقوقاز وآسيا الوسطى والشرق الأوسط، تؤدي تركيا دورًا خاصًّا في وصول حلف الناتو إلى شركائه في هذه المناطق"(19). وبناء عليه يستطيع الحلف عبر تركيا أن يؤسس مبادرات تعاون وتدريب وتنسيق مع تجمعاتٍ ودولٍ خارج نطاقه الجغرافي الطبيعي الأوروبي-الأطلسي، مثل مبادرة إسطنبول لعام 2004؛ التي أسست لتعاون دولٍ عربية وخليجية مع الناتو. كما يستطيع الحلف التعامل مع أزمات المنطقة العربية، على الرغم من أنَّ هذه المنطقة خارج نطاقه أيضًا؛ ولكن بسبب العضوية التركية في الحلف، وامتدادها الجغرافي إلى داخل المنطقة العربية، يستطيع الحلف متى شاء استدعاء "الإجراءات الضرورية" لحماية أعضائه. وقد تشمل تلك الإجراءات: المراقبة أو نشر الدفاعات، أو التدخل في العراق وسوريا وحتى إيران، إن استطاع ورغب أعضاؤه في ذلك. وهناك إجراءات من هذا القبيل تم تنفيذها بالفعل، مثل تأسيس منشأة للإنذار المبكر المضاد للصواريخ على الأراضي التركية، كما أسلفنا، التي يعتقد أنها تستهدف إيران وروسيا معًا.
    4. هناك إدراك للأهمية المتبادلة لتحالف الطرفين مع اختلاف ضرورات كلٍّ منهما؛ إذ تقع أهمية تركيا بالنسبة إلى الناتو ضمن إطار التوقعات طويلة المدى، فمثلًا "هناك نحو ثلاثين دولة تحوز أو تسعى لحيازة تكنولوجيا الصواريخ البالستية، فإذا قام بعض هؤلاء بتهديد منطقة الناتو، فسوف تكون الحاجة ماسة إلى جهود كل الأعضاء، وبخاصة تركيا ذات الموقع الاستراتيجي المميز، وصاحبة الجيش الثاني في الناتو"(20). أما تركيا فهي تركّز أكثر على القضايا الإقليمية المباشرة، مثل الأزمات في سوريا والعراق وما قد يترتب عليها، والنووي الإيراني، والتوتر مع إسرائيل، وتهديد حزب العمال الكردستاني، وآثار تطورات "الربيع العربي". وفي ظل هذه البيئة قد لا ترى تركيا مصلحةً في التخلي عن عضوية الناتو، الذي يعد التحالف الأمني الأكثر فاعلية ونفوذًا في العالم حاليًّا؛ إذ ربما ستكون بحاجة إلى الاستفادة من ميزات عضويتها تلك، لتوفير مظلة للدفاع عنها وقت الأزمات.
    خلاصة

تبقى الآراء التي تُظهر استياءً ضمنيًّا ويجري التعبير عنه إعلاميًّا وقت الأزمات، تعبِّر عن مشاعر يصعب أن تتحول إلى واقع بسبب الحاجة الاستراتيجية المتبادلة والمتنامية التي تجمع تركيا بحلفائها الغربيين؛ فالتحديات الجديدة للبيئة الإقليمية والدولية والأزمات المتصاعدة، تتطلب استثمار مثل هذا التحالف الراسخ في هذه الأوقات. وعلى الرغم من التركيز على موقف تركيا المتردّد تجاه عمليات التحالف الدولي الجديد ضد تنظيم "داعش"، فمن غير المحتمل أن يُبرر ذلك عدم مساعدة الناتو لتركيا في حال تعرضها لهجوم مسلح من هذا التنظيم أو غيره؛ ولكن هذه المساعدة قد لا تلبي الحاجة التركية كاملة، ولعل عدم الاستجابة لطلباتها المتكررة بشأن حظر الطيران والمنطقة العازلة في شمال سوريا يدلّ على أنَّ حلفاءها في الناتو سوف يبذلون جهدهم لإبقائها "حليفًا وظيفيًّا" يلبي الحاجة الأمنية الغربية أكثر منها محدِّدة للأجندة كما تطمح.
__________________________________
عماد قدورة: باحث في الدراسات الاستراتيجية.

المصادر والهوامش
1- Bernard-Henri Levy, “Should Turkey Remain in NATO After the Fall of Kobani?” Huffington Post, October 14, 2014, at: http://goo.gl/DGB3nb
2- Metin Turcan, “Is NATO membership shackling Turkey?” Al-Monitor, October 29, 2014, at: http://goo.gl/O7XLUo ; and Jonathan Schanzer, “Time to Kick Turkey Out of NATO? October 9, 2014, at: http://goo.gl/HZMB2P
3- Semih Idiz, “No chance Turkey will be ‘kicked out of NATO’,” Al-Monitor, November 11 2014, at: http://goo.gl/sc0Lm0
4- Alan Dershowitz, “Should Turkey be thrown out of NATO?” Jerusalem Post, October 9, 2014, at: http://goo.gl/2lJAJK
5- Metin Turcan, op. cit.
6- Ibid.
7- Semih Idiz, op. cit.
8- Ibid.
9- Jonathan Schanzer, op. cit.
10- James Goldgeier, “ISIS Fight Not a NATO Mission, or in Turkey’s Interest,” The New York Times, October 14, 2014, at: http://goo.gl/lA1vyI
11-  “NATO Secretary General thanks Patriot crews protecting Turkey,” October 10, 2014, at: http://www.nato.int/cps/en/natohq/news_113858.htm
12-  “NATO Secretary General Shows Alliance Solidarity in Turkey,” October 9, 2014, at: http://www.nato.int/cps/en/natohq/news_113773.htm
13- Republic of Turkey, Ministry of Foreign Affairs, at: http://www.mfa.gov.tr/nato.en.mfa
14- “IS Attack on Turkey Would Challenge NATO,” Voice of America, October 7, 2014, at: http://goo.gl/piUCqq
15- Jonathan Schanzer, op. cit.
16- Gülnur Aybet, “Turkey’s Security Challenges and NATO,” Carnegie Europe, 2012, at: carnegieendowment.org/files/Aybet_Brief.pdf
17- Ibid.
18- Sevil Erku?, “Turkey asks NATO secretary general to introduce safe haven issue to alliance’s agenda,” Hurriyet Daily News, October 9, 2014, at : http://goo.gl/QCuiK0
19- Ahmet Davuto?lu, “Transformation of NATO and Turkey’s Position,” Perceptions, vol. 17, no. 1 (Spring 2012), p. 16.
20- Gülnur Aybet, op. cit.

نبذة عن الكاتب