سياسات الضبط السياسي ومنازعة الشرعية.. "حالة جمعية الوفاق البحرينية"

يمكن مقاربة الأزمة السياسية في البحرين من خلال سياسات الضبط المعمول بها، عبر توسيع منظور التنازع أو المنافسة بين النخبة الحاكمة وقوى المعارضة في إعمال مفهوم الضبط السياسي. وبالتالي فإن الأزمة الدائرة في البحرين هي أحد مخرجات عدم التوافق حول آليات الضبط السياسي ومحتواه.
201512711153990734_20.jpg
الشيخ علي سلمان، الأمين العام لجمعية الوفاق البحرينية (أسوشييتد برس)

ملخص
يحاول الباحث أن يستند ويجادل في طرحه مسألة التعمق في مفهوم سياسات الضبط السياسي وفقًا للحالة الراهنة في البحرين، بهدف فهم سياسات جمعية الوفاق المعارضة. ويسعى إلى مقاربة الأزمة السياسية في البلاد من خلال سياسات الضبط المعمول بها، عبر توسيع منظور التنازع أو المنافسة بين النخبة الحاكمة وقوى المعارضة في إعمال مفهوم الضبط السياسي. ويصل إلى نتيجة مفادها بأنّ الأزمة الدائرة في البحرين ما هي إلّا أحد مخرجات عدم التوافق السياسي حول آليات الضبط ومحتواه، ويتجلى ذلك في وجود منظومتين متضادتين من الضبط السياسي للشارع البحريني وللمجال العمومي.

كما يحاول الباحث الإجابة على عدد من التساؤلات التي يمكن تلخيصها بالآتي: على ماذا استند قرار جمعية الوفاق في مقاطعتها للانتخابات الأخيرة؟ وكيف يمكنها أن تلائم خطابها المنضبط سياسيًّا مع معطيات متنافرة، كالتدخل الخارجي والرغبة المحمومة في التخلي عن السلميّة كأبرز أداة ضبط تنتهجها؟ وإلى أين تتجه كل هذه المعطيات بعد إفراغ جمعية الوفاق من قيادتها جرَّاء اعتقال أمينها العام ورئيس مجلس الشورى فيها الشيخ علي سلمان في ديسمبر/ كانون الأول 2014؟.

مقدمة

تسعى هذه الورقة إلى معالجة مفهوم سياسات الضبط السياسي كمقاربة تمكِّن من فهم سياسات جمعية الوفاق الوطني الإسلامية في البحرين، حيث تقف الجمعية أمام تحديات متعددة المصادر، وذلك من خلال مفهوم الضبط السياسي.

يشير مفهوم الضبط السياسي إلى الآليات أو العمليات المجتمعية والسياسية التي تم من خلالها تنظيم السلوك السياسي أو التحكم به، داخل المجال العمومي للمجتمع أو داخل نطاق الجماعات السياسية. وتختلف هذه السياسات باختلاف درجة انفتاح المجتمعات أو قربها من الانغلاق؛ حيث تتجه سياسات الضبط في المجتمعات السياسية المفتوحة لتشكيل سياسات متوافقة وبيئة آمنة، أما في المجتمعات المغلقة أو المحكومة بالسلطوية التنافسية فإنّ سياسات الضبط تقاوم تداعيات البيئة المحطمة أو المنفلتة سياسيًّا وأمنيًّا، وتسعى لأن تحدّ من آثار عملية الاستبعاد السياسي وهشاشة الهوية الوطنية المشتركة.

يمكن مقاربة الأزمة السياسية في البحرين من خلال سياسات الضبط المعمول بها، عبر توسيع منظور التنازع أو المنافسة بين النخبة الحاكمة وقوى المعارضة في إعمال مفهوم الضبط السياسي، فعبر هذه المقاربة يمكن الوصول إلى جوهرية المنازعة وتخومها المتداخلة، مع تدابير تشكيل المجال العمومي للمجتمع البحريني. عليه فإن الأزمة الدائرة في البحرين هي مخرج من مخرجات عدم التوافق السياسي حول آليات الضبط ومحتواه، وهذا ما يتجلى في وجود منظومتين متضادتين من الضبط السياسي للشارع البحريني وللمجال العمومي.

في السياق ذاته فإن مقاطعة جمعية الوفاق للانتخابات النيابية والبلدية والتي جرت في نوفمبر/ تشرين الثاني 2014 يعتبر نوعًا من التدابير التي تستهدف الحصول على الشرعية السياسية المتنازع عليها مع النخبة الحاكمة، ولكن من خارج صناديق الاقتراع التي ترى جمعية الوفاق أنها مخطوفة ومرتهنة للسلطة السياسية الحاكمة. وهذا يعني أن هناك رغبة في الخروج على آليات الضبط السياسي الرسمي، وتأكيدًا على امتلاك الوفاق قوة ضبط سياسي في مواجهة قوة الضبط السياسي الحكومي.

فعلى ماذا استند قرار جمعية الوفاق في مقاطعتها للانتخابات؟ وكيف يمكنها أن تلائم خطابها المنضبط سياسيًّا مع معطيات متنافرة، مثل التدخل الخارجي والرغبة المحمومة في التخلي عن السلميّة كأبرز أداة ضبط تنتهجها؟ وإلى أين تتجه كل هذه المعطيات بعد إفراغ جمعية الوفاق من قيادتها جرَّاء اعتقال أمينها العام ورئيس مجلس الشورى فيها الشيخ علي سلمان في ديسمبر/ كانون الأول 2014؟

الفصول الأربعة للربيع البحريني

شكَّلت قضية إعادة صياغة النظام السياسي لمجتمعات الربيع العربي وبنائه على ضوء تعاقد اجتماعي-سياسي جديد، أبرزَ وأهم القضايا التي تولدت عن تلك الموجة الثورية التي اجتاحت عددًا من الدول العربية؛ إذ مثلت ثورات الربيع العربي التي انطلقت شرارتها في ديسمبر/ كانون الأول 2010 تحديًا رئيسًّا لمجمل هياكل الهوية الوطنية المشتركة للمجتمعات العربية، حيث بيّنت مجريات الحراك السياسي عن وجود هشاشة لا يمكن تجاهلها في بناء وتصورات الهوية الوطنية المشتركة التي تعتبر ركنًا أساسيًّا في حدوث أي انتقال ديمقراطي حسب رستو(1).

لقد أجبرت الانتفاضات العربية النخبة السياسية الحاكمة على التحرك في اتجاهات متعددة، واتفاقهم في نفس الوقت على احتواء آثار موجات الاحتجاج والعودة بالأوضاع لما قبل 2011، مستخدمة في ذلك سياسات الإغداق المالي تارة، وتنميق خطاب الإصلاح واستخدام القمع الأمني ومحاصرة الفاعلين السياسيين تارة أخرى. لم يمنع ذلك من إقدام النخب الحاكمة على تقديم بعض التنازلات الغير جوهرية وإصلاح بعض أجزاء الهياكل الدستورية والقانونية عبر تشكيل لجان برلمانية أو هيئات معينة لتقديم تصورات متاحة يمكن للنخب الحاكمة تفعيلها دون أن تلامس البناء الصلب الذي تستند إليه في شرعيتها، ودون أن تغير قواعد اللعبة السلطوية التنافسية التي تتقن كافة فنونها، وتضمن لها إعادة إنتاج نفسها بكلفة زهيدة.

اتخذ هذا الخلاف بين النخب الحاكمة ومجموع المنطوين تحت موجة الربيع العربي منحًى تصاعديًّا في البحرين، وأفرز وضعًا أكثر تعقيدًا مما هو معقد أساسًا. فالاحتجاجات التي انطلقت في 14 فبراير/شباط 2011 وتوالت طوال شهر كامل، أدت إلى إطلاق حملة أمنية شديدة القسوة شاركت فيها قوات درع الجزيرة العربية في محاولة وأدها ومنعها من تحقيق ما تصفه الرواية الرسمية بالمؤامرة الإيرانية للسيطرة على البحرين. لقد استطاعت القوات الأمنية عن طريق فرض حالة السلامة الوطنية أن تُنهي حالة الاحتجاج الدائم في دوّار اللؤلؤة، وأن تعتقل 22 شخصية قيادية من الصف الأول في المعارضة؛ ليواجهوا تهمًا أفضت لصدور أحكام تتراوح ما بين 15-20 سنة بحقهم(2). رغم ذلك فإنّ حالة الاحتقان السياسي والتوتر الطائفي والاحتجاجات المستمرة لم تنتهِ، فظلت الاحتجاجات والحراك السياسي المصاحب لها جاثميْن على الجسد السياسي البحريني ويفتحان شهية التدخل الخارجي بكلا مساريه الناعم والعنيف، إضافة إلى الاستعارة الكلامية والتخندق والاصطفاف الطائفي والسياسي.

المسار المغضوب عليه

في الضفة المقابلة للخيار الأمني فتح الحراك الشعبي الاحتجاجي أبواب حوارات عدة بين النخبة الحاكمة وبين قوى المعارضة في صيغ مختلفة ومتعددة، لكنه لم يفضِ إلى توافق سياسي بين الطرفين، بقدر ما كرّست تلك الحوارات قناعات سياسية لم تكن لتقوِّي نفسها لو لم تجرِ تلك الحوارات المتعددة؛ ففشل حوار ولي العهد البحريني الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة في مارس/آذار 2011 وما تلاها أيضًا في يوليو/تموز من العام نفسه ثم العودة لاستكماله في العام 2013، أدى لأن تصبح القوى الراديكالية في النخبة الحاكمة أكثر قوة وقدرة على تمرير رؤيتها الأمنية والمعيقة لأي إصلاح جذري أو ذي مغزى(3). كما أدى فشل الحوار لأن تصبح القوى المتطلعة لنظام جمهوري أشد تمسكًا بمطالبها السياسية، حتى وإن تنازلت عن الصيغة الشكلية للجمهورية وفضّلت مسار حق تقرير المصير.

لقد توقع بعض المراقبين بعد مرور قرابة الأربع سنوات على انطلاقة الاحتجاجات أن تقوم جمعية الوفاق بمراجعة موقفها من الانتخابات، وأن تعمد للمشاركة فيها ولو بشكل غير مباشر استنادًا لانسداد الأفق الاحتجاجي، وفشل كافة المبادرات التي تم تداولها. الأمر الذي كان يشير إلى ضرورة فتح قناة كانت مطروقة سابقًا، وتمثل مطلبًا أساسيًّا لدى نظام الحكم وهو المشاركة في المؤسسات السياسية القائمة، ومِن ثَمَّ إدخال عناصر التغيير أو الإصلاح من خلالها.

غير أن تلك التوقعات لم يكن لها نصيب من التحقق، فقد سارت الأمور ناحية استمرار المقاطعة للانتخابات، واعتبار المشاركة فيها خيانة لمطالب الشعب بتعبير أمين عام جمعية الوفاق؛ لأنّ المشاركة في انتخابات عامي 2006 و2010 "لم تدفع ضررًا، ولم تجلب منفعةً"، ولأنّ حراك الربيع البحريني استطاع أن يتجاوز كلّ الضغوط؛ فقد كان من الطبيعي أن تتجه الجمعيات المعارضة لمقاطعة الانتخابات في 2014.

جمعية الوفاق كانت قد شاركت في انتخابات 2006 تحت وطأة أمل إمكانية التغيير من داخل المؤسسات السياسية القائمة، وبعد تجربة أربع سنوات أعلنت قياداتها أن التجربة الأولى للمعارضة في البرلمان كانت "فاشلة"، بل وصل الأمر أن يصف أمين عام جمعية الوفاق علي سلمان كفره بتجربة المشاركة وإمكانية الحصول من خلالها على إعادة هيكليّة حقيقية للنظام السياسي. واختصر الشيخ علي سلمان محصّلة مشاركة 2006 حينما قال: "إن هناك مَن يطلب منَّا خوض تجربة المجلس، والاستفادة من المساحة التي توفرها، ولكن بعد هذه التجربة الواقعية، وبعد هذه النتائج العملية، وصلتُ إلى مرحلة الكفر بهذه التجربة، فلا أمل فيها أبدًا أبدًا أبدًا"(4). غير أن اللافت الأهم، هو أن هذه الخلاصة الحاسمة والنهائية لم تكن كافيةً للمقاطعة في انتخابات عام 2010، حيث استمرّت المعارضة، وعلى رأسها الوفاق، في منهجها الدّاعم للمشاركة، ورغم التفسيرات التي طُرحت لتبرير المشاركة في العام 2010، إلا أنها لا تختلف كثيرًا عن تلك التي قُدِّمت خلال الاستعداد لخوض انتخابات عام 2006.

كانت سياسات الضبط السياسي لدى الوفاق قبل عام 2011 تتجه ناحية المشاركة السياسية مهما كانت الضغوط المتولدة عنها، إلا أن هذه السياسات وجدت نفسها أمام ضغوط إضافيّة من خارج دوائر صناعة القرار فيها، ووسط مجال عمومي نتج عنه تفجر عملية التعايش مع المؤسسات الرسمية وآليات ضبطها السياسي أمام أول وأكبر حدث تاريخي شهدته البحرين في تاريخها المعاصر.

إنّ قرار المقاطعة رغم خطورته وأهميته في سياسة الضبط إلا أنه جاء محمولًا بغموض سياسي(5)، من شأنه أن يعطي مزيدًا من السلطة لمتخذيه؛ فالغموض في السياسة شأنه شأن المقدّس في الحقل الديني، يعني البحث عن منابع سلطة شبه مقدسة. فقد أعلنت الجمعيات السياسية -ومنذ وقت مبكر في نهاية مايو/أيار 2014 رغبتها في المشاركة ولكن شريطة وجود أفق لاتفاق مقبول وتحقيق إصلاح حقيقي واضح المعالم والمراحل الزمنية.

وقد بيّن أمين عام الوفاق الشيخ علي سلمان موقف جمعيته من المشاركة في أثناء خطبة الجمعة في 12 سبتمبر/أيلول 2014، حينما قال: "أفكار قديمة وحديثة طرحت عام 2002 و2006 و2010، وهي طبيعية أن تطرح في 2014 ودرسناها في كل مرة وأعلق عليها". وأوضح "ما تقود إليه دراستنا في كل هذه السنوات أن سلبيات هذه الفكرة (فكرة المشاركة لإيجاد صوت من الداخل) أكثر من إيجابياتها، فهي تضعف فكرة المقاطعة السياسية والمراد منها ودلالتها، وتُسهِم في إرباك الجمهور والموقف السياسي؛ مما يضعف قضية كبرى لحسابات جزئية صغيرة قليلة الفائدة". وتابع "فكرة المشاركة إيجاد صوت مشاغب وهي فائدة محدودة، ولا تستحق هذا الإرباك وهذا التشويش؛ لذا فالموقف ما لم يحدث توافق سياسي وإصلاح جدّيّ هو المقاطعة التامة الشاملة التي تجعل ممن يشارك في هذه الانتخابات منسلخًا من هذا الشعب وإرادته والتغيير والإصلاح السياسي، وتجعله منبوذًا اجتماعيًّا بلا عدوان ولا تعدٍّ على أحد".

في نهاية المطاف وأمام ضيق الوقت، اتخذت قوى المعارضة برئاسة الوفاق قرار المقاطعة، وقدمت عدة مقترحات سياسية من أجل التراجع عن قرار المقاطعة، بل وحشدت جماهيرها عبر تعبئة واسعة للمقاطعة، وهو ما دعا الحكومة لتسريب معلومات حول ربط الخدمات الحكومية بالمشاركة أو مناقشة بحث عقوبات مدنية على المقاطعين(6)، غير أن هذه التسريبات لم تكن مؤثرة على قطاع المعارضة الشيعي وربما أثّر بشكل عكسي، لكنه كان قويًّا ومؤثرًا على الفئات السُّنِّية المتحفظة على عملية الانتخابات، وهو ما دعا بعضها للمقاطعة الناعمة واستخدام "البطاقة البيضاء"، تحسبًا لأي نتائج غير مرضية، وتخلصًا من عبء الرأي السياسي.

موقف الوفاق المقاطع لم يكن مرغوبًا به لدى المراقبين الدبلوماسيين الذين طالبوا الوفاق عبر بيان صادر عن سفراء المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا وإيطاليا لدى مملكة البحرين(7)، أكدوا فيه "أن الاستقرار وبناء الثقة في البحرين يحتمان مشاركة كل الأطراف الملتزمة بالإصلاح الديمقراطي في الانتخابات". وتضمن البيان ما أسموه "شعورهم بخيبة أمل كبيرة، بإعلان جمعيات المعارضة السياسية مقاطعة الانتخابات التشريعية والبلدية"، ودعا البيان أيضًا إلى أن "إعادة بناء الثقة والاستقرار في البحرين، تحتِّم مشاركة كل الأطراف الملتزمة بعملية الإصلاح الديمقراطي في الانتخابات؛ لهذا فإننا ندعو جمعيات المعارضة إلى إعادة النظر في قرار مقاطعتها للانتخابات".

بدورها أوضحت المعارضة أن "المطلوب من السفراء الوقوف موقفًا مبدئيًّا بدعوة النظام لإصلاح حقيقي وخطوات جدية لبناء الثقة، على رأسها الإفراج عن معتقلي الرأي والضمير يسبق الدعوة للمشاركة الفاعلة في هذه الانتخابات"، وقال بيان المعارضة: "إن القوى الوطنية الديمقراطية المعارضة على استعداد لإعادة دراسة موقفها إذا أعاد الحكم قراءة موقفه الرافض للإصلاح، وسارع لإطلاق سراح معتقلي الرأي والضمير، واستجاب للحد الأدنى من المطالب العادلة والمشروعة والضرورية التي رفعها شعب البحرين"(8).

من الواضح هنا أن قرار مقاطعة الانتخابات استند إلى توفر حزمة كاملة من الحلول للأزمة المتفاقمة منذ فبراير/شباط 2011، وأن المشاركة تعني قبول تجزئة الأزمة وتطويلًا غير عقلاني لأمدها. كما يبدو واضحًا أن استراتيجية سياسة الضبط السياسي لدى الوفاق كانت تستهدف الضغط على الحكومة، وسحب شرعية المؤسسات السياسية القائمة من خلال تشكيل شرعية جماهيرية تستجيب لقرارها، وتبتعد قدر الإمكان عن قرار السلطة.

وفي الواقع فإن قرار المقاطعة جاء متوافقًا مع سياسة الضبط السياسي متوزعة على قوّة الحضور الشّعبي الممانع، وترسُّخ المقولات التي كان أقرها الربيع العربي. هذه القوّة فرضت على الجميع أخذها بعين الاعتبار، وأخذ مطالبها وموقفها السياسي بجدية أكبر من المناوشات التي كانت تجرى قبل 2011.

لقد أجادت القوى الشعبيّة تحويل نفسها إلى أُطر "شبه" حزبيّة، وقد أمَّن هذا التّحوُّل وجودَ خطابٍ سياسيّ يُعبِّر عن قوة الشّارع وحضوره الثوري، وأن يرفده بالبرامج والخُطط والتنظيم العملي الذي دعا إلى عقد استفتاء شعبي في يوم الانتخابات حول حق تقرير المصير.

الأقلمة غير المرئية

بقدر ما كانت العملية الانتخابية تمثل زيادة جرعات أقلمة وتدويل الأزمة البحرينية، فقد فتحت إجراءات السلطة تجاه جمعية الوفاق باب المناصرة من بعض الأطراف، وأصبحت الأطراف المراقبة معنية بإبداء مواقف أكثر وضوحًا وصرامة. ففي الوقت الذي انحازت القوى الغربية وحكومات المنطقة ناحية السلطة في البحرين، وأظهرت دعمها ومساندتها لها في العملية الانتخابية وتوابعها(9)، اتجهت القوى المضادة ممثلة في إيران والعراق والمنظمات الشيعية والقوى السياسية المصنفة على محور المقاومة مثل حزب الله اللبناني ناحية الجمعيات المقاطعة، وأصدرت تصريحات موازية لتصريحات المحور المضاد. رحبت جمعية الوفاق بالمواقف المساندة لها والداعمة لسياساتها، وعبّر أمين عام الوفاق في خطاب المؤتمر للجمعية العمومية عن عدم رضاه عن مواقف المجتمع الدولي، وطالبهم بمزيد من ممارسة الضغط على السلطة البحرينية؛ من أجل إجراء مزيد من الإصلاحات الجادة.

حماسة أمين عام الوفاق قادته لأن يكشف في خطابة الأخير ما وصلت إليه الأزمة البحرينية من تدويل وحرب إرادات شبه مكشوفة عندما قال: إن هناك جهات عرضت على الوفاق تزويدها بالأسلحة وعسكرة الحراك السلمي، إلا أن جمعيته رفضت تلك العروض، مصرّة على انتهاج الأسلوب السلمي في الحراك. وكنتيجة متوقعة، أخذت السلطات الأمنية هذا التصريح على أنه رغبة وهدف تطمح إليه قوى المعارضة برئاسة الوفاق وهو الاستيلاء على السلطة، وأن لديها إمكانية تحويل نهجها السلمي للعسكرة متى أرادت ذلك، وهو ما حدا بالسلطة الأمنية لاعتقال أمين عام الوفاق، وتوجيه تهمة التحريض على قلب النظام والإطاحة به، بجانب تهم أخرى.

جهات المعارضة فسرت عملية الاعتقال على أنها تستهدف إنهاء الحراك الشعبي السلمي عبر استغلال الأوضاع الإقليمية المتعثرة والمتداخلة. ولم تُخفِ أطراف أخرى تفسيرها لاعتقال الشيخ علي سلمان على أنه عقاب سمحت به بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية لمعارضة جمعية الوفاق إنشاء قاعدة عسكرية بريطانية في البحرين، وأن هذه الدول لم تسامح أمين عام جمعية الوفاق على عدم انصياعه لنصيحتهم جمعية الوفاق بالمشاركة في الانتخابات.

وكان السفير البريطاني في البحرين قد وصف معارضة إنشاء القاعدة العسكرية البريطانية في البحرين على أنها تصبّ في مسار التراخي عن مكافحة الإرهاب وخطر داعش، الأمر الذي استدعى أن يردّ عليه الشيخ علي سلمان ويهاجمه دون أن يسمِّيه(10)، وذلك بعد تصريحات للسفير نفسه وصف فيها مقاطعة الانتخابات بالجنون(11).

الحلقة الإيرانية والطائفية الجديدة

رغم تكاثر المواقف الدولية والإقليمية ناحية الأزمة في البحرين، غير أن الموقف الإيراني كان -ولا يزال- حجر الزاوية في البعد الخارجي للأزمة في البحرين. فالنظام البحريني ينظر إلى إيران باعتبارها مصدر التهديد الأكبر والأكثر خطورة على الإطلاق، ولا تقف ماكينة الإعلام الرسمي والإعلام الموازي عن التذكير بالأطماع والتدخلات الإيرانية في الشؤون البحرينية، وقد صرَّح ملك البحرين أكثر من مرة -دون أن يشير بالاسم مباشرة- بأن أجهزة الاستخبارات والأجهزة الأمنية قد أحبطت أكثر من مؤامرة، من قبل خلايا سياسية تستهدف إثارة الاضطراب الأمني وخلخلة الحالة السياسية في البلاد.

ونتيجة لهذا المنظور فليس بعيدًا أن تعتبر السلطات الأمنية والسياسية في البحرين المظاهرات والاحتجاجات المعارضة على أنها مظهر من مظاهر النفوذ السياسي الإيراني، وهذا يعني أن محاولة الحد من الأفعال الاحتجاجية وقمعها يشكِّل جزءًا من استراتيجية أوسع تتكامل عبر منظور أمني خليجي يقوم على وقف التوسع الإيراني، والتصدي لما تسمِّيه دول الخليج بالهيمنة الإيرانية واستغلال أوضاع الجماعات الشيعية في إثارة الاضطرابات الأمنية. وما يزيد الأمور تعقيدًا هو أن إيران كانت -ولا تزال- تعلن تأييدها للمتظاهرين في البحرين والمنطقة الشرقية، وهو ما تراه السلطة في البحرين دعمًا خارجيًّا وسببًا رئيسيًّا لاستمرار الصراع والتوتر.

الموقف الإيراني لم يكن مختلفًا في مستواه عن مواقف إقليمية أخرى، لكنه كان قادرًا على ضخ مزيد من المواقف الجديدة للقوى المنطوية تحت العنوان الإيراني، وهي مواقف تعتبرها السلطة البحرينية مواقف عدائية وتثير مزيدًا من الاضطرابات؛ لأنها تسمح للمحتجين بمزيد من الدعم والمساندة؛ ولذا تعمل السلطة البحرينية على عزل قوى المعارضة وجماهيرها من أي دعم إقليمي، وهذا ما يفسِّر تصعيد اللهجة المضادة للمواقف الإيرانية الإعلامية، والاستعداد للدخول في حرب تصريحات مضادة يقودها.

بالنظر لأوضاع الجماعات الشيعية في دول الخليج الأخرى، فإنّ الشيعة في البحرين والسعودية هم وحدهم المستهدفون إيرانيًّا، في حين أن الجماعات الشيعية في باقي دول المنطقة لا يعانون كثيرًا من تبعات التصريحات الإيرانية. فالشيعة في البحرين يشكِّلون الأغلبية، وفي السعودية يشكل الشيعة نسبة كبيرة من سكان المنطقة الشرقية في البلاد، وهي المنطقة الغنية بالنفط، وتدرك جميع الأطراف -بما فيها إيران- خطورة تداخل الوضع البحريني مع أوضاع المنطقة الشرقية، ومدى تأثير ذلك على وضع الاستقرار الهش في هذه المناطق.

يضاف إلى ذلك أن المواقف المساندة لجمعية الوفاق تصدر أغلبها من قوى مصنفة طائفيًّا أنها قُوى شيعية، وبالتالي فإن الاصطفاف الشيعي الإقليمي يصبح لعبة ضمن مجموعة الألعاب السياسية المستخدمة في الأزمة البحرينية. وهذا مِن ثَمَّ يؤدي لأن تكون خطابات جمعية الوفاق الوطنية -والداعية للوحدة الوطنية وطريقة تسويقها لتداول السلطة في البحرين ديمقراطيًّا- محلَّ حذر وشكوك وقلق، سواء في الداخل البحريني أو ضمن المحيط الإقليمي الملتهب أساسًا. فرغم رفض جمعية الوفاق للصيغة الطائفية وطرحها مطالب سياسية عامة، لكنها لا تزال غير قادرة على إقناع محيط الجوار بتلك الحزمة من المطالب الديمقراطية.

وفي الواقع يعود هذا الإخفاق لأسباب عديدة، أبرزها قدرة السلطة البحرينية على تأمين تحالفات داخلية وخارجية تعفيها من أي استحقاق سياسي على غير رغبتها واستراتيجيتها. فقد نجحت السلطة في البحرين في نسج تحالفات سياسية قوية جدًّا مع كلٍّ من الأُطر التقليدية القبليّة من جهة، وسمحت في الفترة الأخيرة للمؤسسة الدينية السُّنِّية أن تكون طرفًا مهمًّا في تطبيق سياسات الإصلاح الخاصة بالنظام مقابل نبذ الجماعات السياسية المعارضة، وإبعادها عن منطقة التحالف الذي لو حدث سيكون مفتاحًا مهمًّا لإيجاد أرضية حل سياسي يتجاوز مُخلَّفات الحلول الأمنية.

الانتقال المرن

لا تبدو الأزمة في البحرين أزمة بسيطة وقابلة لقبول الحلول العقلانية التقليدية، والقائمة على دمج المصالح واجتراح مصالح مشتركة بين السلطة والمعارضة. فالأزمة تستمد وقودها عبر بقاء الحرب الباردة بين إيران من جهة والسعودية والولايات المتحدة الأميركية من جهة أخرى، مما يعني أن هناك طرفًا يستفيد من اقتصاديات الحرب واقتصاد النزاع الطائفي.

يتعزز هذا الأمر بالنظر إلى أن المشكلة الجوهرية تتمثل في ضعف الاستعدادٍ لإجراء إصلاحات ذات مغزى؛ لذلك فلن تتمكن النخبة الحاكمة من تجاوز مجال الاضطرابات المستمرة أو المتكررة ومواجهة التصدعات المحتملة إلا من خلال توسيع تحالفاتها مع الأطراف المجتمعية المستبعدة حاليًا. ما تجدر الإشارة إليه هنا، هو الحذر من مداولة النزاع الطائفي على أنه اشتعال مجتمعي بين المذاهب والطوائف وفق الصيغ التقليدية بين السنة والشيعة. فهذا الخلاف والاختلاف المذهبي استمر تاريخيًّا، ولن يكون بمقدور أحد أن يقف على نهايته. صحيحٌ أن التنازع الطائفي الدائر حاليًا يستعير أسماء الطوائف، لكنه في الواقع يعبر عن طائفية جديدة قوامها التحالفات السياسية وإقامة محاور إقليمية لا تُخفي وجود حروب باردة بينها وبين محاور أخرى.

خاتمة

ما من شك أن هناك مخارج يمكن التماسها للخروج الآمن من الأزمة، ولعل النموذج التونسي يعتبر واحدًا من أنجح النماذج العربية في هذا الشأن، ولكن هذه المخارج لا تزال غير ناضجة في البحرين، الأمر الذي يستدعي إعادة النظر في تحليل جذور الأزمة في البلاد، وإعادة النظر في دوافع استمرارها التي لن تخرج عن مزاحمة البعد الخارجي الإقليمي والكثافة الطائفية الإقليمية، وهي دوافع يمكن السيطرة عليها إذا ما أُعيد النظر إلى الأزمة البحرينية على أنها نتاج فشل التعاقد السياسي القائم، وانفراط أغلب بنوده.

هذا يعني أن الخروج الآمن يتطلب الاتفاق على مسودة تعاقد اجتماعي سياسي جديد يشابه آلية ميثاق العمل الوطني في عام 2000، يضمن تخفيف الاحتقان المستورد من الخارج ومن الإقليم، ويضمن وجود قناعات مشتركة تستهدف الإدماج الوطني للفئات والجماعات السياسية والاجتماعية بشكل عادل. وبالتالي ينبغي على القوى المراقبة أن تكون أكثر حيادية وأن تمارس ضغوطها على كافة الأطراف بعد أن تتخلى هي نفسها عن فرض أجندتها على الملف البحريني. وربما دعا هذا الوضع لإعادة النظر في مصداقية مضمون منظور الاستراتيجية الأمنية القائمة على ضخ مخاطر النفوذ الإيراني، واستبداله بمنظور وطني داخلي يعالج الحالة المضطربة على أنها ناتج متوقع لخلخلة مفهوم المواطنة الدستورية، وسيطرة تحالفات أخرى محل الإجماعات الوطنية التي يمكن إقرارها عبر توسيع حدود المجال العمومي وتوسيع قاعدة الحريات العامة والمساواة، كبداية أولية وكأرضية صلبة تشكل منطلقًا لحوار جاد ومعمّق حول إنتاج هوية وطنية مشتركة كشرط أساسي للانتقال الديمقراطي.
_______________________________
عباس المرشد - باحث بحريني مختص بالجماعات الإسلامية

المصادر والهوامش
(1) انظر: عباس المرشد: "الانفتاح السياسي والديمقراطية الحزبية في البحرين"، دار آفاق، الكويت 2014.
(2) حول مزيد من التفاصيل، انظر: تقرير اللجنة الملكية المستقلة لتقصي الحقائق برئاسة شريف بسيوني.
(3) فريدريك ويري: الحليف غير المستقر: مأزق البحرين وسياسة الولايات المتحدة، مركز كارنيغي للشرق الأوسط، فبراير/شباط 2013.
(4) كلمة الشيخ علي سلمان: كفرت بالتجربة: http://bhonmobile.com/showthread.php?t=97056&s=af3875bf97390ee5986ab4e27260e87c
(5) عبد الجليل خليل: المعارضة لم تصدر قرارًا رسميًّا بمقاطعة الانتخابات وتنتظر الرد، صحيفة الوسط البحرينية، العدد (4397)، الأحد 21 سبتمبر/أيلول 2014 الموافق 27 من ذي القعدة 1435. http://www.alwasatnews.com/4397/news/read/922435/1.html
وانظر أيضًا خليل: ما قلته لـ"الشرق الأوسط" إننا مستعدون للتفاوض.. وعدم تلبية المطالب تعني المقاطعة، صحيفة الوسط البحرينية، العدد (4397)، الأحد 21 سبتمبر/أيلول 2014. http://www.alwasatnews.com/4397/news/read/922478/1.html
(6) انظر: صحيفة الوسط، حول مناقشة الموضوع في مجلس الوزراء.  http://www.albiladpress.com/article267241-1.html
(7) نصر المجالي: الجمعيات الخمس ردت على بيان سفراء الاتحاد الأوروبي دعوة المعارضة البحرينية لإعادة النظر بمقاطعتها الانتخابات، الجمعة 17 أكتوبر/تشرين الأول 2014.
http://www.elaph.com/Web/News/2014/10/950204.html#sthash.780TJvVi.eIb9SdQf.dpuf
(8) الجمعيات السياسيّة المعارضة تستنكر بيان سفراء الاتحاد الأوروبيّ " موقع المنامة بوست". http://www.manamapost.com/news.php?name=2014040325
(9) سوسن الشاعر، انتهى زمن احتكار ماركة «المعارضة».. الانتخابات البحرينية مثالًا، جريدة الشرق الأوسط، العدد (13147)، الأربعـاء 26 نوفمبر/تشرين الثاني 2014 الموافق 3 من صفـر 1436.
http://classic.aawsat.com/leader.asp?section=3&article=795925&issueno=13147#.VMIxwe_9ntQ
(10) "سلمان" للسفير البريطاني: تاجر يبحث عن مصالحه في "الأجساد المبضّعة"، 13/12/2014.
http://bahrainmirror.ddns.net/news/20918.html
(11) السفير البريطاني: مقاطعة الانتخابات محبطة.. والتقارير عن ترهيب الناخبين مقلقة، صحيفة الوسط البحرينية، العدد (4468)، الاثنين 1 ديسمبر/كانون الأول 2014.
http://www.alwasatnews.com/4468/news/read/940934/1.html

نبذة عن الكاتب