المصدر (الجزيرة) |
ملخص بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني وجد الإعلام المصري بجناحيه الحكومي والخاص نفسه -سواء كان راغبًا أو مضطرًا- جزءًا من حالة الاستقطاب والتجاذب السياسي التي شهدتها مصر منذ أول استحقاق سياسي أعقب رحيل مبارك عن السلطة. لكن هذا الإعلام دخل بعد الثلاثين من يونيو/حزيران 2013، منعطفًا خطيرًا جعله يصبح أداة صريحة من أدوات الصراع ما بين السلطة الانتقالية التي جاءت بعد الإطاحة بالرئيس المعزول محمد مرسي وبين خصومها السياسيين وعلى رأسهم جماعة الإخوان المسلمين. وكانت نتيجة ذلك تراجعًا لافتًا في القيم المهنية في الأداء الإعلامي ترافق مع تراجع أكبر في مساحة الحريات الصحفية ولاسيما للصحافة التي تقدم رأيًا مغايرًا لما تريده السلطة أو الإعلام الموالي لها. وقد دفعت وسائل الإعلام الأجنبية ثمنًا كبيرًا لهذه الأوضاع خلال الأشهر الماضية سواء من حيث عدد المعتقلين أو الذين تعرضوا للاعتداء والمضايقة. هناك من يرى أن هذه اللحظة تعبير عن أزمة بنيوية تتعلق بنمط الملكية والبنية التشريعية التي تعمل فيها وسائل الإعلام والتي تجعلها دائمًا جزءًا من الصراع السياسي، وفي المقابل هناك من يرى أن الأزمة مرحلة عابرة ومرتبطة بالظرف الاستثنائي الذي تعيشه مصر حاليًا. |
كان للإعلام الخاص في مصر بشقيه: المكتوب والمرئي دور لا يُنكر في حالة الحراك السياسي التي سبقت ثورة الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني مستغلاً في ذلك ثلاثة عوامل: أولها: هامش الحرية النسبي الذي تمتع به هذا الإعلام، وثانيًا: الدرجة المعقولة من المهنية الاحترافية التي تميز بها العاملون في هذا القطاع، وثالثها: حالة الفراغ السياسي وضعف مؤسسات الدولة في أواخر عهد مبارك سواء البرلمان أو الأحزاب؛ حيث سعى الإعلام لملء هذا الفراغ وتحولت بعض البرامج التليفزيونية على الفضائيات الخاصة لتكون ساحات للنقاش والسجال السياسي التي كان يفترض أن تكون تحت قبة البرلمان أو داخل أروقة الاحزاب السياسية.
لكن هذا الدور ظل محكومًا بتفاهمات غير معلنة بين النظام الحاكم وبين مالكي هذه الفضائيات والصحف حول عدد من الخطوط الحمراء التي تعرّض كل من يحاول تجاوزها أو التمرد عليها للتضييق وربما الملاحقة من جانب أجهزة الدولة لاسيما أن معظم مالكي هذه القنوات هم من رجال الأعمال الذين ارتبطت مصالح معظمهم بصورة مباشرة بالنظام. وهكذا ظلت الحرية الممنوحة لوسائل الإعلام في توجيه نقدها لبعض السلبيات والفساد في المجتمع ومؤسسات الدولة حرية ذات سقف محدد ومشروطة بعدم الخوض في موضوعات بعينها مثل توريث الحكم أو توجيه النقد لشخص الرئيس وعائلته والدائرة المقربة منها. ولعل هذا ما يفسر حالة الارتباك والتخبط وفقدان التوزان التي وجد هذا الإعلام نفسه عليها خلال الأيام الأولى للثورة وحتى رحيل مبارك.
شكّلت لحظة رحيل مبارك نقطة فارقة في مسيرة الإعلام المصري الذي وجد نفسه فجأة متحررًا من كل القيود الأمنية والإدارية التي كانت تحكمه طوال عقود، فكان أن تحولت الحرية الهائلة وسقوط القيود إلى ما سماه البعض فوضى إعلامية ترافقت مع ظهور عشرات القنوات الفضائية والصحف الخاصة؛ الأمر الذي زاد من حالة الانفلات الإعلامي دون ضوابط أو قواعد تحكم الأداء الإعلامي بينما لم تقم السلطة الانتقالية التي تولت الحكم ممثلة في المجلس العسكري بأية خطوات لإعادة تنظيم الإعلام المصري هيكليًا وتشريعيًا بما يتناسب مع الواقع الجديد. ومع بداية حالة الاستقطاب والانقسام بين القوى السياسية التي شاركت في الثورة والتي برزت مع أول استحقاق سياسي تمثل في الاستفتاء على التعديلات الدستورية في 19 مارس/آذار 2011، وجد الإعلام المصري نفسه جزءًا من هذا السجال من خلال التركيز الكبير على الصراع الدائر بين الإسلاميين من جهة والعلمانيين والليبراليين من جهة أخرى، وقيام الصحف التابعة لتلك الأحزاب بشن حملات ضد الآخر، دون مراعاة لصالح الوطن الذي يحتاج إلى الاستقرار وإلى دعم الجميع من أجل إعادة البناء".(1) ومع تعمق حالة الاستقطاب تلك تحول الإعلام بشقيه الحكومي والخاص لأداة من أدوات الصراع السياسي والمجتمعي التي عاشتها وتعيشها البلاد وبرز ذلك جليًا في كل الاستحقاقات السياسية التي شهدتها مصر منذ استفتاء 19 مارس/آذار 2011 وحتى الآن.
الإعلام المصري: جلاد أم ضحية؟
هل يمكن تحميل الإعلام وحده المسؤولية عن الاستقطاب السياسي الذي تعيشه مصر حاليًا؟ وهل فعلاً يمكن القول: إن الإعلام أطاح بالرئيس محمد مرسي وجماعة الإخوان المسلمين من الحكم في مصر؟ هل تورط الإعلام في مستنقع السياسة بإرادته أم أنه وجد نفسه مجبرًا على ذلك؟ هذه بعض الأسئلة المطروحة بشدة على الساحة السياسية والإعلامية في مصر وربما خارجها. وفي هذا الإطار ثمة وجهتا نظر بين خبراء الإعلام في الاجابة على هذه الأسئلة: الأولى: تتبنى الرأي القائل بالدور الحاسم للإعلام في التأثير على الأوضاع السياسية من خلال ما يبثه من أخبار ومواد وما يتبناه من مواقف، وبالتالي فإن الإعلام يمكن أن يكون أداة للهدم بقدر ما يمكن أن يكون وسيلة للبناء، غير أن هناك من يأخذ على وجهة النظر تلك المبالغة الشديدة في الحديث عن دور الإعلام وحجم تأثيره على مجريات الأمور وأن هذه المبالغة سمة لصيقة بالأنظمة الشمولية التي تجعل من الإعلام شماعة يعلق عليها الساسة والحكام أخطاءهم وفشلهم من خلال الادعاء بأن الإعلام مسؤول عن كل الأزمات والكوارث ويثير سخط الناس على الحكم. أما وجهة النظر الأخرى فترى أنه يجب عدم تحميل الإعلام مسؤولية أخطاء السياسيين لأن الإعلام مها بلغ تأثيره يبقى مجرد ناقل لما يجري على الأرض من أحداث بوصفه مرآة عاكسة للواقع لا تملك مهما حاولت أن تجمّل القبيح أو تجعل الجميل قبيحًا. لكن هناك وجهة نظر ثالثة ربما تكون أكثر مصداقية تتبنى موقفًا وسطًا يرى أن الإعلام يلعب دورًا حاسمًا ومؤثرًا جدًا في مسار الأحداث لكنه ليس المسؤول وحده عن إشعال ثورة أو إسقاط نظم أو خلق حالة من الاستقطاب أو إنهائها. وإذا ما طبقنا وجهة النظر الأخيرة على واقع المشهد الإعلامي الراهن في مصر يمكن القول: إن الإعلام لعب دورًا مهمًا في تكريس وتعميق حالة الاستقطاب التي تعيشها البلاد لكنه لم يختلقها من الفراغ لأن كل أسباب الاستقطاب والانقسام كانت قائمة على الأرض. ورغم أن معظم خبراء الإعلام يرون أن ما يشهده الإعلام المصري هو سمة كل المراحل الانتقالية والتحولات السياسية والاجتماعية الكبرى التي يشهدها أي مجتمع، لكن في الحالة المصرية ساهم الإعلام في تفاقم حالة الاستقطاب والكراهية في المجتمع وكذلك في تعميق حالة الالتباس وعدم اليقين حيث "تورط بدرجة كبيرة وربما غير مسبوقة في تجارب التحول الديمقراطي الحديث في أوروبا الشرقية وأميركا اللاتينية، كما ارتفعت فيه درجات التسيس والافتقار للمهنية علاوة على الانقسام الثقافي والسياسي ربما بدرجة تفوق ما كان موجودًا في عهد مبارك".(2)
وقد دخل المشهد الإعلامي في مصر مرحلة جديدة بالغة الدلالة والخطورة بعد تاريخ الثلاثين من يونيو/حزيران 2013 وما أعقب ذلك من عزل الرئيس السابق محمد مرسي وبدء حملة من الملاحقة والمطاردة لكل مناصري الإخوان المسلمين، فمنذ ذلك التاريخ تحول الإعلام بشكل واضح إلى أداة صريحة في الصراع السياسي بين السلطة الانتقالية الجديدة وبين الإخوان المسلمين وأنصارهم. وتحولت بعض وسائل الإعلام في مصر لأدوات لاستهداف فصيل بعينه هو جماعة الإخوان المسلمين وأنصارها من خلال شيطنة هذه الجماعة ووصمها بكل ما هو قبيح، بل وصل الأمر لنزع الوطنية عن كل من ينتمي إليها. وساهم في ذلك موقف السلطة الانتقالية المتشدد تجاه جماعة الإخوان واتهامها باللجوء للعنف والتخريب في مواجهتها مع السلطة. وبلغ هذا الموقف ذروته في إعلان الإخوان جماعة إرهابية وهو الموقف الذي وفّر الغطاء السياسي وربما الأخلاقي للإعلام للهجوم على الإخوان. ورغم أن خريطة المستقبل التي أعلنها الجيش تتضمن بندًا عن وضع ميثاق شرف إعلامي إلا أن أحدًا لم يعد يتذكر ذلك؛ إذ تحولت عقب ذلك كثير من المواد والبرامج التي تُقدَّم عبر الإعلام إلى برامج لحملات كراهية وتحريض ضد الإخوان تتنافى مع أي مواثيق أو معايير مهنية ما أظهر "فشل معظم الإعلاميين في الحفاظ ولو على الحد الأدنى من الاستقلال المهني والسياسي خلال أداء مهمتهم".(3)
رغم أن الكثير من الدراسات الإعلامية يؤكد أن تأثير الإعلام يبقى تأثيرًا غير مطلق في جموع المواطنين وأنه يرتبط بالكثير من المتغيرات، فإن ذلك لا ينفي حقيقة أن الصراع بين الإعلام والسلطة سيظل ظاهرة عالمية تجسد ما يسميه الخبراء علاقة الشك والصراع المتبادل بين الطرفين وإن كانت هذه الظاهرة أكثر بروزًا في الدول العربية ومن بينها مصر.
سمات الخطاب الإعلامي بعد 30 يونيو/حزيران
يمكن هنا تحديد عدد من السمات والملامح التي ميزت الخطاب الإعلامي في مصر بعد الثلاثين من يونيو/حزيران، كان أبرزها:
-
إعلام الصوت الواحد: تحول الإعلام المصري منذ هذا التاريخ ليعبّر عن رأي واحد وصوت واحد هو الصوت المؤيد للإطاحة بمرسي وخطة خريطة المستقبل مع تغييب كامل لصوت كل من يعارضها. ويبدو الإعلام بشقيه الحكومي والخاص وكأنه فرقة موسيقية تعزف لحنًا واحدًا حسب إشارة قائد الفرقة، وغير مسموح لأي عضو في الفرقة بالخروج عن ثلاث نغمات: تمجيد للمؤسسة العسكرية ودورها الوطني وتخوين أي شخص ينتقدها أو حتى ينتقد بعض قياداتها، وتخوين وشيطنة الإخوان المسلمين وأنصارهم واتهامهم بمحاولة تمزيق مصر، وتلميع صورة الفريق -أصبح مشيرًا فيما بعد- عبد الفتاح السيسي وتقديمه للرأي العام باعتباره القائد الذي أنقذ الوطن من الضياع.
-
تصاعد خطاب الكراهية: فهناك من رأى أن بعض ما تبثه وسائل الإعلام المصرية حاليًا من مواقف وتصريحات تحريضية ضد كل من ينتمي للإخوان المسلمين هو نوع من الفاشية الجديدة. ومن الأمثلة على ذلك قيام أحد المشايخ بإصدار فتوى في برنامجه التليفزيوني الذي يقدمه على شاشة إحدى الفضائيات الخاصة؛ دعا فيها إلى ضرورة تطليق الزوجة الإخوانية باعتبارها خطرًا على الوطن ومصلحته "واحد يتزوج واحدة ويكتشف أنها خلية إرهابية نائمة في منزله، أي قنبلة موقوتة معه في غرفة النوم".(4)صحيح أن دار الافتاء المصرية سارعت لاستنكار هذه الفتوى واعتبرتها نوعًا من المزايدة السياسية لكن بعد أن كان مفعولها قد ترك آثاره المجتمعية التي تمثلت في حالة جدل واسع بين مؤيد للفتوى ومعارض كشفت عن تعمق الانقسام المجتمعي. فخطورة ما تبثه وسائل الإعلام المصرية المختلفة لا تكمن في التداعيات السياسية بقدر ما تتعلق بتداعياته المجتمعية الطويلة "ذلك لأنها تجذر لمشاعر الكراهية والانقسام والانتقام داخل المجتمع وبين فئاته وتياراته الرئيسية".(5)
-
تراجع وغياب القواعد المهنية: وهو نتيجة منطقية لارتفاع درجة التسييس والتوظيف الدعائي والتي كانت إحدى سمات إعلام نظام مبارك ولكنها تصاعدت بعد الثورة بحيث تحولت معظم وسائل الإعلام لمنصات للقصف السياسي والاستقطاب المجتمعي. وقد كانت نتيجة ذلك تدهورًا ملحوظًا في مستوى الأداء المهني، وتحولت معظم وسائل الإعلام لأدوات للحشد والتعبئة في اتجاه واحد وهو الهجوم على جماعة الإخوان والمتعاطفين معها دون أن تتاح لهم الفرصة للرد. وترافق ذلك مع ترويج الشائعات وانتشار العنف اللفظي الذي وصل لحد الشتائم الصريحة ضد الإخوان وما يمثله ذلك من خطورة أن يدفع ذلك الطرف المستهدف للعنف "فمن يتابع خطاب الكثير من قواعد الإسلاميين وشبابهم يكتشف الشعور المتزايد لديهم بالاغتراب والعزلة ما يغذّي مشاعر المظلومية والميل للانتقام".(6)
-
اتساع دائرة الاستهداف لرموز ثورة 25 يناير/كانون الثاني من غير الإخوان المسلمين: حيث تجاوز القصف الإعلامي جماعة الإخوان ليمتد إلى الثورة ذاتها، وشنت فضائيات وصحف مملوكة لرجال أعمال وشخصيات محسوبة على نظام مبارك، حملة ضارية ضد كل ما له علاقة الثورة وتم تشويه شباب الثورة ورموزها من خلال بث تسجيلات وأخبار تتهمهم بالعمالة والخيانة. أدى هذا الموقف لانصراف قطاع من المشاهدين ولاسيما الشباب عن متابعة ما تبثه هذه الفضائيات والذي تجاوز استهداف الإخوان لاستهداف ثورة يناير/كانون الثاني ذاتها والانقلاب عليها لاسيما مع عودة شخصيات تنتمي لنظام مبارك للظهور في المشهد الإعلامي. ومن هنا، فإنه إذا كانت التعبئة الإعلامية ضد الإخوان قبل 30 يونيو/حزيران قد ساهمت مع عوامل أخرى في الإطاحة بالإخوان المسلمين من السلطة فإن مثل هذه التعبئة الإعلامية "لم تعد صالحة في هذه اللحظة لمواجهة الإخوان وكسب الرأي العام لاسيما بعد مرور أكثر سبعة أشهر لم يتم خلالها حدوث أي تحسن في الظروف المعيشية أو الاقتصادية للموطنين".(7)
-
الدعاية والرأي على حساب الخبر والمعلومة: اتسم الأداء الإعلامي لكثير من الصحف والفضائيات الحكومية والخاصة بغلبة الخطاب الدعائي وانتهاج أساليب تجمع ما بين المبالغة والسطحية في الهجوم على الإخوان وشيطنتهم وانسحاب ذلك على كل من يعارض السلطة الانتقالية أو ينتقد خارطة المستقبل حتى وإن كان من خصوم الإخوان. كل ذلك قلّص من مصداقية هذا الإعلام وتأثيره على المتلقي بل وأدى لانصراف المشاهدين لقنوات أخرى. ولعل هذا ظهر جليًا في الاستفتاء الأخير على الدستور المعدل إذ أدت الحملة الدعائية الإعلامية الصارخة وأسلوب الحشد والتعبئة لصالح التصويت بنعم على هذا الدستور لنتائج عكسية تمثلت في عزوف كثيرين ولاسيما من قطاع الشباب عن المشاركة. وقد أظهرت نتائج آخر استطلاع أجرته شركة إبسوس الفرنسية المتخصصة في أبحاث المشاهدة تقدم قنوات غير مصرية في خريطة المشاهدة في مصر على حساب عدد من القنوات المصرية؛ وهو ما أغضب القنوات المصرية ودفعها لعقد اجتماعات عاجلة والتقدم ببلاغات تتهم الشركة الفرنسية بالتلاعب في "تقارير نسب المشاهدة لصالح قنوات غير مصرية منها مجموعة قنوات "إم بي سي"، والوكيل الإعلاني اللبناني للقناة "شويري"، الذي يحاول السيطرة على الإعلام المصري".(8)ويرى خبراء أن من أهم الآثار السلبية لسيطرة الدعاية على المشهد الإعلامي المصري أن الرأي أصبح مقدمًا على الخبر والمعلومة ما أدى إلى ما وصفه البعض بموت صحافة الخبر فيما سادت الصحافة التعبوية "التي أصبحت تخدم النظام بأكثر مما تخدم القارئ، وتخاطب الانفعالات بأكثر مما تخاطب العقول حتى باتت تحث على التهليل بأكثر مما تحث على النقد والتفكير".(9) بموازاة ذلك أصبحت الأخبار مجهولة المصدر أو المنسوبة لمصادر مجهولة ظاهرة يومية في الصحافة المصرية وبات شائعًا نقل أخبار مثيرة للجدل ونسبتها إلى "مصادر سيادية" أو "مصادر عليا". وحتى عندما يتبين بعد ذلك عدم صحة هذه الأخبار، فإن وسيلة الإعلام لم تعد تكلف نفسها عناء الاعتذار عن ذلك.
-
استخدام سلاح الخوف وتضخيم الخطر: فقد أدى فشل وسائل الإعلام في تبرير التحول الهائل في موقفها من الإخوان المسلمين، ونتيجة لاعتماد خطاب غير واقعي ينطلق من فكرة القضاء التام على الإخوان نهائيًا وإلى الأبد، وجد الإعلام نفسه في مأزق في مواجهة الرأي العام فلا قدّم تفسيرًا مقنعًا لهذا التحول ولا فسّر كيفية القضاء على الإخوان لكنه سعى في المقابل للمبالغة في الحديث عن المخاطر الأمنية رغم أنها حقيقة وتدعو للقلق، واعتمد لغة تقوم على أنه لا صوت يعلو فوق صوت المعركة ضد الإرهاب والدفاع عن كيان الدولة التي تتعرض لخطر شديد. وفي هذه الأجواء التي يسيطر عليها الخوف يكون الرأي العام أكثر استعدادًا لتصديق كل ما يقال حتى لو كان به أكاذيب وذلك بحثًا عن الأمن والاستقرار. لكن مثل هذا الخطاب الإعلامي ربما ينجح بعض الوقت لكنه لا يصلح طويلاً لإقناع الرأي العام لاسيما إذا ما استمر العنف ولم يتحقق الاستقرار المنشود.
-
النزعة الانتقامية: هيمن على كثير من وسائل الإعلام المصرية نوع من التشفي في الإخوان المسلمين بعد الإطاحة بهم من السلطة، وبدا أن ثمة نزعة ثأرية وانتقامية تجاه الجماعة وأنصارها وهذا ما ظهر في احتفاء واحتفال الإعلام الصاخب بإزاحة مرسي. ولم يمكن تفسير هذا الأمر باعتباره يأتي في إطار الإعلام التعبوي والدعائي فقط، بل إن هناك من يرى أن هناك أسبابًا تخص الإعلاميين أنفسهم الذين شعر بعضهم بالتهديد خلال فترة حكم الرئيس مرسي بعد أن تعرضوا للملاحقة القضائية وحصار مدينة الإنتاج الإعلامي من قبل أنصار التيار الاسلامي أكثر من مرة، وتلقي بعض الإعلاميين تهديدات بالقتل بسبب تغطيتهم السلبية لأداء مؤسسة الرئاسة خلال حكم مرسي.
-
ظاهرة المذيع الخطيب: وهي ظاهرة بدأت بشكل محدود بعد ثورة 25 يناير/كانون الثاني ولكنها مع الوقت تمددت بشكل كبير في المشهد الإعلامي المصري. والمذيع الذي يطل على المشاهدين خطيبًا وناصحًا وموجهًا وملقنًا لهم ما يجب أن يفعلوه وما يجب أن يتجنبوه، حتى وإن استضاف أحدًا حول قضية ما فإنه يتحدث أكثر من ضيوفه، ويظهر وكأنه يعرف كل شيء، وما يقوله هو الصواب بعينه، ورأيه هو الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ وهي ظاهرة ترافقت مع ثورة الإعلام بعد ثورة يناير/كانون الثاني بحيث لم يعد الأمر قاصرًا على المذيع الذي يقوم بالإرشاد الديني بل في مقابل ذلك ظهر ما يمكن أن نطلق عليه الإرشاد السياسي؛ حيث المذيع يمارس نوعًا من الوعظ السياسي على المشاهدين من خلال تبنى موقف سياسي والدفاع عنه طوال الوقت.
لكن هناك من يرى أن هناك أسبابًا موضوعية لتفسير الواقع الراهن للإعلام المصري والسمات التي تميزه، ومن بين هذه الأسباب:
-
أن ما يمر به الإعلام المصري حاليًا هو سمة ملازمة لفترات التحولات السياسية والاجتماعية في أي مجتمع، وقد لا يبدو الإعلام المصري استثناء من ذلك مع ملاحظة أن درجات التسييس والاستقطاب وغياب المهنية تجاوزت بكثير ما تعرض له الإعلام في تجارب تحول مماثلة في أوروبا الشرقية وأميركا اللاتينية.
-
أن البنية التنظيمية للإعلام المصري سواء من حيث نمط الملكية أو من حيث التشريعات والقوانين المنظمة لعمل هذا الإعلام لم تتغير بعد ثورة يناير/كانون الثاني عما كانت عليه قبل ذلك، وغابت أية إرادة سياسية لدى الذين تعاقبوا على الحكم في مصر بعد رحيل مبارك سواء المجلس العسكري أو حتى الإخوان عن الإقدام على خطوة إعادة تنظيم وهيكلة منظومة الإعلام في مصر، وكانت النتيجة أن شهدت مصر بعد الثورة ما سُمي بالفوضى الإعلامية لاسيما مع ارتفاع سقف الحريات وسقوط كل القيود التي كانت مفروضة على الإعلام؛ ما أدى إلى ظهور عشرات القنوات الفضائية والصحف الخاصة دون أن يرافق هذه الحرية ضوابط وقوانين منظمة، وفاقم الأمر أن غالبية هذه القنوات والصحف مملوكة لجهات وشخصيات لها مصالحها السياسية والاقتصادية.(10)
-
حدة الاستقطاب السياسي والانقسام الحاد وغير المسبوق بين القوى السياسية والمجتمعية جعل هذا الإعلام سواء مضطرًا أو بإرادته جزءًا وأداة من أدوات الصراع السياسي القائم.
سؤال التمويل
من يمول الإعلام في مصر؟ هذا سؤال مهم جدًا في هذه اللحظة لأن الإجابة عليه ربما تفسر الكثير من الظواهر وتجيب على العديد من الأسئلة بشأن ما يعيشه الإعلام المصري حاليًا. ومن المعروف أن رجال الأعمال يسيطرون على معظم الفضائيات والصحف الخاصة في مصر وكثير من ملّاك هذه الفضائيات كانت تربطهم علاقات ومصالح مع نظام مبارك، وقد ظلت هذه التهمة تلاحقهم حتى بعد ثورة 25 يناير/كانون الثاني. لكن يجب التنويه هنا إلى أن سؤال التمويل سؤال قديم جديد مطروح منذ فترة ما قبل 25 يناير/كانون الثاني، فكلما كان النظام يغضب على وسائل الإعلام الخاصة بسبب تغطيتها كان هذا السؤال يُطرَح، وظل السؤال مطروحًا بعد الثورة ولاسيما مع ظهور العشرات من وسائل الإعلام والصحف الجديدة الممولة من جهات وشخصيات لها مصالحها الاقتصادية والسياسية؛ الأمر الذي طرح أسئلة كثيرة حول مصادر تمويل هذه القنوات والصحف. ورغم مشروعية السؤال فإن كل طرف استخدمه بطريقة تخدم موقفه؛ فالسلطة في عهد مبارك وفي عهد الإخوان استخدمت هذا السؤال للتشكيك في مصداقية وسائل الإعلام المناوئة لها أو التي تتبنى وجهة نظر معارضة للسلطة، والأمر نفسه تعرضت له وسائل الإعلام الموالية للإخوان المسلمين.
إن معرفة مصادر التمويل والكشف عن النفقات والأرباح لكل وسيلة والإفصاح عنها أمام الرأي العام هو أمر مهم لتحقيق مبدأ الإفصاح والمكاشفة لاسيما بالنظر إلى نمط الملكية الراهن والذي يوضح أن غالبية الفضائيات والصحف الخاصة في مصر تعود ملكيتها لرجال أعمال وشخصيات لها ارتباطاتها بالسلطة ولها مصالحها وأجندتها الاقتصادية والسياسية الأمر الذي طرح سؤال تعارض المصالح وإمكانية استغلال هذه القنوات والصحف في تحقيق مكاسب سياسية واقتصادية على حساب المصلحة العامة. وقد بدا لافتًا في الفترة التي أعقبت الثورة مباشرة التزايد الكبير في الاستثمار في مجال الإعلام في الوقت الذي شهد فيه الاستثمار في القطاعات الأخرى تراجعًا واضحًا؛ "حيث تم ضخ المليارات من الجنيهات دون أي مردود اقتصادي متوقع مع ظهور مجموعة من رجال الأعمال الجدد وأخرى من الهاربين في الخارج سعوا ليتملكوا فضائيات جديدة، حتى إن أحد هؤلاء ذكر أن قنواته رغم ما يقوم بضخه فيها من مبالغ طائلة هي مجرد وقف خيري لا ينتظر منها أي مردود مالي؛ ما يؤكد الشكوك في أن الهدف من تلك الفضائيات سياسي لتوجيه الثورة والرأي العام بما يتوافق مع أجندة رجال الأعمال في الداخل وربما قوى إقليمية ودولية معنية بمستقبل مصر".(11)
في مواجهة هذه الرؤية هناك من يرى أن مسألة تملك رجال الأعمال لوسائل الإعلام ظاهرة عالمية وأن تجارب الكثير من الدول المتقدمة تؤكد أن معظم صناعة الإعلام فيها يمولها رجال أعمال وبالتالي لابد التعامل مع هذا الواقع وبدلاً من شيطنة رجال الأعمال جميعًا يجب أن يكون التركيز على مواجهة الهيمنة ومحاربة الاحتكار في تلك الصناعة بما يمنع فردًا أو مؤسسة واحدة من تملك أكثر من وسيلة إعلام. كما ينبغي النظر للآثار الإيجابية التي ترتبت على ظهور الإعلام الخاص على صناعة الإعلام عمومًا "كان ظهور وسائل الإعلام الخاصة في مصر عملاً حيويًا شديد الإيجابية حيث ازدهرت الصناعة واتسع حجمها وزاد عدد الكوادر العاملة فيها وبات المحتوى الإعلامي أكثر تنوعًا وبالتالي زاد حجم اعتماد المصريين على منظومتهم الإعلامية الوطنية".(12) وهناك من يرى أن طرح سؤال التمويل على أهميته يبدو في كثير من الأحيان "قضية حق يراد بها باطل. والأغرب أن اتهام الإعلام الخاص بالتمويل من الخارج يُطرح بدون تقديم أدلة، ويغلب عليه التعميم".(13)
هذه الآراء المتباينة تكشف عن أن الجدل حول العلاقة بين نمط الملكية والأداء الإعلامي سوف يستمر طويلاً طالما استمر رجال الأعمال يضخون أموالاً في هذه الصناعة وطالما استمرت الدولة في الهيمنة على وسائل الإعلام الحكومية وتسخيرها وفقًا لأجندة النظام الحاكم. من هنا، يطرح البعض نمط الملكية التعاوني الواسع الذي يجمع عددًا كبيرًا من المساهمين بحصص محددة لكل مساهم؛ فهذا هو الحل الأمثل "للحفاظ على درجة مناسبة من فصل الملكية عن التحرير ولتجنيب وسائل الإعلام المصرية مشكلات الوقوع تحت سيطرة مالك واحد أو عدد قليل من الملاك يمكن أن يستغلوها لتحقيق مصالح تتناقض مع قيم العمل الإعلامي الرشيد أو المصلحة العامة".(14)
الحرية المفقودة
على ضوء الواقع الراهن الذي يعيشه الإعلام المصري فإن هناك كثيرين يرون أن أكبر ضحيتين لهذا الواقع، هما: المهنية والحرية، فمع تصاعد حدة الاستقطاب السياسي وتحول الإعلام لأداة للحشد والتعبئة في اتجاه واحد ووحيد سقط الكثير من المعايير المهنية وغابت الموضوعية والمهنية عن مجمل الأداء الإعلامي ليحل محلها الانحياز السافر لوجهة نظر السلطة الانتقالية والمؤيدين لها. ولم يقتصر الأمر على اعتماد إعلام الصوت الواحد وتغييب وجهة النظر الأخرى بل امتد ليشمل ارتكاب العديد من الأخطاء والخطايا المهنية عبر نشر الكثير من الأخبار الكاذبة أو غير الدقيقة أو المجهلة والتي يثبت بعد ذلك عدم صحتها دون أن تكلف الصحيفة أو وسيلة الإعلام التي نشرتها نفسها عناء الاعتذار للمشاهدين والقرّاء.
ورغم أن خارطة المستقبل التي أُعلنت بعد الإطاحة بالدكتور محمد مرسي تضمنت بندًا يتحدث عن وضع ميثاق شرف إعلامي فإن ذلك الأمر بقي مجرد حبر على ورق؛ حيث كان كثير من الممارسات الإعلامية مفارقًا لأي ميثاق إعلامي. ورغم التذرع بالحرب على الإرهاب والخطر الذي يهدد وجود الدولة المصرية وغيرها من المبررات التي ساقها بعض الإعلاميين ومقدمي البرامج بل حتى المحللين السياسيين لتبرير هذا الأداء الإعلامي المنحاز فإن ذلك لم يكن مقنعًا للكثيرين من المهتمين بالحريات الصحفية والإعلامية داخل مصر وخارجها؛ فالمطالع لما تنشره الصحافة ووسائل الإعلام الغربية وبعض المنظمات المعنية بالحريات من تقارير عما يجري في مصر يرى أن صورة مصر ووضع الحريات الصحفية فيها قد أصبح أكثر بؤسًا وتراجعًا عما كان عليه حتى قبل ثورة 25 يناير/كانون الثاني. وقد ساهم في ذلك حملات التضييق والملاحقة بحق الصحفيين الأجانب والمصريين على حد سواء واعتقال العشرات منهم سواء خلال تغطيتهم لمظاهرات الإخوان المسلمين أو حتى تغطية مظاهرات أخرى لغيرهم كما جرى في مظاهرات الذكرى الثالثة لثورة يناير/كانون الثاني. وثمة قائمة طويلة من الاتهامات الجاهزة التي تُوجّه لأي صحفي يتم القبض عليه أو احتجازه تبدأ بنشر أخبار كاذبة والإضرار بالأمن القومي للبلاد ولا تنتهي بتهمة الانضمام لجماعة إرهابية في إشارة لجماعة الإخوان المسلمين.
وترسم تقارير وبيانات المنظمات الحقوقية والمعنية بحرية الصحافة صورة قاتمة لواقع الحريات الصحفية والإعلامية والتي باتت تحت تهديد وقيود غير مسبوقة منذ تاريخ 3 يوليو/تموز الماضي؛ إذ قالت الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان: إنها رصدت في الفترة ما بين 26 يونيو/حزيران وحتى 26 أغسطس/آب 112 انتهاكًا ضد الحريات الصحفية من قبل أجهزة الأمن المصرية والمتظاهرين المؤيدين لجماعة الإخوان المسلمين، وقالت الشبكة: إن القنوات التي تم إغلاقها أغلبها قنوات مناصرة لتيار الإسلام السياسي وعلى رأسه جماعة الإخوان المسلمين وبعضها بثت خطابات تحريض وكراهية، لكن المخالفات لم تقتصر على تلك القنوات بل إن هناك مخالفات وجرائم تحريض عديدة ارتُكبت من قبل إعلاميين على شاشات بعض القنوات المناصرة للتيار المدني والمستقلة دون أن يتم اتخاذ إجراء قانوني ضدها ".(15) أما منظمة (مراسلون بلا حدود) فقد أصدرت بيانًا نددت فيه بما وصفته بالحصيلة الثقيلة للانتهاكات التي طالت الإعلاميين بعد شهرين من سيطرة الجيش على السلطة، وأوضحت المنظمة في بيانها الصادر في سبتمبر/أيلول الماضي أنه "بعد مرور شهرين، اتضح لنا أن حصيلة الانتهاكات الجسيمة في حق الصحفيين والإعلاميين كانت جسيمة بالفعل؛ فمنذ 3 يوليو/تموز 2013، قُتِل 5 صحفيين، واعتُقِل 80 آخرون بطريقة تعسفية، 7 منهم ما زالوا رهن الاحتجاز، بينما تعرّض 40 إعلاميًا للاعتداء على يد قوات الشرطة أو المتظاهرين، سواء منهم المؤيدون لمرسي أم المناوئون له". وأضافت: "وتأتي هذه الانتهاكات في سياق سياسي يعرف استقطابًا شديدًا، يزيد من تعقيد وضعية الصحفيين والإعلاميين في مصر، ويجعلها أكثر خطورة على حياتهم ومهنتهم. لذلك، تُدين منظمة (مراسلون بلا حدود) أجواء العنف والاحتقان السياسي التي وجد الصحفيون، سواء منهم المحليين أم الأجانب، أنفسهم مجبرين على العمل فيها".(16)
كما حذر المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، ومقره جنيف، من تنامي بيئة معادية لحرية الصحافة والإعلام في مصر، في ظل ما تمارسه السلطات المصرية منذ نحو ستة أشهر من "سياسة قمعية متصاعدة بحق العاملين في مجال الصحافة والإعلام"، داعيًا السلطات الحاكمة في مصر إلى إطلاق سراح الصحفيين المحتجزين بسبب نشاطاتهم الصحفية على الفور. وقال المرصد في بيان صحفي أصدره في 15 ديسمبر/كانون الأول: إن السلطات المصرية "تتعمد استهداف الصحفيين والإعلاميين الذين ينقلون صورة أخرى لما يجري في الشارع غير الصورة التي يريدها النظام"، مشيرًا إلى أنه وثّق اعتقال 76 صحفيًا خلال النصف الثاني من العام المنصرم (2013)، "لا يزال 37 منهم رهن الاعتقال التعسفي حتى اللحظة"، وعبّر عن القلق من "استخدام السلطات المصرية للقانون أداةً للتضييق على الصحفيين ومحاكمتهم، وهو ما يظهر من خلال طبيعة التهم التي تُوَجَّه إلى الصحفيين الذين يتم اعتقالهم، والتي توحي بالخلفية السياسية للاعتقال، وتشكّك بمدى جدّية المحاكمة ونزاهتها".(18)
وقد توقفت منظمة مراسلون بلا حدود أمام مفارقة مدهشة بين ما تتضمنه مواد مشروع الدستور المعدل الذي تم إقراره في الاستفتاء الذي يجرى يومي 14 و15 يناير/كانون الثاني الماضي من نصوص تتعلق بحماية حرية الصحافة والإعلام وبين ما يجري على الأرض من ممارسات أصبح معها العمل الصحفي في مصر مهمة صعبة ومعقدة أكثر من أي وقت مضى؛ "فعمليات الاعتقال أو الاحتجاز أو الحبس بحجج واهية، ناهيك عن المتابعات القضائية ضد الصحفيين، بات لها تأثير سلبي خطير على المهنة. ورغم هذه التعهدات الدستورية، تواصل السلطات المصرية حملتها القائمة على الاعتقال والاحتجاز التعسفي للصحافيين الإعلاميين".(19)
بل إن صحيفة نيووركر الأميركية نشرت تقريرًا لها أواخر الشهر الماضي كان عنوانه "في مصر الصحافة تصبح جريمة"؛ حيث تناولت الصحيفة في تقريرها المطول مقارنة بين ما كان عليه الوضع أثناء وبعد ثورة 25 يناير/كانون الثاني وما أصبح عليه الوضع الآن. واستعرضت الصحيفة المضايقات والمخاطر التي يتعرض لها الصحفيون حاليًا من قبل السلطات المصرية. وأشارت إلى قرار السلطات القضائية بإلقاء القبض على عشرين من العاملين بشبكة الجزيرة من بينهم أربعة صحفيين أجانب. بل إن التضييق على الصحفيين الأجانب لم يعد قاصرًا على السلطات كما تقول الصحيفة بل امتد ليشمل المواطنين العاديين من مؤيدي السلطة.(20)
وتحت عنوان "الصحافة في مصر تحت التهديدات" نشرت صحيفة الغارديان تقريرًا في شهر أغسطس/آب الماضي تناولت فيه أوضاع الصحفيين في مصر بعد الإطاحة بمرسي وتناولت مخاوف المنظمات المعنية بحرية الصحافة من تصاعد التضييق على الحريات الصحفية في مصر حاليًا. ونقلت الصحيفة عن تقرير اللجنة الدولية لحماية الصحفيين القول: إن العديد من الصحفيين الأجانب جرى الاعتداء عليهم أو اعتقالهم لبعض الوقت خلال أداء عملهم في مصر.(21)
أما منظمة العفو الدولية فقد نشرت تقريرًا تحت عنوان "مخاطر كبيرة تتربص بالحريات الإعلامية في مصر"؛ وذلك تزامنًا مع توجيه "تهم تتعلق بالإرهاب" لثلاثة صحفيين يعملون بقناة الجزيرة الناطقة بالإنجليزية اعتبرت فيه هذه الخطوة "بمثابة انتكاسة رئيسية لحرية الإعلام في مصر، وترسل برسالة مخيفة مفادها عدم إمكانية قبول سوى رواية واحدة للأحداث في مصر اليوم -ألا وهي الرواية التي تجيزها السلطات المصرية فقط". وأشارت المنظمة إلى أن مصر شهدت تصعيدًا خطيرًا في الاعتداءات التي تستهدف الحريات الصحفية منذ الإطاحة بمحمد مرسي في يوليو/تموز 2013، لاسيما مع إمكانية إلقاء القبض على الصحفيين الآن بمجرد قيامهم بتغطية أخبار انتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكبها قوات الأمن".(22)
والملاحظ أن استهداف الصحفيين تركز بالأساس على الصحفيين العاملين في وسائل الإعلام المقربة من جماعة الإخوان المسلمين والصحفيين الأجانب الذين تتهمهم السلطات المصرية بتغطية الأحداث بطريقة "منحازة". وفي ظرف شهرين كذلك، فُرضت الرقابة على حوالي عشر مؤسسات إعلامية، بينما تعرضت مكاتب ست أخرى للمداهمات؛ فقد كان من بين القرارات الأولى التي اتخذتها السلطات الجديدة، يوم 3 يوليو/تموز 2013 إغلاق أربع قنوات تليفزيونية، هي: قناة مصر 25 التابعة لجماعة الإخوان المسلمين، وقناة الحافظ، ثم قناتي الناس والرحمة، والمعروفة بدعمها للرئيس المعزول محمد مرسي. وقد داهمت الشرطة مكاتب هذه القنوات تحت ذريعة منعها من نشر رسائل تحرض على الكراهية والعنف. وما زالت هذه القنوات الأربعة ممنوعة عن العمل إلى اليوم. لكن السلطات المصرية في المقابل اتهمت وسائل الإعلام الأجنبية بتقديم تغطية منحازة. وقد أصدرت الهيئة العامة للاستعلامات المصرية والمسؤولة عن الترخيص للصحفيين الأجانب العاملين في مصر بيانًا في 17 أغسطس/آب الماضي نددت فيه بما وصفته بغياب الحيادية لدى وسائل الإعلام الخارجية، قالت فيه: "تُعبّر مصر عن مرارتها تجاه وسائل الإعلام الدولية التي تغطي الأحداث بطريقة منحازة لصالح الإخوان المسلمين، وفي نفس الوقت تغض الطرف عن أعمال العنف والإرهاب التي تقوم بها هذه الجماعة بهدف تخويف وترهيب المواطنين".(23) كما اتهم البيان بعض وسائل الإعلام الدولية بتبني أجندة سياسة معينة "تتجاهل حقائق الأوضاع في الشارع المصري وإغفال توصيف ما حدث في 30 يونيو/حزيران بأنه تعبير عن إرادة شعبية خرجت بالملايين عبّرت عن نفسها في شوارع مصر".(24)
إلى أين؟