[الجزيرة] |
ملخص
تعالج الدراسة أطر التغطية الإخبارية للانتخابات التونسية* في الإعلام التقليدي المحلي لتحديد اتجاهاته، والتفسيرات التي قدمها للأحداث والوقائع، وبيان القواعد المهنية الحاكمة للمعالجة الإعلامية وأساليبها، فضلاً عن سياقها السياسي والأيديولوجي. واعتمدت الورقة البحثية لتقييم هذه التغطية الإخبارية على معيارين: يتعلق المعيار الأول بما يُسمِّيه الباحث "التنوع السياسي"، ولهذا المعيار أهمية كبرى؛ إذ يخبر عن مهنية وسائل الإعلام واستقلالها وعن إكراهات الأيديولوجيا والسياسة وعن طابعها الديمقراطي. أما المعيار الثاني؛ فيتعلق بالمضامين التحريرية وبأنواع البرامج التي يمكن أن تخبر عن الدور الذي تؤديه وسائل الإعلام التقليدي في الانتخابات. |
تمهيد
تتناول هذه الدراسة تغطية الميديا التقليدية للانتخابات التشريعية والرئاسية. وتتأتى الأهمية النظرية الكبرى لهذه المسألة من العلاقة العضوية بين الميديا والديمقراطية بشكل عام وبين الميديا والفعل الانتخابي من جهة أخرى.
فإذا كان التصويت تعبيرًا عن الإرادة الشعبية، فإن لهذه الإرادة مصادر تتشكَّل من خلالها وسياقات تتكون فيها. ومن هذا المنظور تسهم الميديا في تشكيل هذه الإرادة؛ لأنها تمثِّل في المجتمع الديمقراطي مؤسسة من مؤسسات المجال العمومي الذي يحتضن النقاش العام. وإضافة إلى احتضان النقاش العام وتنظيمه، تقوم الميديا أيضًا بتمثيل التنوع السياسي والثقافي وإبرازه، كما أنها تنير المواطنين كي يتصرفوا بطريقة عقلانية وحتى يختاروا عن معرفة، بعد الإطلاع على حجج المترشحين. وعلى هذا النحو فإن للميديا أدوارًا حاسمة متصلة بالعملية الانتخابية بشكل عام ولكن أيضًا بالفعل الانتخابي ذاته.
وفي مستوى آخر، فإن دراسة تغطية الميديا للانتخابات التشريعية في تونس تواجه عدة صعوبات، لعل أهمها غياب الدراسات الأكاديمية والمؤسسية في هذا المجال بسبب حداثة التجربة الديمقراطية.
وفي هذا الإطار استندنا إلى الدراسات المتوفرة ذات العلاقة بموضوع هذه الورقة، وهي:
• الدراسة التي نشرتها مؤسسةBBC media action حول علاقة التونسيين بالميديا التقليدية بعنوان "Holding the government to account? What audiences want from the media in Tunisia" ، التي نُشرت في سبتمبر/أيلول 2013.
• تقارير الرصد الإعلامي التي نشرتها الهيئة المستقلة للاتصال السمعي البصري حول التغطية الانتخابية.
• تقرير الرصد الإعلامي للصحافة المكتوبة والإلكترونية الصادر عن التحالف المدني الذي أنشأته أربع منظمات من المجتمع المدني، خاصة الرابطة التونسية لحقوق الإنسان والنقابة الوطنية للصحفيين التونسيين.
وتتضمن هذه التقارير معطيات بالغة الأهمية، لا يمكن للباحث أن ينتجها بوسائله الخاصة المحدودة، ولأنها يمكن أن تساعدنا أيضًا على تفادي الخطاب الانطباعي حول مسألة تتنازعها الرؤى الأيديولوجية الضيقة. ويمثل هذا النص، في هذا الإطار، دراسة استطلاعية تضع إطارًا لمقاربة دور الميديا في الانتخابات بشكل خاص ودورها في عملية البناء الديمقراطي بشكل عام.
1. تحولات مجال الميديا في تونس
شهد مجال الميديا تحولات متعددة شملت عدة مستويات: الإطار التنظيمي التشريعي والقانوني أولاً، وصناعة الميديا ثانيًا، وعلاقة التونسيين بالميديا بشكل عام ثالثًا. ولهذه التحولات علاقة مباشرة بمعالجة الميديا للانتخابات.
أ- تحولات جوهرية في مستوى الإطار التنظيمي والتشريعي"
في المستوى التنظيمي والتشريعي تم إرساء إطار قانوني جديد يتمثل في المرسومين 115 بالنسبة للصحافة المكتوبة(1) و116 بالنسبة للميديا السمعية البصرية الذي أرسى الهيئة المستقلة للاتصال السمعي البصري(2). وتقوم هذه الهيئة بتنظيم القطاع بواسطة عدة آليات مخصوصة كإسناد التراخيص، ووضع كراسات الشروط لتنظيم الخدمة السمعية البصرية، ورصد القنوات الإذاعية والتليفزيونية لمراقبة احترامها لكراسات الشروط وللمعايير التي تضعها الهيئة بشكل عام ومنها المعايير والضوابط التي وُضعت للتغطية الإعلامية للانتخابات التشريعية والرئاسية.
ب- تحولات في مستوى صناعة الميديا
يتصل المستوى الثاني من التحوُّلات بصناعة الميديا؛ إذ ظهرت عدة قنوات تليفزيونية وإذاعية جديدة، الكثير منها معترف به من طرف الهيئة المستقلة للاتصال السمعي البصري. كما ظهرت عناوين جديدة في الصحافة المكتوبة والإلكترونية. وفي المقابل، فإن اقتصاد الميديا التقليدية والصحافة الإلكترونية يبقى هشًّا بسبب محدودية السوق الإعلانية وتراجعها خلال السنوات الثلاث الأخيرة.
وعلى هذا النحو، فإن عددًا من القنوات الإذاعية والتليفزيونية التي ظهرت خلال السنوات الثلاث الأخيرة توقفت عن البث (كراديو كلمة وتليفزيون تونس الدولية). في حين تعاني أخرى من عدة مشاكل بسبب قلة الإنفاق الإعلاني أو غيابه. وتعاني الصحافة المكتوبة كذلك عدة صعوبات هيكلية بسبب تراجع في المبيعات وطبيعة المؤسسات الصحفية التي هي في أغلبها مؤسسات صغيرة غير قابلة للحياة. وبشكل عام يسيطر التليفزيون على مجال الميديا في تونس؛ إذ يستقطب جانبًا مهمًّا جدًّا من الإنفاق الإعلاني.
ج- تحولات في مستوى علاقة التونسيين بالميديا
شهدت علاقة التونسيين بالميديا التقليدية عدة تحولات في السنوات الثلاث الأخيرة في سياق تنامت فيه استخدامات الميديا الاجتماعية خاصة. وبشكل عام، فإن مجال الميديا التقليدية يتكوَّن في أغلبه من قنوات تليفزيونية وإذاعية وصحف أُنشئت في فترة النظام السابق. كما أن القنوات الجديدة لم تكن قادرة على مواكبة المشهد الإعلامي، باستثناء بعض المؤسسات القليلة (قناة التونسية أو الحوار التونسي في مجال التليفزيون....).
ويمكن أن نقول: إن ثقة التونسيين في الميديا التقليدية في تنام مستمر. وفي هذا الإطار بيَّنت دراسة أنجزتها مؤسسة(3)BBC fondation نُشرت في سبتمبر/أيلول 2013 انطلاقًا من عينة تتكوَّن من 1000 مواطن ومواطنة أن 54.7% من التونسيين، أي أكثر من النصف، يعتبرون أن الميديا التقليدية قادرة على أن تؤدي دورًا أساسيًّا في مساءلة السلطة السياسية، ويصنفونها في المرتبة الأولى قبل القضاء الذي يأتي في المرتبة الثانية.
وبيَّنت دراسة البي بي سي أن التليفزيون يمثل المصدر الأول للأخبار حول القضايا السياسية والأحداث الجارية بالنسبة لـ83% من التونسيين ويأتي الأصدقاء في المرتبة الثانية. وحسب هذه الدراسة كذلك فإن 53% من التونسيين يثقون في التليفزيون مقابل 77% في الأصدقاء والعائلة. كما يعتبر 42% من التونسيين أن التليفزيون مفيد للمجتمع أو يؤدي خدمة مفيدة للمجتمع.
2. الأطر القانونية والتنظيمية ذات التأثير المباشر على التغطية الإخبارية للانتخابات
تخضع التغطية الإعلامية للانتخابات إلى عدة محددات خارجة عن نطاق الميديا؛ وهي قوانين أو نصوص ذات التأثير المباشر على التغطية الانتخابية:
أولاً: المرسوم عدد 116 ويتعلق بحرية الاتصال السمعي والبصري وبإحداث هيئة عليا مستقلة للاتصال السمعي والبصري.
ثانيًا: القانون الأساسي الانتخابي(4).
ثالثًا: كراسات الشروط، وهي اتفاقيات تعاقدية بين القناة التليفزيونية والهيئة وتنصُّ على احترام المبادئ العامة لحرية التعبير والاتصال وعلى ضمان نزاهة المعلومة، وتعددية الأفكار والآراء وتوازنها وذلك في كل البرامج، دون المساس بحرية الصحفيين(5). وكذلك الحفاظ على استقلالية الخدمة إزاء كل حزب سياسي. وتتضمَّن كراسات الشروط ترتيبات خاصة باحترام مختلف الحساسيات السياسية والثقافية والدينية وضمان توازن الفضاءات الحوارية(6) وضبطها بالميثاق التحريري، وخاصة التوازن بين الضيوف من حيث الانتماءات الحزبية والقطاعية والتوجهات الفكرية، وبضمان احترام خصائص الخبر الصحفي لمقاييس المهنية والنزاهة والحيادية وتقديمه من قبل صحفيين محترفين وعدم الخلط بين الخبر والتعليق والخبر والدعاية.
وإضافة إلى المرسوم 116 والقانون الأساسي وكراسات الشروط هناك أيضًا نصوص بعضها إلزامي صادر عن هيئة الانتخابات وهيئة الاتصال السمعي البصري، ومنها:
• قرار مشترك بين الهيئة العليا المستقلة للانتخابات والهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري يتعلق بضبط القواعد الخاصة للحملة الانتخابية وحملة الاستفتاء بوسائل الإعلام والاتصال السمعي والبصري وإجراءاتها(7).
• توصيات حول التغطية الإعلامية خلال فترة ما قبل حملة الانتخابات التشريعية والرئاسية صادرة عن الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري(8).
ولكل هذه النصوص علاقة مباشرة بالتغطية الإخبارية. وقد لاحظنا أن الهيئة، إضافة إلى النصوص التوجيهية، نظمت دورات تدريبية عديدة لفائدة الصحفيين المعنيين بتغطية الحملة الانتخابية.
3. كيف نقيِّم أدوار الميديا؟: تمثيل التنوع والمضامين التحريرية
لتقييم هذه التغطية سنعتمد على معيارين: يتعلق المعيار الأول بما أسمِّيه تمثيل التنوع السياسيthe representation of political diversity ولهذا المعيار أهمية كبرى؛ إذ يخبرنا عن مهنية الميديا واستقلالها وعن إكراهات الأيديولوجيا والسياسة وعن طابعها الديمقراطي. أما المعيار الثاني فيتعلق بالمضامين التحريرية وبأنواع البرامج التي يمكن أن تخبرنا عن الدور الذي تؤديه الميديا التقليدية في الانتخابات.
أ- تمثيل التنوع في الميديا التقليدية
يتعلق السؤال هنا باحترام الميديا لمعايير التنوع والتكافؤ والتوازن.
تقييم تمثيل التنوع في الميديا السمعية البصرية:
تجدر الإشارة في هذا الإطار إلى أن التغطية الإخبارية تخضع لبعض المعايير الإلزامية؛ إذ وضعت هيئة الانتخابات المستقلة والهيئة المستقلة للاتصال السمعي البصري معايير مضبوطة تتمثل في احترام الحق في نفاذ القوائم المترشحة، أو المترشحين، أو الأحزاب، على أساس الإنصاف(9) باتباع مبدأ التناسب بين التغطية وعدد الدوائر. وبيَّن تقرير الهيئة المنشور على موقعها، والمتعلق بفترة الحملة الانتخابية التشريعية من 4 إلى 20 أكتوبر/تشرين الأول 2014، أن هذا المبدأ لم يكن متبعًا دائمًا بشكل منصف من القنوات التليفزيونية والإذاعية(10) .
جدول (1) يُبيِّن مدة البث المخصصة لمختلف قوائم المرشحين في كل القنوات (التليفزيونية) حسب الأصناف(11)
جدول (2) يوضح مدة البث المخصصة لمختلف قائمة المترشحين في كل الإذاعات
ويبيِّن هذا التقرير هيمنة بعض الأحزاب على الظهور الإعلامي وخاصة حركة النهضة في مرتبة أولى ثم الحزب الجمهوري وحركة نداء تونس. وتؤكد هذه النتائج الكمية بشكل عام تقارير سابقة أُنجزت قبل الحملة الانتخابية التي توضح هيمنة حزبي النهضة ونداء تونس.
جدول (3) يبيِّن التوزيع العام لمدة البث ومدة تناول الكلمة على مختلف الفاعلين السياسيين(12)
إضافة إلى تقارير الرصد، أصدرت الهيئة عدة عقوبات تتعلق باحترام القنوات الإذاعية والتليفزيونية لمبادئ الحياد والتوازن والإنصاف(13).
وتتوزع هذه العقوبات على النحو التالي:
• لفت نظر لقناة المتوسط (قناة تليفزيونية خاصة) التي لم تحترم مبادئ الإنصاف بتوفير تغطية متساوية للمرشحين للدورة الأولى للانتخابات الرئاسية.
• لفت نظر لقناة نسمة (قناة تليفزيونية خاصة) التي بثَّت تقريرًا إخباريًّا حول تقييم الشارع التونسي لأداء المرشحين للانتخابات الرئاسية وجاءت الآراء كلها لصالح مرشحين اثنين: حمة الهمامي والباجي قائد السبسي.
• عقوبة مالية للإذاعة الوطنية (إذاعة عمومية): الإشارة إلى نتائج سبر الآراء الممنوعة من القانون الانتخابي.
• عقوبة مالية لإذاعة تونس الدولية (إذاعة عمومية): دعا فيه الصحفي مقدم البرنامج إلى التصويت المفيد؛ وهو ما يعني بتعبير آخر التصويت إلى حزب نداء تونس.
• عقوبة مالية على إكسبرس إف إم (إذاعة خاصة) بسبب الإشارة إلى نتائج سبر آراء.
• عقوبة مالية على قناة نسمة (قناة تليفزيونية خاصة) بسب إشهار سياسي.
• عقوبة مالية على قناة حنبعل (قناة تليفزيونية خاصة) بسبب إشهار سياسي.
• عقوبة مالية على قناة الزيتونة (قناة تليفزيونية خاصة) بسبب عدم احترام القانون الانتخابي.
يمكن أن نستنتج من هذا الرصد السريع للعقوبات، التي فرضتها هيئة الاتصال السمعي البصري على القنوات الإذاعية والتليفزيونية، العدد المحدود نسبيًّا للخروقات التي تتعلق دائمًا بالفاعلين السياسيين المهيمنين: حركة النهضة، نداء تونس أو المترشحين الرئيسين.
وبشكل عام، يمكن القول: إن القنوات التليفزيونية والإذاعية كرَّست موازين القوى السائدة في المشهد السياسي، وبجَّلت الأحزاب السياسية التي انتصرت في الانتخابات.
تقييم تمثيل التنوع في الصحافة المكتوبة:
نتبيَّن من خلال نتائج تقرير الرصد الذي أعدَّه التحالف المدني لرصد الإعلام(14) أن حزبي حركة النهضة ونداء تونس استحوذا على المشهد الصحفي بأكثر من 32% من المادة الصحفية. كما يستنتج التقرير وجود بناء إعلامي للحملة متمركز على الاستقطاب الثنائي.
وحسب التقرير خصصت صحيفة الضمير أكثر من 50% من مادتها التحريرية لحزب حركة النهضة، في حين يأتي نداء تونس في المرتبة الرابعة بـ5.14%. أما في صحيفة المغرب، فاستحوذت حركة النهضة ونداء تونس والمؤتمر من أجل الجمهورية على 41% من مادتها التحريرية. ورغم "أن مساحة الحضور على صفحاتها بين القوى السياسية الثلاث متقاربة جدًا، كما يشير التقرير، فإنها لم تخرج من خطاب الاستقطاب الثنائي بين النهضة والنداء"(15).
وفي صحيفة الشروق، استأثرت أحزاب حركة النهضة والنداء بالصدارة تليها الجبهة الشعبية في المرتبة الثالثة. أما صحيفة التونسية فقد خصصت 23.75% من مادة التغطية الإخبارية لحركة النهضة ثم حركة نداء تونس. وفي جريدة لابريس العمومية، تقاسم حزبا النهضة والنداء 30% من المادة الإعلامية، وكذلك الأمر بالنسبة لجريدة الصباح (نداء تونس 18.27% وحركة النهضة 18.17%).
أما وكالة تونس إفريقيا للأنباء فقد خصصت 80% من المادة التحريرية الروتينية للأحزاب، وبشكل عام استحوذت النهضة والنداء والمؤتمر من أجل الجمهورية والاتحاد الوطني الحر على أكثر من 53% من المادة التحريرية. وهكذا بجَّلت الصحافة المكتوبة أحزابًا بعينها، رغم غياب الالتزامات المفروضة على الميديا السمعية البصرية والمتصلة بما يُسمَّى: الإنصاف والتوازن.
ب- المعالجة التحريرية وأدوار الميديا
المعيار الثاني الذي يمكن أن نقيِّم بواسطته التغطية الإعلامية للانتخابات يتعلق بالأدوار التي يجب أن تقوم بها الميديا في المجتمع الديمقراطي، وتتصل هذه الأدوار بإخبار المواطنين وتزويدهم بالمعارف عن الأحداث وإدارة النقاش العام.
يتعلق الدور الإخباري بإخبار المواطنين عن الأحداث المتصلة بالانتخابات التشريعية والرئاسية، أي: بتغطية الأحداث كالاجتماعات الشعبية التي تقوم بها الأحزاب والزيارات الميدانية للمترشحين ومواقف الأحزاب، وتصريحات المترشحين أو الفاعلين السياسيين.
أما الدور الثاني فهو معرفي-تنويري enlightenment يتعلق بتزويد المواطنين بالمعارف حول المرشحين (مسارهم السياسي، مثلاً)، والأحزاب والبرامج والمسائل الكبرى (التعليم، الصحة، الطاقة، البيئة، التشغيل، البطالة، إصلاح أنظمة الضمان الاجتماعي...)، وتحليل برامج المترشحين. ويتصل هذا الدور المعرفي كذلك بإعطاء خلفية للقارئ (معطيات إحصائية، تحليلات خبراء لتقييم برامج الأحزاب المترشحة، بورتريهات، تحقيقات ذات بُعد تفسيري، تحليل....) حول هذه المسائل حتى يتمكن من تكوين قراءة نقدية لبرامج الأحزاب.
ويتجسَّد الدور الثالث المتعلق بإدارة النقاش العام في البرامج الحوارية وصفحات الرأي. ويحيل هذا الدور على إسهام الميديا في بناء المجال العمومي وتوفير منصات تحتضن المداولة الديمقراطية.
أدوار الصحافة المكتوبة:
بالاعتماد على هذه الأدوار والمضامين التحريرية المتصلة بها، نتبيَّن أن الصحافة المكتوبة أهملت المضامين ذات العلاقة بالدور المعرفي التنويري؛ إذ تؤكد نتائج دراسة رصد الصحافة المكتوبة، التي أنجزها مرصد الائتلاف المدني، غياب الأنواع الصحفية المتعلقة بالتحري والاستقصاء. فأكثر من 41% من المادة التحريرية المرصودة عبارة عن أخبار وتغطيات. كما نلاحظ المكانة الهامشية للتحقيق والاستقصاء والصحافة التفسيرية وغياب الرسوم البيانية graphics ، ويبيِّن جدول الأنواع الصحفية هيمنة الوظيفة الأولى الإخبارية.
جدول (4) يوضح توزيع المادة المعالجة في الصحافة المكتوبة حسب النوع الصحفي(16)
ومن جهة أخرى تُبيِّن نتائج الرصد الخاصة بتوزيع المادة الإعلامية حسب المحاور أن 76% من المادة التحريرية في معظمها تتصل بنشاطات الأحزاب. كما يؤكد التقرير أن الصحافة المكتوبة لم تشجع على فتح النقاش بل إنها تحوَّلت إلى وسيط للنشاطات الدعائية والاتصالية للأحزاب.
جدول (5) يبيِّن المادة الإعلامية المرصودة في الصحافة المكتوبة حسب المحاور(17)
أدوار الميديا السمعية البصرية
وفي الإطار ذاته وانطلاقًا من تحليل سريع للبرامج السياسية المخصصة للانتخابات التشريعية والرئاسية في القنوات الإذاعية والتليفزيونية يتبيَّن لنا أن هذه القنوات أبرزت موضوع الصراعات السياسية والتحالفات الانتخابية على حساب النقاش حول البرامج والمداولة الديمقراطية الأصيلة القائمة على النقاش والحِجاج.
وعلى هذا النحو يمكن أن نقول: إن الميديا بشكل عام تغذَّت في مرحلة أولى من هذا الصراع السياسي خاصة بين حزبي النهضة ونداء تونس لتقدم الانتخابات على أنها صراع مثير، وأسهمت هذه المعالجة في مرحلة ثانية في تغذية هذا الصراع نفسه. وفي كثير من الأحيان تشتغل البرامج الحوارية في إطار مشهد لحلبة يتصارع فيها السياسيون. وفي هذا الإطار نلاحظ حضورًا محدودًا جدًّا لإدماج الجمهور في البرامج الحوارية.
في هذا المستوى يجب علينا أن نقر بأننا بحاجة إلى بحوث إمبريقية لتأكيد هذه الملاحظات والفرضيات.
4. خلاصات وتحليل
خلاصة أولى: الحَوْكَمة الديمقراطية للميديا واستقلالية الحقل الصحفي
هناك اليوم في العالم العربي نموذج تونسي يقوم على الحَوْكَمَة الديمقراطية للميديا؛ إذ لا توجد سلطة سياسية مركزية تتحكم في الميديا وفي المهنيين. وتقوم هذه الحَوْكَمَة على عقد يجمع الميديا بالمجتمع الذي يتمثل في كراسات الشروط؛ وهي الآلية المعتمدة في الدول الديمقراطية. ولعل أهم مبدأ تنصُّ عليه كراسات الشروط ذلك الذي يتعلق باحترام التنوع والتعدد. كما أن مجال الميديا نفسه يتسم بالتنوع والتعدد.
وفي المقابل، فإن الآليات التي وُضعت لتأمين تمثيل التعددية لم تنجح بشكل عام في ترسيخ هذه التعددية في المضامين التحريرية؛ إذ نلاحظ هيمنة بعض الأحزاب أثناء الفترة الانتخابية وقبلها (خاصة حزبي النهضة ونداء تونس). ويمكن أن نقرأ هذه النتائج في علاقاتها بالسلوكيات الروتينية للصحافة التونسية التي تدفع المهنيين إلى تبجيل الفاعلين المهيمنين في الحقل السياسي؛ مما يدعونا إلى التساؤل حول استقلالية الحقل الصحفي عن الحقل السياسي.
خلاصة ثانية: طغيان الوظيفة الإخبارية على حساب الوظيفة التفسيرية
تبيِّن نتائج الرصد للميديا السمعية البصرية والصحافة المكتوبة والمعطيات التي يمكن أن نستمدها من الملاحظة أن المضامين الطاغية هي المضامين الإخبارية المحضة المتصلة بالتغطية الروتينية لأنشطة الفاعلين السياسيين في الصحافة المكتوبة وفي النشرات الإخبارية في القنوات الإذاعية والتليفزيونية، إضافة إلى البرامج الحوارية. وتعبِّر هذه النتائج عن هيمنة الوظيفتين الإخبارية ووظيفة إدارة النقاش العام على حساب الوظيفة المعرفية والتنويرية.
ومن جهة أخرى، نلاحظ غياب المضامين المتعلقة بالمسائل المجتمعية الكبرى كالتعليم والصحة، والطاقة والتلوث والتشغيل... وتوظيف محدود جدًّا للخبراء المتخصصين في هذه القضايا المجتمعية. هكذا لم تقدم الميديا هذه القضايا في سياقها ولم توفر المعطيات والمعلومات والمعارف (الخلفية) للجمهور حتى يتمكَّن من تقييم برامج المترشحين.
خلاصة ثالثة: الميديا حلبة للصراع السياسي
تناولت الميديا التونسية الانتخابات باعتبارها تنافسًا مثيرًا على السلطة بين حزبين أو بين قوتين سياسيتين، وأهملت النقاش في القضايا المجتمعية الكبرى. هكذا تحولت الميديا إلى حلبة لاستعراض المواجهات الحزبية ومشهد يحتكره السياسيون. ولهذا التأطير المخصوص للانتخابات علاقة مباشرة بالملل من السياسة depoliticization الذي يتجسد في ظاهرة الامتناع عن التصويت؛ إذ لم يشارك سوى 3 ملايين تونسي من جملة 8 ملايين تونسي مؤهلين للتصويت.
كيف يمكن أن نفسر هذه الخلاصات؟
- السياق السياسي والأيديولوجي:
يبدو جليًّا أن الميديا انخرطت في ترسيخ ما يسمى: الاستقطاب الثنائي. ويمكن أن نجد تفسيرًا لذلك من جهة أن حزب نداء تونس وحزب النهضة تقدما بقوائم في كل الدوائر الانتخابية. وهذا مؤشر على انتشار هذين الحزبين. في المقابل، فإن الميديا تبحث كذلك عن سرد الأحداث بطريقة درامية، وهي تعمل كذلك على تحويل النقاش السياسي إلى مشهد مثير، خاصة في الميديا السمعية البصرية التي تتنافس على استقطاب الجمهور، من خلال إبراز المواجهات والصراعات وتبادل الشتائم.
- السياق المهني:
يمكن أن نفسر أيضًا النتائج التي توصلنا إليها بالعودة إلى السياق المهني للصحافة التونسية؛ فالصحافة عمل يقوم على البحث عن المعلومات وجمعها وكتابة الأخبار ونشرها ولهذه العمليات تكلفة اقتصادية باهظة، كما أنها تحتاج إلى موارد بشرية. وعلى هذا النحو فإن المؤسسات الصحفية التونسية اليوم ليست مؤهلة دائمًا من زاوية مواردها المادية واقتصادها لأن تنتج مضامين ذات جودة عالية كالتقارير الوثائقية والاستقصائية والبورتريهات... كما أن نقص الخبرة الصحفية يفسر غياب هذه الأنواع الصحفية.
هكذا يفسِّر العمل الروتيني اليومي المتمركز حول التقارير الإخبارية عن الأحداث الجارية غياب المعالجة العميقة والصحافة التفسيرية والاستقصائية.
- البراديغم الصحفي السائد:
لا يمكن أن نفهم خصوصيات تغطية الميديا التقليدية التونسية للانتخابات التشريعية والرئاسية دون إدراجها في ما يمكن أن نطلق عليه: البراديغم الصحفي السائد. ونقصد بالبراديغم الصحفي الطرق التي يشتغل بها الصحفيون والمبادئ المشتركة لدى الصحفيين والتي تمثل اتفاقيات تشكِّل ممارساتهم الروتينية؛ فالصحفيون يمثلون جماعة تتشارك في توصيف الواقع وتتقاسم تقنيات مشتركة لتمثيل هذا الواقع وسرده. والبراديغم أيضًا نظام معياري ناتج عن ممارسة تتشكَّل عبر المحاكاة. ويتكون هذا النظام المعياري من مسلَّمات ومن أنماط تأويل(18).
ومن هذا المنظور فإن البراديغم الصحفي السائد في الصحافة التونسية يتجلى خاصَّة في تمثل الصحفي كناقل للمعلومات ووسيط بين الفاعلين السياسيين والمجتمع، ينقل المعلومات من الباثِّ إلى الجمهور، كما يردد ذلك الكثير من المهنيين عندما يتحدثون عن مهنتهم. ويمكن أن يفسر هذا التمثل السائد للصحفي البعد الإخباري المحض للإنتاج الصحفي على حساب البعد التفسيري مثلاً.
يعمل الكثير من المهنيين بهذه الطريقة الروتينية التي تتجسد في التقارير الصحفية عن الأنشطة الحزبية وفي الحوارات الصحفية الإخبارية مع الفاعلين السياسيين وفي نقل البلاغات الصحفية، بل إن تغطية الحملة الانتخابية في كثير من القنوات العمومية والخاصة تقتصر على النشرات الإخبارية والبرامج الحوارية، أي: أخبار وآراء.
وفي المقابل، وإلى جانب هذه القاعدة الصحفية العريضة المنخرطة في العمل الروتيني اليومي نجد نخبة صحفية تتمثل نفسَها نخبة طلائعية مثقفة قائدة للرأي العام، صاحبة مواقف، تدافع عن قيم وعن الوطن، تؤوِّل الأخبار... وبشكل عام فإن البراديغم الصحفي السائد يتمثل في الخصائص التالية:
• تبجيل الخبر الصرف على حساب المعالجة الإخبارية العميقة.
• تبجيل الرأي على الخبر.
• تبجيل صحافة الرأي على صحافة الحدثfactual journalism ؛ فالصحفي في هذا النموذج مثقف له رأي يعلِّق على الأحداث ويعطيها معنى؛ مما يفسر تداخل الأخبار والرأي وتهميش الوظيفة المعرفية. فالصحفيون يقدمون أنفسهم على أنهم فاعلون أساسيون في عملية الانتقال الديمقراطي باعتبار الإعلام سلطة الديمقراطية وجوهرها.
• يتمحور الخطاب الصحفي أيضًا حول قيم الحياد والموضوعية والأخلاق الصحفية، لكن كثيرًا ما يُنظر إلى هذه القيم من مواقع أيديولوجية وسياسية مخصوصة: صحفيون يعتقدون أنهم يدافعون عن "الديمقراطية" و"الحداثة" وعن "الوطن" وآخرون يعتقدون بأنهم يناضلون ضد "الثورة المضادة" و"النظام القديم".
وعلى هذا النحو يجوز لنا القول: إن الحقل الصحفي في طور التشكل تخترقه صراعات مرتبطة بالانقسامات الأيديولوجية والسياسية التي تخترق المجتمع التونسي. كما أن معايير الممارسة الصحفية لم تستقر بعد بسبب حداثة السياق الديمقراطي الجديد وخصوصيات السياق المؤسسي المهني، أي: مؤسسات الميديا نفسها، الذي يشتغل فيه الصحفيون ويجعل من المهنية ومعاييرها إشكالية متعددة الأبعاد.
__________________________________________
د. الصادق الحمامي، أستاذ الإعلام في جامعة منوبة، تونس.
المصادر والمراجع
* جرت الانتخابات التشريعية في 26 أكتوبر/تشرين الأول 2014؛ وهي أول انتخابات تشريعية بعد إقرار دستور 2014. حصل خلالها حزب نداء تونس على 86 مقعدًا من جملة مقاعد مجلس النواب والبالغ عددها 217 مقعدًا، تلاه حزب حركة النهضة بـ69 مقعدًا. أما الانتخابات الرئاسية، فأُجري الدور الأول في 23 نوفمبر/تشرين الثاني، وفاز فيه الباجي قائد السبسي بنسبة 39.46% والمنصف المرزوقي بنسبة 33.43%، وعُقد الدور الثاني في 21 ديسمبر/كانون الأول 2014، وفاز فيه السبسي بنسبة 55.68% أمام منافسه المرزوقي الذي حصل على 44.32%.
1. مرسوم عدد 115 لسنة 2011 مؤرَّخ في 2 نوفمبر/تشرين الثاني 2011 يتعلق بحرية الصحافة والطباعة والنشر.
http://www.inric.tn/D%C3%A9cret-loi2011_115Arabe.pdf
2. مرسوم عدد 116 لسنة 2011 مؤرخ في 2 نوفمبر/تشرين الثاني 2011 يتعلق بحرية الاتصال السمعي والبصري وبإحداث هيئة عليا مستقلة للاتصال السمعي والبصري.
http://www.inric.tn/D%C3%A9cret-loi2011_116Arabe%20(2).pdf
3. Holding the government to account? What audiences want from the media in Tunisia, BBC Media Action, September 2013.
4. القانون الأساسي الانتخابي (الفرع الثاني: تنظيم الدعاية أثناء الحملة من 59 إلى 70)
http://haica.tn
5. الفصل 21.
6. الفصل 23.
7. القرار المشترك المتعلق بالحملة.
http://haica.tn
8. فضاء المهنيين/توصيات التغطية الإعلامية-2
http://haica.tn
9. القرار المشترك المتعلق بالحملة.
http://haica.tn/2
10. تقرير حول التعددية السياسية في القنوات التلفزية والإذاعية خلال الحملة الانتخابية التشريعية.
http://haica.tn/media/HAICA-Rapport-global-legislatives.pdf
11. المصدر نفسه، ص 8.
12. التعددية في الإعلام السمعي والبصري التقرير الأول يوليو/تموز 2014، ص17.
http://haica.tn/2014/10/03
13. بيانات وقرارات الهيئة.
http://haica.tn/category
14. التحالف المدني لرصد الإعلام: "رصد الصحافة المكتوبة والإلكترونية للانتخابات التشريعية 2014"، تقرير أولي تونس، 2014.
15. المصدر نفسه، ص14.
16. المصدر نفسه، ص28.
17. المصدر نفسه، ص29.
18. Stephen Reese, “the news paradigm and the ideology of objectivity”, in critical studies of communication, N 7, 1990, p 390-409