(الجزيرة) |
ملخص وخلصت الدراسة إلى أن الصراع السياسي والعسكري يبدو مُجَسِّدًا لصراعٍ قيميٍّ رمزيٍّ حول قيم الشرعية الدستورية مُمثَّلةً في رأس الدولة، و"الانقلاب" الذي يستمدُّ سلطته من قوة السلاح بدلًا من سلطة الشعب؛ إذ تقوم التغطية بترفيع وإعلاء قيمة المقاومة الشعبية ضد ما تُسمِّيه بـ"الانقلاب"؛ وهو ما يستدعي قيمةً أخرى مُقَابِلةً؛ وهي الاحتلال الموجِبُ لفعل وعملية التحرير. وهنا، تبرز قيمتان رمزيتان تُحدِّدان هويةَ أطراف الصراع العسكري في اليمن وانتماءها وولاءها للوطن، وهما قيمتا الوطنية (المقاومة الشعبية) واللاوطنية (الميليشيات الحوثية وكتائب علي عبد الله صالح)، وبالموازاة مع ذلك يتم إعلاء ورفع رمزية القيادة السعودية لعاصفة الحزم؛ حيث تصبح القيمة التي يُركِّز عليها المحتوى البديل هي "القيادة البطولية" لرمز الدولة الذي يقود مرحلةً جديدةً من تاريخ المملكة؛ لمواجهة النفوذ الإيراني في المنطقة. في المقابل، تسعى حركة أنصار الله إلى التعتيم على الرسالة (القيم) التي تناقض سرديَّتها بشأن ما تعتبره اعتداءً أو عدوانًا على اليمن من قبل التحالف العربي وشركائه؛ فضلًا عن رغبتها في عزل اليمنيين عن العالم الخارجي. لذلك تحاول جماعة الحوثي فرض الصمت وإسكات وسائل الإعلام، لاسيما الوسائط الجديدة. كما تستدعي الرُّموز الشيعية، مثل: صورة زعيم حزب الله اللبناني حسن نصر الله الذي يُمثِّل في المخيال السياسي لحركة أنصار الله نموذجًا للمقاومة ورمزًا مُلْهِمًا للنصر، وتُبلِّغ المواد التي يتم "إحلالها" في المواقع المخترقة عن وحدة الهوية المذهبية الشيعية والمصير المشترك من خلال الالتقاء بين المذهب الزيدي، الذي يمثل المرجعية المذهبية لحركة أنصار الله، والمذهب الاثني عشري الذي يؤمن بولاية الفقيه ويمثل العقيدة المذهبية لحزب الله. وهنا يأخذ الصراع القيمي الرَّمزي بين عاصفة الحزم الإلكترونية والجيش اليمني الإلكتروني بُعدًا طائفيًّا يزيد الحرب الإلكترونية الإعلامية والعسكرية اشتعالًا يُوسِّع نطاقها وأبعادها. |
مقدمة
مع انطلاق الضربات الأولى للتحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية ضد حركة أنصار الله المعروفة باسم جماعة الحوثيين في السادس والعشرين من مارس/آذار 2015، بدأت حرب غير تقليدية في الفضاء الإلكتروني لا تقلُّ مفاعيلها عن تأثيرات العملية العسكرية لعاصفة الحزم؛ بل لا تنفكُّ عنها. فقد لجأ الفاعلون -قد لا يُمثِّلون مؤسسة أو جهة رسمية- في هذه الحرب السيبرانية المعلوماتية إلى إجراءات لتعطيل وتدمير منصات الإعلام الإلكتروني الحاملة لمضامين إعلاميَّة مُؤَطّرة بسياستها في تغطية عاصفة الحزم، ثم رفع أو "إحلال" محتوى بديل يتواءم مع رؤية محاور الصراع للعملية العسكرية، مما يجعل منظومة تلك الإجراءات وأهدافها -فضلًا عن سياقاتها- حربًا إلكترونية إعلامية؛ تُؤشِّر عليها التسميات المختلفة للفاعلين فيها: الجيش الإلكتروني لعاصفة الحزم، والجيش اليمني الإلكتروني-كتائب الدعم. ويشير اتِّساع نطاق هذه الحرب، وتعدُّد أدواتها وأساليبها، وتنوُّع أهدافها، إلى الأهمية التي يُولِيها أولئك الفاعلون لمخرجاتها. وهنا، يبرز السؤال المحوري الذي تحاول الورقة الإجابة عنه:
-
ما الذي دفع حركة أنصار الله والجهة المساندة للتحالف العربي إلى اللجوء للحرب الإلكترونية الإعلامية؟
لمقاربة أبعاد هذه القضية وخلفياتها تستعين الورقة بمدخل نظري يُؤَطِّر هدفها في التعرف على الأسباب التي تجعل محاور الصراع تُخطِّط لاختراق منصات الإعلام الإلكتروني وتدميرها، ثم الكشف عن سمات المضمون الإعلامي الذي يتم رفعه وإحلاله عبر الحوامل المقرصنة والقيم التي يُرَوِّج لها. ويتمثل هذا المدخل في نظرية الحتمية القيمية في الإعلام التي تُقدِّم إطارًا تفسيريًّا للتفاعل الجدلي بين الثقافة ووسائل الاتصال؛ باعتبار أن الرسالة أساس عملية الاتصال وتُشكِّل المرجع في ضبط العلاقة بين الثقافة ووسائل الاتصال، رغم أن الوسيلة تؤثر في طبيعة الرسالة شكلًا ومضمونًا(1)، خلافًا للنموذج النظري لمارشال ماكلوهان الذي يعتبر أن "الوسيلة هي الرسالة"، وأن محتوى الوسائل شيءٌ عرضيٌّ، فالأهم هو الوسيلة في حد ذاتها، والتي تفرض على المجتمع نمطًا خاصًّا من التفكير والاتصال. وبذلك تُؤسِّس نظرية الحتمية القيمية لأولوية الثقافة على وسائل الاتصال؛ إذ تستوعب الثقافة هذه الوسائل، بينما تشمل وسائل الاتصال جزءًا محدودًا من الثقافة فقط، وهي (الثقافة) سُلَّم يتضمن أبعادًا ثلاثةً؛ مستواه الأعلى: القيم، ثم المنطق، ثم الفعل. والقيمة ما يرتفع بالفرد إلى المنزلة المعنوية، ويكون مصدرها في الأساس هو الدين. فالإنسان لا يكون مصدر القيم، وإنما أداة يمكن أن تتجسَّد فيها القيم(2). ويعني ذلك أن أي عنصر، أو ظاهرة إعلامية، يُفسَّر أو يُفهم من حيث قُربه أو بُعده من القيمة(3). وهنا، تمثل وسائل الاتصال عالمـًا رمزيًّا؛ فالفرد يتفاعل مع محتويات هذه الوسائل من خلال رمزية اللغة أو الصورة أو الفيديو، فهناك جاذبية بين الثقافة ووسائل الإعلام؛ إذ ينتقل الفرد (أو يلجأ) من عالمه الثقافي الحقيقي إلى العالم الرَّمزي الذي تعرضه وسائل الاتصال، وهي تعبير جزئي عن الثقافة المحيطة بها، ومن ثَمَّ فإن الانتقال الدَّال قيميًّا يكون من الثقافة إلى وسائل الاتصال وليس العكس(4)، وهكذا تصبح القيم أساس عملية الاتصال أو هي الوسيلة.
واتساقًا مع هذا المدخل النظري ستعالج الورقة ثلاثة محاور أساسية، أولًا: الحرب الإلكترونية الإعلامية الموازية للعمل العسكري: أهميتها ودوافعها وأهدافها، ثانيًا: حجب منصات الإعلام الإلكتروني زمن الحرب: خلفيات التعطيل ودلالاته، ثالثًا: تخريب الحوامل الإلكترونية لمحاور الصراع: آلياته وأهدافه.
1. الحرب الإلكترونية الإعلامية: أهميتها ودوافعها وأهدافها
قبل إبراز أهمية الحرب الإلكترونية الإعلامية وسياقها الثقافي والرَّمزي وعلاقتها بالجيل الرابع من الحروب، يبدو أن المدخل المناسب لمعالجة هذا الموضوع هو تحديد مفهوم الحرب الإلكترونية. فقد عرَّف ريتشارد كلارك، خبير أمن المعلومات وكبير مستشاري البيت الأبيض سابقًا، مصطلح الحرب الإلكترونية بـ"الإجراءات التي تقوم بها أي دولة لاختراق أجهزة أو شبكة دولة أخرى للإضرار بها أو تعطيلها"، وهي إجراءات مُتَعَمَّدة لتغيير وتشويش وتضليل وتلويث وتدمير منظومة الحاسوب، أو الشبكة، والمعلومات والبرامج التي تحملها(5). ويعدُّ هذا النشاط -أي: الإجراءات التي يتم اتخاذها- استمرارًا للسياسة في الفضاء الإلكتروني والذي قد تقوم به الدولة أو الفاعلون غير الرسميين، ويشكِّل ذلك تهديدًا جديًّا لأمن الدولة المستهدفة ردًّا على تهديد محتمل(6).
ويستخدم البعض مصطلح حرب المعلومات للدلالة على الحرب الإلكترونية، ويُراد به "تخريب المعلومات أو تدميرها أو سرقتها أو تحريفها أو إساءة استخدامها أو المنع من الوصول إليها أو تقليل موثوقيتها أو استخدامها ضد أصحابها، وباختصار: استخدام المعلومات ضد المعلومات، وقلب المعلومات ضد أصحابها، وحرمان الطرف الآخر (العدو) من استخدام معلوماته أو منعه من استخدام تقنياته ومعلوماته، وتحويل الطرف المستهدَف إلى أصم وأبكم وأعمى معلوماتيًّا... وتهدف هذه الأفعال إلى تحقيق تقدُّم على جيش العدو وأعماله الأخرى الداعمة للمجهود الحربي، وتمثل حرب المعلومات صراعًا على امتلاك المعلومات والسيطرة عليها، ويتم ذلك بوسائل مختلفة: النبضات الكهرومغناطيسية، والفيروسات والديدان والميكروبات، والتشويش والإعاقة والتخريب، والعمليات النفسية"(7).
ويُقسِّم بعض الباحثين نطاق الحرب الإلكترونية إلى عدة مجالات، أوَّلها: مجال الدفاع الإلكتروني، ويُعنى بالدفاع عن أنظمة وأجهزة ومعلومات الدولة والجيش والمخابرات والمجتمع، وثانيهما: الهجوم الإلكتروني، ويرتبط بالعمليات التي تهدف إلى التشويش على مصادر المعلومات وتدميرها وحرمان العدو من استخدامها لصالحه خلال أوقات الأزمات أو الحرب العسكرية، والمجال الثالث هو التجسس الرقمي(8).
وتمثِّل حرب المعلومات صراعًا على امتلاك المعلومات والسيطرة عليها، ويحدث هذا الصراع على ثلاثة مستويات(9):
-
الصراع الفكري للخصم: ويشمل الآليات النفسية والإعلامية والدبلوماسية والعسكرية المؤثرة في عقل الخصم، سواء كان الخصم قائدًا عسكريًّا أو مجتمعًا بأكمله.
-
السيطرة المعلوماتية، ويشمل هذا المستوى السيطرة على شؤون الصراع المادي.
-
الدفاع عن التدفق المعلوماتي، ويشمل التصدي للهجوم على أي بناء معلوماتي عسكري أو مدني بما في ذلك مواجهة الدخلاء والمتطفلين، والتدمير المادي للأبنية المعلوماتية والخداع والعمليات النفسية.
وتُصنَّف الحرب الإلكترونية ضمن حروب الجيل الرابع التي تستخدم فيها كل الشبكات المتاحة (سياسية، اقتصادية، اجتماعية وعسكرية) لإقناع صانعي القرار السياسي للعدو بأن أهدافهم الاستراتيجية غير قابلة للتحقق، أو مُكلِّفة للغاية، وقد تنتج عنها خسائر اقتصادية وعسكرية كبيرة... وخلافًا لأجيال الحروب الثلاثة السابقة، فإنَّ الجيل الرابع لا يستهدف أساسًا الانتصار عبر هزيمة القوات المسلحة للعدو، ولكن مهاجمة عقول صنَّاع القرار وتحطيم الإرادة السياسية للعدو(10). وفي هذه الحرب تَفْقِد الدولة احتكارها للعمليات العسكرية، وتتم العودة إلى عالم الثقافات عوضًا عن حرب السياسات أو الكيانات الدولية(11).
تساعد هذه الخلفية النظرية على تحديد مفهوم الحرب الإلكترونية الإعلامية؛ باعتبارها أداة من أدوات الحرب المعلوماتية الشاملة؛ تستهدف المنصات الرقمية الحاملة للمضامين الإعلامية التي لا تُرضي محاور وأطراف الصراع عبر إجراءات تناسب الأثر المرغوب إحداثه في تلك المنصات (تحوير المعلومات، أو تشويش الرسالة، أو استغلال المنصة، أو تعطيلها، أو تخريبها وتدمير المعلومات ونُظُمها ورفع وإحلال مضمون إعلامي بديل لإثبات سرديَّةٍ خاصةٍ مُناقِضَةٍ لرواية الخصم). وقد تقوم بهذه الحرب مؤسسة أو جهة رسمية أو فاعلون غير رسميين؛ مما يعني أن هذا النشاط الهجومي الإلكتروني يتطلب التخطيط، مثل أيّ هجوم آخر، ويهدف إلى خدمة الفكرة (أو الأهداف) التي اندلعت من أجلها الحرب أو انطلقت بسببها العمليات العسكرية؛ الأمر الذي يجعل الحرب الإلكترونية الإعلامية امتدادًا واستمرارًا للسياسة، وصدى لتلك العمليات لتحقيق الفكرة أو الانتصار للقيم والمصالح والأهداف السياسية.
ومن هنا نفهم رغبة محاور الصراع، والأصوات الداعمة لها، في أن يكون العمل العسكري محميًّا بقوة إعلامية لا تقلُّ أهمية عن العمل العسكري نفسه؛ إذ يلعب الإعلام دورًا أساسيًّا في مراحل المواجهة المسلحة لحماية الجبهة الداخلية من محاولات الاختراق التي يقوم بها الأعداء، سواء عن طريق الشائعات وما شابهها لخلخلة ثقة الجمهور بقواته، أو محاولة التشكيك في نتائج الحرب(12). وهنا، يستخدم الفاعلون في الصراع وسائل الإعلام لتأطير فهم الناس والتلاعب بالوعي ودعم روايتهم للحرب أمام العالم، ومن ثَمَّ تشكيل التصورات وسلوك الجمهور لتحقيق الاستجابة التي تُعزِّز القصد المطلوب من الدعاية(13).
2. حجب المواقع الإخبارية: خلفيات التعطيل ودلالاته
لم تكن حركة أنصار الله تنتظر عاصفة الحزم لفرض إجراءات بالتضييق على حرية الممارسة الإعلامية لوسائل الإعلام اليمنية المختلفة (القنوات التلفزيونية، الصحف، وبشكل خاص وسائل الإعلام الجديد)؛ فقد توعَّدت قبل بدء العملية العسكرية باتخاذ إجراءات رادعة وصارمة قد تصل إلى حد الإغلاق لأي وسيلة تعمل على إثارة الفتن والقلاقل، وهو التهديد الذي يعتبره البعض تتويجًا للانقلاب على مؤسسات الدولة بعدما اجتاحت جماعة الحوثي العاصمة صنعاء في 21 سبتمبر/أيلول 2015، ثم توسَّعت بقوة السلاح حتى جنوب البلاد(14). وما إن انطلقت عاصفة الحزم حتى أقدمت حركة أنصار الله في اليوم الأول للعملية العسكرية على حجب حوالي 40 موقعًا إلكترونيًّا يمنيًّا*؛ تُعبِّر عن توجهات متعدِّدة حزبية ومستقلة، وتحظى بانتشار واسع بين المستخدمين. ولم تستثن الجماعة مواقع البحث؛ فَشَمِلَ الحجب أيضًا موقعًا مثل: صحافة نت، فضلًا عن شبكات التواصل الاجتماعي (تويتر واليوتيوب)، ثم طال في مرحلة لاحقة المواقع الإخبارية العربية، مثل: الجزيرة نت والعربية نت، كما اقتحم الحوثيون قنوات سهيل ويمن شباب والسعيدة ومعين، ومكتب قناة الجزيرة، وقبل ذلك جرى إغلاق أربع قنوات يمنية رسمية: اليمن وسبأ وعدن والإيمان.
ويبدو هذا التوسع في إجراءات الحجب، الذي مسَّ مواقع يمنية وعربية ودولية، محكومًا بمحدِّدات السلوك السياسي لحركة أنصار الله في المشهد اليمني عمومًا، وبالأُطر الإخبارية والقيم التي تحدِّد سياق تغطية العملية العسكرية وعلاقة محاور الصراع بتطوراتها؛ باعتبار أن الاتصال في النظرية الحتمية القيمية نابع ومنبثق من الأبعاد الثقافية التي ينتمي إليها المجتمع، ويتم في إطار أو تصوُّر أو فكر أو انتماء، أي: باسم أرضية تشكِّل المنطلق المعرفي المتماسك، ويكون حاملًا للقيم الثقافية والرُّوحية(15). وتظهر أهمية وسائل الإعلام في دعم القيم من خلال ما تُقدِّمه للفرد من معلومات ومعارف خاصة بالقضايا والموضوعات اليومية التي تثبت للفرد ما تتبنَّاه من قيم وأفكار ومعلومات، فيتحقق التكيُّف الاجتماعي بين الفرد والمجتمع الذي يعيش فيه، كما تُسهِم في نشر قيم جديدة وتُحوِّلها إلى جزء ثابت من المنظومة القيمية للمجتمع، أي: لها القدرة في تنمية أنماط تفكير وعلاقات وبِنى اجتماعية جديدة باستمرار من خلال تنمية طموحات وقدرات الأفراد والجماعات(16). وهنا، نُبرِزُ أهمَّ القيم التي تسعى مواقع إخبارية يمنية وعربية تعرَّضت للحجب إلى إبلاغها، أو دعمها وتعزيزها، أو إعلائها والرفع من شأنها.
-
الشرعية والانقلاب: يُظهر محتوى التغطية لعاصفة الحزم في تلك المواقع الإخبارية أن الرسالة الإعلامية مُؤَطَّرةٌ بقيمٍ مَخْصُوصَةٍ في بناء وتشكيل الأخبار والوقائع من حيث الاختيارات اللغوية والمعلومات ومصادرها؛ وهي (القيم) تكشف أحد جوانب المشكلة في اليمن ومُسَبِّباتها، وتُؤثِّر في الطريقة التي تُفَسَّر بها؛ حيث يبدو جوهر الصراع السياسي والعسكري الذي تُبرزه التغطية -بين حركة أنصار الله وسلطة الرئيس عبد ربه منصور هادي- مُجَسِّدًا لصراعٍ رمزيٍّ حول قيم الشرعية الدستورية مُمثَّلةً في رأس الدولة؛ إذ تُبْلِغُ المواقع الإخبارية المستخدمَ بتمرُّد جماعة الحوثي على سلطة الدولة، والإبلاغ هنا فعل توصيل القيمة إلى المتلقي حسب نظرية الحتمية القيمية في الإعلام؛ وهو مشتق من مصدر البلاغ، أي: الرسالة؛ لذلك فإن القيمة أو الرسالة التي يُراد لها أن تصل إلى المستخدم هي خُروجُ حركة أنصار الله على نظام الحكم، ونَزْعُ يدها من الشرعية التي تُضفي طابعًا قانونيًّا مُلْزِمًا على سلطة الرئيس، ومن ثَمَّ أوامره أو توجيهاته، أي: وجوب احترام الكيانات السياسية لسلطة الدولة وقوانينها ورموزها (احترام الشرعية) والعمل من داخل المؤسَّسات وليس الانقلاب أو التمرُّد عليها.
وتعدُّ هذه القيمة (الشرعية) إحدى القضايا الكبرى في هذا الصراع القيمي/المفاهيمي، (وبالطبع السياسي والعسكري)، وتكاد تكون مناط التغطية في المواقع الإخبارية اليمنية وبعض البوابات الإخبارية العربية، وتأتي في مقدمة باقي القيم؛ لذلك يتم إعلاء شأنها ورفع قدرها في الوسائط الإلكترونية التي لا ترضى عنها حركة الحوثي لإبراز خروج الجماعة عن سلطة الدولة، ورغبتها الجامحة في الاستحواذ والهيمنة على المؤسسات السياديَّة؛ وقد تلجأ حتى إلى محاصرة حلفائها؛ إذ "قامت الميليشيات الحوثية بمحاصرة منازل العديد من قيادات حزب المؤتمر الشعبي العام البارزة وهي القيادات التي أعلنت تأييدها للشرعية واتجهت إلى العاصمة السعودية الرياض؛ لتأكيد الشرعية للرئيس عبد ربه منصور هادي... والبحث عن سبل التوصل إلى تسوية سياسية"(17).
في الوقت الذي يتم فيه إعلاء وترفيع قيمة الشرعية، سواء من خلال محتوى أو مصادر الأخبار**، تَبْرُزُ في المقابل قيمةٌ أخرى مُناقِضة لها تتمثل في الانقلاب الذي يستمد سلطته من قوة السلاح والقهر بدلًا من سلطة الشعب، لذلك فهو يرمز لـ"اللاشرعية"، أي: حكم غير شرعي (غير دستوري)؛ وتصبح المعادلة كالتالي: الشرعية ضد الانقلاب (الشرعية ≠ الانقلاب)، ويظهر ذلك جليًّا في العناوين قبل مَتْنِ الخبر والقصة الخبرية، مثل: "بوادر صراع بين حلفاء الانقلاب: الحوثيون يحاصرون منزل صالح ونجله وقيادات في المؤتمر والتوتر سيد الموقف"(18). وهنا، تسعى التغطية إلى تثبيت هذه القيمة (لاشرعية الانقلاب) لِشدَّة أهميتها في الصراع الرَّمزي، ومن ثَمَّ إعطاؤها أُلْفَةً وتدعيمها وتعزيزها لدى المستخدمين؛ لتكوين رأي عام بشأن أبعاد الصراع السياسي العسكري في اليمن. -
المقاومة الشعبية والاحتلال: تقوم التغطية أيضًا بترفيع وإعلاء قيمة المقاومة الشعبية ضد ما تُسمِّيه بـ"الانقلاب" الذي تقوده "الميليشيات الحوثية لاستعادة الدولة من قبضة الجماعة المرتبطة بالمشروع الإيراني"(19)، وهذا يستدعي قيمةً أخرى مُضادَّةً أو مُقَابِلةً (تَقَابُل القيم والمفاهيم)؛ وهي الاحتلال (احتلال الحوثيين لليمن)؛ وذلك ما تُبرزه عناوين التغطية نصًّا صريحًا وليس تلميحًا "كلية الهندسة بجامعة تعز تدشِّن أولى الفعاليات الاحتجاجية ضد الاحتلال الحوثي"(20)، مثلما تناولت هذه التغطية من قبل احتلال الحوثيين للعاصمة صنعاء في سبتمبر/أيلول 2015. وهنا، تقتضي المقاومة الشعبية تلقائيًّا فعل وعملية التحرير من الاحتلال، ويظهر ذلك جليًّا مرة أخرى في اللغة المباشرة التي تستخدمها التغطية "التخلص من حكم الميليشيات الحوثية المسلحة وإنجاز عملية التحرير"(21). وهذا الاحتلال يُعطي مشروعية للفعل الذي يقوم به أنصار الشرعية الدستورية لتحرير الدولة بكل السبل، ومن ثَمَّ تقوم التغطية أيضًا بِشَرْعَنَةِ فعل المقاومة (المقاومة الشعبية = التحرير ≠ الاحتلال)، والرفع من قدرها، وتعزيز قيمتها وتدعيمها.
-
الوطنية واللاوطنية: تُجسِّد هاتان القيمتان الرمزيتان هويةَ أطراف الصراع العسكري في اليمن، وتُحدِّدان انتماءهما وولاءهما للوطن؛ حيث تُبْرِزُ التغطية الصراع بين شرعية دستورية تُساندها المقاومة الشعبية والقوات الوطنية المنشقة عن الجيش، وانقلاب بقيادة الميليشيات الحوثية وكتائب الرئيس السابق علي عبد الله صالح. وهنا، يبدو فعل المقاومة الشعبية والقوات العسكرية التي انشقت عن الجيش وطنيًّا (الولاء الوطني)؛ يُظهرُ ولاءَ أنصارِ الشرعية للوطن وحمايةَ اليمن من التدخُّل الإيراني؛ فقد "توالت مواقف تأييد قادة وحدات عسكرية وأمنية في اليمن للشرعية، وإعلانهم باسم وحداتهم الرفض القاطع لمحاولات الانقلاب التي ينفِّذها الحوثيون وحليفهم الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح.. وتُعزى هذه المواقف إلى الشعور الوطني لدى قادة وجنود هذه الوحدات بوجوب رفض الانقلاب"(22).
في المقابل كانت القيمة الرَّمزية لفعل الميليشيات الحوثية وكتائب علي عبد الله صالح تعبيرًا عن لاوطنيتها لانقلابها على المؤسسات الدستورية (اللاوطنية)، واستخدام القوة العسكرية لتغيير نظام الحكم، وتخريب العملية السياسية التوافقية بين مكونات المشهد السياسي اليمني؛ وهو ما يجعل هذه الميليشيات والكتائب خادمة لأجندات حركة الحوثي ومصالح "علي عبد الله صالح الذي بنى جيشًا عائليًّا لا يحمي الوطن، وعندما أراد الانتقام تحالف مع الحوثي لإيجاد موطئ قدم لإيران في خاصرة العرب"(23). -
الصمت والعزلة: في سياق هذه المنظومة القيمية التي يتم فيها إعلاء ورفع قيم مَخْصُوصَة لعاصفة الحزم تُفْهَم إجراءات جماعة الحوثي بشأن التضييق على حرية الممارسة الإعلامية وحجب تلك المواقع الإخبارية اليمنية والعربية؛ إذ تسعى حركة أنصار الله إلى التعتيم على الرسالة (القيم) التي تناقض سرديَّتها بشأن ما تعتبره اعتداءً أو عدوانًا على اليمن من قبل التحالف العربي وشركائه(24)، فضلًا عن رغبتها في عزل اليمنيين عن العالم الخارجي. لذلك تحاول جماعة الحوثي فرض الصمت وإسكات وسائل الإعلام، لاسيما الوسائط الجديدة (المواقع الإخبارية وشبكات التواصل الاجتماعي)، في ظل الانتشار الملحوظ الذي تحظى به في المشهد الإعلامي اليمني؛ إذ تشير بعض الإحصاءات إلى أن عدد مستخدمي الإنترنت تجاوز خمسة ملايين مستخدم بنسبة 4,7% من مجموع السكان حتى 30 يونيو/حزيران 2014، وبلغ معدل الولوج إلى الشبكة 20%، بينما لم يتجاوز عدد المستخدمين 15 ألفًا في العام 2000. أما مستخدمو الفيسبوك فكان عددهم في 31 ديسمبر/كانون الأول 2012 حوالي خمسمائة ألف مستخدم(25)، وأصبح في إبريل/نيسان 2015 مليونًا و700 ألف مستخدم بنسبة ولوج بلغت 6,86%، في الوقت الذي بلغت فيه نسبة ولوج الهاتف المحمول 103%(26) .
إذن، الصمت الذي تفرضه حركة أنصار الله على وسائل الإعلام، في محاولة لمحاصرة سرديَّتها ورسالتها (قيمها) وعزل المستخدمين المنتجين للمضامين الإعلامية ومنعهم من إبلاغ روايتهم والتواصل مع العالم الخارجي ووسائل الإعلام المختلفة، لن يحول دون استخدام تلك الوسائل وأولئك المستخدمين لتطبيقات أكثر فاعلية في إنتاج منظومتهم القيمية؛ مثلما حدث أثناء محاولة الانقلاب على الرئيس عبد ربه منصور هادي يوم 19 يناير/كانون الثاني 2015 في العاصمة صنعاء؛ حيث استولى الحوثيون على وسائل الإعلام الرسمية ومنعوا الصحفيين من تغطية مجريات الأحداث؛ فلجأت وزيرة الإعلام نفسها نادية السقاف إلى استخدام حسابها على تويتر لنقل الأحداث أولًا بأول، وسرعان ما ارتفع عدد المتابعين لتغريداتها من 5 آلاف إلى 20 ألف متابع(27). بل أخذ الإعلام التقليدي (لاسيما الفضائيات الإخبارية) ينقل ذلك المحتوى؛ وهو ما أسهم في الإبلاغ عن الحدث وتوسيع تغطيته.
3. تخريب الحوامل الإلكترونية لمحاور الصراع: آلياته وأهدافه
اتخذ الصراع القيمي الرَّمزي، الذي ظهرت تجليَّاته في حجب مواقع إلكترونية يمنية وعربية ودولية، طابعًا أكثر حدة وضراوة بين محاور الصراع داخل الفضاء السيبراني؛ إذ لجأت الجهة/الجهات المناصرة لعاصفة الحزم إلى إجراءات متعدِّدة لتدمير حسابات مواقع القنوات الفضائية المروِّجة لرواية حركة أنصار الله على شبكات التواصل الاجتماعي. وبدأت تلك الجهة، التي أطلقت على نفسها عاصفة الحزم الإلكترونية، عمليَّاتها الحربية الإلكترونية باستهداف موقعي قناة العالم الإيرانية وقناة المسيرة الناطقة باسم حركة أنصار الله على حساب تويتر واليوتيوب، وتخريب المحتوى الذي يُناقض السَّرديَّة التي قامت عليها عملية عاصفة الحزم. وسنحاول في هذا السياق إبراز أهم القيم التي سعت الأطراف المؤيدة والمناوئة للتحالف العربي إلى إبلاغها للمستخدمين، ومن ثَمَّ تعزيزها وإعلاء شأنها.
-
القيادة البطولية: لم يكن الهجوم الإلكتروني على موقعي قناة العالم والمسيرة على حساب تويتر واليوتيوب يهدف إلى تخريب المحتوى فقط؛ وإنما سعى أيضًا إلى استخدام المعلومات وقلبها ضد جماعة الحوثي، وفي هذا السياق يأتي بثّ خبر مقتل زعيم حركة أنصار الله عبد الملك الحوثي ومصرع أحمد علي نجل الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح، ثم رفع وإحلال مواد فيلمية تُؤيِّد الملك سلمان بن عبد العزيز، الذي ظهر وهو يؤدي العرضة السعودية شاهرًا سيفه ويَبْرُزُ مطلع قصيدة للداعية السعودي عائض القرني "لبَّيْك يا سلمان جينا اليوم لعيون الوطن"، كما يظهر في المقطع جنود سعوديون يُنَوَّهُ إليهم بعبارة "إِحْنا جنود الله بِعْنا أرواحنا بأغلى ثمن.. في جنَّة الفردوس موعدنا ويا نِعْمَ الوعد"(28). وبذلك نكون أمام عملية حرمان جماعة الحوثي من استخدام معلوماتها؛ بل وتحويل القنوات المساندة لها والناطقة باسمها إلى وسائل بَكْماء (ولو لفترة قصيرة)؛ حيث لا يمكنها الترويج لرواية هذا المحور الذي يعتبر عاصفة الحزم "عدوانًا على اليمن تستمر غاراته في قصف المواقع العسكرية وتدمير البنى التحتية وقتل المدنيين مُوسِّعًا من دائرة استهدافاته التي يزداد معها حجم الدمار في البلاد.. القصف المتواصل يخلف مزيدًا من الضحايا بينهم أطفال ونساء"، كما تتحدث هذه الرواية عن المجازر التي ارتكبها الطيران السعودي وغارات العدوان الجوي(29). إذن، فهذا الرفع والإحلال لمواد بديلة يسمح لعاصفة الحزم الإلكترونية بالسيطرة على المعلومة وامتلاكها وحرمان حركة أنصار الله من نشر سرديَّتها للأحداث خدمة لأهداف عاصفة الحزم.
ويكشف محتوى هذه المواد أن الصراع السياسي والعسكري سرعان ما يتحوَّل إلى صراع قيمي رمزي؛ إذ تحلُّ الرُّموز السياديَّة للمملكة العربية السعودية (الملك سلمان بن عبد العزيز والعلم السعودي) محلَّ شعار قناة العالم؛ لإبلاغ المستخدمين بجهود القيادة السعودية في محاصرة النفوذ الإيراني في المنطقة، ومن ثَمَّ إعلاء ورفع رمزيتها القيادية لعاصفة الحزم. وهنا، تصبح القيمة التي يُركِّز عليها المحتوى البديل هي "القيادة البطولية" لرمز الدولة الذي يقود مرحلة جديدة من تاريخ المملكة لمواجهة إيران وحلفائها، وهو المعنى الذي يظهر أيضًا في تغريدات بعض قادة الرأي والنشطاء السياسيين والدعاة، مثل: قصيدة عائض القرني المذكورة أعلاه "لبَّيْك يا سلمان"، أو تغريدة الناشط السياسي الكويتي وليد الطبطبائي عندما أشاد بـ"عاصفة الحزم التي نجحت على مستوى اليمن وأوقفت سقوط عدن بيد عملاء إيران وقلَّصت قدراتهم على مستوى اليمن وخارج اليمن، فإن نفوذ إيران سيتراجع بشكل سريع"(30). -
المبادرة والحزم: يُظهر اختراق عاصفة الحزم الإلكترونية لموقع المسيرة قيمة أخرى لا تنفصل عن القيادة البطولية؛ حيث يوحي رفع أعلام دول التحالف على موقع القناة وعدد الطائرات المشاركة في العمليات العسكرية وبثّ أغاني خليجية مساندة للجيش السعودي، بالقدرة العربية على امتلاك المبادرة لمواجهة الأخطار التي تحدق بأمن واستقرار دول المجال العربي، واستعدادها في كل الظروف لتعبئة الطاقات والقدرات؛ من أجل التصدي للأطماع الخارجية التي تحاول استغلال أذرعها في نشر الفوضى، "فلم يكن أمام الدول العربية إلا التدخُّل لردع الحوثيين عن أطماعهم حتى وإن جاء التدخل متأخرًا، وفي وقتٍ سيطر فيه الحوثيون على مزيد من المحافظات طوال العامين الماضيين بدعم وتمويل إيراني للسيطرة وتسليم اليمن نهبًا لأطماع إيران في المنطقة"(31).
-
النصر ووحدة الهوية والمصير: ردًّا على تخريب عاصفة الحزم الإلكترونية لمحتوى موقعي قناة العالم والمسيرة على حساب تويتر واليوتيوب، واستخدامهما ضد جماعة الحوثي والمحور المساند لها، شنَّت حركة أنصار الله والمناصرون لها باسم الجيش اليمني الإلكتروني هجومًا إلكترونيًّا على موقع صحيفة الحياة اللندنية وتعطيله، وكان مضمون الرسالة التي تم رفعها واضحًا باستدعائها لصورة زعيم حزب الله اللبناني حسن نصر الله الذي يمثل في المخيال السياسي لحركة أنصار الله نموذجًا للمقاومة ورمزًا مُلْهِمًا للنصر. ويشير منطوق الرسالة ومفهومها إلى قدرة جماعة الحوثي وجاهزيتها لإلحاق الهزيمة بأي جهة تحاول الاعتداء على اليمن، واستخدام القوة التي تدفع مواطنيها إلى الاختباء في الملاجئ مثلما صنعت المقاومة اللبنانية في مواجهتها لإسرائيل؛ وهو ما تبرزه عبارة "جهِّزوا ملاجئكم" التي وردت في الصورة باللغة العبرية؛ حيث إن حال هذه الجهة لن يكون بأحسن مما تعرضت له إسرائيل في صراعها مع حزب الله.
وتهدف الرسالة أيضًا إلى الإبلاغ عن وحدة الهوية المذهبية الشيعية والمصير المشترك من خلال الالتقاء بين المذهب الزيدي، الذي يمثل المرجعية المذهبية لحركة أنصار الله، والمذهب الاثني عشري الذي يؤمن بولاية الفقيه ويمثل العقيدة المذهبية لحزب الله؛ حيث تُظهر الصورةُ حسن نصر الله رمزًا مُؤَلِّفًا بين المذهبين وتماهي الحالة الحوثية مع تجربة حزب الله دينيًّا وسياسيًّا، فـ"لم يعد الحوثي وأتباعه يتحرَّجون باتّباع بعض العادات التي يؤمن بها مذهب الاثني عشري ويكفّرها الزيديون، كما عملت بعض المؤسسات على تقريب الزيدية إلى الإمامية والترويج للفكر الإمامي"(32).
وهنا، يبدو جليًّا أن توحيد الهوية المذهبية لحركة أنصار الله وحزب الله يتم عبر ثلاث وسائل، أولًا: الرموز باستدعاء صورة حسن نصر الله الذي يمثل قيادة مُلْهِمَةً لزعماء الحركات والأحزاب الشيعية، أي: صناعة نموذج قيادة شيعية مرجعية سلوكيًّا وسياسيًّا واستراتيجيًّا، ويبدو ذلك في تماهي المظاهر السلوكية لحسن نصر الله وعبد الملك الحوثي (طباع وحركات الرجلين أثناء مخاطبة أنصارهما)، والتقاء أهدافهما السياسية والاستراتيجية في الهيمنة على السلطة (بيروت=صنعاء).
ثانيًا: القيم، ويُجسِّدها بناء الكيان الشيعي معرفيًّا ونفسيًّا وسلوكيًّا عبر خلق تماثل بين الحالة الحوثية (أنصار الله) وتجربة حزب الله اللبناني، وهنا يركز منطوق الصورة التي بُثت على موقع صحيفة الحياة اللندنية بعد اختراقها على الشجاعة الحربية لجماعة الحوثي وحلفائها لمواجهة أي جهة تعتدي على اليمن، كما تظهر الصورة وحدة الكيان الشيعي لإغاثة أحد مكوّناته عندما يتعرض للاعتداء.
ثالثًا: الخطاب، وهو خطاب سياسي تشكّل عبر مراحل مختلفة يتوجَّه لحماية مصالح الشيعة ويُعزِّز انتماءهم إلى المذهب وتأصيل الثقافة الشيعية، ويدعو من خلال الحرب الإلكترونية إلى مواجهة المحتل والعدو الغازي.
وهنا، يلاحظ أن الصراع القيمي الرَّمزي بين عاصفة الحزم الإلكترونية والجيش اليمني الإلكتروني اتخذ بُعدًا طائفيًّا، سواء باستدعاء الرموز التي يرفعها طرفا الصراع في المواقع المخترقة أو الانتصار إلى الطائفة أو المذهب، عبر دحض سرديَّة المحور الآخر أو بيان حقيقة الاختراق الذي تعتبره -مثلًا- عاصفة الحزم الإلكترونية "لعيون كل مسلم سني غيور على الأمة العربية" ولمواجهة قناة العالم الرافضية التي تُزوِّد الشيعة في المناطق العربية بكيفية صناعة القنابل والأسلحة اليدوية، ويوجد لديهم خبراء يقومون بهذا العمل"(33). ولن يكون هذا البعد الطائفي سوى الوقود الذي يزيد الحرب الإلكترونية الإعلامية والعسكرية اشتعالًا وضراوة؛ يشتد معهما أيضًا الصراع القيمي الرَّمزي، فتصبح الأعمال العسكرية في جوهرها حربًا حول القيم والرُّموز (حربًا ثقافية بأبعادها المختلفة).
استنتاجات
تكشف إجراءات حجب المواقع الإخبارية ومضمون المواد الإعلامية، التي تم رفعها أو إحلالها في حسابات المواقع المخترقة على تويتر واليوتيوب لقناة العالم والمسيرة وصحيفة الحياة اللندنية، أن الحرب الإلكترونية الإعلامية بين عاصفة الحزم الإلكترونية والجيش اليمني الإلكتروني استمرارٌ للصراع السياسي والعسكري عبر استخدام المعلومات ضد المعلومات وقلبها ضد أصحابها (خبر مقتل عبد الملك الحوثي)، وحرمان الطرف الآخر من استخدامها، وتحويل الطرف المستهدَف إلى أصم وأبكم وأعمى معلوماتيًّا. وتهدف هذه الإجراءات إلى دعم وتعزيز وإعلاء المنظومة القيمية لمحاور الصراع من خلال ما تُقدِّمه من معلومات لتصبح لها القدرة في تنمية أنماط وأُطر فكرية وعلاقات وبنى اجتماعية لخدمة أهداف العملية العسكرية.
ويُظهر محتوى التغطية لعاصفة الحزم أن الرسالة الإعلامية مُؤَطَّرةٌ بقيمٍ مَخْصُوصَةٍ في بناء وتشكيل الأخبار والوقائع من حيث الاختيارات اللغوية والمعلومات ومصادرها؛ فيبدو جوهر الصراع السياسي والعسكري مُجَسِّدًا لصراعٍ رمزيٍّ حول قيم الشرعية الدستورية ممثلة في رأس الدولة، والانقلاب الذي يستمد سلطته من قوة السلاح والقهر بدلًا من سلطة الشعب. كما تقوم التغطية أيضًا بترفيع وإعلاء قيمة المقاومة الشعبية ضد ما تُسمِّيه بـ"الانقلاب"، وهذا يستدعي قيمة أخرى مضادة؛ وهي الاحتلال (احتلال الحوثيين لليمن) الموجب لفعل وعملية التحرير. وهنا تبرز قيمتان رمزيتان تُحدِّدان هويةَ أطراف الصراع العسكري في اليمن وانتماءها وولاءها للوطن، وهما قيمتا الوطنية واللاوطنية؛ حيث تُظهر التغطية الصراع بين شرعية دستورية تُساندها المقاومة الشعبية والقوات الوطنية المنشقة عن الجيش، وانقلاب بقيادة الميليشيات الحوثية وكتائب الرئيس السابق علي عبد الله صالح التي تمثل رمزًا لـ"اللاوطنية". وبالموازاة مع ذلك يتم إعلاء ورفع رمزية القيادة السعودية لعاصفة الحزم، وهنا تصبح القيمة التي يُركِّز عليها المحتوى البديل هي "القيادة البطولية" لرمز الدولة الذي يقود مرحلة جديدة من تاريخ المملكة لمواجهة النفوذ الإيراني في المنطقة.
في المقابل تسعى حركة أنصار الله إلى التعتيم على الرسالة (القيم) التي تناقض سرديَّتها بشأن ما تعتبره اعتداءً أو عدوانًا على اليمن من قبل التحالف العربي وشركائه، فضلًا عن رغبتها في عزل اليمنيين عن العالم الخارجي. لذلك تحاول جماعة الحوثي فرض الصمت وإسكات وسائل الإعلام، لاسيما الوسائط الجديدة. كما تستدعي الرموز الشيعية، مثل: زعيم حزب الله اللبناني حسن نصر الله الذي يمثل في المخيال السياسي لحركة أنصار الله نموذجًا للمقاومة ورمزًا مُلْهِمًا للنصر، وتُبَلِّغ المواد التي يتم إحلالها في المواقع المخترقة عن وحدة الهوية المذهبية الشيعية والمصير المشترك من خلال الالتقاء بين المذهب الزيدي، الذي يمثل المرجعية المذهبية لحركة أنصار الله، والمذهب الاثني عشري الذي يؤمن بولاية الفقيه ويمثل العقيدة المذهبية لحزب الله. وهنا يأخذ الصراع الرمزي القيمي بين عاصفة الحزم الإلكترونية والجيش اليمني الإلكتروني بُعدًا طائفيًّا يزيد الحرب الإلكترونية الإعلامية والعسكرية اشتعالًا ويُوسِّع نطاقهما.
__________________________________
محمد الراجي- باحث بمركز الجزيرة للدراسات
هوامش
1. عزي، عبد الرحمن، نظرية الحتمية القيمية في الإعلام (الدار المتوسطية للنشر، تونس، 2011)، ط1، ص11.
2. عزي، عبد الرحمن، دراسات في نظرية الاتصال نحو فكر إعلامي متميز (مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2003)، ط1، ص101، 108.
3. عزي، نظرية الحتمية القيمية في الإعلام، ص9.
4. عزي، دراسات في نظرية الاتصال نحو فكر إعلامي متميز، ص110.
5. Caplan, Nathalie, Cyber War: The Challenge to National Security, (Global Security Studies, Volume 4, Issue 1, Winter 2013), 94.
6. Shakarian Paulo, Shakarian Jana, Ruef Andrew, Introduction to Cyber-Warfare. A Multidisciplinary Approach, (Elsevier, USA, 2013), p 2.
7. البداينة، ذياب، الأمن وحرب المعلومات (دار الشروق، الأردن، 2006)، ط2، ص154، 155، 183.
8. بدران، عباس، الحرب الإلكترونية في عالم المعلومات (مركز دراسات الحكومة الإلكترونية، بيروت، 2010)، ص30.
9. البداينة، الأمن وحرب المعلومات، ص155.
10. Shantanu Chakrabarti, Evolving Insurgency and India’s Counter-Insurgency Options: Entering into the Age of Fourth-Generation Warfare, (The Quarterly Journal, Volume 9, Issue 2, 2010 ), p 65-78.
11. Lind, William, Understanding Fourth Generation War, (Military Review, September-October 2004), p 13.
12. القحيص، علي، تغطية القنوات الإخبارية لـ"عاصفة الحزم": الإنجاز العسكري أكبر من الأداء الإعلامي، صحيفة الرياض، (تاريخ الدخول: 14 إبريل/نيسان 2015):
http://www.alriyadh.com/1039007
13. Richardson, John, Analysing Newspapers An Approach from Critical Discourse Analysis, (Palgrave Macmillan, New York, 2007), 181.
14. عايش، عبده، "الحوثيون يحجبون موقع الجزيرة نت باليمن ضمن حملة على الإعلام"، الجزيرة نت، 8 إبريل/نيسان 2015، (تاريخ الدخول: 27 إبريل/نيسان 2015):
http://www.aljazeera.net/news/arabic/2015/4/7/%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%88%D8%AB%D9%8A%D9%88%D9%86-%D9%8A%D8%AD%D8%AC%D8%A8%D9%88%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%B2%D9%8A%D8%B1%D8%A9-%D9%86%D8%AA-%D8%A8%D8%A7%D9%84%D9%8A%D9%85%D9%86-%D8%B6%D9%85%D9%86-%D8%AD%D9%85%D9%84%D8%A9-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B9%D9%84%D8%A7%D9%85
* المواقع الإلكترونية اليمنية التي حجبتها جماعة الحوثي يوم 26 مارس/آذار 2015 تزامنًا مع عاصفة الحزم: يمن برس، والمصدر أونلاين، مأرب برس، ونيوز يمن، ويمن فويس، اليمن السعيد، ويمن 24، واليمن الآن، والأهالي نت، هنا عدن، إقليم عدن، عدن الحقيقة، عدن بوست، حياة عدن، عدن الحدث، عمران نت، الإصلاح نت، اليمن الاتحادي، العين أونلاين، الفجر الجديد، البعث نت، شبوة الحدث، صعدة أونلاين، صوت الحرية، نشوان نيوز، عين اليمن الإخبارية، المشهد اليمني، نبض الشارع، شاهد عيان، حلول العالم، شبكة بوابة اليمن الإخبارية، الصحوة نت، صحافة نت.
- العتيبي، أسماء، الحوثيون يحجبون موقع الجزيرة نت باليمن، الخليج الجديد، 9 إبريل/نيسان 2015، (تاريخ الدخول: 27 إبريل/نيسان 2015):
http://www.thenewkhalij.com/node/12560
- الراجحي، عدنان، الحوثيون يعدمون الصحافة اليمنية، اليمن الغد، 13 إبريل/نيسان 2015، (تاريخ الدخول: 27 إبريل/نيسان 2015):
http://alyemenalghad.com/%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%88%D8%AB%D9%8A%D9%88%D9%86-%D9%8A%D8%B9%D8%AF%D9%85%D9%88%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D8%AD%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%8A%D9%85%D9%86%D9%8A%D8%A9/
15. عزي، دراسات في نظرية الاتصال نحو فكر إعلامي متميز، ص143، 144.
16. يوسف، تمار، وسائل الإعلام والقيم، مدونة تمار يوسف، (تاريخ الدخول: 27 إبريل/نيسان 2015):
http://temmaryoucef.ab.ma/140728.htm
17. بوادر صراع بين حلفاء الانقلاب: الحوثيون يحاصرون منزل صالح ونجله وقيادات في المؤتمر والتوتر سيد الموقف، يمن برس، 27 إبريل/نيسان 2015، (تاريخ الدخول: 29 إبريل/نيسان 2015):
http://yemen-press.com/news46858.html
** تنقل المواقع الإلكترونية أخبارًا عن تطورات الصراع السياسي والعسكري بين حركة أنصار الله والتحالف العربي من خلال تصريحات منسوبة لقيادات عسكرية تدعم شرعية الرئيس عبد ربه منصور هادي، ولعل بناء وتركيب هذا النموذج يوضح كيفية إبراز قيمة الشرعية وترفيعها: "دعا العميد ركن صادق سرحان قائد اللواء 22 مدرع المعيّن مؤخرًا من قبل الرئيس الشرعي عبد ربه منصور هادي أبناء تعز إلى الالتفاف حول الشرعية ومقاومة المتمردين على الشرعية".
القدسي، منال، العميد صادق سرحان قائد اللواء 22 مدرع يتحدث لـ"مأرب برس"، مأرب برس، 25 إبريل/نيسان 2015، (تاريخ الدخول 29 إبريل/نيسان 2015):
https://marebpress.net/news_details.php?sid=109135
18. بوادر صراع بين حلفاء الانقلاب، يمن برس، 27 إبريل/نيسان 2015، (تاريخ الدخول: 29 إبريل/نيسان 2015):
http://yemen-press.com/news46858.html
19. اليمن على طريق النهوض بمساعدة جيرانه العرب، أخبار اليمن، (تاريخ الدخول: 30 إبريل/نيسان 2015):
http://www.yemenakhbar.com/yemen-news/170835.html
20. كلية الهندسة بجامعة تعز تدشن أولى الفعاليات الاحتجاجية ضد الاحتلال الحوثي، يمن فويس، 8 مارس/آذار 2015، (تاريخ الدخول 30 إبريل/نيسان 2015):
http://voice-yemen.com/news89148.html
21. اليمن على طريق النهوض بمساعدة جيرانه العرب، أخبار اليمن، (تاريخ الدخول: 30 إبريل/نيسان 2015):
http://www.yemenakhbar.com/yemen-news/170835.html
22. انحياز ألوية الجيش للشرعية يقصم الانقلابيين، مندب برس، 25 إبريل/نيسان 2015، (تاريخ الدخول: 6 مايو/أيار 2015):
http://mandabpress.com/story/2015-4-25/9083
23. العامري، عبد اللطيف، لا حزن على جيش بناه صالح لحماية عائلته، العصر، 27 مارس/آذار 2015، (تاريخ الدخول: 7 مايو/أيار 2015):
http://alasr.me/articles/view/16076
24. الحرب في اليمن: عبد الملك الحوثي يتهم السعودية بالسعي لـ "غزو واحتلال" بلاده، بي بي سي عربي، 20 إبريل/نيسان 2015، (تاريخ الدخول: 30 إبريل/نيسان 2015):
http://www.bbc.co.uk/arabic/middleeast/2015/04/150419_yemen_al_huthi_vow
الحوثي: منظومة الشر على رأسها أميركا وإسرائيل تقف وراء الاعتداءات على الشعب اليمني، وكالة أنباء فارس، 22 مارس/آذار 2015، (تاريخ الدخول: 30 إبريل/نيسان 2015):
http://arabic.farsnews.com/yaman/news/13940102000557
25. Internet Usage in the Middle East: Middle East Internet Usage and Population Statistics, internetworldstats, (Visited on 1 May 2015).
http://www.internetworldstats.com/stats5.htm
26. Dashboard-Yemen, Socialdaily Statistics, (Visited on 1 May 2015).
http://analytics.socialdaily.com/en/facebook/countries/YE/ads
27. How social media can help keep democracy alive, World Economic Forum, 18 Mars 2015, (Visited on 1 May 2015):
https://agenda.weforum.org/2015/03/how-social-media-can-help-keep-democracy-alive/
28. نصير، أحمد، قناة العالم الإيرانية بعد اختراقها من "هاكر" سعودي: لبيك يا سلمان"، عناوين، 12 إبريل/نيسان 2015، (تاريخ الدخول: 2 مايو/أيار 2015):
http://www.anaween.com/?p=49804
29. تقرير إخباري، موقع قناة العالم على اليوتيوب، (تاريخ الدخول: 3 مايو/أيار 2015):
https://www.youtube.com/watch?v=1RFATLZ8UHg
آخر وأهم الأخبار، موقع قناة العالم على اليوتيوب، (تاريخ الدخول: 3 مايو/أيار 2015):
https://www.youtube.com/watch?v=64MWVKO_rz0
30. عاصفة الحزم على الإنترنت: انقسام وحرب طائفية افتراضية، أخبارك، (تاريخ الدخول: 2 مايو/أيار 2015):
http://www.akhbarak.net/news/2015/04/14/6300376/articles/18343882
31. حامد، محمد، اليمن "عاصفة الحزم" تضرب ذراع إيران في المنطقة، البوابة، 27 مارس/آذار 2015، (تاريخ الدخول: 3 مايو/أيار 2015):
http://www.albawabhnews.com/1195200
32. الزيدية: المذهب الشيعي الأقرب لأهل السنة، بوابة الحركات الإسلامية، 19 يناير/كانون الثاني 2015، (تاريخ الدخول: 7 مايو/أيار 2015):
http://www.islamist-movements.com/25710
33. عاصفة الحزم تتوعد بكشف المستور عقب تغريدة مقتل عبد الملك الحوثي، يمن فويس، 13 إبريل/نيسان 2015، (تاريخ الدخول: 8 مايو/أيار 2015):
http://yemenvoice.net/local-news/news90219.html