يثير السجال حول حقيقة موقف الرئيس ترامب من أزمة الخليج، وتأييده قرار التحالف الرباعي (السعودي-الإماراتي-البحريني-المصري) فرضَ حصار بري وجوي على قطر، أكثر من تساؤل حول تذبذب خطابه بين العدائية للعرب والمسلمين خلال حملة الانتخابات الأميركية والانفتاح والتعامل الإيجابي مع دول الخليج على الأقلِّ في ضوء ما نادى به في قمة الرياض التي عُقدت يومي 20 و21 مايو/أيار 2017. بيد أن الأزمة الجديدة في الخليج تُكرِّس تساؤلًا ظلَّ مفتوحًا منذ عامين حول تركيبة الصورة الذهنية والثقافية والسياسية للدول العربية ودلالتها في تطور الفلسفة السياسية بين ترامب المرشح وترامب الرئيس.
وتركِّز هذه الدراسة على هدفين: أولهما: تركيب الخطاب الترامبي إزاء الذات العربية من خلال تصريحاته ومواقفه السياسية، وتحليل تقاطعاتها واختلافاتها ضمن مِخْيَالِه الاستراتيجي الذي ينحو منحى البراغماتية ومصلحة "أميركا أولًا". وثانيهما: تفكيك الصورة العربية وحمولتها الأيديولوجية ومدى اقترابها أو ابتعادها من التصنيفات الهُوِيَّاتِيَّة والمعايير القِيَمِيَة لدى ترامب في ضوء تصورات الرؤساء الأميركيين السابقين. وتتولَّى الدراسة تركيب الخطاب التَّرامْبيِّ بمنطلق البحث من الداخل إلى الخارج ثم تفكيكه في الجزء الثاني ضمن سياق المرجعيات الفلسفية والأيديولوجية في اتجاه معاكس من الخارج إلى الداخل. ويتدرَّج التحليل ضمن ثلاثة أنساق تشمل ثلاثيات متتالية: 1. مخزون الصورة المركَّبة، 2. عرب من ثلاثة أصناف. 3. القومية الاقتصادية وصراع الحضارات ونهاية الاستثناء الأميركي.
مدخل منهجي لتركيب صورة الذات العربية وتفكيك مكوناتها
ترامب والعرب: الخطاب والسياق
"شعرتُ وكأنه خطاب عربي يلقيه زعيم عربي. ويتضح من كلمات ترامب أنه يدرك أن الشرق الأوسط الذي يشهد الغليان ليس في وضع جيد، وأن الولايات المتحدة ليست بعيدة عنه"(1). هكذا علَّقت مواطنة عربية على خطاب ترامب في أول اجتماع مع خمسين من قادة الدول العربية والإسلامية خلال قمة الرياض. غير أن فحوى التغريدة الموالية التي أيَّد فيها موقف التحالف ضد قطر جسَّدت تعارضًا مع مواقف المرشح ترامب إزاء المنطقة العربية. ويبقى التحدِّي قائمًا في تحديد العصارة النهائية لخطابه من مجموع مواقفه المتناقضة.
يُعزى التناقض في تصريحات ترامب خاصة بشأن السعودية إلى تغيُّر سياق قمة الرياض وحساباته الاستراتيجية. ويكون السياق أحيانًا أهمَّ من المعاني والدلالات بفعل العلاقة المتبادلة بين التأثير المشروط بين الأحداث وسياقاتها حسب مدرسة التحليل النقدي للخطاب. ونحن نرى كيف يتم استخدام فكرة السياق "من أجل تحديد أو تفسير الأمور؛ فالمرء يضعها ضمن "سياقها الصحيح"، ونحن مطالبون في الغالب بعدم أخذها أو وصفها خارج السياق"(2). ويُمَثِّل خطاب ترامب في الرياض لحظة مفصلية على مستويين رئيسيين:
- انفصام الخطاب السياسي لدى ترامب الرئيس الذي قال إن حكومته تعتمد "واقعية ذات مبادئ ومُتَجَذِّرِة في القيم والمصالح المشتركة"(3)، بينما أبدى تحمسًا أكبر لتدفق الاستثمارات وصفقات الأسلحة الخليجية، وهو تحوُّل عن المواقف المعلنة لترامب المرشح، التي انتقد فيها دول الخليج بأنها "لا تُمَثِّل شيئًا" بدون دعم الولايات المتحدة.
- التباين المثير بين ترامب وسلفه أوباما في مسار الإسقاطات الذهنية والدلالية على الدول العربية ومدى استقلالية أو تبعية قراراتها للإرادة الأميركية. فقد قال أوباما في الرياض (20 أبريل/نيسان 2016): إن "ما ينطبق على العلاقة بين الولايات المتحدة ومجلس التعاون الخليجي على غرار ما يصح بالنسبة لجميع حلفائنا وأصدقائنا هو أن هناك اختلافات من الناحية التكتيكية قد تطرأ في أية لحظة"(4).
غير أن ترامب قال في خطاب الرياض بعد عام: إن "أمم الشرق الأوسط لا تحتمل الصبر في انتظار القوة الأميركية للقضاء على هذا العدو (تنظيم الدولة) نيابة عنها. إن على أمم الشرق الأوسط أن تختار أي مستقبل تريده لنفسها ولبلدانها وأبنائها"(5)، وتَنِمُّ هذه العبارة عن مدى قناعته بمدى الاتَّكالية العربية على مساعدة واشنطن حتى في تدبير تحدياتها الإقليمية. وتناغم خطابه مع ما كان يترقبه الخليجيون عندما "تمكَّن من إيصال رسالة أفادت بإعادة بدء العلاقات على أساس ما بعد حقبة أوباما إلى القمة العربية الإسلامية الأميركية"(6).
أصول الخطاب الترامبي
تظلُّ الواجهة الخطابية لسياسة ترامب والتغريدات والحديث الحماسي أمام مناصريه بدلًا من مواجهة المراسلين المدخل الطبيعي لدراسة الخطاب السياسي الترامبي. وتسعى الورقة إلى تركيب وتفكيك رؤيته إلى الدول العربية من منظور الدراسات الإعلامية في تقاطعها مع تحليل الخطاب بالتركيز على قراراته وتصريحاته المرتجلة في أغلب الأحيان. ويواصل ترامب رفضه التقيُّد بالنصِّ بسبب قناعته المترسِّخة بأن حَدْسَه "يتفوَّق" على خبرة رجال المؤسسة السياسية والعسكرية في واشنطن. وتعتمد الدراسة منهجية تحليل تصريحات ترامب منذ يوم التنصيب حتى الثلاثين من يونيو/حزيران 2017 لثلاثة أسباب رئيسية:
- استعراض السياق العام للمفاهيم والدلالات والتَّمَثُّلات ضمن لغة ترامب البسيطة باعتبار أن تحليل الخطاب يُقدِّم "وصفًا مناسبًا بين النص والسياق"، ويسمح بدراسة "استخدام اللغة الحقيقية من قبل متحدثين حقيقيين وفي مواقف حقيقية"، أكثر مما نتوقعه من "دراسة بناء جمل مجردة أو دلالات رسمية"(7).
- أهمية الخطاب والتواصل لدى ترامب في توسيع نطاق شرعيته. ويُعزى صراعُه مع وسائل الإعلام إلى وعيه بالحاجة لتوشية تصريحاته بالحد الأدنى من المصداقية لصيانة سمعة المنصب وقوة الخطاب الذي يظلُّ "مشابهًا للموارد الاجتماعية الأخرى ذات القيمة العالية التي هي أساس القوة التي تتوزع بشكل غير متكافئ"(8).
- صعوبة تحديد الحصيلة النهائية لخطاب ترامب بعد إلغاء المناورات الإعلامية الآنية والادِّعاءات غير الدقيقة فيما يهبُّ أنصاره من المحلِّلين لتبرير قراراته وتغريداته عبر تويتر.
أصبح هؤلاء "المحلِّلون" بمثابة حكومة تصريف أعمال ضمن مكتب التواصل في البيت الأبيض من أجل تطبيع ادِّعاءات "ما بعد الحقيقة" وشَرْعَنَة سلطة ترامب وتوجيه مسار النقاش العام. ويشتدُّ السعي لاعتماد المجال العام من أجل "قلب الرؤية العادية للميدان الاجتماعي كرؤية تكتفي بالأمور المرئية وحدها"(9). ويدور النقاش العام في فلك تكنولوجيانية الخطاب حسب تعبير نورمان فيركلوف؛ فقد ظهر "متخصصون في بلورة خطاب متلاعب ومقنع، ولكن لدى من يمكن أن نسميهم "تكنولوجيي الخطاب المعاصر" بعض السمات المميزة منها علاقتهم بالمعرفة. هم من العاملين في العلوم الاجتماعية أو أصناف أخرى من الخبراء أو الاستشاريين ذوي الامتيازات في الوصول إلى المعلومات العلمية، فيما تحمل تدخلاتهم في بلورة الخطاب العام هالة "الحقيقة"(10).
تحديات تحليل الخطاب الترامبي
يشعر أغلب المحلِّلين بالحيرة والذهول لتذبذب خطاب ترامب بين سرديات غير دقيقة على نسج "ما بعد الحقيقة" و"الحقائق البديلة" ونظريات "المؤامرة" للأسباب الآتية:
- معضلة الانتقائية الخطابية ضمن استراتيجية ترامب التي لا تخرج عن نطاق تجربته الشخصية وأحكامه الذاتية؛ فتزداد إشكالية الحسم في تصنيف الخطابات بين "ما يتمُّ تبنِّيه أو رفضه يعتمد في نهاية المطاف على مدى ما يبدو أنه "متناسب" مع تجربتنا في العالم ومدى ما يبدو أنه يُمَثِّلُه بالنسبة لنا"(11).
- معضلة التأويل والتصديق بين ترامب وحقيقة الواقع الخارجي المختلف عن رؤيته الذاتية، وصعوبة الفرز بين ما يُجسِّد سياسة رسمية مسؤولة وما يُشكِّل توظيفًا تفاوضيًّا أو أيديولوجيًّا من أجل مآرب مرحلية ضمن أدوات المعركة المفتوحة مع الديمقراطيين ووسائل الإعلام وسائر المؤسسات التي تتمسَّك بروح الفكر النقدي في تقييم الممارسة السياسية.
- معضلة المقاصد عندما يتدرَّج خطابه بين تناقضات تثير متاهة في فهم ما يريد ترامب قوله حقيقة. ولم يعد الرأي العام يشعر بالمفاجأة عندما يعلن ترامب مواقف مُؤَيِّدَة لبعض الدول والمؤسسات والمعاهدات، ثم ينقلب عليها بتصريحات مناوئة مثل تَذَبْذُبِه بشأن العلاقة مع السعودية، واتهامه قطر بدعم الإرهاب قبل إرسال وزير خارجيته، ريكس تيلرسون، للوساطة في نزاع الخليج.
- معضلة التفسير والتأويل بين فريق يقول: "خُذْ ترامب حرفيًّا، وليس جديًّا" (Take Trump literarily, not seriously) وآخر يتمسَّك بالقول: "لا تأخذ ترامب حرفيًّا بل جديًّا" (Do not take Trump literarily, but seriously). ويدعو البعض للتوقف عن محاولة تصنيف ترامب سياسيًّا وأيديولوجيًّا ضمن الثنائية التبسيطية بوجود تنافس تاريخي مفتوح بين اليمين واليسار أو معادلة الليبراليين والمحافظين.
الإطار النظري لصناعة الانطباع لدى ترامب
ينبغي استحضار مفهوم البنائية الاجتماعية التي تقوم على النسبية في تركيب الواقع وجدلية الذات والبيئة أو الواقع الخارجي. وهذا ما يجعل ترامب يقتنع بصحة تصريحاته ما دام أن "الأفراد يصنعون عوالمهم الاجتماعية والثقافية فيما يُشكِّلون هم صنيعة هذه العوالم في الوقت ذاته"(12). وتظلُّ البنائية الاجتماعية نقطة مركزية بين النظريات الناشئة ومنها نظرية الخطاب عند لاكلو وموف، ونظرية التحليل النقدي للخطاب عند فيركلوف وفان دييك، وعلم النفس الخطابي عند إدوارد وبوتر وهاري. لذلك، ينبغي التعامل مع تصريحات ترامب من خلال تفكيك علاقة الخطاب واللغة ضمن المنطلق العلائقي بين ترامب وأنصاره ومعارضيه. هي بنائية ذهنية مزدوجة لتحقيق هدفين في آن واحد:
- إعادة تركيب صورة أميركا العظمى كمشروع سياسي، وهي صورة مرجعية تمنحه مصداقية التاريخ وشرعية الخطاب؛ إذ يقول: "وضع أميركا أولًا، والنزعة الأميركية، وليس النزعة العالمية، ستكون عقيدتنا. وطالما أننا محكومون من قِبَل سياسيين لم يضعوا أميركا أولًا، فَلْنَكُنْ متأكِّدين أن الدول الأخرى لن تُعاملها باحترام"(13).
- تركيب صورة ذهنية جديدة عن الرجل القوي وأميركا القوية و"حتمية" الانتصارات على الخصوم في مواجهة حتمية حسم أطرافها سلفًا بانشطارية الـ"نحن"/الـ"هم"، أو "نحن العالم المتحضر" مقابل "هم دعاة الإرهاب الإسلامي الراديكالي" كمحور شرٍّ جديد يشمل أكثر من مليار مسلم في العالم. وهذا تصنيف ناجم عن قناعة ترامب بأن "الإسلام يكرهنا"، وعلى أساسه يتحكَّم اعتداده بالقوة في بنائية علاقات الاختلاف. فلغة ترامب تعمل بمثابة فِهْرَس للقوة، "فهي تُعَبِّر عنها، وتشارك معها عندما يقوم خلاف أو تحدٍّ للقوة" كما توضح روث ووداك؛ إذ "توفر اللغة وسيلة محاكة بدقة عن الاختلافات في مستوى القوة ضمن الهياكل الاجتماعية الهرمية"(14).
بيد أن أغلب المثقفين الأميركين يُقرُّون بوجود فراغ مفاجئ في الخطاب السياسي الأميركي ويُشكِّكون في وجود زعامة مُؤَهَّلَة حاليًّا في البيت الأبيض. ويظل ترامب في نظر الكثيرين "راديكاليًّا مُتَأَدْلِجًا يرغب في إحداث ثورة في السياسة الخارجية الأميركية"(15). وهو بهذا المنحى يُقوِّض سياسة القيم وعلم الأخلاقيات اللذين يُمَثِّلان المحكَّ الرئيسي في تصحيح النظام السياسي الأميركي ذاته بذاته منذ قيام الولايات المتحدة عام 1776.
مكونات الذات العربية وأبعادها في الخطاب السياسي التِّرامْبيِّ
كرَّس خطاب ترامب قبل قمة الرياض، التي عُقدت خلال يومي 20 و21 مايو/أيار 2017، صورة نمطية قاتمة عن الذات العربية وتعارضها مع القيم والمصالح الأميركية. وثمة مفارقة لم تأت بطريق الصدفة عندما تكون دعوته إلى "منع المسلمين من دخول الولايات المتحدة حتى يتسنَّى للمسؤولين الحكوميين التعامل مع معضلتي التطرف والإرهاب" ضمن تعهُّداته الأولى في الحملة الانتخابية، وأن يكون منع سفر مواطني عدة دول عربية وإيران إلى الولايات المتحدة من أول قراراته الرئاسية في البيت الأبيض. ويمكن تفكيك ملامح الدول العربية في خطاب ترامب ضمن ثلاث ثلاثيات:
الثلاثية الأولى: مخزون الصورة المُرَكَّبَة
كان لاكتشاف النفط في المنطقة العربية، ونشوب النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي في الأربعينات من القرن الماضي، وقيام الدولة الإسلامية في إيران وأزمة الرهائن في السفارة الأميركية عام 1979، تأثير عميق ليس في تحديد الأهمية الاستراتيجية الأميركية فحسب، بل وأيضًا في تركيب الصورة العربية/الإسلامية وأبعادها السياسية والثقافية عبر ثلاث مراحل تاريخية تُمَثِّل الروافد التي تشبَّع بها الرئيس ترامب ومستشاروه:
1. مرحلة البقرة الحلوب وصدُّ الخطريْن الشيوعي والإسلامي (1940- 2008)
سارعت الولايات المتحدة منذ عهد فرانكلين روزفلت (1933-1945) إلى استمالة دول كالسعودية وتونس والمغرب خلال حقبة التنافس بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي. وكانت واشنطن لا تنظر بعين الرضا إلى انفتاح مصر الناصرية والجزائر البومديانية على موسكو، فضلًا عن انشطار اليمن إلى يمن ليبرالي في الشمال وآخر اشتراكي في الجنوب. وعلى مرِّ خمسة عقود، شكَّلت المنطقة طاولة شطرنج استراتيجية لضمان المصالح الأميركية في احتواء المد الشيوعي سواء خلال حقبة الحرب الباردة أو بعد انهيار جدار برلين وتفكُّك الاتحاد السوفيتي عام 1989 أو عقب هجمات سبتمبر/أيلول 2001. فكانت العواصم العربية ضمن أدوات تضييق الخناق على إيران سواء بالاعتماد على بغداد صدام خلال الحرب العراقية-الإيرانية (1980-1988) أو ضمن الاستراتيجية الغربية لمنع طهران من تطوير برنامجها النووي في العقدين الأخيرين.
سعى وزير الخارجية الأسبق، هنري كيسنجر، في السبعينات من القرن الماضي لضمان استغلال ثروة النفط بأسعار متدنية بالتوازي مع تنامي أعمال العنف وتوسع حركات المقاومة في الأراضي الفلسطينية ولبنان وتمسُّك الولايات المتحدة بضمان أمن دولة إسرائيل. وعقب مقتل بعض أفراد الفريق الرياضي الإسرائيلي في أولمبياد ميونيخ، عام 1972، وأزمة النفط بفعل قرار الملك فيصل وقف تصديره عام 1973، امتزجت تَمَثُّلات احمرار العنف الدموي واخضرار الثراء الخليجي بالدولار في ثنايا الصورة العربية في وسائل الإعلام ومنتجات هوليود. فأصبحت تغطية العرب والمسلمين ومناقشة أمورهم وفهمهم "لا تخرج عن صورتيْ مورِّدي نفط أو إرهابيين محتملين. ولم يصل سوى القليل جدًّا من التفاصيل وكثافة البعد الإنساني وشغف الحياة العربية والإسلامية إلى وعي أولئك الأفراد الذين تقوم وظيفتهم على تغطية العالم الإسلامي"(16)، كما لاحظ إدوارد سعيد.
واليوم، تظل ثروات الخليج ضمن اعتبارات الاستراتيجية الأميركية رغم تحوُّل الولايات المتحدة إلى ما يقترب من الاكتفاء الذاتي من النفط والغاز الطبيعي، فيما تتمتع السعودية وإيران والعراق والبحرين والكويت والإمارات بنحو 55 في المئة من احتياطيات النفط المؤكدة في العالم وتنتج ما يقرب من ثلث النفط المستهلك عالميًّا"(17).
في برنامج تليفزيوني مع أوبرا وينفري عام 1988، تساءل ترامب وقتها: "كيف يعيش الكويتيون وغيرهم من الخليجيين مثل الملوك ولا يدفعون نسبة في حدود خمسة وعشرين في المئة إلى الولايات المتحدة مقابل تسهيلها بيع الصادرات النفطية لدول الخليج". ويبدو أن النَّهم الترامبي للمال الخليجي ظل يساوره لقرابة ثلاثين عامًا، وطلب من القادة الخليجيين تحضير مبلغ تريليون دولار على شكل استثمارات وصفقات جديدة في الولايات المتحدة قبيل سفره إلى السعودية في مايو/أيار 2017.
تحدث ترامب في خطاب الرياض عن أحدث صفقة بمئة وعشرة مليارات دولار، قائلًا: "إننا سنضمن مساعدة أصدقائنا السعوديين في الحصول على صفقة جيدة من كبريات شركات الأسلحة الدفاعية الأميركية. وستساعد هذه الاتفاقية الجيش السعودي على القيام بدور أكبر في العمليات الأمنية. وقد بدأنا أيضًا مناقشات مع العديد من البلدان المشاركة اليوم بشأن تقوية الشراكات وتشكيل شراكات جديدة لتعزيز الأمن والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط وخارجها"(18). وتنمُّ نظرية ترامب في الدبلوماسية عن نهج تفاوضي حاسم بلغة المال وتقابُل المصالح، وهو امتداد لأسلوبه في إبرام صفقاته وتوسيع "إمبراطوريته العقارية" خلال العقود الثلاثة الماضية. وأعرب أكثر من مرة عن حسرته على عدم السيطرة على حقول النفط العراقي بعد الغزو الأميركي عام 2003، وقال في خطابه أمام موظفي وكالة المخابرات المركزية الأميركية بعد يوم واحد من تنصيبه إنه "ربما ستكون هناك فرصة أخرى لإنجاز ذلك".
2. مرحلة الواقعية المتوازنة ومسك العصا من الوسط (2008-2016)
حاول باراك أوباما تصحيح الخطايا التي كرَّسها سلفه، جورج بوش الابن، بإيعاز من المحافظين الجدد عند غزو العراق. وسعى إلى بلورة نقطة بداية جديدة للعلاقات الأميركية العربية/الإسلامية من خلال التذكير بالقيم العليا الأميركية والانفتاح الإيجابي على المنطقة خلال إلقاء خطابيه الشهيرين في مصر وتركيا. فاتَّبع سياسة توازن القوة بين إيران والسعودية وتركيا باعتبارها قوى إقليمية مؤثرة. وسعى لاحتواء النزاع في المواجهة الكبرى بين المعسكريْن الشيعي والسُّنِّي ضمن مواجهات بالوكالة في كلٍّ من سوريا والعراق والبحرين واليمن ولبنان بموازاة ضمان التوصل إلى الاتفاق النووي مع طهران في يوليو/تموز 2015. لكنه أثار بذلك خيبة الأمل لدى العرب الخليجيين لما اعتبروه تجاهلًا لعلاقات التحالف التاريخية، وعدم الحسم في مسار الأزمة السورية ومصير الأسد بعد تحذير أوباما ضد استخدام السلاح الكيميائي، عام 2013، باعتباره "خطًّا أحمر"، ومعضلة العنف والتطرف التي يُمَثِّلُها تنظيم "الدولة الإسلامية" وأخواته من الجماعات المتطرفة.
لكن المرشح ترامب عمد إلى مغازلة الجماعات اليمينية في الولايات المتحدة، ووجد ضالته في الاتفاق النووي للتنديد بـ"خسارة مئة وخمسين مليار دولار"، فضلًا عن مبلغ أربعمئة ألف دولار ادَّعى ترامب أن حكومة أوباما دفعتها "فدية" للإفراج عن الرهائن الأميركيين في طهران. وهنا تتشابك خيوط الاعتبارات المالية إزاء إيران والأمنية إزاء سوريا والعراق وأيضًا ليبيا في ضوء امتعاض ترامب من نشاط الجماعات الموالية لتنظيم الدولة في سرت ودرنة ومخاطر استيلائها على المثلث النفطي. وعلى خلاف سلفه أوباما، لا يتورَّع ترامب عن الوقوف في صف دول الخليج العربية ضد إيران التي اتهمها في بداية رئاسته بالقيام بأعمال استفزازية وتهديد الاستقرار في المنطقة. ويبدو أنه موقف مدروس استراتيجيًّا لِطَمْأَنَة القادة الخليجيين باستعادة الزخم السياسي إلى علاقاتهم مع واشنطن.
ومما يجسِّد نقطة التحول الرئيسية لدى ترامب ما قاله في قمة الرياض: إننا "سنناقش في هذه القمة العديد من المصالح التي نتشاطرها معًا، ولكن علينا قبل كل شيء أن نتحد في السعي لتحقيق هدف واحد يتجاوز كل اعتبار آخر. وهذا الهدف هو تلبية اختبار التاريخ العظيم للتغلب على التطرف وقهر قوى الإرهاب... وأميركا مستعدة للوقوف في صفكم سعيًا وراء المصالح المشتركة والأمن المشترك"(19). بيد أن هذه الرؤية المنفتحة على فكرة التعاون مع الدول العربية تنمُّ ضمنيًا عن هاجس أمني مشترك بفعل التداعيات النفسية والسياسية والأمنية لهجمات سبتمبر/أيلول عام 2001.
3. مرحلة المخاوف الأمنية واستغلال سردية الإرهاب (2017-)
تتخلَّل حديثَ الرئيس ترامب أحيانًا نبرةٌ إيجابيةٌ خلال التفاعل وجهًا لوجه مع بعض المسؤولين العرب الزائرين كولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، والرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، والعاهل الأردني، الملك عبد الله، أو رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس. غير أن ثمة صورة معيارية تظل المرجعية المتأصلة في اتخاذ قراراته، وهي مرجعية "الإرهاب الإسلامي الراديكالي" و"عداء" الإسلام للغرب، مما يُفسِّر حسب اعتقاده ارتفاع مستوى التفجيرات وعمليات القتل كما حدث في كاليفورنيا وفلوريدا وباريس وغيرها.
لا تميِّز نظرة ترامب إلى العالم العربي بين الطوائف السُّنِّية أو الشيعية أو غيرها ولا التقاليد الإسلامية؛ فإنه "وَصَفَ التهديد بأنه يمتد إلى إيران الشيعية، التي تُمَثِّل عامل إشكال عميق في الشرق الأوسط، ولكن في كثير من الأحيان يجد نفسه على خلاف مع الجماعات الجهادية السُّنِّية المتطرفة مثل الدولة الإسلامية. ولعل أكثر ما يثير القلق هو أن التهديد المتخيَّل يشمل أيضًا العديد من المواطنين المسلمين الأميركيين المتدينين في الولايات المتحدة الذين يُعتبرون، في رأي ترامب، الطابور الخامس المحتمل للمتطرفين الإسلاميين المحليين"(20)، كما يستخلص كولن كاهل وهال براندز.
وحسب تصنيفات الصورة في كتابات فرانك جفكينز، ثمة تباين بين الصورة الحالية التي يُكرِّسها خطاب ترامب عن الدول العربية والصورة المرغوبة التي تودُّ هذه الدول أن تُشَكِّلها لذاتها. بيد أن المثير هنا أن خطاب ترامب في قمة الرياض جسَّد بعض ما يلامس تلك الصورة المرغوبة حسبما يظهر في الجدول الآتي.
الجدول رقم (1) يبرز تدرج ترامب من الصورة الحالية إلى الصورة المرغوبة للذات العربية قبل وخلال قمة الرياض
الصورة الحالية |
الصورة المرغوبة |
السعودية أكبر مموِّل للإرهاب في العالم، وتطغى على أموال بترولنا، أموالنا الخاصة، لتمويل الإرهابيين الذين يسعون إلى تدمير شعبنا بينما يعتمد السعوديون علينا لحمايتهم. |
علينا أن نسعى للتعامل مع شركاء وليس إلى الكمال، وأن يكون حلفاؤنا ممن يشاطروننا أهدافنا. |
أنا أحب السعوديين ...كلما كانت لديهم مشاكل، نرسل إليهم السفن. لا وجود للمملكة العربية السعودية من دوننا. |
سنضمن مساعدة أصدقائنا السعوديين في الحصول على صفقة جيدة من كبريات شركات الأسلحة الدفاعية الأميركية. وستساعد هذه الاتفاقية الجيش السعودي على القيام بدور أكبر في العمليات الأمنية. |
نحن نتحمَّل ضربات هائلة بسبب حمايتنا لأمن الدول الأخرى، وتشمل السعودية ودولًا أخرى، كما تعلمون. ويتعيَّن علينا الحصول على تعويض عن تلك التكاليف بتسديدها بشكل وافر. |
بدأنا أيضًا مناقشات مع العديد من البلدان المشاركة اليوم (في قمة الرياض) بشأن تقوية الشراكات وتشكيل شراكات جديدة لتعزيز الأمن والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط وخارجها. |
السعودية وعدد آخر من الدول التي قدمت مبالغ مالية ضخمة إلى مؤسسة كلينتون تريد معاملة النساء بمثابة رقيق وقتل المثليين. وينبغي أن تعيد كلينتون جميع الأموال إلى تلك الدول. |
ينبغي أن يكون الفتيان والفتيات المسلمون الشباب قادرين على النمو بعيدًا عن الخوف وآمنين من العنف وبريئين من الكراهية. |
حكومتي تعتمد واقعية ذات مبادئ ومتجذرة في القيم المشتركة والمصالح المشتركة. |
هدفنا هو تشكيل ائتلاف بين الدول التي تشترك في هدف القضاء على التطرف ومنح أطفالنا مستقبلًا متفائلًا. |
إذا أردنا حماية نوعية الحياة لجميع الأميركيين بمن فيهم النساء والأطفال والمثليون والمستقيمون واليهود والمسيحيون، فنحن بحاجة لمعرفة الحقيقة حول الإسلام الراديكالي، ونحن بحاجة إلى القيام بذلك الآن. |
افتتاح المركز العالمي لمكافحة الأيديولوجية المتطرفة في هذا الجزء المركزي من العالم الإسلامي يمثِّل إعلانًا واضحًا بأن على البلدان ذات الأغلبية المسلمة أن تأخذ زمام المبادرة في مكافحة التطرف. |
خلال رحلتي الأخيرة إلى الشرق الأوسط، ذكرت أنه لا يمكن أن يكون هناك تمويل للأيديولوجية الراديكالية؛ فأشار القادة إلى قطر. |
تعتبر قطر التى تستضيف القيادة المركزية الأميركية شريكًا استراتيجيًّا أساسيًّا. |
يجب على الفلسطينيين وقف الإرهاب ووقف الهجمات ووقف تعليم الكراهية. إنني أقف مع مستقبل العلاقات الأميركية مع حليفنا الاستراتيجي، وصداقتنا غير القابلة للكسر، وشقيقنا الثقافي الذي يعد الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط وهو دولة إسرائيل. |
سيتعيَّن على دول الشرق الأوسط أن تُقرِّر نوع المستقبل الذي تريده لأنفسها ولبلدانها ولأطفالها. |
منع شامل وكامل للمسلمين الذين يدخلون الولايات المتحدة حتى يتمكن ممثلو بلادنا من معرفة ما يجري. |
الشرق الأوسط غني بالجمال الطبيعي والثقافات النابضة بالحياة وكميات هائلة من الكنوز التاريخية. وينبغي أن يصبح على نحو متزايد واحدًا من المراكز العالمية الكبرى للتجارة والفرص الجديدة. |
الثلاثية الثانية: عرب من ثلاثة أصناف
أثار قرار ترامب حظر سفر المسلمين إلى الولايات المتحدة موجة تنديد وتساؤلات حول معيار التصنيف بين دول جاء منها مُفَجِّرو هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001 ولا يُحْظَرُ سفرُ مواطنيها، ودول لم يأتِ منها أيُّ انتحاري ولا يستطيع مواطنوها الدخول إلى أميركا. وفي ظل تَمَثُّلات "الإرهاب الإسلامي الراديكالي"، يُمَوْقِعُ ترامب الدول العربية في ثلاث خانات متباعدة نسبيًّا على الرغم من تقاطعاتها الاستراتيجية والسياسية والثقافية.
1. خليج الاستثمارات المتبادلة
قال الرئيس ترامب في خطاب التنصيب: "سنسعى إلى تكريس الصداقة وحُسن النية مع دول العالم، ولكننا سنفعل ذلك على أساس أن من حق جميع الدول أن تضع مصالحها الخاصة أولًا"(21). ويعكس هذا الموقف خيارًا صريحًا لتغليب استراتيجية المصالح الوطنية على مقتضيات المعاهدات والقانون الدولي. وتتدرَّج هذه العلاقات من صيرورتها التاريخية وبعدها الدبلوماسي الإيجابي نحو مرحلة العائد المادي في العلاقات الأميركية-العربية وخاصة الخليجية.
بدأ هذا التحوُّل مع تأييد بعض المسؤولين الإماراتيين لقرار ترامب منع سفر المسلمين من سبع دول إلى الولايات المتحدة، ثم تعزَّز بتصريح ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، في واشنطن، خلال مارس/آذار 2017، عندما قال: إن ترامب "صديق حقيقي للمسلمين"، وإن السعودية تشعر بالتفاؤل إزاء حكومته وإزاء منطلق "أميركا أولًا" في السياسة الخارجية(22). وأشاد ترامب في مايو/أيار بدور الإمارات "في المعركة من أجل القلوب والأرواح، ومع الولايات المتحدة، أطلقت مركزًا لمواجهة انتشار الكراهية على الإنترنت. وتعمل البحرين أيضًا على تقويض التجنيد والتطرف"(23).
كان ترامب يُجاهِر بنبرة الانتقادات لدول الخليج علنًا لسنوات عديدة، فهو يؤمن أن السعودية مثلًا "ليس لها وجود بدون الولايات المتحدة، ولا تملك أي شيء باستثناء الأموال". ويبدو أن الثابت في تفكيره هو منطق الخسارة والربح على غرار فلسلفة إدارة الأعمال كعملة جديدة يُكَرِّسها في إدارة العلاقات الخارجية. فقرَّر بسط "السجاد الأحمر في طريق الأمراء السعوديين، وقد منحهم دعمًا دعائيًّا ضخمًا والتزامًا أميركيًّا رفيع المستوى بتحسين العلاقات الثنائية ورفعها"(24)، كما يقول أحد المراقبين.
وجاء في بيان أصدره البيت الأبيض، في منتصف مارس/آذار 2017، أن الرئيس ترامب والملك سلمان كلَّفا فريقيهما بإيجاد سُبل "لتعزيز العلاقات الاستراتيجية بين الولايات المتحدة والسعودية" على الجبهات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية. وأضاف البيان أن الجانبيْن "اتفقا على التعاون بشكل أكبر في المجالات الاقتصادية والتجارية والاستثمارية والطاقة وبدء برنامج أميركي-سعودي جديد بميزانية 200 مليار دولار من الاستثمارات المباشرة وغير المباشرة خلال السنوات الأربع المقبلة"(25). وبعد شهرين، حققت زيارة ترامب للرياض زخمًا آخر بضمان صفقات جديدة بقيمة 460 مليار دولار ومنح ثلاث وعشرين من الشركات الأميركية تراخيص استثمار في السعودية.
يظل العائد المالي محور الصدارة لدى ترامب وهو الذي أثار أكثر من مرة تكلفة الدعم العسكري الأميركي لأمن دول الخليج ليس كإجراء استراتيجي في وجه إيران للحفاظ على ميزان القوة في المنطقة بالضرورة، بل في استمرار وجود تلك الدول في حدِّ ذاته. ويقول: إنه "كلما واجهت السعودية بعض المشاكل، فإننا نرسل السفن إليها. ومن دوننا لن يكون هناك وجود للسعودية". من هذا المنطلق، يريد ترامب أن يضع العلاقات الأميركية-الخليجية في نسق المقابل المالي، وأنه لا يقبل وجود "ركَّاب بالمجان" في ظل وجود قواعد وغواصات أميركية في منطقة الخليج. ولا يتحرج من القول: إنه "يجب على حلفائنا المساهمة في تسديد التكاليف المالية والسياسية والبشرية. عليهم أن يفعلوا ذلك وأن يتحمَّلوا بعضًا من عبء تكاليفنا الأمنية الهائلة"(26).
الجدول رقم (2) يوضح سرديات ترامب حول دول الخليج
القضية |
سرديات ترامب |
نوع الخطاب |
دول الخليج العربية |
|
تقييمي، استخلاصي، تأكيدي. |
إيران |
|
ذرائعي، تقييمي، تحذيري. |
يغلب على خطاب ترامب الحديث عن الصفقات، وهو يسعى لتكريس معادلة جديدة في السياسة الدولية يمكن تسميتها نظرية القيمة من خلال فرض حسابات صارمة أكثر مما ذهب إليه منظِّرو الواقعية الكلاسيكية، والإصرار على عائدات مالية مرتقبة من حماية الأمن القومي لدول مثل السعودية واليابان وكوريا الجنوبية. ويستند تمسُّك ترامب بالعائد المادي وغلبة الاقتصاد في تدبير الدبلوماسية إلى مذهب المنفعة في كتابات جيريمي بنتام الذي قدَّم تفسيرًا كميًّا لسعادة الفرد، قائلًا: "أعظم السعادة من أكبر عدد ممكن هو مقياس الحق والخطأ"(27).
يريد ترامب أن يُحَرِّر العلاقات الدولية من الضوابط الأخلاقية والإنسانية في سبيل تحقيق الأرباح المادية واستقطاب الاستثمارات الخارجية من دول محددة. وهذا تحوُّل عن الخطاب القِيَمِي الذي اعتدَّت به الولايات المتحدة لعقود طويلة كزعامة أخلاقية تُعزِّز مركزها وتأثيرها في العالم. ويبدو أن تغليب كفة القيمة المادية سيضع ترامب وفريقه في البيت الأبيض على طريق مغامرة جديدة يمكن أن توقعه في منحى الصفقاتية غير الأخلاقية التي تُبرِّر التعامل والتعاون حتى مع الدول المارقة والجماعات المشبوهة.
2. مشاركون في معركة "الإرهاب الإسلامي الراديكالي"
ينطلق ترامب من قناعة ثابتة بضرورة التحلُّل من التحالفات القديمة وتشكيل بدائل جديدة حسب مقتضيات المصالح الأميركية. ويحتفظ بهامش المناورة على أساس حركية المصالح وليس على قاعدة المبادئ الثابتة. ويتضمن هذا الخطاب تنبيهًا مُبَطَّنًا إلى شتى العواصم للانسياق وراء استراتيجيات البيت الأبيض كما حذرت مندوبة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة نيكي هيلي عندما قالت: إن حكومة ترامب تحتفظ بقائمتي الأصدقاء والأعداء.
يعتدُّ ترامب بأنه رجل البراغماتية إزاء المخاطر التي تُهَدُّد مصالح أميركا وفي مقدمتها تنظيم الدولة. ويعوِّل على مساهمة عدد من الحكومات كالأردن والعراق ومصر وليبيا (بدعم الجنرال المتقاعد خليفة حفتر) والجزائر والمغرب في أمريْن أساسييْن:
- تأييد سردية "الإرهاب الإسلامي الراديكالي" على أساس فرضية وجود "عدو مشترك" ينبغي مواجهته في الشرق والغرب.
- تعزيز التحالف الدولي بمساهمات أكبر للدول العربية في تحقيق وعده الانتخابي: "القضاء على تنظيم الدولة من على وجه الأرض". وقد شدَّد ترامب على أنه "ينبغي أن تكون جميع الإجراءات مُوَجَّهَة نحو هذا الهدف، وأن أي بلد يشاركنا في تحقيق هذا الهدف سيكون حليفنا".
وخيَّم هذا التصور بظلاله على زيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي للبيت الأبيض، أوائل أبريل/نيسان 2017. واتسمت المحادثات الثنائية بغزل قياسي بين الرجلين والإشادة السخية بأداء السيسي الذي وصفه ترامب بأنه "أنجز عملًا رائعًا في ظروف صعبة جدًّا" باعتباره أحد أقوى حلفائه في المنطقة، بينما رفض الرئيس أوباما استقباله في البيت الأبيض وكان قد تحفَّظ على انتهاكات حقوق الإنسان في مصر بعد مقتل المتظاهرين في اعتصام رابعة العدوية، في 14 أغسطس/آب عام 2013. وينظر البيت الأبيض جديًّا في احتمال تصنيف الإخوان المسلمين ضمن قائمة "المنظمات الإرهابية" مما قد يُشكِّل هدية إلى السيسي في سعيه لتطبيع حملته المفتوحة ضد معارضيه من الإسلاميين وغير الإسلاميين.
بيد أن محاولة ترامب شَرْعَنَة الحرب على الإسلاميين وحث الدول العربية على المساهمة في تحالفه الجديد تثير القلق من مغامرة قد تأتي بنتائج عكسية بسبب سوء التقدير الاستراتيجي لدى ترامب ومؤيديه من القادة العرب. فإذا كان ترامب مهتمًّا حقًّا بحمل المصريين على محاربة "الإسلام الراديكالي"، "فإن منحهم المزيد من الدبابات لن يساعد أهدافنا" كما تستخلص إيمي هوثورن الباحثة في مؤسسة مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط. والأخطر في هذه المعادلة هو "أن الاستسلام للاستبداد الذي أبدته الولايات المتحدة نحو مصر قد يبدو هو الشيء الصحيح، ولكنه لن يأتي أبدًا بالنتائج المنشودة على المدى الطويل"(28).
ويُشكِّل التعاون الأمني مع هذه الدول وجهًا واحدًا لعملة تخفي صورة قاتمة لدول أخرى، وهي صورة تُكرِّس نمطية ذهنية سلبية لدى ترامب يَدْمَغ بها جميع سكانها بدمغة الشبهة على أساس أنهم مشاريع إرهابية حتى يُثبتوا براءتهم.
الجدول رقم (3) يُبيِّن سرديات ترامب حول مكافحة الإرهاب وبقية أشكال العنف السياسي
القضية |
سرديات ترامب |
نوع الخطاب |
التعامل مع تنظيم الدولة |
|
صراعي، توعدي، إقصائي. |
دور الدول العربية في مواجهة تنظيم الدولة |
|
تقييمي، تحفيزي. |
التحديات العسكرية في العراق |
|
استخلاصي، استدراكي، تصحيحي. |
قيادة السيسي في مصر |
|
انطباعي، احتفالي، تحفيزي. |
3. دول القائمة السوداء
كان خطاب ترامب بعد ثلاث ساعات من قصف مطار الشعيرات السوري، في 7 أبريل/نيسان 2017، مناسبة استثنائية لتبني خطاب المسؤولية الأخلاقية واستيقاظ همَّة الضمير الحي لوقف مسلسل إراقة الدماء، وهو خطاب جديد على تفكير ترامب الحريص على اتِّباع العقل وليس العاطفة في العلاقات الدولية. ويجد القارئ في ثنايا العبارة التالية وجهًا غير معهود في شخصية ترامب: "هذه الليلة، أدعو جميع الدول المتحضرة للانضمام إلينا في السعي لإنهاء المذابح وإراقة الدماء في سوريا، وكذلك لإنهاء الإرهاب بجميع أنواعه وجميع أصنافه. نطلب حكمة الله ونحن نواجه تحدي عالمنا المضطرب جدًّا. إننا نصلي من أجل حياة الجرحى وأرواح أولئك الذين قضوا. ونأمل أنه ما دامت أميركا تقف في صف العدالة، سيسود السلام والوئام في نهاية المطاف"(29).
والمفارقة أن سوريا هي ذاتها من تشرَّد نصف مواطنيها في الداخل والخارج ومصدر حركة اللاجئين الفارين من دوامة القتال وهم يكابدون رحلة الشتاء والصيف منذ ست سنوات. لكن ترامب لم يشأ أن تتَّسع رؤيته "الإنسانية" لتشمل تعديلًا في موقفه الرافض لاستقبال لاجئين سوريين في الولايات المتحدة، بل ظلت سوريا في مقدمة القائمة السوداء سواء في الصيغة الأولى أو الثانية لقراره الرئاسي بحظر دخول مواطني الدول الإسلامية إلى أميركا. ويبدو أنه يقتبس من كتاب الإنسانية بتحفظ شديد، ولا يقرب من استخدام لفظ "لاجئ" أو "مسؤولية الحماية" في إنقاذ المدنيين في مناطق الصراع على خلاف ما فعله رئيس وزراء كندا هذا العام (2017) ومستشارة ألمانيا خلال العام 2016 بفتح حدود بلديهما أمام اللاجئين الفارين من أتون الحرب السورية. بيد أن ترامب أشاد خلال قمة الرياض بالأردن وتركيا ولبنان لدورهم في استضافة اللاجئين، وقال: إن تدفُّق المهاجرين واللاجئين الذين يغادرون الشرق الأوسط يستنزف رأس المال البشري اللازم لبناء مجتمعات واقتصادات مستقرة.
يظل ترامب دوغماتي التفكير في منع السفر على مواطني ست دول عربية وإيران على أساس تصنيفها "دولًا هشة" أو "دولًا فاشلة". ويُعدُّ المهاجرون من سوريا في نظره بمثابة قنابل موقوتة ينبغي منعها من الوصول إلى الولايات المتحدة، وهم ضمن مربَّع الشبهة الأمنية والإقصاء الحضاري، وهم بمثابة فلول لتنظيم الدولة والقاعدة يسعون لقتل الأميركيين وتقويض دعائم الحضارة الغربية. لذلك لم يتخلَّ عمليًّا عن الصورة النمطية لعداء الإسلام والمسلمين للأميركيين وإنْ لم يعد يجاهر بها علنًا. وتبعًا لهذا التصنيف، تتعزَّز الصورة الذهنية لدى ترامب وجماعات اليمين المتطرف بأن الأميركيين العرب والمسلمين امتدادٌ لذلك "الآخر" الذي لا ينسجم دينيًّا وثقافيًّا وحضاريًّا مع قيم أميركا البيضاء. ويمكن اختزال فهم ترامب لما يحيط بأميركا من تهديدات في ثلاثة أمور:
- تهديد "الإسلام الراديكالي" الذي يُشكِّل تهديدًا "وجوديًّا وحضاريًّا" للولايات المتحدة ويجب "استئصاله".
- حديث ترامب عن الصفقات التجارية "غير العادلة" والممارسات التجارية لدى المنافسين الرئيسيين كتهديد خطير للاقتصاد الأميركي وبالتالي أولوية الأمن القومي.
- تشديد ترامب على مكافحة الهجرة غير الشرعية بذريعة أن وتيرة الهجرة وحجمها قد أفقدت المواطنين الأميركيين الوظائفَ، وخفَّضت الأجور، ووضعت ضغوطًا غير مستدامة على الإسكان والمدارس وفواتير الضرائب وظروف المعيشة العامة(30).
قبل استعراض الثلاثية الأخيرة، نتوقَّف أمام جدول يلخِّص أهم السرديات التي يعتمدها ترامب في خطابه بشأن بقية العالم العربي حسب تقديراته السلبية أو الإيجابية.
الجدول رقم (4) يوضح سرديات ترامب حول قضايا الشرق الأوسط والمغرب العربي
القضية |
سرديات ترامب |
نوع الخطاب |
الحرب الأهلية في اليمن |
|
تقييمي، تصحيحي. |
النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي |
|
براغماتي، استخلاصي، استشرافي. |
التحالف الأميركي-الإسرائيلي |
|
تأكيدي. |
الأزمة الليبية |
|
تأملي، براغماتي. |
جنوب السودان |
|
براغماتي، تقريري. |
تجربة الإصلاحات في تونس |
|
انطباعي. |
أوضاع الجزائر |
لا تعليق |
----- |
تطورات المغرب |
لا تعليق |
----- |
نزاع الصحراء الغربية |
لا تعليق |
----- |
الثلاثية الثالثة: القومية الاقتصادية وصراع الحضارات ونهاية الاستثناء الأميركي
تعكس هذه الثلاثية المرجعيات الفكرية والأيديولوجية التي تُغَذِّي الخطاب السياسي لدى ترامب في تقاطعاتها مع بعض منظِّري التيار المحافظ وتشابكها مع أجندة وغايات اليمين المتطرف ومستشاري ترامب في البيت الأبيض. ويرصد هذا الجزء من الدراسة الصورة الذهنية لأميركا عقب نهاية الحرب الباردة وماذا أضافه الاعتداد بسردية "الدولة الأقوى في العالم" بعد هزيمة الفكر الشيوعي وانحلال الإمبراطورية السوفيتية. ويمكن بذلك تركيب صورة الذات العربية عند ترامب من خلال تفسير خطابه من الخارج إلى الداخل، بعد أن استعرضنا تفكيكها في اتجاه معاكس أي من الداخل إلى الخارج.
1. بريق القومية الاقتصادية
أضفى ستيفان بانون على الإصلاحات الاقتصادية التي يسعى الرئيس ترامب إلى تطبيقها مصطلح "القومية الاقتصادية"، وهي صيغة مُبَسَّطَة تنادي برفع القيود المحلية على نطاق واسع، وتخفيض الضرائب على الشركات، والإنفاق على البنية التحتية والدفاع، وفرض الحواجز الحمائية العالية على استيراد السلع والخدمات وهجرة الأشخاص(31). ويستمد هذا المفهوم جذوره من الدعوة إلى تطبيق السياسة الحمائية والميركنتيلية التي استهدفت تحقيق التوازن الإيجابي في الميزان التجاري للولايات المتحدة في القرن التاسع عشر ضمن محاولة التصدي وقتها لنظرية "دعه يعمل، دعه يمر" التي نادى بها آدم سميث لتحرير التجارة. ولا يُخفي سميث انتقاده لضعف الرؤية لدى دعاة القومية الاقتصادية بقوله: "ليس هناك أي شيء أكثر عبثية في هذا المذهب برمته بشأن ميزان التجارة، الذي تقوم عليه ليس هذه القيود فحسب، ولكن تقريبًا جميع الأنظمة الأخرى للتجارة" كما جاء في كتابه الشهير "ثروة الأمم"(32).
يعتقد أنصار اليمين المحافظ أن سياسات ترامب ووضع المصالح الاقتصادية قبل السياسية حاليًّا هي طوق النجاة المناسب في ضوء ما تعانيه الطبقة المتوسطة (بالأحرى العاملة) من جرَّاء تبعات الأزمة المالية عام 2008، وإغلاق حول سبعة آلاف مصنع في الولايات المتحدة، وانتقال بعض هذه المصانع إلى دول أخرى حيث اليد العاملة أقل كلفة ضمن صيغة التعهيد (outsourcing). غير أن خطاب القومية الاقتصادية يظل إحدى أدوات الخطاب الأيديولوجي لدى ترامب وبانون نظرًا للمغالاة في ما يمكن تسميته انتقامًا من اقتصاديات الدول الأخرى التي إنْ ارتفعت تكلفة منتجاتها المستوردة إلى الولايات المتحدة بفرض تعريفات جمركية بعشرين أو خمسة وثلاثين في المئة، كما لوَّح ترامب بذلك في أكثر من مناسبة، فإن ارتفاع الأسعار سيؤثر سلبًا على القدرة الشرائية للأميركيين الذي تجمَّدت رواتبهم في مستواها منذ أكثر من خمسة عشر عامًا، ومن بينهم أنصار ترامب.
ويستند موقف ترامب من الدول العربية الثرية إلى محاولة فرض نسق براغماتي في مجالين:
- المقايضة النقدية والاستثمارات الخليجية في الولايات المتحدة والاستثمارات الأميركية (وحتى الشخصية له) في دبي وغيرها من إمارات الخليج.
- تجاهل احترام حقوق الإنسان والحريات الفردية المتصلة الذي تخصص له وزارة الخارجية الأميركية تقارير سنوية عن سجلات تلك الدول وغيرها في انتهاكات حقوق الإنسان والحريات الدينية والاتجار بالبشر؛ فقد أبلغت حكومة ترامب أعضاء الكونغرس في أواخر مارس/آذار 2017 بضرورة الموافقة على صفقة بيع تسع عشرة طائرة مقاتلة من طراز إف-16 التي تصنعها شركة لوكهيد مارتن إلى البحرين، وإلغاء الشروط التي فرضتها حكومة أوباما على الصفقة بشأن ممارسات البحرين في مجال حقوق الإنسان وتعامل الحكومة مع الناشطين الشيعة. ويعتقد ترامب أنه ينبغي أن تكون الولايات المتحدة على استعداد لإبرام الصفقات مع أي من الدول التي تتقاسم المصالح الأميركية "بغضِّ النظر عن كيفية التعامل مع تلك العلاقة وبغض النظر عما إذا كانت تشارك أو تتصرف وفقًا للقيم الأميركية"(33).
2. فرضية صراع الحضارات
تستمدُّ الصورة العربية في خطاب ترامب روافدها من نزاع الهويات ورفض المهاجرين واللاجئين الذي يُصعِّده مناصرو اليمين المحافظ تحت لواء القومية البيضاء المتنامية في بعدها الاجتماعي والثقافي بين فئات "الواسب" خاصة في ولايات العمق الأميركي. ويمكن تعقب جذور هذا النزاع الهوياتي إلى ردِّ الفعل على هجمات سبتمبر/أيلول 2011 والمغالاة في التحذير من "الإرهاب الإسلامي الراديكالي" ومن "سُوق التَّمَثُّلات عن إسلام متجانس يقوم انتشاره على الغضب والتهديد والتآمر، وهي سوق أكبر وأكثر إفادة وقدرة على توليد مزيد من الإثارة"(34) كما لاحظ إدوارد سعيد.
وتتشبَّع هذه الرؤية فكريًّا بأطروحتين رئيسيتين في كتابات صمويل هنتنغتون بين نهاية قرن وبداية آخر. وثمة تقاطعات مثيرة بين أطروحات هنتنغتون وسياسات ترامب، وليس من قبيل الصدف أن تتقوَّى السرديتان الرئيسيتان في خطاب ترامب:
- سردية العداء للمسلمين والعرب بذريعة "أنهم يكرهوننا". فقد جادل ستيفان بانون في خطاب ألقاه في الفاتيكان عام 2014 بأن "الغرب اليهودي المسيحي كان تحت ضغط من قبل ثلاث قوى: رأسمالية السوق (التي كانت جوفاء من أي غاية وطنية أو أخلاقية على خلاف التعديلات السابقة للرأسمالية)، والعلمانية، والفاشية الإسلامية التي تشنُّ حربًا عالمية ضد الغرب"(35). وتجد هذه السردية تبريرًا جاهزًا في كتاب "صراع الحضارات" الصادر عام 1996. وبفضل سياسات ترامب اليوم، يتبنَّى الكثيرون من الأميركيين فرضية "الصراعات الحضارية" في ذروة التهديدات الأمنية والتفجيرات المتلاحقة. وقد أشار هنتنغتون إلى "الحدود الدموية" بين الحضارات الإسلامية وغير الإسلامية. وكتب وقتها يقول: "هذه ليست الدعوة إلى الرغبة في الصراعات بين الحضارات، بل تقديم فرضية وصفية إلى ما قد يكون عليه المستقبل".
- سردية رفض المهاجرين وخاصة اللاتين من المكسيك باعتبارهم "مجرمين ومغتصبي نساء" مع التشديد على فحوى الانشطارية بين الـ"نحن" والـ"هم" ضمن خطاب الهيسبنافوبيا الذي ينطلق أيضًا من الخلفية الفكرية لهنتنغتون في كتاب بعنوان "من نحن؟ تحديات الهوية الوطنية الأميركية" نشره عام 2004. فحاول هنتنغتون ضرب ناقوس الخطر من أجل تبنِّي سياسة حاسمة في سياق الأمن القومي وتركيبة الأميركيين بين الـ"نحن" (الأغلبية البيضاء) والـ"هم" (سائر الأقليات العِرقية والدينية المتنامية في الولايات المتحدة). وتبعًا لفرضية "الفكر أسبق من الواقع"، تتحوَّل تصورات هنتنغتون المثيرة للجدل إلى رافد فكري لتعزيز البيان الأيديولوجي لمشروع اليمين البديل، وهي عبارة منمقة لليمين المتطرف والحمولة الأيديولوجية في خطاب ترامب بإيعاز من بانون.
3. نهاية الاستثناء الأميركي
يحاول ترامب صيانة خطابه الرئيسي الذي وعد باستعادة "عظمة أميركا من جديد". لكن الشعور بنوستالجيا أميركا العظيمة ليست بالضرورة كما يفهمها أغلب الأميركيين الذين يعتزون بأن ديمقراطيتهم لا تشبه أنظمة بقية دول العالم، وأنها أرست قواعد الحريات الفردية ونشرتها في العالم كنتاج فكري وسياسي وحضاري لصيرورة الليبرالية الديمقراطية. ويتمسَّكون بالرؤية الاستشرافية للمُؤَسِّسِين الأوائل الذين صاغوا الدستور من خلال تأملاتهم في الدروس والعبر التاريخية من خطايا الأنظمة الملكية والإمبراطورية في أوروبا في القرن الثامن عشر. وكان توماس جيفرسون وجورج واشنطن يتناقشان في البيت الأبيض بشأن مستقبل ما سمياه آنذاك: "إمبراطورية الحرية".
غير أن استعادة عظمة أميركا على الطريقة الترامبية تقوم على الانعزالية وعدم التدخل في مشاكل الدول الأخرى، أو المساهمة في بناء الدول الفاشلة، أو تشجيع الإصلاحات الديمقراطية وحقوق الإنسان والأفكار التنويرية الأخرى لتحقيق التغيير الإيجابي في العالم. وفي مارس/آذار 2017، طلب ترامب من الكونغرس إلغاء 10.9 مليارات دولار من ميزانية وزارة الخارجية خاصة من تمويل البرامج الدولية فيما يسعى لتعزيز ميزانية وزارة الدفاع بأربعة وخمسين مليار دولار إضافية بحلول أكتوبر/تشرين الأول 2017.
وكان ترامب قال في خطاب التنصيب: "نحن لا نسعى لفرض أسلوبنا في الحياة على أي شخص، ولكن بدلًا من ذلك دعوه يتألق كمثال قائم بذاته. ونحن سنلمع أمام الجميع حتى يتبعونا في أسلوبنا"، وهو بذلك يقترب من أفكار أندرو جاكسو، سابع رؤساء أميركا بين عامي 1829 و1837. وهو اليوم يحتفظ بصورته على الجدار على مقربة منه في المكتب البيضاوي.
ويعتبر ترامب الاستثناء الأميركي ليس بوصفه وظيفة مستمدَّة من النداء العالمي للأفكار الأميركية، أو حتى من وظيفة أميركية فريدة لتغيير العالم، بل هو متجذِّر في التزام البلاد بالمساواة وكرامة المواطن الأميركي. ويكمن دور الحكومة في نظرهم في ضمان مصير البلاد من خلال حماية الأمن المادي والرفاه الاقتصادي للشعب الأميركي داخل وطنهم القومي. وخلال القيام بذلك لا تتدخل الحكومة إلا بأقل قدر ممكن في الحرية الفردية التي تجعل الولايات المتحدة بلدًا فريدًا من نوعه(36)، كما يقول والتر راسيل ميد.
الجدول رقم (5) يبرز سرديات ترامب حول العلاقات الدولية وقيادة أميركا
القضية |
سرديات ترامب |
نوع الخطاب |
وضع العلاقات الدولية |
|
نقدي |
حلف شمال الأطلسي |
|
تركيبي، تصحيحي |
الوضع الراهن للولايات المتحدة |
|
ذرائعي، تأكيدي |
النظام السياسي الأميركي |
|
ذرائعي، تقييمي، تصحيحي |
تطوير القدرات العسكرية الأميركية |
|
انطباعي، ادِّعائي |
التزامات الرئيس |
|
تأكيدي، تحفيزي |
خلاصة
بين تركيب عناصر الخطاب الترامبي وتفكيكه، يمكن استخلاص الركائز الرئيسية التي تُشكِّل بنية خطاب ترامب إزاء الدول العربية، ويمكن الإشارة هنا إلى أهم ثلاث منها:
- اعتماد معادلة العائد المادي وبراغماتية نظرية القيمة في دبلوماسية العلاقات الثنائية خاصة مع العواصم الخليجية.
- عدم الاكتراث بالمنظومة القِيَمِيَة أو سياسة المبادئ في تدبير العلاقات العربية-الأميركية، ومرونة تغيير الخطاب الرسمي للبيت الأبيض وتقلُّب مواقف ترامب من القضايا والنزاعات العربية بين وقت وآخر.
- تغليب النسق الأمني والاستخباراتي ودواعي حماية الأمن القومي الأميركي على حساب خطاب الإرث التاريخي أو الدبلوماسي في العلاقات العربية-الأميركية(37).
يسعى ترامب للتحلُّل من مختلف القواعد القانونية والضوابط الأخلاقية في العمل السياسي بذريعة حماية الأمن القومي، و"استعادة عظمة أميركا"، وإنعاش الاقتصاد بمشاريع إصلاح البنية الأساسية وإيجاد 25 مليون فرصة عمل جديدة. وهو بذلك يُشكِّل تكريسًا لميكيافيلية جديدة تستغل ذريعة "الغاية تبرر الوسيلة" إلى حدود ربما أبعد مما ذهبت إليه أطروحة كتاب "الأمير". فهو لا يتردَّد في تصوير العلاقات الدولية باعتبارها معادلة حسابية يريد أن يكون الطرف الرابح فيها دومًا تمشيًا مع نجاحه "القياسي" المزعوم في إبرام الصفقات، ودون اكتراث بمصالح الشعوب والحكومات الأخرى ضمن نسق جديد يسعى لفرض قوة ومصلحة أميركا مجددًا في بلورة العلاقات الدولية.
وسواء تأملنا قرارات الرئيس ترامب أو خطب المرشح ترامب، يتبيَّن أن فلسفته في "استعادة عظمة أميركا" لا تستند إلى استراتيجية محددة تتأتَّى من تحليل المشاكل وتوصيف الحلول أو من خطة محبوكة بمهنية السياسيين وخبراء التخطيط الاقتصادي، بل هي في مجملها شعارات فضفاضة وقرارات مرتجلة تستمد "نجاعتها" من المناداة بالانعزالية والحمائية وتضخيم تهديدات الأمن القومي الأميركي في الشرق الأوسط. وكما يلاحظ والي نصر، فإن "الفراغ في الزعامة الأميركية يؤدي إلى تآكل التحالفات القائمة منذ أمد طويل وتشديد المنافسين على إعادة تشكيل النظام الدولي. ولا يتجلى هذا الاتجاه أكثر مما هي عليه الحال في الشرق الأوسط"(38).
____________________________________
د.محمد الشرقاوي، أستاذ تسوية النزاعات الدولية في جامعة جورج ميسين وزميل في مركز تحليل السرديات وتسوية النزاعات، واشنطن.
1- El-Tablawy, T., Khraiche, D., and Feteh, A, “Trump’s Cozy Relationship with Arab Leaders Has Plenty of Skeptics”, Bloomberg Politics, 22 May 2017.
2- van Dijk, Teun. A, Discourse and Context: A Socio-cognitive Approach, (Cambridge University Press, 2008), p. 4
3- The White House, “President Trump’s Speech to the Arab Islamic American Summit”, 21 May 2017.
4- Harriet, Alexander, “Donald Trump and Barack Obama on the Arab world - how do they differ?” The Telegraph, 21 May 2017.
http://www.telegraph.co.uk/news/2017/05/21/donald-trump-barack-obama-arab-world-do-differ/
6- Own, Daniels, “If Trump wants real success in the Middle East, rhetoric must match reality”, The Hill, 24 May 2017.
7- van Dijk, Teun. A, “Introduction: The Role of Discourse Analysis in Society”, Handbook of Discourse Analysis, Academic Press London, Vol. 4, 1985, p. 2
8- van Dijk, Teun. A, “Discourse, Power and Access”, in Texts and Practices, edited by Carmen Rosa Caldas-Coulthard and Malcolm Coulthard, (Routledge, 1996), p. 85-86
9- بورديو، بيير، الرمز والسلطة، ترجمة عبد السلام بن عبد العالي، (دار توبقال للنشر، المغرب)، ص 48.
10- Fairclough, Norman, “Technologisation of Discourse”, in Texts and Practices, edited by Carmen Rosa Caldas-Coulthard and Malcolm (Coulthard, Routledge, 1996), p.73
11- Hay, C, Political analysis: A critical introduction, (Palgrave, Basingstoke, 2002), p. 211
12- Fairhurst, Gail and Grant, David, “The Social Construction of Leadership: A Sailing Guide”, Management Communication Quarterly. 24 (2), p. 171-21
13- Trump, Donald, “Full text: Donald Trump 2016 RNC draft speech transcript”, POLITICO, 21 July 2016, (Visited on 22 July 2016):
14- Wodak, Ruth and Meyer, Michael, (Eds.). Methods of Critical Discourse Analysis, (Sage Publications, 2001), p. 11.
15- Wright, Thomas, “Trump’s Jekyll and Hyde Foreign Policy”, Politico, 13 March 2017.
http://www.politico.com/magazine/story/2017/03/trumps-jekyll-and-hyde-foreign-policy-214903
16- Said, Edward, Covering Islam: How the Media and the Experts Determine How to See the Rest of the World, (Vintage Books, Random House, First edition 1981), p. 26.
17- Edelman, Eric S. and McNamara, Whitney. M, “Contain, Degrade, and Defeat: A Defense Strategy for a Troubled Middle East,” The Center for Strategic and Budgetary Assessments, 2017.
18- The White House, “President Trump’s Speech to the Arab Islamic American Summit”, op, cit.
20- Kahl, Colin, Brands, Hal, “Trump’s Grand Strategic Train Wreck”, Foreign Policy, 31 January 2017.
HTTP://FOREIGNPOLICY.COM/2017/01/31/TRUMPS-GRAND-STRATEGIC-TRAIN-WRECK/
21- Trump, Donald, “Full text: Donald Trump 2016 RNC draft speech transcript”, op, cit.
22- Rogin, Josh, “Trump resets U.S.-Saudi relations, in Saudi Arabia’s favor”, The Washington Post, 16 March 2017. https://www.washingtonpost.com/news/josh-rogin/wp/2017/03/16/trump-resets-u-s-saudi-relations-in-saudi-arabias-favor/?utm_term=.ecdb2ac579e6
23- The White House, “President Trump’s Speech to the Arab Islamic American Summit”, op, cit.
24- Rogin, “Trump resets U.S.-Saudi relations, in Saudi Arabia’s favor”, op, cit.
26- Trump, Donald, “Trump’s Foreign Policy Speech”, The New York Times, 27 April 2016, (Visited on 3 May 2016): http://www.nytimes.com/2016/04/28/us/politics/transcript-trump-foreign-policy.html
27- Bentham, Jeremy, A Fragment on Government, (London, Preface, 1776). (2nd para).
28- Baker, Peter and Walsh, Declan, “Trump Shifts Course on Egypt, Praising Its Authoritarian Leader”, The New York Times, 3 April 2017.
https://www.nytimes.com/2017/04/03/world/middleeast/-egypt-sisi-trump-white-house.html
29- The White House, “President Trump’s Speech to the Arab Islamic American Summit”, op, cit.
30- Kahl, Brands, “Trump’s Grand Strategic Train Wreck”, op, cit.
31- Drezner , Daniel. W, “Who benefits from Bannon’s economic nationalism?”, The Washington Post, 7 February 2017.
32- Anderson, Stuart, “Economists Say 'Economic Nationalism' Is Economic Nonsense”, Forbes, 27 February 2017.
33- Kahl, Brands, “Trump’s Grand Strategic Train Wreck”, op, cit.
34- Said, Covering Islam: How the Media and the Experts Determine How to See the Rest of the World, p. xxviii
35- Wright, Thomas, “Trump’s Jekyll and Hyde Foreign Policy”, Politico, 13 March 2017
http://www.politico.com/magazine/story/2017/03/trumps-jekyll-and-hyde-foreign-policy-214903
36- Russell Mead, Walter, “The Jacksonian Revolt: American Populism and the Liberal Order”, Foreign Affairs, March/April 2017.
37- يمكن الاطلاع على بقية ركائز خطاب ترامب ضمن دراسة نشرها الباحث بعنوان "حصيلة مئة يوم: براغماتية ترامب في مواجهة كوابح داخلية وخارجية"، مركز الجزيرة للدراسات، (3 مايو/أيار 2017):
http://studies.aljazeera.net/ar/reports/2017/05/170503083919438.html
38- Nasr, V. (2016) “Trump’s Big Test in the Middle East,” The Atlantic, 25 November 2016.