مقدمة
أفرزت مرحلة ما بعد الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني عام 2011 في مصر مناخًا سياسيًّا أتاح قدرًا كبيرًا من الحرية، خاصة فيما يتعلق بتشكيل الأحزاب السياسية، مما كان له أثر في ظهور العديد من الأحزاب بتوجهاتها المختلفة، ولا شك في أن لوسائل الإعلام دورًا مهمًّا في تشكيل اتجاهات الجمهور المصري نحو تكوين صورة ذهنية حول هذه الأحزاب بما ينعكس على دورها وتأثيرها وقوتها في الشارع المصري، خاصة وأنه كان من المتوقع أن يصبح لهذه الأحزاب دور أساسي في رسم ملامح المستقبل السياسي في مصر خلال الفترة القادمة.
وتحاول هذه الدراسة(*) التي أعدها الباحث سالم المحروقي، بعنوان "دور وسائل الإعلام في تشكيل اتجاهات الجمهور المصري نحو الأحزاب السياسية بعد 25 يناير/كانون الثاني 2011"، التعرفَ على تأثير المحتوى الإعلامي على معارف واتجاهات الرأي العام المصري نحو الأحزاب السياسية؛ لاسيما أن بروز القضايا في وسائل الإعلام يؤدي إلى بروز أهميتها بالنسبة للجماهير(1).
اتجاهات الإعلام: الدور السياسي والأداء المهني
أكد العديد من الدراسات أن دور وسائل الإعلام في توجيه الجمهور لقضايا بعينها يحقق قدرًا من الإجماع حول أولويات القضايا في المجتمع، ويُعدُّ هذا من أبرز الوظائف التي تناقشها وسائل الإعلام بالمجتمع(2). وكانت المشاركة السياسية قبل ثورة 25 يناير منخفضة إلى حد كبير في مرحلة اتسمت بالجمود السياسي في أغلب سنواتها نتيجة عدم الاطمئنان لسلامة العملية السياسية من قبل البعض، وتوجس آخرين من عقبات هذه المشاركة، وعدم اهتمام قطاع عريض من المجتمع بالعملية السياسية من أساسه، خاصة فيما يتعلق بالانضمام للأحزاب السياسية، حيث إنه لم تكن هناك حياة سياسية حقيقية. ولم يشهد النظام السياسي المصري منذ بداية التعددية الحزبية عام 1976 وحتى قيام ثورة 25 يناير تبادل المواقع بين الحكومة والمعارضة وظلت سلطة الدولة خارج التنافس الحزبي، أي تم احتكارها بواسطة حزب واحد(3).
ولكن الأمر اختلف بعد 25 يناير، حيث ارتفعت نسبة المشاركة بشكل ملحوظ، وتعدت نسبة الذين شاركوا في أول انتخابات برلمانية عام 2011 نحو 60%، كما وصل عدد الأحزاب السياسية إلى نحو 60 حزبًا بمختلف توجهاتها، وكان هناك ترقب في المجتمع لأداء هذه الأحزاب، لكن سياسات ما بعد أحداث 30 يونيو/حزيران 2013 -وبعد عزل أول رئيس منتخب بعد 25 يناير، محمد مرسي، في ما يعده البعض "انقلابًا عسكريًّا" وتعتبره قطاعات أخرى من المصريين استجابة من الجيش لرغبة شعبية بإزاحة جماعة الإخوان المسلمين عن السلطة- أدت إلى تراجع شديد في عدد المهتمين بالشأن العام في مصر،كما شهدت الحالة الحزبية في مصر تراجعًا شديدًا، علاوة على التضييق على نشاط المجتمع المدني، ما أدى في الأخير إلى تراجع قدرة الأحزاب على التأثير السياسي.
ولعب الإعلام على الدوام دورًا مهمًّا في مصر، وطرأت عليه تغييرات مهمة خلال العقدين الماضيين، بلغت ذروتها في دخول شبكات التواصل الاجتماعي التي استخدمتها القوى الثورية بصورة استراتيجية لدعم قضيتها وإسقاط النظام. لم تكن شبكة الإنترنت سبب الثورة، لكنها كانت بمثابة محفِّز لها وساعدت في تسهيل الأمور وتنظيمها وتسريعها. فقد لعبت شبكة الإنترنت، وشبكات التواصل الاجتماعي على وجه الخصوص، دورًا مهمًّا في إعداد قطاعات معينة من المجتمع لهذه اللحظة وتنظيمها ومساعدتها على التعبئة عندما حانت اللحظة المناسبة.
وشكَّلت لحظة رحيل الرئيس الأسبق، حسني مبارك، نقطة فارقة في مسيرة الإعلام المصري الذي وجد نفسه فجأة متحررًا من كل القيود الأمنية والإدارية التي كانت تحكمه طوال عقود، وشهدت هذه الفترة ظهور عشرات القنوات الفضائية والصحف الخاصة، وكانت التغيرات التي واجهت وسائل الإعلام سريعة ومتلاحقة؛ حيث حاولت وسائل الإعلام الحكومية معرفة توجهات رؤسائها الجدد، أما وسائل الإعلام الخاصة، فكانت تحاول كسب ثقة الناس، وفي الوقت نفسه المحافظة على مصالح أصحابها، الذين كان معظمهم متحالفين بشكل وثيق مع النظام القديم.
ودخل المشهد الإعلامي في مصر مرحلة جديدة بالغة الخطورة بعد الثلاثين من يونيو/حزيران 2013 وما أعقب ذلك من عزل الرئيس محمد مرسي، فمنذ ذلك التاريخ تحول الإعلام بشكل واضح إلى أداة صريحة في الصراع السياسي بين السلطة الانتقالية الجديدة وبين الإخوان المسلمين وأنصارهم. ورغم أن خريطة المستقبل التي أعلنها الجيش تضمنت بندًا عن وضع ميثاق شرف إعلامي إلا أن أحدًا لم يعد يتذكر ذلك؛ إذ تحول عقب ذلك كثير من المواد والبرامج التي تُقدَّم عبر الإعلام إلى برامج لحملات كراهية وتحريض تتنافى مع أي مواثيق أو معايير مهنية ما أظهر "فشل معظم الإعلاميين في الحفاظ ولو على حد معقول من الاستقلال المهني والسياسي خلال أداء مهمتهم"(4).
كما رصد البعض تراجع القواعد المهنية مقارنة بفترة مابعد 25 يناير بحيث تحولت معظم وسائل الإعلام لمنصات للقصف السياسي والاستقطاب المجتمعي، وتحولت معظم وسائل الإعلام لأدوات للحشد والتعبئة في اتجاه واحد، وترافق ذلك مع ترويج الشائعات وانتشار العنف اللفظي الذي وصل لحد الشتائم الصريحة.
تأثير وسائل الإعلام في الرأي العام المصري
لقياس تأثير المحتوى الإعلامي على معارف واتجاهات الرأي العام المصري نحو الأحزاب السياسية؛ قام الباحث باختيار وحدات عينة الدراسة بطريقة عمدية طبقية تتكون من 500 مفردة تمثل جميع فئات الشعب المصري ممن يتعرضون لهذه الوسائل الإعلامية، وتم تقسيم العينة وفقًا للمستويات الاجتماعية والاقتصادية المختلفة، والنوع (ذكور، إناث) والمستويات التعليمية الجامعية فما هو أعلى من التعليم الجامعي؛ حيث من المفترض أن هؤلاء المبحوثين هم الأكثر تعرضًا وتفاعلًا مع كل ما يخص الأحزاب السياسية، مع مراعاة المناطق الجغرافية المختلفة (ريف، حضر). وهدفت الدراسة إلى استقصاء مدى تأثر الجمهور بما تقدمه وسائل الإعلام المصرية من معالجات حول الأحزاب السياسية بعد 25 يناير وذلك في ضوء نظرية الاعتماد على وسائل الإعلام من خلال تطبيق فروضها لفهم العلاقة بين الإعلام والجمهور، ودور وسائل الإعلام في تشكيل اتجاهات الجمهور المصري نحو الأحزاب السياسية.
ومن أهم النتائج التي خلصت إليها الدراسة:
- استخدمت النسبة الأكبر من عينة الدراسة القنوات التليفزيونية الخاصة لمتابعة الأخبار السياسية، تليها القنوات التليفزيونية الرسمية، ثم المواقع الإلكترونية ومنصات التواصل الاجتماعي، ثم الصحف المطبوعة الخاصة، تليها الإذاعات الرسمية، ثم الإذاعات الخاصة، وأخيرًا، الصحف المطبوعة الحكومية.
- 41.6% من المبحوثين يعتمدون بدرجة كبيرة على وسائل إعلام غير مصرية لبناء معرفة سياسية عن الأحزاب المصرية، ويعتمد عليها 28.8% "إلى حد ما"، فيما ذكر 29.6% من المبحوثين أنهم لا يعتمدون على وسائل إعلام غير مصرية.
- 60.8% من المبحوثين لا يصدقون ما تقوله وسائل الإعلام المصرية عن الأحزاب السياسية في حقبة ما قبل 25 يناير، و26.8% يصدقونها إلى حد ما، وأخيرًا جاءت نسبة 12.4% من المبحوثين يصدقون بدرجة كبيرة.
- 49.6% من المبحوثين يصدقون بدرجة كبيرة ما تقوله وسائل الإعلام المصرية عن الأحزاب السياسية في حقبة ما بعد 25 يناير وحتى 30 يونيو، يليها الذين لا يصدقون بنسبة 28%، ثم جاء "ما يصدقون إلى حد ما" بنسبة 22.4%.
- غالبية المبحوثين، بنسبة 62%، لا يصدقون ما تقوله وسائل الإعلام المصرية عن الأحزاب السياسية في حقبة ما بعد 30 يونيو/حزيران 2013 وحتى الآن، فيما قالت نسبة 20% إنهم يصدقون إلى حد ما، وأخيرًا، جاء الذين لا يصدقون بنسبة 18%.
- وفيما يتعلق بتقييم المبحوثين للأداء السياسي للأحزاب السياسية المصرية قبل 25 يناير؛ جاء "أداء ضعيف" في المرتبة الأولى بـ46%، وفى المرتبة الثانية "أداء ضعيف جدًّا" بنسبة 34.4%، ثم "أداء متوسط" في المرتبة الثالثة بـ15.2%، وأخيرًا، جاء "أداء جيد" بنسبة ضعيفة 4.4%.
- وفيما يتعلق بتقييم المبحوثين للأداء السياسي للأحزاب السياسية المصرية بعد 25 يناير وحتى 30 يونيو 2013؛ جاء "الأداء جيد" في المقدمة بنسبة 36.8%، يليه "الأداء متوسط" في المرتبة الثانية بنسبة 30.4%، ثم في المرتبة الثالثة "الأداء ضعيف" بـ19.6%، يليه أداء "ضعيف جدًّا" بنسبة 10.8%، وأخيرًا، "أداء جيد جدًّا" بنسبة "ضعيفة جدًّا" 2.4%.
- أما تقييم المبحوثين للأداء السياسي للأحزاب السياسية المصرية بعد 30 يونيو وحتى الآن؛ فجاء "الأداء ضعيف" في المقدمة بنسبة 44.4%، يليه "أداء ضعيف جدًّا" في المرتبة الثانية بنسبة 38.4%، يليه "أداء متوسط" بنسبة 12.8%، ثم جاء "الأداء جيد" في المرتبة الأخيرة بنسبة 4.4%.
- 42.4% من المبحوثين يرون الحياة الحزبية في مصر قبل 25 يناير ضعيفة، فيما يرى 28.4% أنه لا توجد حياة حزبية بالأساس، و23.2% يرون الحياة الحزبية غير مؤثرة، فيما يرى 9.2% من المبحوثين أنها كانت حياة حزبية متعددة.
- 45.6% من المبحوثين يرون الحياة الحزبية في مصر في الفترة من 25 يناير حتى 30 يونيو متعددة، تليها حياة حزبية غير مؤثرة بنسبة 24.4%، ثم حياة حزبية ضعيفة بنسبة 21.2%، فيما يرى 8.8% من المبحوثين أنه لا توجد حياة حزبية.
- كشفت الدراسة أن 39.2%من المبحوثين وصفوا الحياة الحزبية في مصر حاليًّا بأنها حياة حزبية ضعيفة، فيما يرى 28.4% من المبحوثين أنه لا توجد حياة حزبية بالأساس، ثم جاءت في المرتبة الثالثة حياة حزبية غير مؤثرة بنسبة 23.2%، وأخيرًا، جاءت حياة حزبية متعددة بنسبة ضعيفة بلغت 9.2%.
- جاءت توقعات المبحوثين لمستقبل الحياة الحزبية في مصر بأنها تتدهور بنسبة 50.8%، فيما يرى 20.8% من المبحوثين أنه لا توجد حياة حزبية بالأساس، ثم جاءت أنها ثابتة بنسبة 16.4%، وأخيرًا، تتطور بنسبة 12%.
_________________________________
سالم المحروقي، إعلامي وباحث في علوم الإعلام والاتصال
(*) تُعدُّ الدراسة في أصلها رسالة ماجستير بعنوان "دور وسائل الإعلام في تشكيل اتجاهات الجمهور المصري نحو الأحزاب السياسية بعد 25 يناير/كانون الثاني 2011"، كان الباحث سالم المحروقي ناقشها في "الأكاديمية العربية بالدنمارك"، يوم 31 أكتوبر/تشرين الأول 2017.
1- عبد المجيد، محمد، نظريات الإعلام واتجاهات التأثير، (عالم الكتب، القاهرة، 1997)، ط 1، ص 273.
2. صلاح الدين حسن، خالد، دور التليفزيون والصحافة في توجيه ترتيب اهتمامات الجمهور نحو القضايا العامة في مصر: دراسة تحليلية وميدانية، رسالة ماجستير غير منشورة (جامعة القاهرة، كلية الإعلام، 1997).
3. عبد الله هيكل، أحمد، المشاركة السياسية في مصر، (محرر) التحولات الديمقراطية في الوطن العربي، (مركز البحوث والدراسات السياسية، جامعة القاهرة، 1993)، ص 298.
4. رمزي، سمير، "حالة الأحزاب السياسية بعد 30 يونيو 2013"، مركز البديل للتخطيط والدراسات الاستراتيجية، 30 يونيو/حزيران 2017.
https://elbadil-pss.org/2017/06/30/حالة-الأحزاب-السياسية-في-فترة-السيسي/