شهدت ميادين العالم العربي منذ نهايات العام 2010 إلى منتصف العام 2018 سلسة من الاحتجاجات متباينة الشدة، وضعت المُراقبَ أمام مشهد مرَّ بثلاث مراحل؛ أولها الثورات العربية ذات الطابع السياسي المطالبةِ بتغيير جذري يبدأ بإزالة الأنظمة الحاكمة، كما حصل في تونس ومصر وليبيا واليمن وبداية الثورة السورية، تلتها مرحلة من الذهول والترقب لما جرى من انقلاب على ما تحقق للثورات من نتائج، وإراقة غير مسبوقة للدماء في سوريا وليبيا واليمن، ونشهد حاليًّا مرحلة ثالثة من الاحتجاجات ذات الطابع الاقتصادي والمعيشي، ظهرت على شكل مقاطعة للبضائع وإضرابات عن العمل واعتصامات شعبية، في الأردن والمغرب وغيرها من الدول العربية كمصر وموريتانيا والجزائر وتونس.
استخدم المحتجون منصات التواصل الاجتماعي، وما فيها من ميزات للتعبير عن آرائهم ومواقفهم بمشاركة واسعة من الجمهور، وهو ما يكشف تحوُّلًا في السلوك الاحتجاجي الذي رافق حركة التغيير التي بدأت مع الربيع العربي، وفي الفعل السياسي وآلياته أيضًا، وسعيًا لفهم معمق لهذه للاحتجاجات الرقمية باعتبارها شكلًا من أشكال النشاط الرقمي السلمي باستخدام مواقع التواصل الاجتماعي كالفيسبوك والتويتر من أجل معارضة الحكومة واستنكار ورفض قراراتها، أو لدعم قضية عامة تشغل المواطنين، ودفع الحكومة للاستجابة لمطالبهم، مستفيدين فيها من خصائص هذه الوسائل في نقل المعلومات، والتشبيك، والسرعة والانتشار؛ تم التركيز على دراسة الاحتجاجات التي حصلت في الأردن منذ منتصف العام 2018، واستُخدم المنهج الظاهراتي -وهو منهج كيفي يسعى لفهم الظاهرة من خلال خبرة المشاركين الغنية فيها- وأدوات متنوعة كالحلقة النقاشية والمقابلات وتحليل المضمون، وخرجت الدراسة بمجموعة من النتائج حول سياقات ظهور الاحتجاجات الرقمية ودينامياتها، ودور الاتصال في تشكيل هذه الحركات الاحتجاجية الشبكية، والأشكال التعبيرية للحركات الاحتجاجية والقيم والمعاني التي تنتجها، وتحول الوعي والعمل السياسي وآلياته، وعلاقات الحركات الاحتجاجية بالمؤسسات الرسمية والسلطة، وآفاق هذه الحركات.
ومن أهم ما خلصت إليه الدراسة:
- تنتقل عدوى الوعي والحراك بين الدول العربية عبر مواقع التواصل الاجتماعي، لما يجمعها من ظروف سياسية واقتصادية متشابهة إلى حد كبير، فعندما تحدث الشباب الأردني عن همومهم الوطنية، لم يتمكنوا من فصلها عن الحالة العربية العامة، وكيف ساهمت الثورات العربية في تشكيل وعيهم السياسي تجاه القضايا العربية والمحلية.
- ساهمت الثورات العربية ونقل أحداثها أولًا بأول من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، إلى جانب نشأة جيل الشباب الحالي في بيئة رقمية في ارتفاع منسوب الوعي السياسي لدى الشعوب العربية وتطوير آليات العمل السياسي بشكل ملحوظ.
- لجأ المحتجون لمواقع التواصل الاجتماعي لأسباب تتعلق بغياب المجالات العامة التي يستطيعون فيها ممارسة حقهم في النقاش حول قضاياهم وهمومهم، وبسبب غياب الإعلام الحر، وميل الموجود لخدمة مصالح السلطة، ولما تتمتع به مواقع التواصل من مزايا وخصائص جعلتها.
- ينشط المحتجون الرقميون عبر مواقع التواصل لدوافع ذاتية تتعلق بالقلق من المستقبل وحب البلد، والشعور التكافلي مع الطبقات المسحوقة، ورغبة في المساهمة بصنع القرار، ودافع موضوعية تتمثل بنمط الحكم الاستبدادي، وانتشار الفساد بكافة أشكاله، ومعاناة الناس من ظروف معيشية صعبة كالفقر والبطالة والغلاء الفاحش، وانكماش الطبقة الوسطى.
- يستخدم الناس مواقع التواصل الاجتماعي لمختلف أشكال الاحتجاجات، منها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والديني، وإن كان يغلب عليها الطابع السياسي أكثر من غيرها. كما تختلف مآلات الاحتجاجات، فمنها ما حقق نجاحًا ومنها ما بقي "مجرد صيحات في واد وهوامش على متن الفعل السياسي".
- يستخدم المحتجون الرقميون وسائل رقمية متنوعة لنقل المعلومات كالنصوص المكتوبة أو المصورة، والصور، والأفلام، والروابط، والرسوم التعبيرية؛ تتضمن رسائل ذات مضامين متنوعة؛ ساخرة وعلمية، وتشبيكية، استطلاعية، وتنظيمية، وتوعوية، وتحفيزية، وتحفيزية، وتسريبات إعلامية.
- تخضع الاحتجاجات الرقمية لآلية عمل تميزها عن غيرها، وتعتبر بمثابة اجتماع دائم وجدول أعمال غير منته، تبدأ بالتدفق المستمر للمعلومات، وتمر بسلسلة تطورات حتى يتقرر مصيرها.
- أنتجت الاحتجاجات الرقمية مجموعة من المعاني والقيم، نتيجة كسرها لحاجز الصمت، فظهرت قيم الجرأة في قول الحق، والثقة بالنفس المرتبطة بالقدرة على الفعل والتغيير، وتعزيز روح الانتماء، والإحساس بالمسؤولية، والفخر، والدقة والضبط، والشعور الجمعي، والاستقلالية والتحرر من وصاية الكبار.
- لمواقع التواصل سلبيات تتعلق بالخوف من الاعتماد عليها في التعبير والاحتجاج، واتخاذها وسيلة للشهرة والإشباع النفسي الوهمي، وعدم وضوحها وعدم ضمان حياديتها، كما عززت أجواء الخلاف في بعض القضايا وأظهرت سوءات المجتمع دون مواربة.
- اختلف شكل العلاقة بين السلطة السياسية والاحتجاجات الرقمية وفق عامل الزمن وتعمق الخبرة وحساب المخاطر، واستخدمت القوانين دوما لضبط إيقاع آليات العمل السياسي الرقمي، ومرت القوانين بسلسلة من التطورات تعكس عدم قدرة الحكومة على ملاحقة مارد التقنية الرقمية، فكلما وضعت قانونًا لتقنية تواصلية جديدة، وجد الناس طريقهم إليها، حتى تظهر تقنية أخرى أكثر تطورًا.
- حالة التصحر السياسي الناتجة عن ضعف الأحزاب وضعف مجلس النواب، وعدم ثقة الناس بهما، أحد أسباب اتجاه الشباب نحو العمل السياسي الرقمي.
- تحمل مواقع التواصل الاجتماعي والتقنيات الرقمية الحديثة إمكانيات عديدة يمكن استغلالها لصالح الحكومات والشعوب معا، ويبدو أن خوف الحكومات المستمر وغير المبرر من أداء هذه التقنيات واستخداماتها يشير إلى خلل كبير في الأداء الحكومي، كما يعكس حجمًا هائلًا من عدم الثقة بين الطرفين.
للاطلاع على الدراسة كاملة، (اضغط هنا)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*د. أسماء حسين ملكاوي- أستاذة علم الاجتماع الرقمي بقسم العلوم الاجتماعية في جامعة قطر.