التواصل الاجتماعي والنشاط السياسي في الحراك الجزائري: من دوامة الصمت إلى دوامة التعبير

تقدم الورقة ملخصًا لدراسة موسعة نُشرت في العدد الثالث من مجلة لباب، الصادرة عن مركز الجزيرة للدراسات، تحاول فهم دوافع ومبررات تحويل الشبكات الاجتماعية إلى أدوات للفعل السياسي في الفضاء العام الافتراضي من خلال نموذج الحراك الشعبي في الجزائر.
f4cf271bee0648ad9ca0f1f202d1067c_18.jpg
الإعلام البديل والشبكات الاجتماعية يدفعان الفرد في سياق الاضطرابات الاجتماعية المرتبطة بالحراك السياسي نحو التعبير أكثر مما يدفعانه نحو الصمت (رويترز)

أكد الاستخدام الواسع النطاق للشبكات الاجتماعية، وكذا الدور الكبير الذي لعبته في تحريك الشباب وإذكاء ثورات الربيع العربي في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا، صحة الفرضية التي صاغها الكثير من الباحثين والمتخصصين في علوم الإعلام والاتصال آنذاك، والتي مفادها أن الفضاء الإلكتروني سيصبح فضاء عامًّا للتعبير ولممارسة الفعل السياسي الفاعل، وأداة من أدوات التحريض والتعبئة الجماهيرية لإطلاق الانتفاضات أو الثورات. ومؤخرًا فقط، أظهر الحراك الشعبي في كل من الجزائر والسودان، زخم وقوة النشاط السياسي الافتراضي الذي ألهب الاحتجاجات والمظاهرات، بعد أن خرجت فئات مختلفة من المجتمعين الجزائري والسوداني للتعبير عن رفضها للتمديد لفترات رئاسية جديدة للرئيسين المنتخبين في كلتا الدولتين. 

لقد كانت العهدة الخامسة التي روَّج لها الحزب الحاكم والطبقة السياسية -المتنفذان في الجزائر- حتى فبراير/شباط 2019، أملًا منهما في فتح الباب أمام فترة رئاسية جديدة للرئيس المنتهية عهدته -على الرغم من حالته الصحية التي لا تسمح له بممارسة مهامه الدستورية على أكمل وجه- القطرة التي أفاضت الكأس وجعلت الملايين من الجزائريين يخرجون للشارع للتعبير ليس فقط عن معارضتهم للعهدة الخامسة للرئيس، عبد العزيز بوتفليقة، المنتهية ولايته، بل أيضًا عن استيائهم من نظام حكم نخره الفساد المالي والسياسي، وفَقَدَ بذلك الشرعية الأخلاقية والسياسية التي تخوِّله الاستمرار في التحكُّم في القرار السياسي للبلاد. وقد زادت حالة الانغلاق في وسائل الإعلام التقليدية الناتجة عن تحكُّم السلطة في الإعلام الرسمي وتواطؤ القنوات التليفزيونية الخاصة -التي تمادت مع بداية الانتفاضة في تضليل الرأي العام بشأن تطورات المشهد السياسي في البلاد- من الحاجة لأدوات بديلة للتعبير ولتداول الطروحات السياسية المختلفة، التي لم تجد طريقها إلى التعبير الديمقراطي عنها في وسائل الإعلام التقليدية، بسبب الضغوط الإدارية والاقتصادية، أو القانونية، الممارسة على تلك الوسائل.

وبذلك، باتت شبكات التواصل الاجتماعي ليست فقط وسائل بديلة للتعبير عن الرأي، أو وسيطًا يتمُّ عبره التواصل السياسي لإبلاغ الرسائل للفئات الاجتماعية المختلفة، بل عاملًا أساسيًّا من عوامل تشكيل الفضاء العام المؤثِّر على عموم الشعب، والمؤثِّر أيضًا على الحياة السياسية والتشريعية، بالمفهوم الذي وضعه يورغن هابرماس (Jürgen Habermas). كما باتت تلك الشبكات واقعًا افتراضيًّا للفعل وللحراك السياسين بأشكالهما المختلفة، انطلاقًا من إنتاج الخطاب والترويج له بأساليب مختلفة، مرورًا بتنظيم النشاط السياسي والتعبئة له، وصولًا إلى الحراك السياسي الميداني.

في هذا السياق، تسلِّط الدراسة الضوء على ظاهرة تشكُّل الفضاء العام الرقمي وآليات تعبئة الرأي في ذلك الفضاء العام الافتراضي، عبر فهم دوافع ومبررات تحويل الشبكات الاجتماعية إلى أدوات للفعل السياسي في الفضاء العام الافتراضي في لحظة ما من تاريخ الشعوب والمجتمعات، وتتخذ من الحالة الجزائرية نموذجًا. ويسعى الباحث عبر دراسة وصفية تحليلية للانتفاضة الشبابية الجزائرية ضد العهدة الخامسة للرئيس المستقيل، عبد العزيز بوتفليقة، لمحاولة فهم لماذا خرج الشباب الجزائري في فبراير/شباط 2019 بينما رفض أن ينتفض في عِزِّ ديناميكية الربيع العربي في 2011، حين اكتسحت أمواج التغيير السياسي أكثر الدول العربية متانة في تماسكها الأمني، على غرار تونس وليبيا وسوريا ومصر، أو حتى في 2014، حين ترشح الرئيس، عبد العزيز بوتفليقة، لعهدة رابعة وهو مريض أيضًا. ويناقش الباحث الحقل الاستفهامي الآتي:

- ما الدوافع التي جعلت الشباب الجزائري يخرج في انتفاضة شعبية امتنع عنها في سياق الربيع العربي في 2011، على الرغم من صدور دعوات افتراضية لذلك على الشبكات الاجتماعية، وعلى الرغم من توافر نفس العوامل الموضوعية السياسية، والاقتصادية والاجتماعية التي دفعت لحراك فبراير/شباط 2019؟

- ما سياقات وسيرورة النشاط السياسي الجزائري عبر شبكات التواصل الاجتماعي خلال ذلك الحراك؟ 

- من هم الفاعلون والنشطاء السياسيون الذين قادوا الحراك؟ وما الوسائط المستخدمة في النشاط السياسي عبر شبكات التواصل؟

- ما أنماط النشاط السياسي وأشكاله عبر شبكات التواصل الاجتماعي؟ وكيف تفاعلت السلطة مع مبادراته إعلاميًّا وسياسيًّا؟ 

- هل يمثِّل هذا الحراك مظهرًا من مظاهر تشكُّل بارادايم جديد في تحوُّل الفعل السياسي من نشاط سياسي تقليدي إلى نشاط سياسي رقمي، أم استجابة لحالة الانغلاق الإعلامي والسياسي في الجزائر؟

وتقترح هذه الدراسة فرضية نقيضة لفرضية دوامة الصمت وهي فرضية "دوامة التعبير"، ويفترض هذا الطرح: 

أولًا: وجود علاقة طردية (Positive correlation)بين زيادة نسبة التعبير الحر للأفراد في الشبكات الاجتماعية (العالم الافتراضي) ونسبة التعبئة العامة الفعلية في المجتمع الحقيقي؛ إذ كلما لاحظ أفراد المجتمع ديناميكية تعبير جارفة في الفضاء العام الإلكتروني، تقوم على عوامل موضوعية ملموسة تسمح لها بتوليد حالة من العمل الاجتماعي الهادف لحل المشكلات (Social action)؛ زادت حالة النشوة/اليوفوريا الاجتماعية (Social euphoria) عند أفراد المجتمع، ما يولِّد الرغبة في الخروج من التعبير الافتراضي إلى التعبير الفعلي في الفضاء العام الحقيقي. 

ثانيًا: وجود علاقة عكسية (Inverse relationship) بين نسبة المقاومة التي يتلقاها التعبير في الفضاء الإلكتروني (مهما كانت أشكالها) ومدى الجنوح نحو التعبير الفعلي في الفضاء العام الحقيقي عبر المشاركة في التجمعات والمظاهرات، أي كلما قلَّت المقاومة التي يجدها الخطاب المعارض في الشبكات الاجتماعية؛ زاد الجنوح نحو المشاركة في الحراك عبر التظاهر.

وتعتمد الدراسة على مقاربة استكشافية (Exploratory research) يسعى من خلالها الباحث لمعرفة أبعاد استخدامات الشبكات الاجتماعية في الحراك الجزائري وقياس دور بعض متغيرات التفاعل المرتبطة بالسلوكيات الإرادية والسلوكيات غير الإرادية، كمتغيرات الإدراك، ومتغيرات التأثير، ومتغيرات السلوك في اتخاذ قرار التعبير، ثم في اتخاذ قرار المرور إلى الفعل السياسي الشبكي في مرحلة من المراحل. ومن مميزات الدراسات الاستكشافية أنها تسمح بمعرفة الاستفسارات التي يقدمها الأشخاص المستجوَبون ومعرفة المعاني التي يعطونها لأفعالهم، بعد حصر القضايا التي يهتمون بها، ما يساعد الباحث على جمع أكبر عدد من المؤشرات التي تسمح له باكتساب فكرة شاملة حول طبيعة الأبعاد المرتبطة بالظاهرة المدروسة. ولأن المقاربات الاستكشافية لا تسعى لتعميم النتائج التي تتوصل إليها خارج عينة الدراسة التي شملتها، فإنها لا تحتاج لتطبيق إجراءات الصدق والثبات التي تعرف بها المقاربات الإحصائية الكمية، والتي تسعى في الغالب لتعميم النتائج من عينة الدراسة على كافة مجتمع البحث.

لقد جمعت هذه الدراسة مؤشرات نوعية مهمة ومتنوعة، تعطي أساسًا علميًّا نوعيًّا للفرضيتين اللتين دفع بهما الباحث، وهو أساس جدير بالتعمق فيه لاحقًا عبر دراسة كمِّية مُكَمِّلة، تتبنى مقاربة تقوم على قياس العلاقة بين المتغيرات باستخدام معامل الثبات. وقد بيَّنت تلك المؤشرات صحة الفرضيتين المرتبطتين بالعوامل الموضوعية، سواء الأولى التي دفعت بوجود علاقة طردية بين نسبة التعبير عند الأفراد في الشبكات الاجتماعية ونسبة التعبئة العامة الحقيقية بين أفراد الشعب، أو الفرضية الثانية التي دفعت بوجود علاقة عكسية بين نسبة المقاومة التي يتلقاها التعبير في الفضاء الإلكتروني ومدى الجنوح نحو التعبير الافتراضي أولًا، ثم مدى الجنوح نحو الفعل السياسي الحقيقي عبر المشاركة في الحراك فعليًّا. غير أن الباحث توصل في دراسته هذه لوجود دور لعوامل مهمة أخرى مرتبطة بزيادة نسبة الوعي السياسي والشعور بالمسؤولية تجاه مصير البلد، وهي عوامل أسهمت كثيرًا في الدفع بالمواطن الجزائري إلى دوامة التعبير في الفضاء العام الإلكتروني، ثم المشاركة في الحراك بساحات المظاهرات في كل المدن الجزائرية.

كما توصل الباحث إلى حصر مؤشرات مهمة تسمح بفهم طبيعة وآلية التأثير السياسي المتعاظم الذي باتت وسائل الإعلام البديلة تحظى به في الحياة السياسية العامة بالجزائر في سياق الحراك السياسي الشعبي. فمن حيث القدرة على التأثير، دفعت المؤشرات المجمَّعة الباحث لأن يخلص إلى أن وسائل الإعلام المواطنة البديلة، باتت في زمن الويب الثاني تلعب دورًا فاعلًا كمثير اجتماعي يسهم بقوة في لحظة من لحظات تاريخ المجتمعات في خلق ما أسماه بـ"النشوة الجماعية" الناتجة عن الحراك الجماعي الساعي للدفاع عن الصالح العام، خاصة في مراحل عدم التكامل الاجتماعي، أو في حالة التفكك الاجتماعي التي تنشأ في المجتمعات نتيجة لفقدان النخب الحاكمة للشرعية السياسية من جهة، ثم لانحسار الاتصال بين الحاكم والمحكوم، ولعدم أخذ الحاكم تطلعات الشعب السياسية في الحسبان، أو نتيجة لما أسماه هابرماس بالتواصل المشوَّه.

أما فيما يخص آلية التأثير، فإن المؤشرات المذكورة توحي بأن الإعلام البديل بشبكاته الاجتماعية ومحتوياته الحرة غير الخاضعة للتأطير المؤسسي الضابط هو بصدد إعادة بعث الفضاء العام حين يُنشئ سياقًا سياسيًّا يُشعر الفرد بمسؤوليته التاريخية تجاه بلده، وسياقًا تكنولوجيًّا يتيح للفرد فرصة التعبير، ثم سياقًا فكريًّا يتيح للفاعلين في تلك الشبكات فرصة التعاطي العقلاني مع القضايا، ما يسمح بتجاوز عقبات التعبير الغوغائي المشوش في تلك الشبكات أو عقبات التشويش المؤسسي، كشرط من شروط حصول الإجماع. وبهذا، يقترب ذلك الفضاء العام المشكَّل من صيغته المثالية التي كان عليها في القرن الثامن عشر بحسب وصف يورغن هابرماس، قبل أن يبدأ ذلك الفضاء في التلاشي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. أي بمعنى ذلك الميدان الذي يلتقي فيه الناس لمناقشة القضايا السياسية ولتبادل آرائهم حولها، بنيَّة التأثير على الحياة السياسية العامة وليس لمجرد النقد والتعبير. وتوحي نتائج الدراسة بأن هذا الفضاء العام الجديد بات يتداخل وبتوافقية أكبر مع مفهوم الرأي العام، ليس باعتباره المجموع الحسابي للآراء والتوجهات الفردية التي يتم تداولها في عالم الإنترنت، بل باعتباره ديناميكية جماعية جارفة باتت مُدخلاتها أفقية المسار، يتعاظم دورها خلال مراحل التفكك الاجتماعي أو عدم التكامل الاجتماعي، عبر خلق وحدة شعور بين أفراد المجتمع بضرورة السعي الجماعي لتحقيق التغيير المنشود، دفاعًا عما تعتقده الجماعة الوطنية بأنه الصالح العام. 

من جهة أخرى، أظهرت الدراسة أن الشبكات الاجتماعية باتت تفرض نموذجًا جديدًا لشرح آليات تأثير وسائل الإعلام في تكوين الرأي العام -خلال الظروف الاستثنائية- التي تعيشها المجتمعات في لحظة من تاريخها، حين يظهر فيها قلق اجتماعي كمعطى موضوعي، ينتج عن فساد النظام السياسي القائم، ووعي جمعي متنام بوجود ذلك الفساد السياسي، لتتغذى عليهما الشبكات الاجتماعية التي تضخِّم حالة القلق حتى تحولها إلى اضطراب اجتماعي. وقد سمَّى الباحث ذلك الباردايم الجديد بدوامة التعبير، نظرًا للديناميكية التعبيرية القوية التي أحلَّها الإعلام الجديد البديل محلَّ آلية دوامة الصمت بالصيغة التي بَنَتْها عليها إليزابيث نويل نيومن في سبعينات القرن الماضي، والتي شرحت خلالها كيف أن الخوف من الجزاء الجماعي بالعقاب أو بالعزلة يسهلان من مهمة وسائل الإعلام التقليدية، كأدوات ضبط اجتماعي في تشكيل الرأي العام عبر تعميم آراء معينة وتقزيم أخرى. 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*د. كمال حميدو، رئيس قسم الإعلام بجامعة قطر.

للاطلاع على النص الكامل للدراسة (اضغط هنا) وللاطلاع على عدد المجلة كاملًا (اضغط هنا)