الاتحاد المتوسطي وجغرافية الانغلاق

تبرز هذه الورقة تناقض حلم الرئيس ساركوزي باتحاد متوسطي مع أفعاله وأقواله، وتبين أن الفكرة تسويق للمشاكل أكثر منها إجراءات ملائمة للسكان.









إعداد: رضا بن كيران


ترجمة: رشا حاتم






الاتحاد بوصفه فكرة تقسيمية
جغرافية الانغلاق وسياسة الإقصاء
فرنسا وقيادة الاتحاد الأوروبي المتوسطي
الاستغناء عن عملية برشلونة
الفشل والعنف في منطقة البحر الأبيض المتوسط


بعد لحظة الضجيج الذي أحدثته ولادة اتحاد منطقة البحر الأبيض المتوسط في الساحة العالمية خلال العيد الوطني الفرنسي وعروضه العسكرية، كان من الصعب على علماء الاجتماع والباحثين والمراقبين الآخرين من المجتمع المدني تحديد الغرض من هذا الإعلان والعرض السياسي المصاحب له.



تتناول ورقة تقدير الموقف هذه تناقض حلم ساركوزي باتحاد متوسطي مع حقيقة أفعاله وأقواله. كما تعكس إلى حد ما موقف علماء الاجتماع والمثقفين من كلا الجانبين في البحر الأبيض المتوسط، أولئك الذين يعارضون الزعماء السياسيين في بلدانهم، وأولئك الذين لا يشعرون بارتياح لفكرة 'الإتحاد' آخذين في اعتبارهم الفوارق السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية السائدة في المنطقة.


وبما أن فرنسا تقود هذا المشروع السياسي الذي تنطوي تحته عدة ملايين نسمة، فإن كثيرا من المراقبين يساورهم الشك في طموحها أن تنجح بشكل منهجي خارج السداسي فيما فشلت في القيام به داخليا تجاه سكانها من أصل جنوب البحر الأبيض المتوسط.



هذه الورقة تبين أن حداثة هذه العملية السياسية المدعومة من قبل الاتحاد الأوروبي قد تكون، للأسف، نهجا تسويقيا للمشاكل القائمة أكثر منها إجراءات تحويلية ومبتكرة من شأنها أن تجعل منطقة البحر الأبيض المتوسط أكثر ملاءمة لسكانها.



'لا ينبغي للكيانات أن تندمج دون ضرورة'
أوكام



الاتحاد بوصفه فكرة تقسيمية







"
خضعت بلدان جنوب البحر الأبيض المتوسط لتسويق سياسي ثقيل عندما سعت عبثا لتحقيق رؤية محتملة لإستراتيجية وجغرافية سياسية "


رغم انعقاد مؤتمر قمة باريس حول اتحاد لمنطقة البحر الأبيض المتوسط في 13-14 يوليو/ تموز 2008، فإننا لا نعرف على وجه الدقة ما إذا كان هذا التجمع المدهش لرؤساء الدول سوف يعزز الاتحاد الأوروبي أو يعمل على تقسيمه أكثر فيما يتعلق بسياساته العامة اتجاه الجنوب.


كما لا ندري إلى متى سيظل هذا المقترح، وليد اللحظة، للاتحاد قائما بعد رحيل الرئيس الفرنسي الحالي -على الأرجح في العام 2012– الذي حظي بتراجع غير مسبوق لشعبيته في استطلاعات الرأي بعد عام واحد من نجاحه في الانتخابات. ولكن الأمر المؤكد هو أن بلدان جنوب البحر الأبيض المتوسط قد خضعت لتسويق سياسي ثقيل عندما كانت تسعى عبثا لتحقيق رؤية محتملة لإستراتيجية وجغرافية سياسية من شأنها أن تنشئ الاستقرار والاستدامة في المنطقة.


وبالحديث عن الاستقرار، فإن المسألة الفلسطينية/ الإسرائيلية ستكون هي القضية الرئيسة في أي مؤسسة سياسية إقليمية في منطقة البحر الأبيض المتوسط. وما لم يتم التوصل لاتفاق سلمي نهائي فسيظل هذا السرطان الإسرائيلي/ الفلسطيني أم لجميع الصراعات في المنطقة، كما سيظل السعي من أجل الأمن والاستقرار والرخاء في منطقة البحر الأبيض المتوسط غير مجدٍ. وعلى كلٍ، يمكننا، في آخر المطاف، أن نحكم على مدى أهمية هذا الطموح المدهش لمبادرة البحر الأبيض المتوسط من منظور القضية الفلسطينية.



من الملاحظ في أواخر كل عقد أو نحو ذلك، وجود ارتفاع كبير من الاهتمام والتركيز السياسي الخاص على حوض البحر الأبيض المتوسط. قد لا يستغرق ذلك وقتا طويلا، ولكن من المنطقي أن نأخذ بعين الاعتبار استمرار الصراعات والحروب التي أثرت تأثيرا بالغا في تنمية هذه المنطقة خلال الستين عاما الماضية.


وكلما عاد محور الاهتمام إلى الظهور على السطح في الساحة الدولية، نجد كل أمة من الأمم المحيطة بهذه المنطقة قد تحولت فجأة عن مشاكلها الداخلية ومنازعاتها الخارجية وتجمع زعماؤها السياسيون في محاولات للوصول إلى أعلى مستوى من الاستيعاب وإعادة التفكير في تلك المنطقة المتعددة الشعوب والمختلفة الاهتمامات لإعادة تأطيرها في هيكل عام على أساس القيم المشتركة والماضي العريق.


وقد يتكرر هذا النمط بحيث يتوج هذا التركيز المفاجئ عادة بعملية مؤسسية تؤدي بمجرد إطلاقها إلى انخفاض في الاهتمام، وتتدفق الأموال على أعداد لا تحصى من برامج التعاون، وتتلاشى بسرعة كبيرة الرؤية المستقبلية والإرادة السياسية التي من المفترض أن تدعم تلك البرامج. ومن ثم تمر عشر سنوات، وتثار قضية إرساء الهوية المشتركة لحوض البحر الأبيض المتوسط وتبدأ الدورة من جديد.



ولا يعد هذا المشروع (المعروف سابقا باسم "اتحاد البحر الأبيض المتوسط"، و"نقابة البحر الأبيض المتوسط" في وقت لاحق) الذي أنشئ بمبادرة من الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي استثناء من هذا المنحى التاريخي المتكرر.


ولكن التركيز هذه المرة على افتراضية الاتحاد السياسي يثير المزيد من التساؤلات والشكوك عن الـ17 دولة المطلة على تلك المنطقة الملوثة والمتهالكة.


فقد يخيل للمرء، مع إعادة إطلاق دورة جديدة في البحر الأبيض المتوسط فيما بعد الحرب الباردة، أن نضوجا سياسيا فعالا قد أدى إلى ظهور هذا الاقتراح على سوق السياسة الدولية. وعند هذه النقطة، من المهم أن نذكر السياق الذي انبثقت منه فكرة هذا الاتحاد السياسي.


فقد برز ما يسمى بـ"اتحاد البحر الأبيض المتوسط" قبل سنة في الانتخابات الرئاسية الفرنسية (أبريل/ نيسان- مايو/ أيار 2007)، عندما طرحه ساركوزى في حملاته الانتخابية الرئاسية حلا بديلا لمعارضته لترشيح تركيا لعضوية الاتحاد الأوروبي.


وهنا يكمن المنشأ الحقيقي لتلك الفكرة الغريبة لإنشاء اتحاد غير متوافق جغرافيا، إضافة لازدواجية البرامج الحالية للاتحاد الأوروبي. بالنسبة لساركوزي، هذا الاقتراح، وحالما يحظى بدعم من الاتحاد الأوروبي، سيتيح ميزة حل المعضلة التركية لمن يميل إلى الاعتقاد بأنه من أصل 27 عضوا، هنالك عضو واحد (غير يهودي/ مسيحي) لا يملك مكانه في النادي الأوروبي. ورغم أن الرئيس الفرنسي يتذرع بالعوامل الجغرافية، فإن عوامل دينية وثقافية هي التي تدفع وجهة نظره في الأصل.



جغرافية الانغلاق وسياسة الإقصاء






"
كيف يمكن الوثوق من ساركوزي وهو المسؤول جزئيا عن ثورة الشباب الفرنسي في نوفمبر/ تشرين الثاني 2005، عندما وصف الحرفيين الصغار الذين يعيشون في الضواحي بالزبد أو الرعاع وأن فرنسا بحاجة إلى التنظيف منهم
"

بغض النظر عن جميع الأفكار السياسية التي تم تسويقها لجنوب المتوسط فيما يتعلق بأهمية العلمانية من أجل الإفادة من دول قومية كاملة الديمقراطية، وبما تمت مطالبتها بضرورته كالتمييز بين السياسي والديني و/ أو المجالات الثقافية.


فقد طرح لمرة واحدة في إحدى الندوات حول التراث المسيحي الأوروبي وشارك فيها البابا بحماس، هذا الاتحاد السياسي الغريب الذي يجمع بين أقلية أوروبية (برؤسائهم الشعبيين) وبين دول البحر الأبيض المتوسط القديمة والفقيرة (بحكامها المتسلطين) بطريقة تجعل مفهومه مقبولا. وفي الواقع، فمنذ اللحظة التي بدأ فيها القادة السياسيون بالحديث عن رغبتهم في إدراج الهوية الدينية المسيحية في الدستور الأوروبي، بدأ الاتحاد الأوروبي يظهر انتماءه إلى الأقليات الدينية والثقافية، وكذلك إلى الثمانية ملايين مهجر من أصل جنوب البحر الأبيض المتوسط.



لأنه من غير الممكن لساركوزي قبول تركيا بسهولة دولة عضوا في الاتحاد الأوروبي، وقال إنه يفضل أن يفكر في إيجاد ناد سياسي لدول حوض البحر الأبيض المتوسط، وهو كيان يجمع تركيا وغيرها من المرشحين المحتملين لعضوية الاتحاد الأوروبي (المغرب) أو شريكا متميزا (تونس) من الحدود الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط، بحيث يمكن لهذه الدول أن تتطور في خط مواز بدلا من البحث عن مستقبلها داخل أو خارج الاتحاد الأوروبي.


وهنا يتجلى الوجه الحقيقي لهذا المشروع، ويبدو أنه من غير الكافي أن يقوم خط ترسيم الحدود بحماية الفضاء الأوروبي (الشنغن) من "هجرة المتوحشين" من الجنوب، ولا يكفي أن يقوم الحرس المدني الإسباني برصد الساحل الجنوبي أو يقوم رجال الدرك الإيطالي بمطاردة سرية من المهاجرين الأفريقيين، كما لا يكفي أن يطلب إلى السلطات التونسية والمغربية القيام بالأعمال القذرة لاحتواء المهاجرين من جنوب الصحراء الكبرى وشمال أفريقيا، فقد حان الوقت الآن للقيام بأمر يعادل كل ذلك، من شأنه أن يمنع تلك الدول من البحث عن الدمج أو الحصول على مركز متميز في الفضاء الأوروبي.


والأوروبيون، رغم حديثهم عن حقوق الإنسان والسلام العالمي، ما زالوا قاصرين سياسيا برفضهم اعتماد أي شكل من أشكال الحماية الاقتصادية للدفاع عن الملايين من الوظائف المهددة تهديدا مباشرا بسبب كمية ونوعية الخدمات والسلع التي توفرها الهند والصين، فقد قرروا حماية أنفسهم من السود أولا، ومن البربر والبدو الذين يؤمنون بعقيدة معروفة رسميا باعتبارها دين الكراهية.


أولئك الذين يعرفون إلى حد قليل نسب ساركوزي السياسي، وعلى وجه الخصوص كم الأفعال الاستفزازية والكلمات الهجومية تجاه العرب والمسلمين والأفارقة (مثل حديثه الفاحش في دكار)، سوف تبدو لهم فكرة ترويجه للاتحاد بين دول شمال وجنوب البحر الأبيض المتوسط أمر سريالي.


إذ كيف يمكننا أن ننظر بجدية في أي اقتراح لاتحاد سياسي بمثل هذا التسرع وعدم الاتساق من شخص معروف بهجائه العنيف للمواطنين الفرنسيين من أصل عربي ومسلم، ويندد باستمرار في الساحة الدولية بحزب الله وحماس ويصفهم بالمنظمات الإرهابية، وأسوأ من ذلك، فهو من المؤيدين لاتخاذ رد فعل عسكري ضد برنامج إيران النووي؟


وهو الذي صرح، في مناقشة تلفزيونية عن الديانة الوطنية الثانية، أنه لا يمكن التسامح مع "الممارسات الدينية" مثل الختان للنساء وذبح الأضاحي في دورات المياه!. كيف يمكن أن نثق في أن هذا الرجل يستطيع أن يعزز السلام والاستقرار خارج فرنسا، بينما كان هو المسؤول جزئيا عن ثورة الشباب الفرنسي في نوفمبر/ تشرين الثاني 2005، عندما وصف كوزير للداخلية الحرفيين الصغار الذين يعيشون في الضواحي (بالزبد أو الرعاع) وأن فرنسا بحاجة إلى التنظيف منهم.





"
ساركوزي هدفه الوحيد هو الظهور على سطح الأحداث على مدار الـ24 ساعة في وسائل الإعلام وقد أثبت تفوقه في المقدرة على خلق الانقسامات في المسرح السياسي والثقافي
"

كيف يمكننا أن نصدق أنه يستطيع أن ينجح في إدارة أي شكل من أشكال الحوار بين الأديان، عندما نعرف دوره ومسؤوليته في إضفاء الطابع المؤسسي، وتطبيع المجلس الفرنسي للطائفة المسلمة (CFCM)، وهو الهيكل الرسمي الذي يمثل الإسلام ويعد ساحة المعركة السياسية للمغرب والجزائر، الذي فشل للأسف في تمثيل مسلمي فرنسا وتلبية احتياجاتهم الديمقراطية؟


أي نوع من الحوار بين الثقافات يمكن أن يشجعه وهو من اخترع ونفذ -رغم المعارضة الواسعة النطاق- الوزارة الفرنسية للهوية الوطنية والهجرة، وهي أداة حكومية مصممة خصيصا للتعامل مع مسألة "الآخرين" و"اللا هوية" التي تواجهها فرنسا؟ ولكي نكون فكرة عن عمق المعرفة الجغرافية السياسية لساركوزي، يمكننا أيضا أن نذكر أنه، رغم إثارته، كلما أمكنه ذلك، لخطر تحالف موضوعي بين الإسلام والإرهاب، لم يستطع الإجابة في مقابلة إذاعية شهيرة على سؤال ما إذا كانت القاعدة هي منظمة سنية أم شيعية.


فساركوزي سيظل جاهلا بالفروق الثقافية والسياسية الدقيقة، وليس لديه أي مبدأ آخر سوى مجاراة التسويق والأفكار العصرية، وهدفه الوحيد هو الظهور دائما على سطح الأحداث، على مدار الأربعة وعشرين ساعة في وسائل الإعلام. وساركوزي -الذي هو، قبل كل شيء، حيوان سياسي وخبير تكتيكي- ولكنه قد أثبت تفوقه في جانب أساسي واحد، هو مقدرته على خلق الانقسامات في المسرح السياسي والثقافي من بعده.


ومن ثم لا غرابة في أن نراه يحاول أن يقوم على الصعيد الإقليمي في أوساط الفقراء والضعفاء من أصول البحر الأبيض المتوسط ما لم يستطع القيام به في الساحة السياسية الوطنية الفرنسية، وهو زرع خوارزميته "التوحيد لأجل التفريق ومن ثم الحصول على سيادة أفضل".




فرنسا بوصفها قائدا لأمم المرتبة الثانية من الاتحاد الأوروبي-المتوسطي






"
العالم متعدد الثقافات ومتعدد الأقطاب ولا يحتاج لوجهات النظر الفرنسية حول العولمة وقيم الحرية والمساواة والإخاء لا تطبق حتى بالنسبة للمواطنين الفرنسيين من أصول أفريقية وجنوب متوسطية
"

باعتبار أن فرنسا هي المروج والمسوق لمشروع الاتحاد هذا، كيف بإمكاننا أن نزيل ذلك الرصد النمطي لفوبيا الإسلام -الذي يبدو أنها أصبحت، منذ 11 سبتمبر/ أيلول، الرياضة المفضلة للمثقفين الفرنسيين- والتي عبر عنها في أعلى المستويات السياسية الوطنية عندما، على سبيل المثال، أعرب أحد المرشحين للانتخابات الرئاسية الأخيرة أنه استند في حملته برمتها على القضاء على "تفشي فكرة أسلمة فرنسا"، مستخدما وصفته السحرية "الإسلام هو الأساس للتطرف الإسلامي، والتطرف الإسلامي هو الأساس للإرهاب". أما الحقيقة المحرجة فهي أن 12- 15 مليون مسلم في أوروبا هم يهود القرن الحادي والعشرين.


وبنفس الطريقة التي تحمل بها المواطنون الأوروبيون من أصل يهودي المسؤولية عن الأزمة المالية والاقتصادية التي حدثت في ثلاثينيات القرن الماضي (عندما كانت في الواقع الأغلبية الساحقة منهم فقراء)، يعد الأوروبيون المسلمون أتباع دين مسؤول عن جميع أعمال العنف المعاصرة على الأرض.


قلة فقط من الأوروبيين ينظرون إلى هذا الاتهام باعتباره نوعا غير مقبول من العنصرية، ويميل معظم المراقبين إلى التخفيف من وجهة النظر هذه من خلال إظهار أن هناك شريحة جيدة من الأوروبيين المسلمين وأخرى سيئة للغاية وهي تلك التي تشارك في الإسلام السياسي.


كيف يمكننا أن نجعل قادة الرأي العام الأوروبي يدركون أن الإسلام السياسي هو مفهوم واسع ومتنوع (من المحافظة إلى الليبرالية، من التطرف إلى العلمانية) تماما كما هو الإسلام واسع وعميق، متنوع الثقافات ومتعدد اللغات، ومتنوع دينيا في كثير من المدارس الفكرية والقانونية. كيف يمكننا أن نجعلهم يدركون أن الدوغماتية تكمن أيضا في تصورهم للمسألة الإسلامية المعاصرة، في أعين المراقبين؟



والحقيقة هي أن العالم متعدد الثقافات ومتعدد الأقطاب ولا يحتاج لوجهات النظر الفرنسية حول العولمة، لأنه في الواقع، قيم الحرية والمساواة والإخاء -والتي لم تطبق يوما على سكان المستعمرات- لا تطبق اليوم حتى بالنسبة للمواطنين الفرنسيين من أصول أفريقية وجنوب متوسطية. فرنسا لم تقدم أعمالا تاريخية واضحة وحاسمة لإعادة النظر في دورها التاريخي المخزي في الرق والاستعمار، وغير قادرة في الوقت الحاضر على مواجهة التحدي المتمثل في التنوع الثقافي في عالم متزايد التعقيد.






"
تبدو سياسة ساركوزي نسخة متأخرة وبالية من سياسات أزنار وبرلسكوني الليبرالية والمحافظة الجديدة والموالية لأميركا وهي تقود فرنسا لتصبح تابعا لأميركا ووكيلا متحمسا لأوروبا الأطلنطية
"

وفي جو عام من الركود المالي، وذروة أزمة النفط، والاعتداء الاقتصادي من الصين-الهندية، والشيخوخة الديموغرافية، نجد المثقفين الأوروبيين يحاولون تفهم التعقيدات والتعددية في المجتمعات الأوروبية من حيث "الذاتية" و "غير الذاتية"، "نحن" و"هم"، والتعرف على كبش فداء بين الأقليات الدينية أو المهاجرين وإسنادهم دور الضحايا التي تدفع ثمن جميع الشرور الحالية.


كلما قام السياسيون الأوروبيون -الذين يتوجب عليهم الأخذ بعين الاعتبار الوزن السياسي لليمين المتطرف من الناخبين– برفع شعار البحر الأبيض المتوسط، فإنهم لا يفكرون على سبيل المثال في الإسلام باعتباره ماضيا وربما مستقبل مصفوفة من التبادل بين الثقافات والأديان، الفلسفة، العلوم، التكنولوجيا والفن. بالنسبة لهم، هو دين خمس سكان العالم الذي يستدعي في المقام الأول العنف والإرهاب والمتعصبين الملتحين والمحجبات أكثر من أي شيء آخر.



في هذا السياق المظلم، من السهل أن نستنتج أن الفكرة وراء منطق الاتحاد الأوروبي-المتوسطي هي إنشاء منطقة عازلة، بحيث يتم فيها استيعاب عدد معين من المخاوف والتهديدات والتأثيرات الثقافية والسياسية للإسلام، وحيث يتم احتواء الضغط السكاني الوارد من الجنوب (300 مليون من المواطنين العرب الذين يسعون سعيا حثيثا لإيجاد بدائل موالية لأنظمة الغرب الاستبدادية)، وكذلك الضغط السياسي والاقتصادي من الصين والهند.


في الواقع، يمكننا أن نقدم هذا الاتحاد "الحلم" مشروعا مترتبا على صدام هنتنغتون الحضاري. والأهم من ذلك، فإن حلم ساركوزي مكرس لتمثيل البحر الأبيض المتوسط بالحد الفاصل بين الشمال والجنوب، العالم القديم والجديد، المتحضر والبربرية الجديدة -كما وصفت في كتاب (الإمبراطورية والبربرية الجديدة) للمؤرخ جان كريستوف رافين (السفير الفرنسي الحالي في السنغال).



وسياسة ساركوزي، التي تبدو نسخة متأخرة وبالية من سياسات أزنار وبرلسكوني الليبرالية والمحافظة الجديدة والموالية للولايات المتحدة، تقود فرنسا لتصبح تابعا للولايات المتحدة ووكيلا متحمسا لأوروبا الأطلنطية. وفي هذا السياق، فإن "اتحاد منطقة البحر الأبيض المتوسط" يبدو مثل تسويق لعملية تحويل كبيرة لصرف الأنظار عن مكافحة ما تبقى من الاتحاد الأوروبي الأطلنطي والهيمنة الأميركية في العالم العربي.



ولأن فرنسا أصبحت -عسكريا وسياسيا واقتصاديا وثقافيا- قوة من الدرجة الثانية، ولأنه لم يعد لديها الوسائل الأيديولوجية لمواجهة السياسة الخارجية للولايات المتحدة في أوروبا وأفريقيا والشرق الأوسط، فإن احتمالية التطور الوحيدة لها هي أن تصبح زعيم بلدان الدرجة الثانية في جنوب وشرق أوروبا. و"اتحاد دول البحر المتوسط" هو نوع الكيان الوحيد الذي يمكن أن يسمح لها بلعب مثل هذا الدور على المسرح العالمي.



الاستغناء عن عملية برشلونة، ازدواجية في برامج اليوروميد القائمة



ساركوزي يدافع عن فكرة تبدو تافهة إلى حد مثير للشفقة -ولكن أيضا من أعراض الوعي الأوروبي الحالي بشؤون العالم- أن الاتحاد الأوروبي كله يؤيدها، فقط لأن فرنسا هي رئيس المجلس الاستشاري الأوروبي. ألمانيا، وهي واحدة من كبار المساهمين الماليين في دول الاتحاد الأوروبي، اتخذت حتى وقت قريب جدا جانبا سلبيا من مبادرة ساركوزي الشخصية، فالحكومة الألمانية تنظر إلى هذه الفكرة بوصفها عاملا من عوامل الانقسام داخل الاتحاد الأوروبي.


وترى إسبانيا التي كانت تشارك في عملية برشلونة الأمر نفسه. ولكن ألمانيا حققت نجاحا في محاولة لإعطاء المزيد من المضمون لهذا المفهوم المفرغ للاتحاد بممارسة الضغط على بلدان منطقة البحر الأبيض المتوسط من أجل تحقيق الأهداف الرئيسة لبرامج عملية يوروميد برشلونة.



وتعد أول عملية مؤسسية حقيقية هامة حول رؤية سياسية طويلة المدى لمنطقة البحر الأبيض المتوسط هي في الواقع المؤتمر الأوروبي المتوسطي الذي عقد في برشلونة في 27-28 نوفمبر/ تشرين الثاني 1995 الذي نتج عنه تطلع لشراكة أوروبية-متوسطية عرفت باسم "عملية برشلونة".


هذه العملية التي تعين عليها تحقيق ثلاثة أهداف رئيسة (الاستقرار السياسي والأمن، والرخاء المشترك والتفاهم الثقافي المتبادل) عملت على تعريف العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بين بلدان الاتحاد الأوروبي ودول جنوب البحر الأبيض المتوسط. تضم هذه الشراكة الأوروبية-المتوسطية 35 عضوا (25 دولة من الاتحاد الأوروبي و10 دول من جنوب البحر الأبيض المتوسط) كما تسخر عدة مليارات يورو في برامج متنوعة لتنمية التعاون بين الشمال والجنوب.



في الوقت الذي انطلقت فيه عملية برشلونة، صاحبتها موجة هائلة من التفاؤل، رغم الأزمة اليوغسلافية والحرب الأهلية الجزائرية. كما علقت على عملية أوسلو للسلام بين الفلسطينيين والسلطات الإسرائيلية في بدايتها العديد من الآمال.


في هذا السياق، يبدو من الموضوعي تصور أنه إذا كانت أهم الصراعات في منطقة البحر الأبيض المتوسط تحل عن طريق جهود سياسية، فإن رؤية جمع شمل الدول المتاخمة عبر قيم واهتمامات مشتركة سوف تصبح حقيقة واقعة. ولكن فشل عملية السلام وبداية انتفاضة الأقصى أدى إلى وأد عملية برشلونة.



إذن فما يقدمه ساركوزي في الوقت الراهن كأولوية، هو إلى حد كبير -وبفضل قوة ومثابرة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل وجهودها المبذولة– عبارة عن تكرار لعملية برشلونة وازدواجية في البرامج القائمة.


ويمكن للمرء ملاحظة أنه في مؤتمر القمة لرؤساء الدول، كان التركيز على الرؤية السياسية أقل منه على مشاريع محددة حول الأمن ومكافحة الإرهاب والتجارة والهجرة وقضايا الطاقة وسياسة المياه وطرق الملاحة البحرية، وهذا يبين بوضوح أن فكرة ساركوزي الأولى للاتحاد قد تراجعت بعد المفاوضات ولكنها لا تزال تتردد في الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.



الفشل والعنف في منطقة البحر الأبيض المتوسط






"
الاتحاد المتوسطي الذي سيحتضنه الاتحاد الأوروبي هو مشروع افتراضي لمن يرغبون في الحفاظ على شعوب، من جبل طارق إلى مضيق البوسفور
"

في كل صيف، يتدفق الملايين من السياح نحو شواطئ البحر الأبيض المتوسط بحثا عن المتعة والترفيه. أما بقية العام، فتحتفل أوروبا بفكرة "بحرنا الأبيض المتوسط" في المتاحف واللقاءات العامة. ويمكن من خلال البطاقات البريدية والفهارس السياحية التي تعكس الماضي المجيد المتعدد الثقافات، أخذ نظرة خاطفة على الفضاء المتوسطي وتحديد طبيعة مشاكله وانقساماته السابقة والحالية.



وخلال العقد الدموي في التسعينيات، شهدنا انهيار يوغسلافيا السابقة الذي نتج عنه تطهير عرقي ومذابح للمسلمين الأوروبيين على نطاق لم يسبق له مثيل. ولا تزال أوروبا الشرقية تحت صدمة التدمير لهذا التنوع الثقافي الفريد. اليونان لم تحل صراعاتها مع جارتها تركيا التي لا تزال -حتى في ظل حكومة إسلامية- حليفا أطلنطيا غير مشروط، وما زالت تلاحق -وربما حتى ضد مصلحتها الذاتية- محاولات الاندماج في الاتحاد الأوروبي مع الحفاظ على مستوى عال من التعاون مع إسرائيل (لا سيما في قطاع الطاقة وفي إطار مشاريع خطوط متعددة من تحت الماء لمد أنابيب النفط الخام والغاز الطبيعي والمياه العذبة والكهرباء) التي قد تكون السبب في الحروب المقبلة مع الدول العربية.


كما عزلت سوريا بصورة منتظمة تحت ضغط السياسة الخارجية الأميركية، إلا أن إستراتيجية العزلة هذه قد فشلت، حيث يستضيف هذا البلد الملايين من اللاجئين العراقيين الذين هربوا من بلادهم التي أصبحت ضحية لتدمير منظم منذ حرب الخليج الأولى (1991) حتى الاحتلال الأميركي.


أما لبنان فلم يسبق أن تعافى كليا منذ 17 عاما من الحرب الأهلية، ودولته مهددة الآن أكثر من أي وقت مضى مع العملية المؤسسية المتكررة للبحث عن اتساق دستوري. وبغض النظر عن الاحتلال ومأساة النكبة، تواجه فلسطين تجربة جديدة مؤلمة مع الصراع على السلطة والمواجهات الداخلية.


أما إسرائيل فقد ضللت تماما من قبل طبقة سياسية فاسدة لم تتمكن من إيجاد مستقبل بديل لسكانها بعد فشلها عسكريا وسياسيا في هزيمة حزب الله في الحرب الأخيرة في لبنان (يوليو/ تموز- أغسطس/ آب 2006) وحماس في فلسطين.


أما مصر وليبيا فيتشاركان مستقبلا سياسيا غير مضمون للغاية، طالما ظل مغلقا في سلطة سياسية متوارثة، ما دعا الصحافيين العرب لإطلاق مصطلح "جملكة" ) دمج كلمتي (الجمهورية) و(المملكة)". تونس لا تزال على الأرجح أكثر النظم أحادية (كما أشاد بذلك ساركوزي) في حين أن معارضتها الإسلامية قد تكون أكثر الحركات الديمقراطية وغير العنيفة في العالم العربي.


الجزائر الغنية بعشرات المليارات من عائدات النفط والغاز، هي مسرح لأعمال شغب بسبب الجوع في المناطق الحضرية، وما زالت غير قادرة، بعد مرور 45 عاما من استقلالها، على بناء المساكن والمستشفيات والطرق والسكك الحديدية لشعب محبط يحلم بالرخاء والحرية والأمن.


نزاع الصحراء الغربية أدى إلى خلق 30 سنة من التوتر مع الجار المغربي، الذي لا يزال، رغم عملية ديمقراطية واعدة، مملكة ظلم اجتماعي يتمتع عدد قليل جدا من مواطنيها بالحد الأقصى من الحقوق، والامتيازات والسلع ورأس المال.


على الجانب الشمالي من البحر الأبيض المتوسط، أسبانيا وإيطاليا ما زالتا حساستين للغاية لأيديولوجيات اليمين التي تعد الجنوب هو أصل كل الأخطار. وفرنسا، المحكومة من قبل ساركوزي، تسعى لجمع هذا الشمل الغريب والمتباين من الدول التي تبدو أشبه بناد سياسي يجمع حكاما شعبيين ومتسلطين أكثر من أي شيء آخر.



مفارقات مربكة ومستمرة، عندما تسعى أوروبا إلى التوحد، وتشجع حرية انتقال البضائع والأفراد داخل الفضاء الشنغن، فهي بذلك تعزز على نحو متزامن إغلاق حدودها.


الاتحاد المتوسطي الذي سيحتضنه الاتحاد الأوروبي هو مشروع افتراضي لمن يرغبون في الحفاظ على شعوب، من جبل طارق إلى مضيق البوسفور، في نفس مستوى النظام السياسي المزدوج، وفي معظم الحالات، مع حكام لا يتمتعون بأي شرعية سوى الدعم الهش لهم من المستشاريات الأوروبية.


وبينما يطالب القادة السياسيون الأوروبيون حكام جنوب المتوسطي بأن تأتي الشعوب في المرتبة الأولى وهم في المرتبة الثانية، نجد الأمر في الحقيقة معكوسا بمجرد النظر لطبيعة النظام السائد في أوروبا.


تتجذر فكرة الاتحاد هذه في إنكار أوروبا للوجود التركي، في إنكار الديمقراطية المشروعة التي يطمح إليها سكان جنوب المتوسطي، في إنكار الهجرة المحتملة للعمال الشباب التي يمكن أن تسهم في إعادة التوازن الديموغرافي لشيخوخة وضعف القوى العاملة الأوروبية. حلم ساركوزي المتوسطي هو تكريس للقصور الجغرافي، انعدام المساواة الجغرافية، ومونولوجيا الجغرافيا.



وفي الواقع، فإن سكان المتوسطي أكثر اهتماما بالحداثة القادمة المتمثلة في آسيا من تركيزهم على ما يحدث في أوروبا القديمة. فهم يبحثون فيما يحدث حاليا في منطقة الخليج العربي، حيث تنبثق عدة مدن جديدة ناشئة تشبه البندقية بوصفها مراكز للأعمال التجارية والدبلوماسية الدولية. كما تنبثق أيضا عدة تجمعات حول مسطحات مائية شبيهة بالمتوسطي في دول الخليج العربي، في المحيط الهندي وما وراء مضيق ملقا. المستقبل قيد الإنشاء في هذه المناطق، فمن سيكترث بالمتوسطي؟



والحقيقة أن شعوب المتوسط ليست في حاجة إلى اتحاد سياسي، حيث إن هذا الاقتراح يأتي بعد فوات الأوان أو من السابق لأوانه، فمقترحوه ومستشاروه ليس لديهم نهج إنساني، ولا يتمتعون بثقل فكري أو بصيرة سياسية تخولهم لإعادة التفكير في أعرق مهد للأديان والثقافات والحضارات.
______________
مركز الجزيرة للدراسات
تم إعداد هذه الورقة بتاريخ: 29 يوليو/ تموز 2008