الوضع العراقي في نهاية العام الخامس للاحتلال

ترصد هذه الورقة متغيرات العام الخامس من الاحتلال الأميركي للعراق والسمات الرئيسية للوضع العراقي الحالي، خصوصا بعدما شهد العراق مجموعة من المتغيرات الملموسة، سواء على صعيد علاقته بأميركا أو على صعيد علاقاته الداخلية والعربية والإقليمية.








 

إعداد/ بشير نافع


الاحتلال والمقاومة
الوضع السياسي الداخلي
الأطراف العربية والإقليمية
خلاصة








بشير نافع
ينهي العراق عامه الخامس تحت الاحتلال وتعقيدات وضعه المتأزم تزداد تعقيداً. فخلال العام الماضي شهد العراق مجموعة من المتغيرات الملموسة، سواء على صعيد علاقته بالقوة المحتلة، أو على صعيد علاقات قواه الداخلية، أو على صعيد الأدوار العربية والإقليمية في الشأن العراقي. وفيما يلي نقدم قراءة لرصد متغيرات العام الخامس من الاحتلال والسمات الرئيسية للوضع العراقي الحالي.


الاحتلال والمقاومة





"
تسببت الصحوات في إرباك قوى المقاومة التي خسرت المئات إن لم يكن الآلاف من عناصرها لصالح تنظيمات الصحوة التي تشكلت أصلاً في المحافظات ذات الأغلبية العربية السنية الحاضنة للمقاومة
"
بدأ العام الخامس من الاحتلال والوضع الأميركي في العراق في أسوأ حالاته، فقد أخفقت محاولات بناء دولة ديمقراطية وعراق آمن، ووصل الانقسام العراقي الطائفي والإثني والسياسي مستوى غير مسبوق من العنف والتشظي، وتصاعدت خسائر قوات الاحتلال إلى أعلى مستوياتها منذ ربيع 2003، وارتفعت أصوات الرأي العام الأميركي المطالبة بالانسحاب من العراق.

تمثلت استجابة الإدارة الأميركية للوضع المتدهور بقرار زيادة عدد القوات الأميركية في العراق بعدما قاومت مثل هذا القرار طويلاً، ودفعت بأعداد إضافية من الخبراء الأكاديميين للالتحاق بإدارة الاحتلال، وبدأت الاتصال بمجموعات عشائرية مناهضة للقاعدة في محافظة الأنبار أطلقت على نفسها اسم "صحوة الأنبار"، كانت قد تشكلت من قبل بدون أن تجد اهتماماً خاصاً من الأميركيين.


وصل انتشار القوات الإضافية ذروته في يونيو/حزيران 2007، ولكن الخسائر الأميركية استمرت في التصاعد حتى نهاية سبتمبر/أيلول 2007. المنطقة الوحيدة التي شهدت تحسناً في الوضع الأمني كانت محافظة الأنبار، حيث استطاعت مجموعات الصحوة دحر القاعدة من قطاع واسع من المحافظة، لاسيما مدينة الرمادي وجوارها.


وسرعان ما التقطت إدارة الاحتلال حقائق الوضع في الأنبار، وأدركت أن زيادة عدد قوات الاحتلال في منطقة ما لا يكفي لتحقيق السيطرة الأمنية، وأن من الضروري تعزيز القوات بتشكيل تنظيمات أهلية وعشائرية عراقية (صحوة جديدة) في كافة المناطق الخارجة عن السيطرة الأميركية. وهذا ما وقع بالفعل، حيث شهدت الشهور الأخيرة من 2007 تشكيل قوات صحوة في عدد من أحياء بغداد وفي جنوب العاصمة، كما في بعض مناطق محافظات ديالى وصلاح الدين، إضافة إلى منطقة كركوك وجوارها من محافظة التأميم. وقد ساعد وجود الأكاديميين المختصين على تطوير معرفة إدارة الاحتلال بالخارطة العشائرية والطائفية للمجتمع العراقي.


وفي مناطق معينة مثل بغداد الكبرى، بنيت آلاف الأسوار الفاصلة بين الأحياء والشوارع، أو الأسوار المحيطة كلية بحي ما. ولم يتردد القادة العسكريون الأميركيون في اللجوء إلى ذات الخطة العراقية التي اتبعها النظام السابق لحماية بغداد، والقائمة على نشر جنديين في المناطق الإستراتيجية المحيطة بالعاصمة مقابل كل ثلاثة جنود داخلها.


تسببت الصحوات في إرباك قوى المقاومة التي خسرت المئات -إن لم يكن الآلاف- من عناصرها لصالح تنظيمات الصحوة التي تشكلت أصلاً في المحافظات ذات الأغلبية العربية السنية الحاضنة للمقاومة. ورغم أن الصحوات جعلت هدفها القاعدة (والمليشيات الشيعية الطائفية في بغداد الكبرى)، وتجنبت في البداية التعرض لجماعات المقاومة الأخرى، فإن العديد من تنظيمات الصحوة حرص على أن لا تنفذ عمليات للمقاومة في مناطق سيطرتها حتى لا تتسبب هذه العمليات في صدام مع الأميركيين.


وقد شهدت المناطق التي وقعت تحت سيطرة المليشيات الشيعية خلال 2006-2007 خصوصاً في بغداد الكبرى، تطوراً هاماً على صعيد العلاقة بين السكان الشيعة والمليشيات. فبعد أن قدمت المليشيات الشيعية نفسها للأهالي باعتبارها الحامية من هجمات القاعدة، تحولت إلى عنصر سيطرة وابتزاز وإرهاب.


فقد أحكمت المليشيات قبضتها على قطاعات الخدمات ومحطات الوقود وفرض رسوم حماية على التجار، ومارست عنفاً أهوج ضد سلوكيات بعض الأهالي، إضافة إلى إطلاقها حملة تطهير طائفي شاملة ضد السكان السنة والعائلات المختلطة طائفياً. وسرعان ما أصبحت المليشيات مصدر خوف ورعب في الأحياء التي سيطرت عليها، مما أدى إلى انفضاض السكان الشيعة عنها. ومن جهة أخرى وجدت المليشيات خصماً قوياً في تنظيمات الصحوة، المرخصة والمدعومة أميركياً.


ساهمت هذه العوامل مجتمعة في تحسن ملحوظ في الوضع الأمني منذ الشهر العاشر من 2007، سواء على صعيد الهجمات التي تقوم بها المليشيات الطائفية، أو على صعيد التفجيرات الطائفية التي تنفذها القاعدة، أو على صعيد خسائر قوات الاحتلال والهجمات التي تتعرض لها. وبالرغم من التصريحات الحذرة التي أطلقها المسؤولون الأميركيون المدنيون والعسكريون، فإن إدارة الرئيس بوش اعتبرت أخيراً أنها بدأت تحقيق نجاحات إستراتيجية في العراق.





"
تفيد أوساط المخابرات العراقية أن الإيرانيين في العراق يعملون على إفشال الصحوات، ربما على خلفية من عداء قادة الصحوات المعلنة للنفوذ الإيراني في العراق
"
انعكس هذا التطور في تلميحات متزايدة من واشنطن على أن الوجود العسكري الأميركي في العراق سيستمر طويلاً، وهو ما أشار إليه وزير الخارجية العراقي الذي يفترض اطلاعه على المباحثات الجارية بين حكومة المالكي وإدارة بوش حول توقيع اتفاقية طويلة الأجل لتنظيم العلاقة بين الولايات المتحدة والعراق. كما انعكس في تراجع نسبي لمسألة الوجود الأميركي في العراق من جدول أولويات الرأي العام الأميركي، وجدل الحملات الانتخابية لمرشحي الرئاسة.

بيد أن النجاحات الأميركية التي تحققت خلال الأشهر الأخيرة من عام الاحتلال الخامس هي بطبيعتها نجاحات هشة، فقد تطلبت سياسة تحسين الوضع الأمني ومواجهة القاعدة والمليشيات قبولاً وتشجيعاً أميركياً لتسليح عشرات الألوف من قوات الصحوة في مختلف مناطق العراق، وهي قوات غير نظامية -غير رسمية- ولا تعتبر جزءاً من أجهزة الدولة، مما يعني على المدى المتوسط والبعيد مزيداً من فوضى السلاح والحكم في البلاد.


ولم يكن غريباً أن يثير التشجيع الأميركي لقوات الصحوات خوف ومعارضة المالكي والقوى المتحالفة معه التي يقلقها هذا التسلح الكثيف لعشرات الآلاف من السنة العرب. كما تفيد أوساط المخابرات العراقية أن الإيرانيين في العراق يعملون أيضاً على إفشال الصحوات، ربما على خلفية من عداء قادة الصحوات المعلنة للنفوذ الإيراني في العراق.


من جهة أخرى فإن من المبالغة القول بأن الصحوات موالية فعلاً للأميركيين، بالرغم من أن إدارة الاحتلال تدفع لعناصر الصحوة رواتب شهرية. لقد تشكلت الصحوات بدوافع مختلفة، منها تجاوزات القاعدة وانتهاكها حرمات الناس وحياتهم، واعتداءات المليشيات الطائفية المدعومة من أجهزة الدولة الأمنية، ومنها البطالة والفقر، أو الطموحات السياسية الانتهازية. والحقيقة أن بعضاً من عناصر الصحوة جاء بالفعل من قوى المقاومة المختلفة. التحالف الحالي بين الصحوات والقوات الأميركية هو في جوهره تحالف مصلحي مؤقت لا يمكن ضمان استمراره.


ما برز على أية حال منذ بداية 2008 كان ارتفاعاً ملحوظاً في معدلات ضحايا العنف، وأن قوى المقاومة بدأت في استيعاب متغيرات الوضع الجديد، لاسيما بعد انضواء أغلب تنظيمات المقاومة في إطار تنسيقي تحت اسم "المجلس السياسي للمقاومة العراقية". وبعد تراجع الخسائر الأميركية طوال الأشهر الثلاثة الأخيرة من 2007، أخذت هذه الخسائر في التصاعد مرة أخرى خلال الشهرين الأولين من 2008. ورغم أنه من غير المتيقن ما إذا كان هذا التصاعد مؤشراً على انعطافة ثانية في الوضع الأمني أو أنه مجرد ظاهرة عابرة، فإن الطبيعة الهشة للنجاحات الأمنية دفعت وزير الدفاع الأميركي إلى الحفاظ على تعداد قوات الاحتلال في العراق على ما هي عليه بعدما كان مقرراً البدء في خفضها التدريجي من منتصف هذا العام.


المؤكد على أية حال أن تغييراً لن يطرأ على الوجود الأميركي في العراق خلال ما تبقى من ولاية الرئيس بوش، وأن مستقبل هذا الوجود سيعتمد على عدد من العوامل، أبرزها نتائج انتخابات الرئاسة الأميركية، واستقرار الكيان السياسي العراقي، ومعدلات خسائر قوات الاحتلال.



الوضع السياسي الداخلي






"
بنى الأميركيون سياساتهم في العراق على أساس التحالف مع القوى الشيعية، ثم بدؤوا سياسة أكثر توازناً تجاه الطوائف الأخرى للشك الأميركي المتزايد في انقسام ولاء القوى الشيعية السياسية بينهم وبين إيران
"


شهد العام الخامس انهياراً شبه كامل للعملية السياسية ومحاولة بناء نظام حكم عراقي مستقر. فقد استقال وزراء التيار الصدري من حكومة المالكي، كما جمد أغلب أعضاء كتلة التوافق السنية عضويتهم في الحكومة. من جهة أخرى اتفقت الكتل السياسية المشاركة في الحكم على أن تصدر القرارات الرئيسية للحكومة عن هيئة تضم رئيس الجمهورية ونائبيه ورئيس الوزراء، ولكن هذا الاتفاق لم يعتبر كافياً بعد لعودة وزراء التوافق إلى مواقعهم في حكومة المالكي. وبالرغم من أن الضغوط الأميركية نجحت في إقرار البرلمان العراقي قانوناً جديداً ليحل محل قانون اجتثاث البعث سيئ السمعة، فإن كثيرين اعتبروا القانون الجديد أثقل وطأة من السابق.


مهما كان الأمر فإن طريق المصالحة العراقية الداخلية ما يزال طويلاً، وقد أدرك الأميركيون مبكراً إخفاق حكومة المالكي وعجزها عن الارتفاع إلى مستويات الائتلاف الوطني الذي يفترض أن تكونه.


ما منع الأميركيين من التخلص من المالكي وحكومته كانت الخشية من الفراغ الدستوري وصعوبة تشكيل حكومة جديدة، واستجابة المالكي الكاملة للمطالب الأميركية كافة. ولكن استمرار التدهور في الوضع السياسي جعل من الضروري في النهاية محاولة تشكيل حكومة جديدة، لاسيما أن كتلة التوافق السنية تبدي مرونة أكبر تجاه العودة إلى الحكومة.


على صعيد توازنات القوى الداخلية، يمكن القول إن تحالف المصلحة الطائفي الذي ولدت عنه كتلة الائتلاف الشيعية، قد وصل نهايته. فالاشتباكات بين المجموعات التابعة للتيار الصدري والقوى الأمنية الحكومية التي يسيطر عليها المجلس الأعلى بزعامة عبد العزيز الحكيم، لم تتوقف. ويضغط الحكيم والمتحالفون معه لتغيير قانون المحافظات بهدف ربطه بخطوة تشكيل الكيانات الفدرالية. كما أن حزب الدعوة يعاني من انقسام مكتوم بين أتباع المالكي وأتباع رئيس الوزراء السابق إبراهيم الجعفري، بينما تفرقت العناصر المستقلة في الائتلاف على عدد من الكتل الأخرى.


رافق هذه الخلافات الشيعية الداخلية تحول جزئي في السياسة الأميركية، فبعد أن بنى الأميركيون سياساتهم في العراق على أساس التحالف مع القوى الشيعية السياسية، بدؤوا في اتباع سياسة أكثر توازناً نسبياً تجاه الكتل الطائفية المختلفة، أولاً، للشك الأميركي المتزايد في انقسام ولاء القوى الشيعية السياسية بينهم وبين إيران، وثانياً، استجابة لضغوط الدول العربية المتحالفة مع واشنطن والتي باتت تخشى سيطرة شيعية طائفية وإيرانية على العراق، وثالثاً، لتزايد الأدلة على تورط القوى الأمنية ذات الولاء الشيعي السياسي مع المليشيات الطائفية التي دمرت نشاطاتها من صورة الاحتلال ومصداقية الوعود الأميركية للعراقيين.


وقد نجم عن تراجع التحالف الشيعي الأميركي تقارب أميركي مع طارق الهاشمي والمجموعة الملتفة حوله من قيادة الحزب الإسلامي وكتلة التوافق السنية، كما نجم عنه -بالطبع- التحالف الأميركي مع مجموعات الصحوة التي هي في أغلبها من السنة العرب رغم معارضة المالكي والحكيم للصحوات. ولكن تراجع قوة التحالف الأميركي مع القوى السياسية الشيعية لا يعني إضعافاً لسيطرة الشيعة على مقدرات الدولة العراقية الجديدة، السيطرة التي ما تزال على حالها.


لا تقل خلافات القوى والشخصيات السنية السياسية المشاركة في العملية السياسية عن الخلافات الشيعية، فأطراف كتلة التوافق السنية لا تثق ببعضها البعض، وتختلف مواقفها من القضايا الكبرى اختلافاً بيناً. ولعل أهم هذه الخلافات ما يتعلق بالموقف من الفدرالية، حيث يبدو طارق الهاشمي وكأنه أصبح من المؤيدين لها، بينما تعارضها كل القوى السياسية السنية الأخرى (إلى جانب عدد مهم من القوى الشيعية).


وقد أخفقت المحاولات الجاهدة من الحزب الإسلامي والوقف السني لإخراج هيئة علماء المسلمين التي يقودها الشيخ حارث الضاري من الساحة السياسية، والتي وصلت ذروتها بتشكيل تجمع علمائي سني جديد خلال العام الماضي. ولكن التجمع العلمائي الجديد ولد ضعيفاً، وسرعان ما انهارت فعاليته وقدرته على تحدي هيئة العلماء بعدما دبت الخلافات بين أطرافه، لاسيما بين الوقف السني والحزب الإسلامي. بيد أن كلاً من هيئة العلماء وجبهة التوافق يواجه تحدياً ملموساً من تنظيمات الصحوات، لاسيما في محافظة الأنبار.





"
وجهت طهران تهديدات واضحة للحكومة الكردية، فقد وضعت أنقرة الأميركيين أمام خيارين لا ثالث لهما: إما الحفاظ على التحالف مع تركيا، أو مع الأحزاب الكردية العراقية
"
وليس ثمة شك في أن عام الاحتلال الخامس كان عام التراجع الكبير في دور ونفوذ المجموعة الكردية السياسية المكونة من الحزبين الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني. قدم الأكراد القوميون أنفسهم منذ ما قبل غزو العراق باعتبارهم الحلفاء الخلُص للولايات المتحدة، وأفادوا بقوة من الانقسام الطائفي بين العراقيين العرب وضعف حكومة بغداد من أجل تعزيز الاستقلال غير المعلن للمناطق الكردية الشمالية وتعزيز الدور الكردي في بنية الدولة العراقية الجديدة. ولكن القادة الأكراد ذهبوا بعيداً في تقدير الدور الكردي في ما بعد الغزو والاحتلال عراقياً وإقليمياً، وفي لعب الأوراق المتاحة لهم في تدافع السلطة والحكم والثروة على السواء. وكان لابد لهذا التقدير المبالغ فيه أن ينقلب في النهاية على الحزبين القوميين وقادتهما.

بين الأسباب التي أدت إلى هذا الانقلاب:
- رفض الأكراد المتكرر الخضوع لسلطة بغداد، وسعيهم إلى الحفاظ على استقلال الأمر الواقع بدون تحمل عواقب إعلان الانفصال.
- الخطوات الكردية للسيطرة على حقول النفط ومنح امتيازات التنقيب عن البترول لشركات أجنبية بدون العودة إلى وزارة النفط العراقية.
- المطالب الكردية بحصص مبالغ فيها من الميزانية المركزية.
- احتفاظ حكومة كردستان بالسيطرة الكاملة على وحدات البشمركة التي ضمت إلى الجيش العراقي، مع الإبقاء على آلاف موازية من قوات البشمركة.
- المطالبة بأن تتحمل الميزانية العراقية نفقات هذه القوات.
- توفير قواعد آمنة لحزب العمال الكردستاني التركي ونظيره الإيراني في المنطقة الكردية العراقية.
- الخشية المتزايدة لدى العراقيين العرب والقوى الإقليمية من السيطرة الكردية على منطقة كركوك الغنية بالنفط.


عملت هذه العوامل على تصعيد الخلافات بين القيادات الكردية وأغلب القوى السياسية الشيعية، بعد أن كانت الثقة قد انهارت بينهم وبين أغلب القوى السياسية السنية. وبينما وجهت طهران تهديدات واضحة للحكومة الكردية، وضعت أنقره الأميركيين أمام خيارين لا ثالث لهما: إما الحفاظ على التحالف مع تركيا، أو مع الأحزاب الكردية العراقية. ولم يكن خافياً أن ليس الأميركيين فقط من أخذوا جانب أنقرة، بل أيضاً رئيس الوزراء العراقي المالكي الذي كان إلى فترة قصيرة سابقة الحليف الرئيسي للأكراد في بغداد، ورئيس الجمهورية الطالباني الذي يعتقد بأنه لم يتخل بعد عن طموحاته بإزاحة خصمه السابق وحليفه الحالي مسعود البارزاني عن قيادة إقليم كردستان العراق.


وما أن بدأت الطائرات التركية في قصف مواقع حزب العمال الكردستاني في شمال العراق، ليتبعها في فبراير/شباط 2008 آلاف الجنود الأتراك، حتى بدت درجة العزلة التي تحيط بحكومة كردستان العراقية.


السياسي العراقي الوحيد الذي أظهر تقرباً من الكتلة الكردية السياسية كان نائب الرئيس طارق الهاشمي الذي أخفق في رؤية متغيرات القوة في العراق والمنطقة، واختار توقيع اتفاق تحالفي مع البارزاني والطالباني بهدف تحقيق مكاسب معنوية هامشية في صراعه مع المالكي. وبنهاية 2007 كانت الفترة القانونية المقررة لتقرير وضع كركوك قد انتهت بدون إجراء استفتاء لسكانها، وبات من الضروري التوصل إلى صيغة جديدة في البرلمان العراقي، وهو أمر متعذر في الظروف الحالية.


تمثل المتغير الآخر الهام في الساحة العراقية الداخلية في تحرك نشط لرئيس الوزراء السابق إبراهيم الجعفري الذي أعلن عزمه تشكيل تيار عراقي وطني يتجاوز الانقسامات السياسية والطائفية. ورغم الميراث الطائفي الدموي لحكومة الجعفري، فالواضح أن قطاعاً واسعاً من القوى والشخصيات السياسية العراقية قررت إعطاءه فرصة أخرى، بما في ذلك رئيس الوزراء الأسبق إياد علاوي، والتيار الصدري، وكتلة صالح المطلق، والجناح المؤيد للجعفري من حزب الدعوة، وعدد من النواب المستقلين. أما أبرز الممتنعين عن الاستجابة لدعوة الجعفري فشمل المجلس الأعلى يقيادة الحكيم، والجناح الموالي للمالكي من حزب الدعوة، والحزب الإسلامي بقيادة طارق الهاشمي، وهيئة علماء المسلمين، كل لأسبابه الخاصة.


وقد تجاوز عدد الموقعين على البيان التأسيسي للتيار أكثر من نصف أعضاء البرلمان العراقي. ثمة توجه في لغة الجعفري لمناهضة الانقسام الطائفي والإثني، ورفض لتقديم أي تنازلات للأكراد خارج نطاق المنطقة الخاضعة لسيطرتهم منذ تسعينيات القرن الماضي، وقبول ضمني لقوى المقاومة غير المتورطة في الإرهاب، ورفض خجول للنفوذ الإيراني المتزايد في العراق.


ولكن تصور الجعفري لبناء الدولة والسياسة العراقية على أساس وطني لا طائفي، يظل غير واضح تماماً، كما أن درجة التزام من وقعوا على بيان التيار الذي أطلقه ليست مؤكدة. المهم أن الجعفري قام بزيارة ملفتة إلى القاهرة استقبل خلالها من قبل الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى والرئيس المصري حسني مبارك، حيث يعتقد أنه قدم تصوره لإخراج العراق من حالة الانقسام والتشظي الحالية.


كان العام الخامس للاحتلال -باختصار- عام انهيار التحالف الشيعي السياسي وتراجع الدور الكردي، والتحسن النسبي في الدور السياسي للسنة العرب، كما كان عام عودة الحياة لفكرة تجاوز البنية الطائفية والإثنية للدولة الجديدة في صفوف قطاع واسع من المشاركين في العملية السياسية. وقد تصاعدت الدعوات إلى تخليص العراق من التدخلات الخارجية، في صفوف السياسيين وبين عشائر الجنوب الشيعية. ولكن التعديلات التي أجريت على قانون اجتثاث البعث بهدف تسهيل المصالحة الوطنية، لم تكن جوهرية. كما أن توجهاً سياسياً لم يتبلور بعد لتعديل النصوص الدستورية المؤسسة للمحاصصة الطائفية والإثنية في الدولة العراقية الجديدة. وما يزال العراق يفتقد قوة سياسية مركزية تعمل على بناء إجماع سياسي وطني، بينما تستمر التجمعات السياسية المختلفة في الانقسام على نفسها.



الأطراف العربية والإقليمية





"
كانت إيران وتركيا الأكثر اهتماماً بالشأن العراقي والأكثر تحركاً في الساحة السياسية العراقية، وستبقيان كذلك لفترة طويلة قادمة على الأرجح
"

ما يزال الدور العربي في العراق أضعف بكثير مما كان يفترض المفترض أن يكونه، رغم وجود مؤشرات ملموسة على دور عربي أنشط في 2007–2008 عما كان عليه خلال العام الرابع من الاحتلال. مارست الدول العربية الصديقة للولايات المتحدة ضغوطاً على إدارة بوش للحد من النفوذ الإيراني المتسع في العراق ومن نشاطات المليشيات التي يعتقد أنها ترتبط بطهران.


وتحافظ الدول العربية المعنية بالشأن العراقي -مثل الأردن وسوريا والسعودية ومصر- على درجات متفاوتة من العلاقة مع كافة القوى العراقية السياسية، سواء المشاركة أو غير المشاركة في العملية السياسية، أو قوى المقاومة.


ومن جهة أخرى عادت الأمانة العامة للجامعة العربية من جديد في نهاية 2007 للعمل من أجل عقد مؤتمر مصالحة وطني للقوى العراقية، بدون أن تعلن عن قائمة القوى والشخصيات العراقية التي يمكن أن تدعى لهذا المؤتمر، وهي المسألة التي تعتبر المحدد الأهم لمدى جدية المؤتمر.


على أن من الواضح أن ثمة تمايزاً في المواقف العربية من الأزمة العراقية، فالأردن كان الأكثر تحركاً في مجال العمل على تطوير موقف أميركي مناهض للنفوذ الإيراني، بينما بدت السعودية الأكثر حذراً في تحديد سياسة واضحة تجاه وضع العراق الحالي وتجاه مستقبله، أو في بناء علاقات وثيقة بقواه السياسية وقوى المقاومة. دمشق -من جهة أخرى- تفسح المجال لكافة العراقيين من كافة الخلفيات بالتحرك، ولكن الواضح أنها أقرت في علاقتها التحالفية مع طهران بدور إيراني مميز في العراق مقابل إقرار إيران بدور سوري مميز في لبنان.


ولذا، فقد أعلنت الحكومة السورية تأييد حكومة المالكي التي تدعمها إيران بقوة، ومنعت عقد مؤتمر وطني عراقي مناهض للاحتلال والنظام العراقي الحالي في دمشق، كما قررت فتح سفارتها في بغداد، بدون أن تؤثر هذه الخطوات على حرية التواجد للقوى المناهضة للاحتلال في سوريا.


بيد أن مصر كانت الدولة العربية التي أظهرت خلال العام الماضي اهتماماً متزايداً بالمسألة العراقية. تحتفظ القاهرة بعلاقات مستقرة بهيئة العلماء المسلمين المناهضة للاحتلال ورئيسها الشيخ حارث الضاري. وما أن أعلن عدد من تنظيمات المقاومة العراقية الرئيسية تشكيل مجلس سياسي مشترك للتنسيق بين مواقفها ونشاطاتها حتى سارعت القاهرة لاستقبال وفد يمثل المجلس السياسي، بدون أن تتضح نتائج المباحثات بين الوفد والمسؤولين المصريين.


وقد استقبلت القاهرة مطلع 2008 إبراهيم الجعفري، ليس باعتباره سياسياً عراقياً وحسب، بل على خلفية من سعيه إلى تشكيل تيار عراقي وطني جديد. وبالرغم من أنه من المبكر الحكم على اتجاه التحرك المصري وعلى درجة تأثيره على الأوضاع العراقية، فإن من الواضح أن القاهرة تسعى جاهدة إلى موازنة النفوذ الإيراني في العراق وتوفير مظلة عربية للقوى والشخصيات العراقية ذات التوجهات العربية.


إقليمياً، كانت إيران وتركيا الأكثر اهتماماً بالشأن العراقي والأكثر تحركاً في الساحة السياسية العراقية، وستبقيان كذلك لفترة طويلة قادمة على الأرجح. واصلت إيران خلال العام الماضي سياستها المزدوجة في العراق، فمن ناحية قدمت دعماً كاملاً للمالكي وحكومته ثقة منها بحفاظه على المصالح الإيرانية، كما مارست الضغط على القوى الشيعية المعارضة له (كالتيار الصدري) حتى لا تدفع الوضع السياسي للانفجار.





"
برزت في خارطة القوى الإقليمية ثلاثة عناصر: ارتفاع ملموس في الاهتمام المصري بالشأن العراقي الداخلي، وتعزيز إيران لدورها في العراق، وتعزيز الدور التركي في شمال العراق
"
ومن ناحية أخرى حرصت طهران على تعزيز إمكانات المجموعات الشيعية المرتبطة بها مباشرة، بل ودفعت بالعديد من العناصر الاستخبارية الإيرانية إلى الساحة العراقية، وكررت مطالبتها بالانسحاب الأميركي من العراق. وتعتبر زيارة الرئيس الإيراني لبغداد -الأولى لأي زعيم إيراني منذ أكثر من مائتي عام- مؤشراً كافياً على نفوذ إيران المتزايد في العراق.

وقد عقدت إيران جولتي تفاوض مع الأميركيين في بغداد، مهدت لها وساطات الأحزاب الشيعية التي استبطنت اعترافاً أميركياً بدور إيراني في العراق. استهدف الأميركيون من المفاوضات الحد من التورط الإيراني الأمني في الساحة العراقية والضغط لإيقاف الدعم الإيراني للمليشيات الشيعية المسلحة، وما يعتقده الأميركيون من تسرب السلاح الإيراني إلى تنظيمات المقاومة السنية. أما الإيرانيون فيحاولون التأكيد على موقع مميز لهم في العراق واستخدام نفوذهم فيه من أجل إطلاق مسار تفاوضي أوسع يبدأ بالوضع العراقي ويمتد إلى كافة الملفات العالقة الأخرى بين الطرفين.


ولكن الأميركيين اقتصروا في جولتي التفاوض السابقتين على الملف العراقي، فالهموم الأمنية للأميركيين تقابلها هموم سياسية أكبر لقطاع واسع من القوى والعشائر العراقية التي تخشى الدعم الإيراني للدوائر الداعية إلى بناء نظام فدرالي يمهد لتقسيم العراق. ولكن ثمة دلائل على أن دعم إيران لجماعة الحكيم الداعية لفدرالية جنوبية شيعية تقابله معارضة إيرانية لسيطرة الأكراد على منطقة كركوك وحقولها النفطية، ربما لأن فدرالية كردية قوية تشكل تهديداً للدولة الإيرانية وعلاقتها بأقليتها الكردية.


أما من الزاوية التركية فقد سيطرت المسألة الكردية خلال العام الرابع من الاحتلال سيطرة شبه كاملة على المنظور الذي ترى أنقرة العراق من خلاله. وكانت تركيا شهدت تصاعداً ملموساً وخطيراً في هجمات حزب العمال الكردستاني الذي تتواجد قواعده في المنطقة الكردية العراقية، مما دفع الحكومة التركية إلى تصعيد لغتها تجاه حكومة كردستان العراقية وإلى تصويت البرلمان التركي على السماح للجيش بالقيام بعمليات عسكرية ضد قواعد حزب العمال في الجانب العراقي من الحدود.


حرصت تركيا على حشد تأييد الدول الإقليمية لموقفها، وحصلت على دعم ضمني من رئيس الوزراء المالكي الذي يرغب من جهة في إضعاف الأكراد العراقيين ويأمل من جهة أخرى أن يؤسس لعلاقات أوثق مع أنقرة. كما حصلت على تأييد غير معلن من الرئيس الطالباني الذي يرغب -على ما يبدو- في إضعاف وإحراج البارزاني.


أثار الانقلاب في الموقف الأميركي، من عدم المبالاة بالقلق التركي من حزب العمال إلى التعاون مع الجهد العسكري التركي ضد قواعد الحزب، تخمينات حول صفقة ما عقدت بين واشنطن وأنقرة، وهو ما نفاه رئيس الوزراء التركي. وقد بدأت في الأسبوع الأخير من فبراير/شباط 2008 حملة تركية عسكرية واسعة في شمال العراق، بعد قصف جوي لمناطق تمركز حزب العمال استمر عدة أسابيع.


ترغب واشنطن في أن لا تستمر الحملة العسكرية التركية طويلاً، وهي الرغبة التي استجابت لها أنقرة وقيادة الجيش التركي. ولكن محدودية الحملة العسكرية التركية وزمنها القصير يجب أن لا يخفيا الشعور التركي القوي بالانتصار، ليس على حزب العمال الكردستاني وحسب، بل أيضاً على حكومة أربيل الكردية. فقد تسبب الضغط التركي -إلى جانب عوامل أخرى- في تعطيل مشروع الاستفتاء في كركوك، كما حصلت تركيا على دعم دول الجوار وواشنطن في التدخل العسكري في شمال العراق. التدخل التركي العسكري وروح الانتصار السائدة في أنقرة قد تشير إلى دور تركي بعيد المدى في العراق ككل، وفي شماله على وجه الخصوص.


خلال العام الخامس من الاحتلال حافظت القوى العربية والإقليمية في العراق -باختصار- على أدوارها ومواقفها السابقة. ولكن ثلاثة متغيرات رئيسية برزت في خارطة هذه القوى: الأول ارتفاع ملموس في الاهتمام المصري بالشأن العراقي الداخلي، والثاني تعزيز إيران لدورها في العراق، وهو ما تجلى في زيارة الرئيس الإيراني للعراق، وحصول طهران على اعتراف أميركي ضمني بهذا الدور، والثالث تعزيز الدور التركي في شمال العراق رغم المعارضة الكردية العراقية له.



خلاصة


على المستوى الأمني، تجلت أهم تطورات الوضع العراقي في الزيادة الكبيرة في تعداد المنضمين إلى تنظيمات الصحوة، والتحسن النسبي في الوضع الأمني. ولكن هذا التحسن يظل بطيئاً وغير مؤكد، فالانتشار الكبير للسلاح في يد الصحوات هو في حد ذاته عامل توتر، ويثير مخاوف واسعة لدى القوى السياسية الشيعية وإيران، كما يؤسس لمناطق نفوذ مسلحة في محافظات الأكثرية السنية العربية، موازية لمناطق نفوذ الأحزاب والمليشيات الشيعية في المحافظات الجنوبية.


على المستوى السياسي، استمرت حالة التمزق الحزبي والطائفي والإثني، وكرست القوى المشاركة في العملية السياسية إخفاقها في بناء جسم سياسي وطني ودولة مستقرة يلتف حولهما أبناء الشعب العراقي.


وعلى صعيد علاقات العراق بالمحيطين العربي والإقليمي، لم يزل الدور العربي أضعف من يفرض متغيرات جوهرية على الوضع العراقي، بينما تتزايد الأدلة على تعزيز الدور الإيراني، ونجاح تركيا في تعزيز موقعها في شمال العراق.


تؤكد هذه الصورة على استمرار تفاقم الأزمة العراقية. وستعتمد تطورات الوضع العراقي في المدى المنظور على عدة عوامل، أهمها:



1- نجاح قوى المقاومة في استعادة زمام المبادرة، وبالتالي فرض الملف العراقي من جديد على الجدل الأميركي السياسي الداخلي، وعلى جدول الأعمال العراقي والعربي والدولي.


2- نتائج الانتخابات الأميركية التي ستعقد مه نهاية العام السادس للاحتلال، والتي تظهر -حتى الآن على الأقل- تبايناً في مواقف المرشحين من التواجد الأميركي العسكري في العراق، إذ يعد الديمقراطيون بأن تعمل الإدارة الجديدة على بدء انسحاب أميركي عسكري ملموس من العراق خلال عامين أو ثلاثة على أقصى تقدير. أما المرشح الجمهوري فيعد بالمحافظة على سياسة إدارة بوش، مع تغييرات بطيئة وغير جوهرية.


3- نجاح أو إخفاق الدولة العراقية الجديدة في بناء جيش وطني فعال وخال من الانقسامات الطائفية والإثنية.


4- نجاح أو إخفاق القوى السياسية العراقية في تحقيق مصالحة وطنية حقيقية، ومن ثم أخذ موقف جاد لجمع بنود الدستور المتعلقة بالمحاصصة الطائفية والإثنية.


5- طبيعة موقف الدول العربية الرئيسية وموقفي إيران وتركيا تجاه قضايا العراق الرئيسية، وعلى رأسها وحدة العراق واستقلاله، وعلاقات قواه الداخلية، وفكرة تحويل الدولة العراقية إلى النظام الفدرالي، الفكرة المحفوفة بالمخاطر.


ـــــــــــــــ
مركز الجزيرة للدراسات