طريق العودة

هذه ترجمة لمقال نشرته جريدة الهيرالد تريبيون إحدى أهم الصحف الأميركية الدولية المؤثرة في أوساط النخبة الأميركية، وهو يتناول الصعوبات التي يعيشها الاحتلال الأميركي في العراق ليخلص من بعد ذلك إلى التشديد على ضرورة الانسحاب وتحديد تأمينه.








 

ترجمة: د. رفيق عبد السلام



تقديم
نص المقال
المعركة ضد الإرهاب
الحرب الأهلية
الأزمة الإنسانية
الجوار


تقديم



يبدو أن عملية انسحاب الجيش الأميركي من العراق في طريقها إلى أن تتحول إلى شأن عام يتم تداوله على أعمدة الصحف والمجلات ووسائل الإعلام، ولم تعد شانا ضيقا يخص القادة السياسيين والعسكريين فحسب، فالكلفة الباهظة التي جرَّتها هذه الحرب على أرواح الجنود الأميركيين وأجسامهم، فضلا عن ثقل أعبائها المالية قد جعلت من الصعب على الرئيس بوش وفريق المحافظين الجدد من حوله الاستمرار في عنادهم وتسويق حرب فاشلة لدى رأي عام متململ ونخبة غاضبة.






"
الحرب الأهلية في حالة تفاقمها، من الممكن جدا أن تجر إليها بعض دول الجوار التي يتسم نسيجها الاجتماعي بالتعدد المذهبي والعرقي
"

لقد استهلك بوش جل وعوده بضبط الأوضاع وضمان احتلال مستقر وآمن في العراق، بعد أن جرب كل الخيارات تقريبا، من الانتخابات إلى صياغة الدستور إلى التفاوض مع بعض الجماعات المسلحة، إلى المطالبات بالمصالحة الوطنية، وأخيرا الإلقاء بمزيد من القوات العسكرية. رغم كل هذا بقي الوضع العراقي ينحدر من السيئ إلى الأسوأ. وفي عصرنا المعولم حيث باتت صور الدمار والقتل اليومي الجارية في العراق تخترق كل بيت أميركي تقريبا عبر الفضائيات العابرة للقارات، يبدو من الصعب الاستمرار في الدفاع عن الغزو وبقاء القوات العسكرية هناك.



ثمة قبول متزايد اليوم في أوساط النخبة السياسية الأميركية بشقيها الجمهوري والديمقراطي، بل وفي الأوساط العسكرية، لفكرة سحب القوات من العراق وبأسرع وقت ممكن. ويبدو أن ما يعني النخبة الأميركية في الوضع الراهن وقبل أي شيء آخر هو استنقاذ القوة الأميركية من الورطة التي انْجرت إليها، ووضع حد لخسارة أرواح الجنود، وذلك عبر تنظيم عملية انسحاب منظم وسريع. أما تأثيرات عملية الغزو ثم الانسحاب على العراقيين وشعوب المنطقة فهي ليست موضع تفكير أصلا، اللهم من زاوية المعركة الدولية ضد الإرهاب.



ثمة مسألتان تدعوان فعلا إلى الضجر، بل تستوجبان دق نواقيس الخطر سواء لدى العراق أم دول المنطقة عامة:




أولا، سهولة التعاطي مع موضوع الحرب الأهلية في العراق، حيث أضحت الحجة الأميركية المستخدمة اليوم هي أن العراق قد انحدر فعلا إلى أتون الحرب الأهلية وما دمنا لا نملك من الوسائل التي تحول دون إيقافها، فلنترك العراقيين يواجهون مصيرهم وينهش بعضهم أجسام بعض إلى أمد غير معلوم، وكأن حالة الحرب الأهلية هذه لم تكن نتيجة طبيعية لسياسة المحاصصة الطائفية، وتفجير المكونات الاجتماعية والسياسية للمجتمع العراقي التي نهجها الاحتلال الأميركي نفسه.



ثانيا، سهولة التعامل مع فكرة تقسيم العراق إلى كيان كردي في الشمال وسني في الوسط وشيعي في الجنوب، فالمقولة الغالبة أن العراقيين قد فقدوا معاني الانتماء المشترك ومن ثم لا مهرب من التقسيم.


لا شك أن الحرب الأهلية وتقسيم العراق ستكون لهما تداعيات خطيرة على مستقبل العراق وعلى عموم دول المنطقة من حوله، فحالة الحرب الأهلية في حالة تفاقمها من الممكن جدا أن تجر إليها بعض دول الجوار التي يتسم نسيجها الاجتماعي بالتعدد المذهبي والعرقي. أما تقسيم العراق فلا بد من أن يؤدي إلى تفاقم تدخل القوى الإقليمية المؤثرة في الشأن العراقي، وربما جر دول المنطقة إلى نفس الدوامة الخطيرة والمدمرة للجميع.



في ما يلي نقدم هذا المقال الذي نشر على صفحات جريدة الهيرالد تريبيون، التي تعد إحدى أهم الصحف الأميركية (الدولية) المؤثرة في أوساط النخبة الأميركية، وما يضفي أهمية أكثر على هذا المقال هو كونه يعبر عن الرأي الرسمي للتحرير وليس مجرد رأي كاتب أو صحافي فيها، فهو يعكس إذن وجهة نظر معتبرة ومؤثرة في الساحة الأميركية.


تناول المقال الصعوبات التي يعيشها الاحتلال الأميركي في العراق، ليخلص من بعد ذلك إلى التشديد على ضرورة الانسحاب وتحديد الإجراءات اللازمة لتأمين عملية انسحاب ناجح من هناك.



نص المقال






"
يمكن أن يصبح العراق والمنطقة المحيطة به أكثر دموية وفوضى بعد الانسحاب الأميركي ويتم الانتقام من المتعاونين وحصول تطهير عرقي وإبادة جماعية وتعصف موجات اللجوء ببعض البلدان المجاورة
"

لقد حان وقت مغادرة الولايات المتحدة الأميركية للعراق ودون مزيد من التأخير، اللهم إلا ما يحتاجه الجيش الأميركي لإنجاز عملية انسحاب منظم. فنحن، شأننا في ذلك شأن بقية الأميركيين قد علقنا تلك الخلاصة التي كان لا بد منها، ومفادها أننا بقينا ننتظر إشارة ما، تثبت جدية الرئيس الأميركي جورج بوش في إخراج الولايات المتحدة الأميركية من الكارثة التي جرها إليها بغزوه للعراق دون مسوغ كاف، وفي مواجهة معارضة دولية واسعة، ودون وجود مخطط لضمان استقرار البلد بعد الغزو.


كنا نعتقد في البداية أن الولايات المتحدة الأميركية، وبعد إسقاط الحكومة وتقويض مجمل بنى الجيش والأمن والاقتصاد العراقي ستكون مجبرة على إنفاذ بعض المهام التي أعلنها بوش، وعلى رأس ذلك بناء عراق آمن وموحد. أما فيما بعد، وحينما تبين جليا أن الرئيس ليس لديه من الرؤية ولا الوسائل الكفيلة ببلوغ تلك الأهداف، كنا نجادل ضد تحديد سقف زمني للانسحاب، وقد كان يحدونا بعض من الأمل وقتها في السيطرة على حالة الفوضى المحقة التي أعقبت الغزو.



ورغم أن بوش يكره تحديد الآجال الزمنية، فإنه ظل يبشر كل مرة بالمنعطفات الجديدة، بعد الانتخابات، وبعد الدستور، وبعد إرسال مزيد من آلاف الجنود.... وهكذا، ولكن كانت هذه المحطات تتبخر من دون إنجاز أي تقدم يذكر باتجاه بلوغ عراق مستقر وديمقراطي أو أي تقدم على طريق الانسحاب.


إنه لأمر واضح ومخيف في الوقت نفسه، كون الرئيس بوش يريد تثبيت الوضع القائم على امتداد دورته الرئاسية، وذلك على أمل أن يلقي فوضاه لاحقا على خليفته في البيت الأبيض، إلا أن حجته، وبغض النظر عن المبرر الذي يلوذ به، أصبحت الآن داحضة.



فالزعامات السياسية في العراق، التي حظيت بدعم واشنطن، تبدو عاجزة عن وضع المصالح الوطنية العراقية فوق تعزيز مكاسبها الطائفية، وقوات الأمن التي دربتها واشنطن تبدو في الحقيقة أقرب ما تكون إلى مليشيا محاربة، أما عملية الدفع بمزيد من القوات إلى العراق فلم تغير شيئا يذكر على أرض الواقع.


إن الاستمرار في التضحية بأرواح وأجسام الجنود الأميركيين أمر خاطئ بكل تأكيد، فقد بات من الواضح أن الحرب تستنزف التحالف وقواته العسكرية، كما أنها تمثل انعطافا خطيرا عن صراع الحياة والموت (الصراع الوجودي) الذي نخوضه ضد الإرهابيين. وهي إلى جانب ذلك تلقي مزيدا من الأعباء على عاتق دافعي الضرائب الأميركيين، كما أنها تمثل نوعا من الخيانة لعالم من حولنا، هو في أمس الحاجة إلى استخدام رشيد لقدرات أميركا ومثلها العليا.



نعم إن العراق والمنطقة المحيطة به يمكن أن يصبحا أكثر دموية وفوضى بعد الانسحاب الأميركي، كما أنه من الممكن أن يتم الانتقام من الذين تعاونوا مع القوات الأميركية. وليس من المستبعد حصول تطهير عرقي وحتى إبادة جماعية، وأن تعصف موجات اللجوء ببعض البلدان المجاورة مثل الأردن وسوريا. وعلى الجهة الأخرى، من الوارد جدا أن تعمل كل من إيران وتركيا على بسط نفوذهما على العراق، وما هو أخطر من كل ذلك هو كون الغزو قد صنع معقلا آمنا للنشاط الإرهابي يمكن أن ينتشر منه إلى خارج العراق.


إزاء هذا الوضع بالغ الخطورة فإنه يتوجب على الكونغرس والأمم المتحدة وحلفاء أميركا، العمل سوية على التحكم في مجريات الأمور بالقدر المستطاع. صحيح أن احتمال الفشل يظل واردا جدا، ولكن الثابت أن الاحتفاظ بقوات عسكرية في العراق لا يمكنه إلا أن يجعل الأمور أسوأ.



المعركة ضد الإرهاب



رغم كل الادعاءات التي يكررها بوش، لم يكن للقاعدة موطئ قدم في العراق قبل عملية الغزو.


الحقيقة أن هذه الحرب قد وجهت إمكانيات البنتاغون بعيدا عن أفغانستان في الوقت الذي كان أمام الجيش الأميركي فرصة حقيقية في تعقب قادة القاعدة، كما أن هذه الحرب قد أبعدت عنا حلفاء أساسيين في الحرب ضد الإرهاب، وهي إلى جانب ذلك قد قلصت من قدرات القوات الأميركية وجاهزيته.


وعلى صعيد آخر فتحت هذه الحرب أمامنا جبهة جديدة يتوجب على الولايات المتحدة مواصلة الصراع فيها ضد القوى الإرهابية.


ومن المعلوم هنا أن الجيش الأميركي سيظل بحاجة ماسة للموارد والقواعد اللازمة في المستقبل المنظور، لإيقاف نزيف هذا الجرح الذاتي الذي صنعه بنفسه في العراق.


على البيت الأبيض أن يقرر في أي من البلدان سيقيم القواعد العسكرية اللازمة، وذلك بعد التشاور مع الكونغرس وبقية دول المنطقة التي طالما تجاهل بوش رأيها بصورة كاملة. خلاصة القول هنا أن البنتاغون في حاجة إلى أن يترك خلفه ما يكفي من القوات سواء لشن عملياته الحربية أو لتوجيه ضرباته الجوية ضد قوى الإرهاب في العراق.



الحرب الأهلية





"
يمكن للعراق أن ينقسم على نفسه إلى جمهورية كردية وأخرى سنية وثالثة شيعية وليس بمقدور القوات الأميركية منع هذه العملية من الحصول
"

إن واحدة من الحجج التي يتذرع بها بوش باستمرار لرفض الانسحاب من العراق هي كون هذه العملية ستؤدي إلى اندلاع حرب أهلية، والحقيقة هنا أن هذه الحرب مندلعة أصلا.


فالعراق يمكن أن ينقسم على نفسه إلى جمهورية كردية وأخرى سنية وثالثة شيعية، وليس بمقدور القوات الأميركية منع هذه العملية من الحصول أصلا.



وخلافا لكل ذلك فإن الإعلان عن تاريخ محدد وقاطع للانسحاب يمكن أن يدفع بالقادة العراقيين والحكومات المجاورة إلى تركيز أبصارهم أكثر على حقائق الأمور في العراق، كما أنه من الممكن أن يحفز القادة السياسيين العراقيين على قطع خطوات جادة باتجاه المصالحة الوطنية التي طالما تفاوضوا حولها ولكن دون إنجاز شيء يذكر. بيد أنه من الجنون التعويل بالكامل على هذا الخيار لوحده.



وهنا يتوجب على الإدارة الأميركية الإفادة من تعزيز موقعها بعد الانسحاب من العراق بما من شأنه أن يحث حلفاءها والدول المجاورة للعراق على بلوغ حل وفاقي. وبما أنه ليس بمقدور الجيش الأميركي، وفي كل الأحوال حل المشكل بمفرده، يتوجب على الولايات المتحدة الأميركية قيادة مفاوضات دولية حول معالم الوضع القادم في العراق.


ولطرق هذا المسار الشاق، على الولايات المتحدة الأميركية أن تلتفت إلى الأمم المتحدة التي طالما رفضها الرئيس بوش وسخر منها قبل شن الحرب.


الأزمة الإنسانية



هنالك اليوم مليونان من المهاجرين العراقيين توزعت أغلبيتهم العظمى على سوريا والأردن، كما أن هنالك مليونين من المهجرين داخل بلادهم، ودون التعاون الفعال مع الدول الست المجاورة للعراق، أي تركيا وإيران والكويت والمملكة العربية السعودية والأردن وسوريا، فضلا عن دول أخرى، ستنحدر هذه الكارثة نحو الأسوأ، فبالإضافة إلى معاناة العراقيين، والتي هي أمر ثابت، فإن تدفق موجات اللاجئين يمكن أن يوسع دائرة الصراع إلى ما وراء حدود هذا البلد.



وعلى هذا الأساس من واجب الولايات المتحدة الأميركية تحمل القسط الأكبر من المسؤولية إزاء هذه المشكلة العويصة، وفي مقدمة ذلك استقبال المزيد من اللاجئين العراقيين للإقامة في أميركا.


ومن المهم التنبيه هنا إلى أن المسؤولية الكبرى هي إزاء آلاف العراقيين الشجعان وأصحاب الإرادات الخيرة الذين تعاونوا معنا، من مترجمين وعاملين في السفارة وعمال إعادة البناء ، فكل هؤلاء ستغدو حياتهم في موضع الخطر المحقق لمجرد كونهم قد صدقوا فعلا وعود الأميركيين وتعاملوا معهم.



الجوار



إن إحدى المهام الشاقة والمجازفة التي يتوجب إنجازها هي الحيلولة دون وجود تدخل مفرط في العراق من طرف الدول المجاورة سواء كانوا من بين أصدقاء أميركا أم من خصومها على السواء. ولكي تؤتي هذه الجهود النتائج المرجوة منها، يتوجب على إدارة بوش التخلي عن امتناعها في الحديث مع كل من إيران وسوريا. أما بقية الدول ذات النفوذ مثل بريطانيا وفرنسا وروسيا والصين وبعض الدول الأخرى فيمكنها المساعدة في هذا الاتجاه، بما أن الحرب الأهلية في العراق تمثل تهديدا للجميع، ويزداد هذا التهديد أكثر إذا توسع نطاق هذه الحرب على امتداد حدود العراق.



لقد استخدم الرئيس بوش ونائبه ديك تشيني الديماغوجيا والخوف لإسكات المطالبة بإنهاء هذه الحرب. فقد ظلا يرددان باستمرار أن الانسحاب سيؤدي إلى إراقة الدماء والفوضى، كما أنه سيشجع الإرهابيين، ولكن للأسف الشديد هذا ما هو حاصل بالفعل اليوم.



إن الخيار الذي يواجهه الأميركيون اليوم يتمثل فيما يلي، فإما أن يسمحوا للرئيس بوش بإمعان السير في هذه الحرب التي لا هدف لها ولا نهاية ، وإما أن يشددوا على انسحاب سريع وسليم بالقدر المستطاع، وذلك عبر بذل أقصى ما يمكن من الجهد لمنع الفوضى من الانتشار على نطاق أوسع.
______________
باحث في مركز الجزيرة للدراسات